الفصل الثالث

البحث في فواتح سور القرآن

من أعوص المسائل التي يصادفها الباحث في القرآن من الناحية العلمية والتاريخية فهم معاني الحروف الواردة في فواتح السور، مع ما لها من العلاقة الخاصة بتاريخ القرآن.

ذهب المفسرون من الصحابة ومَنْ بَعْدَهم إلى اليوم مَذَاهِبَ مختلفة في تفسيرها، وهي لا تزال مجهولة غامضة، وكثرة الأقوال وتشَتُّت المذاهب فيها دليل على الغموض والإبهام، ونحن نذكر أهم الآراء والتفاسير المذكورة في عامة تلك الحروف أو في بعضها، ثم نقول بالراجح منها:
  • (١)

    عن مجاهد أن (ق، ص، حم، طسم) هي فواتح السور.

  • (٢)
    عن ابن عباس — رضي الله عنه: «الم، حم، ن اسم مقطع١ «الم، أي: أنا الله أعلم»»
  • (٣)
    عن عكرمة: الم، حم،٢ إشارة إلى أن السورة السابقة انتهت،٣ ويذكر النووي٤ في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» في (مادة حمم) في حم خمس تأويلات:
    • (أ)

      أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به كما عن «ابن عباس».

    • (ب)

      أنه اسم من أسماء القرآن كما عن «قتادة».

    • (جـ)

      حروف مقطعة من أسماء الله تعالى الذي هو الرحمن الرحيم.

    • (د)

      هو محمد، قاله جعفر بن محمد —عليه السلام.

    • (هـ)

      هو من فواتح السور «كما عن مجاهد».

وفي الحديث: «شعاركم حم لا يُنْصَرون.» قال الأزهري: سُئِل أبو العباس عن قوله صلى الله عليه وسلم حم لا يُنْصَرون، فقال: معناه: والله لا يُنْصَرُون، الكلام خبر.

وفي لسان العرب٥ في حديث الجهاد: «إذا بُيِّتُّم فقولوا حا ميم لا يُنْصَرون». قال ابن الأثير: معناه اللهم لا يُنْصَرُون.
ويقول الطبري:٦ قال جماعة: بل ابتُدِئَتْ بذلك السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين، إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن، حتى إذا استمعوا له تلى عليهم المؤلف.

ويذكر النووي أيضًا عن قتادة قال: «ق» اسم من أسماء القرآن، وقال: قال أبو عبيدة والزجاج: افْتُتِحَت السور به كما افْتُتِح غيرُها بحروف الهجاء نحو (ن، الم، المر)، وحكى الفرَّاء والزَّجاج أن قومًا من أهل المدينة قالوا: معنى قاف قضى الله ما هو كائن، واحتجوا بقول الشاعر:

قُلْتُ لها قِفِي فقالت قَافِ
معناه «قالت قِفْ» هذا كلام الواحدي، ويقول ابن طاوس في كتاب «سعد السعود» نقلًا عن الجزء الأول من شرح تأويل القرآن وتفسير معانيه،٧ تصنيف أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني من تفسير الحروف المقطعة (الم وباقي الحروف المقطعة) قال: قال أبو مسلم: إن الذي عندنا أنه لما كانت حروف المعجم أَصْلَ كلام العرب وتَحَدَّاهم بالقرآن وبسورة من مثله، أراد أن هذا القرآن من جِنْس هذه الحروف المقطَّعة تعرفونها وتَقْتَدِرون على أمثالها، فكان عَجْزُكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة مِنْ مِثْله دليلًا على أن المنع والتعجيز لكم من الله، وأنه حُجَّة رسول الله قال: ومما يدل على تأويله أن كل سورة افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها بعدها إشارة إلى القرآن، يعني أنه مُؤَلَّف من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها، ثم سأل نفسه وقال: إن قيل لو كان المراد هذا لكان قد اقتصر الله تعالى على ذِكْر الحروف في سورة واحدة، فقال: عادة العرب التكرار عن إيثار إفهام الذين يخاطبونه.

فأهم الآراء في نظر العقل هما الرأيان الأخيران اللذان روى أَوَّلَهُما الطبري عن جماعة، وهو أن السور ابْتُدِئَتْ بهذه الحروف لِلَفْتِ نَظَر المشركين إلى استماع القرآن المؤلَّف منها، وروى ثانيهما ابنُ طاوس العلوي عن أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني، وهو لَفْت النظر إلى أنَّ القرآن مؤَلَّف من هذه الحروف التي تعجزون عن الإتيان بمثل قرآن مُؤَلَّف منها وأنتم تنطقون بهذه الحروف.

وطَرَقَ الإفرنج هذا الباب وبحثوا في فواتح السور، وأنا اطلعت على أبحاثهم فرأيتهم لم يأتوا برأي يكون له قيمة في نظر العلم والتاريخ.

في دائرة المعارف الإسلامية Enzyclopaedie der Islam بقلم T. Buhl في فقرة (١٥) من مادة قرآن وردت آراء «باور» Bawer و«نولدكه» Noldeke الشخصية بعد سرد آراء علماء المسلمين التي ذكرنا خلاصتها عن أوثق المصادر، وقد تركنا ذِكْر آراء هؤلاء الإفرنج الشخصية؛ لِضَعْفِها وعدم ركونها إلى الدليل العلمي.

والله يهدي إلى الحق.

١  طبري، ص٦٨، ج١.
٢  طبري، ص٦٧، ج١.
٣  طبري، ص٦٩، ج١.
٤  هو العلامة محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة ٦٧٨ﻫ يذكر في ص٧٢، ج١، (طبع مصر).
٥  ص٤٠، ج١٥.
٦  ص٦٣، ج١.
٧  وكان هذا التفسير موجودًا عنده سنة ٦٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤