الفصل الأول
القرآن في عهد أبي بكر وعمر — رضي الله عنهما
ولما توفي رسول الله ﷺ ورَجَعَتْ نَفْسُه الزكية إلى ربها راضية مرضية، وتولى
الأمر أبو بكر بن أبي قحافة — رضي الله عنه — ظَهَرَ مسيلمة باليمامة في السنة الأولى
من خلافته، وجهَّز أبو بكر لقتاله جيشًا يتألف من القرَّاء وحَفَظَةِ القرآن وغيرهم،
وفي هذه الحرب التي كان النصر حليفَ المسلمين، وقُتِل مسيلمة، واشتد القتل في يومها
لقُرَّاء القرآن؛ أَحَسَّ الخليفة عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — بضرورة جمع القرآن.
في الإتقان عن ابن أبي داود بطريق الحسن أن عمر — رضي الله عنه — سأل عن آية من كتاب
الله، فقيل كانت مع فلان، قُتِل يوم اليمامة، فقال: إنَّا لِلَّه، فأَمَرَ بجمع القرآن،
فكان أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ في مصحف.١ روى البخاري بإسناده عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت — رضي الله عنه —
قال: أرسل إليَّ أبو بكر مَقْتَلَ (أي عَقِيبَ مَقْتَل) أهل اليمامة، فإذا عمر بن
الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (أي اشتد) يوم اليمامة
بقرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمَواطن، فيذهب كثير من القرآن،
وإني أرى أن تَأْمُر بجَمْع القرآن، قلت لعمر: كيف تَفْعَلُ (برواية البخاري) وكيف
أَفْعَلُ (برواية محمد بن إسحاق) ما لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر: هذا والله
خير، فلم يزل يُرَاجِعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في الذي رأى عمر. قال زيد: قال
أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نَتَّهِمُك، وقد كُنْتَ تكتب الوحي لرسول الله ﷺ،
فتَتَبَّعِ القرآن فاجْمَعْه، فوالله لو كَلَّفُوني نَقْلَ جَبَلٍ من الجبال ما كان
أثقل عليَّ مما أمرني به من جَمْع القرآن، قلت: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله
ﷺ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شَرَحَ له
صَدْرَ أبي بكر وعمر، فتتبعْتُ القرآن أَجْمَعه من العسب٢ واللخاف٣ وصدور الرجال، حتى وَجَدْت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم
أَجِدْها مع غيره لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ حتى خاتمة براءة.
يظهر من الرواية أنا أبا بكر — رضي الله عنه — خشي فأبى مِنْ فعل ما لم يفعله رسول
الله ﷺ لشدة اتِّباعهم للنبي ﷺ، ثم اجتهد عمر — رضي الله عنه — وقال: هذا
والله خير، أي صلاح للأمة؛ لأن القرآن هو أساس معالم الدين الإسلامي، وكذلك زيد بن ثابت
أبى أن يفعل ما لم يفعله ﷺ خشية الابتداع في الدين، كأن ظاهر الرواية
أن إنكارهما يرجع إلى جمع القرآن، مع أن القرآن بحسب الروايات والأقوال السابقة كان
مجموعًا في حضرة النبي ﷺ، ولكن التأمل الصادق والشواهد يعطي أن اقتراح عمر جمْعَ
القرآن إنما كان لجمعه في الورق، حتى إن الصحابة لشدة احتياطهم وخضوعهم لرسول الله
ﷺ خافوا أن يكون ذلك من البدع وأجاب الخليفة الثاني أن فيه رضى النبي ﷺ
وصلاحَ الأمة. في الإتقان عن مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: لما أُصيب المسلمون
باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يَذْهَبَ من القرآن طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم
وعندهم حتى جُمِع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أَوَّلَ مَنْ جمع القرآن في
المصحف، ثم أَعْلَنَ عمر في المدينة بأن يأتي كل من تَلَقَّى شيئًا من القرآن من رسول
الله ﷺ، وقال أبو بكر لعمر ولزيد: اقْعُدَا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين
على كتاب الله فاكتباه.٤ والأقرب إلى الظن أن الشاهدين كانا يشهدان بأن ما أُتُوا به كان مما عُرِض
على النبي ﷺ عام وفاته في العَرْضَة الأخيرة، وكُتِب بين يديه صلى الله عليه
وسلم؛ ولذلك قال زيد بن ثابت: وَجَدْتُ آخر سورة براءة مع أبي خزيمة لم أجدها مع غيره،
ولولا ذلك لما صح معنى لعدم وجدانهم لهذه الآية؛ لأن زيدًا كان جَمَعَ القرآن وحَفِظَه،
وأَخَذَهُ عن النبي ﷺ وقَبِلَ قول أبي خزيمة؛ لأن النبي ﷺ جعل شهادته
شهادة رَجُلَيْن، وأتى عمر بآية الرجم فلم تُكْتَب؛ لأنه كان أتى بها وحده، وكانت — حسب
بعض الروايات — نسخة من القرآن المكتوب في العسب والحرير والأكتاف في بيت رسول الله
ﷺ.
وكان هذا الجمع عبارة عن جمع الآيات المكتوبة في الأكتاب والعسب واللخاف، ونسخها في الأديم وهو الجلد المدبوغ. قال ابن حجر في رواية عمادة بن غزية أن زيد بن ثابت قال: فأمرني أبو بكر فكَتَبْتُه في قِطَع الأديم، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر في حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
وقال عمر — رضي الله عنه: لا يُمْلِيَنَّ في مصاحفنا إلَّا غلمان من قريش وثقيف،
وقال
عثمان — رضي الله عنه: اجعلوا المُمْلِيَ من هذيل والكاتب من ثقيف.٥
١
في قِطَع الجلد المدبوغ.
٢
جمع عسيب فهو جريد من النخل (لسان العرب).
٣
جمح لخفة وهي حجار بيض رقاق (صحاح).
٤
هذه الرواية خرَّجها ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة.
٥
المزهر، ج١، ص١٣٧.