الفصل الثالث

أَوَّلُ ما نَزَلَ من القرآن

الصحيح أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.١ قال محمد بن إسحاق المعروف بابن أبي يعقوب النديم في كتابه «فوز العلوم» المعروف بالفهرست:
حدَّثني أبو الحسن محمد بن يوسف قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن غالب قال: حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن الحجاج المديني — قدم من المدينة سنة ٢٩٩ — قال: حدَّثنا بكر بن عبد الوهاب المديني، قال: حدَّثني الواقدي محمد بن عمر٢ قال: حدَّثني معمر بن راشد، عن الزُّهْرِيِّ، عن محمد بن نعمان بن بشر، قال: أوَّل ما نزل من القرآن على النبي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. روى الشيخان عن عائشة: «كان النبي يأتي حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتُزَوِّدُه لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال رسول الله فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني٣ الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم، فرجع بها رسول الله ترجف بوادره.» … الحديث.٤

وقال أبو عبيدة في فضائل القرآن: حدَّثنا عبد الرحمن عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد — رضي الله عنه — قال: إن أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ون وَالْقَلَمِ، وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن عُبَيْد بن عُمَيْر، قال: جاء جبرائيل إلى النبي بنمط فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ باسم ربك، فيَرَوْن أنها أول سورة أُنْزِلَت من السماء، وأُخْرِجَ عن الزهري أن النبي كان بحراء؛ إذ أتى ملك بنمط من ديباج فيه مكتوب: اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى ما لم يعلم.

ولم تنزل بعد نزول آية اقرأ باسم ربك إلى ثلاث سنوات آية من القرآن، وتُسَمَّى هذه المدة زمن فترة الوحي، ثم أَخَذَ القرآن ينزل على النبي منجَّمًا، وكان تنجيمه مثارَ اعتراض المشركين، وقد ذَكَرَ ذلك القرآن وأجاب عنه، وقال في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا لما في تنجيمه وتكرار الوحي وإشراق نور العلم على قلبه من التثبيت لفؤاده الشريف، ولا تَنافيَ بين نزوله مفرَّقًا ومنجَّمًا وبين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ٥ وشَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ٦ وإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ؛٧ لصحة إطلاق القرآن على بعضه كما في قوله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ٨ مع العلم بأن أُخَر منها متشابهات. على أنه يُمْكِن أن نقول بأن روح القرآن — وهي أغراضه الكلية التي يَرْمِي إليها — تَجَلَّت لقلبه الشريف في تلك الليلة: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ٩ ثم ظَهَرَتْ بلسانه الأطهر مُفَرَّقَة في طول سنين وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا.١٠
ودلَّ استقراء الأحاديث أن أكثر القرآن نزل مفرَّقًا، ومن أمثلته في السوَر القصار: سورة اقرأ؛ أول ما نَزَلَ منها إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، والضحى أول ما نزل منها إلى قوله: فَتَرْضَى.١١ ومنه ما نزل جميعًا، ومن أمثلته فيها: سورة الفاتحة، والإخلاص، والكوثر، وتبَّت، ولم يكن، والنصر،١٢ ومن أمثلته في السور الطوال: وَالْمُرْسَلَاتِ.١٣
وقد دلَّ الاستقراء على نزول خمس آيات وعشر آيات، وصحَّ نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة، وصحَّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَحْدَها وهي بعض آيةِ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وكذا قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ،١٤ فإنها نزلت بعد نزول أول الآية، وهي بعض الآية.
١  سورة العلق.
٢  الواقدي هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد، كاتب جليل القَدْر، كان عالمًا بالحديث والمغازي، وقد قرَّبه الرشيد وولاه قضاء بغداد، وتوفي هناك سنة ٢٠٧ﻫ.
٣  الغط: العصر الشديد.
٤  صحيح البخاري ومسلم، باب بدء الوحي إلى رسول الله .
٥  سورة القدر.
٦  سورة البقرة.
٧  سورة الدخان.
٨  سورة هود.
٩  سورة الشعراء.
١٠  سورة الإسراء.
١١  في حديث الطبراني.
١٢  ذكر في الإتقان للحافظ جلال الدين السيوطي.
١٣  في المُسْتَدْرَك عن ابن مسعود — رضي الله عنه — قال: كنَّا مع النبي في غار فنزلت عليه وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فأَخَذْتُها مِنْ فِيهِ وإنَّ فاه رَطْبٌ بها، فلا أدري بأيها خَتَمَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أو وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ.
١٤  سورة النساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤