مقدمة

لك أن تتخيَّل مدى السعادة التي شعرنا بها عندما نُشِر هذا الكتاب لأول مرة عام ٢٠٠٦، وصنَّفته جريدةُ نيويورك تايمز كواحد من أكثر الكتب مبيعًا. كنَّا نعلم أن لدينا رسالةً مهمة عن إمكانات الموظفين الذين لا يحظَوْن بالقدر الكافي من التقدير، وأنَّ علينا مشاركة هذه الرسالة ونشرها. كانت لدينا رغبة قوية في أن نوضِّح للمؤسسات سُبل تطوير نفسها؛ وذلك عن طريق الاستفادة من قدرات الموظفين وتوظيفها لتحقيق قدرة هائلة على الإنجاز. لقد أذهَلَنَا مدى النجاح الذي حقَّقَه الكتاب، كما أننا سعداء بأن الكتاب لا يزال رائجًا بين القُرَّاء بعد مرور عدَّة سنوات.

لعل المصدر الأكبر لسعادتنا كان الأحاديثَ التي دارَتْ بيننا وبين عشرات الآلاف من المديرين حول العالم؛ فالكتاب يساعدهم في اكتشاف الكنوز الدفينة المخبَّأة داخل مكاتبهم؛ وهي موظَّفوهم. إنَّ إبداء التقدير مفهوم بسيط لكنه فعَّال؛ فهو مفهومٌ سَهْلُ التطبيق وسرعان ما تَظهر نتائجُه على حجم الدخل الصافي للشركات ومحصلة العمل النهائية؛ وهنا يكمن سر نجاح الكتاب.

لكن دوام الحال من المحال؛ فبينما نكتب هذه الكلمات، لا تزال حالة الاقتصاد العالمي غير مستقِرَّة؛ الأمر الذي يدفع أي إنسان عاقل إلى التساؤل ما إذا كان الاقتصاد على وشك الانهيار. تسريح العمالة، والإفلاس، وإنقاذ المؤسسات المتعثرة ماليًّا، وإغلاق الرهن، ولافتات الإغلاق النهائي لشركة أو أخرى؛ أصبحَتْ كلُّها ملامحَ تشكِّل المشهد الجديد لقطاع الأعمال التجارية.

بإمكاننا أن نتخيَّل الأحاديث التي تدور بين الموظفين في شركتك وهم يقفون أمام مبرِّد الماء؛ لقد تحوَّلَ المكانُ الذي كان في يومٍ من الأيام مكانًا للحديث عن الاستفتاءات المتعلقة بالرياضة ومناقشة أمور السياسة وتجاذُب أطراف الحديث حول أمور العمل، إلى مكان يلتقي فيه الموظفون البائسون كي يقولوا أشياءَ من قبيل: «هل سمعتَ مَنِ الذي حان الوقت لتسريحه من العمل؟»

يبدو أن الموظفين لا ينجزون الكثير من العمل، أليس كذلك؟

والنتيجة هي فريقٌ من الموظفين يركضون في كل اتجاه كدجاجةٍ تلتقط أنفاسَها الأخيرة بعد قَطْع رأسها؛ كلُّ واحد من هؤلاء الموظفين يعتقد أن دوره في التسريح قادم لا محالة. إن الخوف يولِّد مزيدًا من الخوف، والجميع يتساءلون إلى متى سيستمر هذا الجنون! في حالِ كنتَ من هؤلاء المتسائلين، فإن معدل بقاء دجاجة على قيد الحياة بعد قطع رأسها — وفقًا لموسوعة جينيس للأرقام القياسية — هو ١٨ شهرًا، وهي مدة تعادِل تقريبًا متوسط مدة أي كساد اقتصادي.

لكن الأشخاص الذين يعملون في شركتك قد لا يظنون أنَّ هناك مَنْ ينقذهم، والإدارةُ بمنزلة عدوٍّ في نظرهم؛ فما هي الاستراتيجية التي يطبِّقها هؤلاء الموظفون إذن وهُم كالدجاج المقطوع الرأس؟ إنهم يختبئون ويتمنَّوْن أن يبقوا في مخبئهم إلى أن تزول الغمة، وخلال فترة الاختباء تلك يحاول هؤلاء الموظفون إنجازَ ما يكفي من العمل بحيث يتجنَّبون الطردَ. هذه هي اللحظة التي يصبح فيها الموظفون أشخاصًا غير مرئيين.

لكن الطريف في الأمر هو أن هذه الحالة من السعار النفسي بإمكانها أن تستمرَّ حتى بعد انقضاء الأزمة، وعندها يصبح عزوفُ الموظف عن المخاطرة بهدف تجنُّب التميُّز بين أقرانه، سلوكًا محفورًا في عقلية الموظفين. وحتى هؤلاء الموظفون الذين يملكون أكبر قدرٍ من الإمكانات، ويرتقون في العادة لإدارة فريقِ عملٍ خاص بهم، يعزفون أيضًا عن المخاطرة. إن هؤلاء الموظفين لا يريدون الفشلَ، ويتصوَّرون أن عواقب الفشل في مثل هذه الظروف الاقتصادية ستكون وخيمة.

إذا كان ثمة وقت يمكن فيه لأي مدير أن يكتشف إمكاناتِ موظفيه ويرعاها، وأن يشجِّع الإبداع ويحتفظ في شركته بأفضل الموظفين وألمعهم ذكاءً؛ فهذا الوقت هو الآن. وفي الواقع، نظرًا لخطورة الأوضاع الحالية، إنْ لم يبادِر المديرُ بإنجاز كلِّ هذه الأمور الآن، فلن يتمكَّن من فعلها على الإطلاق.

لقد بدأ الإعلام مؤخرًا في مقارَنة الأزمة الاقتصادية لعام ٢٠٠٩ بالكارثة الاقتصادية التي حدثت عام ١٩٢٩، وقد ذكَّرنا هذا بآبائنا الذين نَشَئوا في أعقاب الكساد العظيم؛ كيف نجحوا؟ وحتى بعد انقضاء فترة الكساد، كيف كان تأثيره على طريقة عمل الناس وعلى قِيَمهم؟

مِن صُوَر والدَيَّ (والدَي أدريان) المفضَّلة لديَّ، صورةٌ الْتُقِطت لهما في فترة الخمسينيات من القرن العشرين. في تلك الصورة، يجلس والدِي على دراجة بخارية متهالِكة طراز نورتون ٥٠٠، وبجانبه كانت والدتي تجلس في العربة الجانبية وفي حِجْرها كلبهما الاسكتلندي الذي كان يُدعَى بوتشيني، وكانت ثمة خيمة بيضاء كبيرة وحقيبة سفر مربوطتان في المقعد الخلفي وراء مقعد والدي.

كان والداي في إجازة على الساحل الإنجليزي قبل أن يُرزَقَا بأطفال، كانت هذه الإجازة ملاذًا سريعًا من وظيفة والدِي بشركة رولزرويس، وكانت هذه الدراجة هي أول «سيارة» متواضِعة يمتلكانها.

fig1

عندما رأيتُ الصورة منذ بضع سنوات، ابتسمتُ وسألتُ والدِي مداعِبًا: «لم تكن تتقاضى راتبًا جيدًا في شركة رولزرويس، أليس كذلك؟»

ضحك والدِي وروى لي قصةَ الْتِحاقه بالعمل لدى شركة رولزرويس في دربي بإنجلترا، وقتما كان مصمِّمًا شابًّا يصمِّم قِطَع غيار الطائرات. في تلك اللحظة، كان والدِي متفقًا مع حقيقة أن الشركة لم تمنحه قطُّ راتبًا كبيرًا. في الواقع، غادَرَ والدِي إنجلترا بعد ٢٥ عامًا متَّجِهًا إلى كندا؛ حيث حصل على ثلاثة أضعاف راتبه، وعلى الرغم من أنه تَلقَّى عددًا كبيرًا من الترقيات خلال سنين عمله هناك، يؤسفني أن أقول إن رولزرويس لم تستطع ترقية جوردون جوستيك إلى منصب في الإدارة العليا؛ إذ كان أمامه طابور طويل من الموظفين الموهوبين الذين يكبرونه سنًّا؛ ومع ذلك، فقد بقي في عمله هناك لأكثر من عقدين؛ فما السبب إذن؟

فسَّرَ لي والدي الأمر وقال: «أَتَعْلم، لقد استمتعتُ بكل يومٍ قضيتُه هناك؛ لم يكن الموظف الذي يعمل لدى رولزرويس مجرد رقم، كان المديرون يتحدثون فعليًّا إليك ويستمعون لما تقوله، وعندما كنَّا نكتشف مشكلةً في تصميمِ محركٍ ما كانت الشركة على وشك أن تُصنِّعه، كان الموظفون الأعلى منك في قسمك وغيره من الأقسام الأخرى يحترمون المعرفةَ التي اكتسبتَها في مجال تخصُّصك، وكانوا يعدِّلون التصميمَ بهدف تحسين النموذج النهائي للمحرك. كان للجميع إسهاماته ومشاركاته.»

وعندما سألتُه عمَّا حدث عندما قدَّمَ فكرةً لإدخال تحسينٍ ما على أحد المحركات، ردَّ ببساطة وقال: «كان اسمي مكتوبًا على التصميم.»

يا لها من معادلة بسيطة! عندما كان يتحدَّث كان يجد مَن يُصغِي إليه، وعندما كان ينجز عملًا متميِّزًا يساهم في دفع الشركة إلى الأمام، كان يُكتَب اسمه على التصميم الذي عُرِض على الإدارة. وفي ضوء هذا كله، كان يستمتع بالذهاب إلى عمله كلَّ يوم، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية.

هل ترى أن الاستمتاع بالذهاب إلى العمل أمرٌ مهم؟ هل يعتقد موظفوك ذلك؟

هل تعتقد أن هناك مَنْ يستمتع حقًّا بالذهاب إلى العمل في يومنا هذا؟

ألن يكون من الرائع لو كانت شركتك مليئةً بموظفين من أمثال جوردون جوستيك، متحمِّسين مثله للذهاب إلى عملهم؟ ألن يكون هذا أفضل من أن تكون شركتك مليئةً بالموظفين الذين يغمغمون بدعاءٍ بائسٍ أثناء استقلالهم القطار؛ حيث يقولون أمورًا من قبيل: «اللهم اقبض روحي قبل أن أصل إلى هناك»، «اللهم لا تدعهم يفصلونني من العمل اليوم»، أو أمورًا أسوأ مثل: «اللهم ارزقني بخبر وفاة مديري في حادث غريب أثناء عمله في حديقة منزله خلال عطلة الأسبوع الماضي.»

في الظروف الاقتصادية الجيدة والسيئة على حدٍّ سواء، تظلُّ المعادلةُ التي تضمن تحقيقَ النجاح الإداري للشركة واحدةً؛ وهي: أبدِعْ، طوِّرْ، نافِسْ. إن أفضل الشركات هي تلك التي تنتهز كل فرصة ممكنة، وهو أمر ينطوي على مخاطر بقدرِ ما ينطوي على مكافآت. تُبقِي هذه الشركات على أفضل موظفيها وتكافئهم وتحفِّزهم؛ إنَّ هذه الشركات لديها بُعْد نظرٍ. تحظى الإنتاجية بأهمية كبيرة، لا سيما في الأوقات الصعبة، وفي تلك الأوقات غالبًا ما يجد المديرون أنفسهم مضطرين أن ينجزوا قدرًا أكبر من العمل بقدرٍ أقل من الموارد؛ ولكنْ كيف يتمكَّن المديرون من فعل ذلك؟

لسوء الحظ، يعمل معظمنا لدى مؤسسات كالتي وردَ ذِكْرُها في دراسةٍ نشرَتْها جريدة نيويورك تايمز، وجاء فيها ما يلي:
  • قال ٢٥ بالمائة من الموظفين إنهم تعرَّضوا لأمورٍ دفعتهم إلى حدِّ البكاء في مكان العمل.

  • يشير ٥٠ بالمائة من الموظفين إلى مكان عملهم بوصفه مكانًا يتعرضون فيه للاعتداء اللفظي والصراخ.

  • يجد ٣٠ بالمائة من الموظفين أنفسهم مُجبَرين بصفةٍ دائمة على الالتزام بمواعيد غير واقعية لإنهاء عملهم وتسليمه.

  • يجد ٥٢ بالمائة من الموظفين أنفسهم مُجبَرين على العمل لمدة ١٢ ساعة متواصِلة كي يتمكَّنوا من إنهاء عملهم.

إن المُحزِن في الأمر أن المديرين الذين يعمل هؤلاء الموظفون تحت إدارتهم، ليست لديهم أدنى فكرة عن الحالة المزرية التي وصلَتْ إليها أماكن العمل التي يديرونها؛ إنهم يركضون كالدجاج المقطوع الرأس؛ فيحاولون تنفيذَ الكثير من الأمور بسرعة دون رويَّة أو حكمة، مثلهم في ذلك مثل موظفيهم. لدى هؤلاء المديرين فكرةٌ واضحة عمَّا يريده مديروهم، كما أنهم يعلمون الكثيرَ عن عملائهم واحتياجات كل عميل، ويمكن لهؤلاء المديرين أن يَسْرُدوا قوائم منتجات شركاتهم التي يحفظونها عن ظهر قلب. ولكن ما الذي يعلمه هؤلاء حقًّا عن احتياجات الأشخاص الذين ينجزون العمل فعليًّا؟ حسنًا … ليس الكثير.

لِمَ تُعَدُّ معرفة احتياجات الموظفين أمرًا مهمًّا؟ لأن الموظفين — ببساطة شديدة — يزداد معدل اجتهادهم في عملهم مع الأشخاص الذين يهتمون بهم كأفراد. أليس هذا ما تفعله أنت أيضًا؟ فَكِّرْ قليلًا! أيٌّ من هذين النمطين ستبذل مزيدًا من الاجتهاد في عملك كي تسعده: المدير الذي يعيش بمعزل عن موظفيه ولا ينتبه لهم ويركز جُلَّ اهتمامه على تعزيز وضعه الوظيفي، أم المدير الذي يهتمُّ اهتمامًا جادًّا وفعَّالًا بإنجازاتك في العمل، ويسألك عن أحوال أولادك وعن شغفك بصيد السمك خلال عطلة نهاية الأسبوع؟ ثمة مقولة قديمة تقول: «لا يهم إنْ كانوا لا يحبونني ما داموا يحترمونني.» ولكن هذه المقولة ليست خاطئةً فحسب، بل إنها خطيرة إذا هي طُبِّقت في مكان العمل في العصر الحديث. بصراحة، هل ستقول يومًا شيئًا من قبيل: «إن الجميع يكرهون تلك المرأة، ولكن لا يسعك إلا أن تحترم إدارتها»؟

إنَّ مثل هذا الأسلوب الإداري يولِّد مشاكلَ كثيرة في مكان العمل، وإحدى هذه المشاكل هي مشكلة الحضور الشكلي. من السهل عليك أن ترصد مشكلة كمشكلة الغياب بين موظفيك، ولكن من الصعب عليك رصد الموظفين الذين يحضرون حضورًا شكليًّا؛ حيث يحضر هؤلاء الموظفون فعليًّا إلى العمل كلَّ يوم، ولكنهم في الواقع يَبْقَون شاردي الذهن طوال فترة العمل؛ إنهم حاضرون حضورًا جسديًّا، ولكنهم إما يعانون من مشاكل جسدية أو عقلية تعيقهم عن العمل، وإما تشغلهم مشاكلُ متعلقة بالمنزل، وإما غالبًا ما يساورهم قلقٌ شديد إزاء مشاكل تتعلق بالعمل. الكثير جدًّا من هؤلاء الناس يعانون من العمل تحت إدارة مديرين يعرضونهم للإرهاق والتوتر، أو لا يستفيدون من مواهبهم على خير وجهٍ، أو يتجاهلونهم كليًّا. وفقًا لتقديراتٍ نشرتها مجلة هارفارد بيزنس ريفيو، فإن الحضور الشكلي للموظفين يكبِّد الولايات المتحدة الأمريكية تكاليفَ تصل إلى ١٥٠ مليار دولار سنويًّا على هيئة تكاليف مباشِرة وغير مباشِرة. وعلى الرغم من أن معظم الدراسات تشير إلى أن معدلات الغياب بين الموظفين، تعادل هَدْرَ ٤ أيام في المتوسط من إنتاجية الموظف الواحد سنويًّا، تشير بعض الدراسات الأخرى إلى أن معدلات الحضور الشكلي بين الموظفين تعادل تقريبيًّا ضياعَ ما بين ١٦ و٣١ يومًا من إنتاجية الموظف الواحد سنويًّا. أَلَا يعادل ذلك ضياعَ شهرٍ كامل من العمل؟

لدينا هنا أخبارٌ أشدُّ وقعًا تتعلَّق بمدى كفاءتنا على الصعيد الإداري. وفقًا لعدد من الدراسات الحديثة، فإن نسبة كبيرة تصل إلى ٣٠ بالمائة من متوسط القوة العاملة تعاني من «عدم الانخراط فعليًّا في العمل»؛ هذا يعني أن ٣ من بين كل ١٠ أشخاص في مكان العمل الذي تديره يُبْدُون عدمَ اكتراثٍ، ليس فقط تجاه وظائفهم وجودة العمل الذي يؤدونه وتقديم أفضل ما لديهم من أفكار وأقصى ما لديهم من طاقة، بل يعملون أيضًا على تجنيد الآخرين في حالة العصيان والانشقاق التي يمرون بها.

وعلى ما يبدو، فإن المتداوَل الآن أن هذا الوضع لن يتحسَّن قريبًا. وفقًا لأحد استطلاعات الرأي، يقول ٩٠ بالمائة من الموظفين إنهم يريدون من مديريهم أن يلاحظوا الجهودَ التي يبذلونها، وأن يحسِّنوا معدلات التقدير ومَنْح المكافآت، قبل أن يشعر هؤلاء الموظفون بالالتزام تجاه مؤسساتهم.

باختصار، كان يمكننا أن نؤلِّف كتابًا عن ظاهرة الموظف غير المرئي المستشرية، والفوضى التي يخلِّفها أمثال هذا الموظف عقب تركه العملَ؛ وقد كان.

بدأنا العمل على هذا الكتاب منذ بضع سنوات مضت، كجزءٍ من سلسلة كتب التحفيز التي ألَّفناها في مجال الأعمال، والعديدُ مِمَّنْ قرءوا كُتُبَنا دَعَوْنا إلى الحديث عنها في مؤسساتهم، ووجَدْنا عندها أننا نلتقي قادةً ومديرين تنفيذيين يعملون في العديد من المجالات في دول كثيرة حول العالم.

للوهلة الأولى، بَدَا لنا أن كل المديرين الذين قابلناهم أشخاص رائعون؛ كانوا يرتَدُون ملابسَ رسميةً أنيقة، ويُحسِنون اختيارَ الألفاظ المناسبة في حديثهم، ويقفون وقفةً لا تشوبها شائبة، وعلى درايةٍ جيدة بالمجالات التي يعملون فيها والمصطلحات المستخدَمة فيها؛ ولكنَّ الحجم الحقيقي لقدراتهم وكفاءاتهم ظهر لنا عندما تحدَّثنا إلى الموظفين الذين يعملون تحت إدارتهم. في الغالب، كان الموظفون الذين يعملون لدى مديرين رائعين؛ واثقين في أنفسهم ولديهم مرونة في التعامُل. بَدَا هؤلاء الموظفون وكأنَّ لديهم القدرة على فعل أي شيء، ولم يَبْدُ عليهم الخوف من التغيير أو المنافسة، بَدَوْا أيضًا وكأنهم يستمتعون بتقديم أفضل ما لديهم من عمل وأفكار من أجل دفع أهداف مؤسستهم إلى الأمام.

لكننا تقابلنا أيضًا مع فئة من الموظفين كانت تختلف تمامًا عن سابقتها؛ كان بعض الأشخاص في تلك الفئة أكثر هدوءًا وتحفُّظًا، بينما كان البعضُ الآخَر منشغِلًا إلى حدِّ الهوس بأحوالِ السوق المخيفةِ التي تهدِّد مستقبلهم، وفي أسوأ الحالات، كان البعض يتعامل مع الموقف بتهكُّم وازدراء واضحَيْن. شكا هؤلاء الموظفون من طلبات عملائهم التي لا تنتهي، ومن زملائهم في العمل، ومن مديريهم السيئين على وجه الخصوص.

ما هي المواصفات التي يتَّسِم بها المدير السيئ؟ قد يبدو من المناسب لو أعددنا قائمةً بتلك المواصفات، أو أجرينا استطلاعَ رأيٍ في هذا الكتاب بشأن الموضوع؛ ولكنَّ الحقيقة هي أنه ليس ثمة مواصفاتٌ معينة سوى هذه: إذا شعر الموظفون بأن مديرهم سيئٌ، فهو مدير سيئ. قُلْ إنها قاعدة ظالمة أو جائرة، ولكنها الحقيقة! إن الإدارة هي وظيفة المدير؛ وإنْ لم يستَجِبِ الموظفون لهذا المدير على النحو المناسب، فسوف تتولَّد مشكلات جمَّة.

تحدَّثْنا إلى موظفين يصنِّفون مستوى المديرين الذين يعملون لديهم على أنه عادي أو سيئ؛ كان هؤلاء الموظفون يقضون يومهم في التقليل من شأن الجهود التي يبذلها مديروهم وفِرَق عملهم وشركاتهم في هدوء، ولكن بعضهم كانوا يعبِّرون بوضوحٍ عن نظرتهم التشاؤمية إزاء تلك الجهود. لماذا؟ لأن هؤلاء الموظفين عاشوا في الظل طوالَ حياتهم، دون أن يلاحظهم أحدٌ.

لقد كان هؤلاء الموظفون غيرَ مرئيين.

نودُّ لو كان في وسعنا أن نقول إننا لم نفهم المشاعرَ التي أحسَّ بها هؤلاء الموظفون، ولكننا قد جرَّبْنا بأنفسنا العملَ لدى مديرين جيدين ومديرين سيئين، والفرق بين الفئتين عظيم؛ لذا فقد عَلِمْنا أنه علينا تأليف هذا الكتاب عندما فكَّرْنا في كلِّ الأشخاص الذين يعانون من العمل لدى مديرين سيئين، وكلِّ المديرين الذين يرغبون في أن يصبحوا مديرين جيدين ولا يعلمون السبيل إلى ذلك، أو لا يملكون الوقتَ والأدواتِ اللازمَيْن لتحقيق ذلك.

وها هو الكتاب بين أيديكم. في الصفحات التالية قصصٌ لمديرين تعلَّموا السبيلَ إلى إدارة الموظفين بطُرُقٍ تجعل هؤلاء الموظفين يشعرون بأن ثمة مَنْ يقدِّرهم ويعرف قيمتهم. والكلمة الأهم في العبارة السابقة هي كلمة «تعلَّموا»؛ السبب في أهمية تلك الكلمة هو أن معظمنا في حاجة إلى تعلُّم سُبُل تقدير أعضاء فريق العمل الذي يديرونه نظيرَ عملهم الرائع. إن غريزتنا الفطرية تدفعنا إلى الاهتمام بأفضل واحد بين أعضاء الفريق وتجاهُل الباقين، ولكنَّ أفضلَ المديرين هم أولئك الذين «يتعلَّمون» فنَّ التقدير، وهو فنٌّ يستحِقُّ أن تُبذَل كلُّ الجهود في تعلُّمه؛ ففي نهاية الأمر، سيؤدي اهتمامُك بملاحظة جهود الموظفين — ومكافأتهم عليها — إلى نتائج إيجابية لم تكن لتتحقَّق بأي سُبُلٍ أخرى. وتتلخَّص هذه النتائج فيما يلي:
  • قوة استراتيجية (وذلك عن طريق مكافأة الموظفين على السلوك الذي تودُّ منهم تكراره).

  • وسيلة تواصُل ممتازة (فما من شخصٍ يستطيع التعامُلَ بتجاهُل مع حدَثِ تكريمِ أحد زملائه).

  • رابطة عاطفية قوية بين الموظفين والمديرين (منذ متى كان لنشرة أخبار الشركة الشهرية مثل هذا الأثر؟).

  • تحسين أداء الموظفين والمديرين (عندما تتلقَّى جائزةً، فلا يسعك سوى أن تشعر بمزيدٍ من الالتزام ووضوح الهدف).

  • زيادة الدخل الصافي لشركتك (إن الأشخاص الذين يحظَوْن بالتقدير يصبحون أفضل في عملهم؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى تحقيق عائدات لحاملي الأسهم، تصل إلى ٣ أضعاف العائدات التي يحقِّقها المنافسون، بحسب ما جاء في الأبحاث التي أجريناها).

في بيئة اليوم بطابعها التنافُسي، يتطلَّع كلٌّ منَّا إلى أحدث منتج قادم؛ إلى أحدث إمكانية أو حل قادم. ولكن السبيل الوحيد إلى تحقيق مثل هذه النتائج هو وجود قوة عاملة يكون موظفوها ملحوظين من قِبَل مديريهم، وملتزمين ومهتَمِّين بعملهم. ابحث عن مصدرٍ للإلهام في جدول بيانات أحد المشروعات، أو في أحد المستندات المتعلِّقة باستراتيجيات الشركة؛ وستفشل فشلًا ذريعًا، ولكنِ استثمرْ وقتَك في ملاحظة موظَّفِيك ومكافأتهم، وستجد أن استثمارك هذا كان استثمارًا حكيمًا سيسهم في استمرار نجاح شركتك. استثمرْ وقتَك مع موظفيك وسيقدِّرون لك استثمارَك هذا.

كُنْ متأكِّدًا من ذلك.

نأمل وأنت على وشك أن تبدأ رحلتك مع هذا الكتاب، أن تجد فيه ما ينفع مؤسستك، وأن يرشدك إلى أسرار تحفيزِ موظفيك على الانخراط في عملهم بهدف تقوية مؤسستك. وكما سترى في الصفحات التالية، فإن تقديرَ العمل الرائع الذي يقوم به موظفوك وتشجيعَهم على الانخراط في العمل، لا يُعَدُّ نوعًا من خلْطِ العاطفة بالعمل، وإنما هو أساسُ وسرُّ النجاح في العمل وفي الحياة بوجهٍ عامٍّ. الكلُّ يحتاج إلى التقدير؛ بدايةً من الشخص الذي يعمل مديرًا تنفيذيًّا في شركة عالمية، وحتى الطفل الذي لم يتخَطَّ مرحلةَ الروضة.

لن أنسى (أنا، تشيستر) ذلك الطفلَ التعيسَ المتقلِّبَ المزاجِ، الذي رأيتُه في المدرسة الابتدائية عندما ذهبتُ كي آخذ ابني من هناك؛ كانت المرأة المسئولة عن رعايته (أو ربما كانت والدته) تستمع بفتورٍ إلى المعلِّم الذي كان يصف التحسُّنَ الذي أظهَرَه الولدُ في ذلك اليوم، على الرغم من الصعوبات التي يبدو أنه كان يواجهها، وحاوَلَ المعلِّم تحديدَ بعض الأمور الإيجابية التي قام بها الولد. في نهاية الأمر، قاطعَتِ المرأة المعلِّمَ وأومأت برأسها، ثم قالت بنبرة ساخرة: «حسنًا، أليس هذا رائعًا؟ أراكَ غدًا!»

بَدَا الإحباط على وجه الطفل وهو يهزُّ رأسَه يمينًا ويسارًا، بينما جرَّتْه المرأة وراءها إلى الخارج. في اعتقادك، كَمْ من المجهود سيبذل هذا الولد في تكرار هذه السلوكيات؟ ليس الكثير.

قارِنْ هذه القصة مع القصة التي رَوَتْها لنا ساندي سايمون، التي تدير إحدى فِرَق العمل في شركة إكسيل إنيرجي في دنفر، عندما تحدَّثنا إليها. كانت ساندي واحدةً من بين العديد من الموظفين الذين نالوا أرفعَ جائزةِ إنجازٍ لدى الشركة، ويُطلَق عليها اسم «جائزة القمة».

قالت ساندي: «كلُّ ما كنتُ أفكِّر فيه وأنا أغادِر خشبةَ المسرح بعد تسلُّمي الجائزة، هو: ما الذي يتعيَّن عليَّ فعله كي أعود لأعتلي خشبةَ المسرح وأفوز بتلك الجائزة العام القادم؟»

إنها موظفةٌ متَّقِدة الحماس، موظفةٌ ستُحدِث فَرْقًا في مسيرة شركتها هذا العام والعام الذي يليه؛ والسبب في ذلك كله هو أنها وجدَتْ مَنْ يلاحظ إسهاماتها ويكافئها عليها. لم تكن ساندي مستعِدَّة لتكرار السلوكيات التي نالت عنها الجائزة فحسب، ولكنها بدأت بالفعل في البحث عن سُبُلٍ لتقديم أداءٍ يفوق ذلك الأداء الذي نالت الجائزةَ من أجله.

إنَّ أملنا بسيط؛ وهو أن تجد الموظفين غير المرئيين في مؤسستك وتُخرِجهم من الظلِّ إلى النور، وتساعدهم في اكتشاف كلِّ إمكاناتهم وطاقاتهم الكامنة. إنَّ هذا الكتاب يُعَدُّ في نظرنا بيانًا رسميًّا باسم الموظفين الذين لا يراهم أحدٌ، ولا يقدِّرهم أحدٌ، ونُهْدِيه لكل الذين يعملون بجدٍّ ويحقِّقون الكثيرَ من الإنجازات كلَّ يوم. ونحن على ثقةٍ من أن رؤيةَ إنجازات هؤلاء الناس وتقديرَهم عليها، هما سبيلك إلى بناء فريقِ عملٍ وشركةٍ أقوى.

وستكتشف بنفسك أن الاهتمامَ بالموظفين وتقديرَهم يعني الإنجاز، في كل وقت، وفي كل مكان، ومع كل الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤