الفصل التاسع
وضع الإعراب في القرآن
يقول التاريخ: إن الصحابة — رضي الله عنهم — جرَّدوا المصاحف من كل شيء حتى من النقط
والشكل.
ولم يكن الخط الذي وَصَلَ إلى العرب مضبوطًا بالحركات والسكنات كما هو اليوم، بل كان
خِلْوًا مما يَدُلُّ على أشكال الحروف المكتوبة، ولكن مَلَكة الإعراب الموجودة في
نفوسهم قَبْل اختلاطهم بأمم أعجمية صانت لسانهم عن اللحن، وكان العربي في البادية
ينْطِق بكلام فصيح، ويُنْشِد أشعارًا بليغة، وهو يَفْقَه فصاحة القرآن وبلاغة الخطب،
وتؤثر في نفسه أيَّ تأثير.
ولما انتشر الإسلام واختلط العرب بأمم أعجمية ظَهَرَتْ عوامل الفساد في اللغة
العربية، فحدث اللحن في لسان الفصحاء من العرب، وحدثت عدة حوادث نَبَّهَتْهُم إلى
النهوض إلى صيانة القرآن الذي هو أساس الدين وحفاظ الإسلام من تطرق اللحن عليه، وكان
أبو الأسود الدؤلي قد تعلم أصول النحو مِنْ عَلِيٍّ أمير المؤمنين — عليه السلام —
١ واشتهر هو بعد ذلك بعلم العربية، وتعلم منه النحوَ جماعةٌ منهم يحيى بن
يَعْمُر العدواني قاضي خراسان، ونصر بن عاصم الليثي، وبرعوا في النحو وقراءة القرآن
وفنون الأدب، غير أن اشتغال جماعة بالنحو لم يَسُدَّ ذلك التيار الجارف من فساد اللسان
بالاختلاط.
فطلب زياد بن سمية — وكان واليًا على البصرة — من أبي الأسود أن يضع طريقة لإصلاح
الألسنة وقال له: إن هذه الحمراء قد كَثُرَت وأفسدت من ألسنة العرب، فلو وَضَعْتَ شيئًا
يُصلح به الناس كلامَهُم ويُعرِبون به كتاب الله، فأبى أبو الأسود أولًا لبعض أسباب كان
يراها، فأمر زيادٌ رجلًا أن يقعد في طريق أبي الأسود، فلما قَارَبَهُ رفع صوته بالقراءة
كأنه لا يَقْصِد إسماع أبي الأسود وقرأ (أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه) بكسر
اللام، فأَعْظَمَ ذلك أبو الأسود وقال: عزَّ وجْهُ الله أن يَبْرَأَ من رسوله، ثم رجع
من حينه إلى زياد وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن فابعث
لي
كاتبًا، فبعث زياد إليه ثلاثين كاتبًا، فاختار منهم واحدًا من عبد القيس وقال له: خُذ
المصحف وصبغًا يخالف لون المداد، فإذا رأيتني فَتَحْتُ شفتَيَّ بالحرف فانْقط واحدةً
فَوْقَه، وإذا كَسَرْتُهُمَا فانقط واحدةً أَسْفَلَه، وإذا ضَمَمْتُهُما فاجعل النقطة
بين الحرف، فإن تَبِعَتْ شيئًا من هذه الحركات غنةٌ فانقط نقطتين، وأخذ يقرأ القرآن
بالتأنِّي والكاتب يضع النقط، وكُلَّمَا أتم الكاتب صحيفةً أعاد أبو الأسود نَظَرَهُ
عليها، واستمرَّ على ذلك حتى أَعْرَبَ المصحف كله، وجرى الناس على طريقته، وكانوا إذا
رأوا حرفًا بعد التنوين من أحرف الحلق وضعوا إحدى النقطتين فوق الأخرى علامة على أن
النون مُظْهَرَة، وإلَّا وضعوها بجانب الأخرى علامةً على أن النون مُدْغَمَة أو
خَفِيَّة. ثم اخترع أهل المدينة للحرف المشدَّد علامةً على شكل قَوْس طَرَفَاه للأعلى
هكذا (
)، ثم زاد أتباع أبي الأسود علاماتٍ أخرى في الشكل فوضعوا للسكون
جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه — سواء كان همزة أم غير همزة — ولِأَلِف الوصْل جرة في
أعلاها متصلة به إن كان قبْلها فتحة، وفي أسفلها إن كان قبلها كسرة، وفي وسطها إن كان
قبلها ضمة هكذا:
.