نص مسرحية «حسن العواقب»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الماضي تبصرة للحاضر، والصلاة والسلام على أصل الكمالات والمفاخر، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين. أما بعد، فيقول راجي فضل ربه الهامي، علي عاصم الخلوتي المحامي، نجل حضرة الفاضل العالم، إسماعيل بك عاصم: إني لما رأيت تشوُّق جمهور الفضلاء، وأكابر الألباء إلى مطالعة رواية «حسن العواقب». التي هي بين الروايات كالبدر بين الكواكب، تأليف سيدي الوالد، وقد أجمع على استحسانها العلماء الأماجد، بادرت إلى طبعها؛ تعميمًا لفائدة العموم؛ وخدمةً لهذا العصر المزدهي بأنوار العلوم؛ لما اشتملت عليه من الآداب والحكم، التي ترتاح لها العرب والعجم، مستمدًّا من الله العناية والتوفيق، والهداية لأقوم طريق.

الفصل الأول

(تنكشف الستارة عن منزل الشيخ غانم والد سعاد وهي جالسة مع سعيد وقت الفجر.)

سعاد (لسعيد) :
ثَنَائِي على هذِي الشمائلِ والبَها
لقد زِدْتَ قدري بالسعادةِ مِنْ قَدْرِكْ
وشرَّفْتَ داري يا سعيدُ تَفضُّلًا
علينا فَمنْ لي بالوَفاءِ على شُكرِك
تفرَّدتَ في الآدابِ والعلمِ والبَها
فصِرْتَ فريدًا بالفَضائلِ في عَصْرِكْ
سعيد (لسعاد) :
جواهرُ لفظٍ منْكِ والدرُّ مِن ثغْرِكْ
هُما أدْهشَا الرَّائِي عن العِقْدِ في صَدْرِكْ
وما هو ماسٌ فوقَ رأسكِ بل ضِيا
جَبِينِكِ فوقَ الشَّعرِ يسطعُ عن بشرِك
وليسَ نُضَارًا ذلك القُرْطُ إنما
خيالُ اصفرارٍ قد بدا فيه من شَعرِك
مُحيَّاكِ بدرٌ لاح والعِقدُ أنجمٌ
بدتْ في عمودِ الصُّبح أسفر عن نحرِك
ملكتِ فؤادي يا سعادُ فما أنا
سِوَى عبدِ حُبٍّ لا يُباعُ إلى غيرِك
هذا يا سعادُ وقتُ السَّحَر
يسري فيه النسيم بأريجِ الزَّهر
والبلابل غنَّت على عيدانها
تطربُ العاشقَ بشجِي ألحانها
صَوتُ الهَزَار أشجاك
يا قلبُ في الأسحارْ
ياما الهوى أضناكْ
والحبُّ له أسحارْ
وأنتِ يا عزيزتي أمامي
ووجهُكِ قِبلتي وحُبكِ إِمامي
وهذا نور الصباح
صفا وَوَفَا لنا بوجهكِ الاصطباح
لاح الصباحُ فقم يا أصبَح الخَدِّ
وطُفْ بكاسِ الطِّلا يا مَائِسَ القدِّ
وانْظُرْ إلى الصبحِ يغشى نورهُ شفقٌ
كأصفرِ الشَّعْرِ مسبُولًا على النُّهْدِ
والروضُ أزهارُه تحكيكِ في ترفٍ
والغصنُ ماسَ يُحاكي القدَّ بالقدِّ
والدهرُ في غفلةٍ والوقتُ في دَعَةٍ
هذا زمانُ الهنَا يا غايةَ القصدِ

(ثم يدخل والدها الشيخ غانم.)

غانم (لسعيد) :
صباحُكَ يا مولانا سعيدْ
ويومُكَ بالصفَا والأنس عيدْ
سعيد (لغانم) :
تفضل أيها الشيخ النبيلْ
وأين كنت كل هذا الوقتِ الطويلْ
غانم (لسعيد) :
كنتُ أصلي الفجرَ لله تمجيدًا
إن قرآنَ الفجرِ كان مشهودًا
ثم دعوتُ لكَ ولحضرةِ الوالدْ
أن يُعيذَكما من شرِّ كل حاسدْ
سعاد (لسعيد) : ما بالي يا مولاي أرى الشعراءَ وهم ملوكَ الكلام، يرتاحُ أكثرُهم للتشبُّبِ بمحاسنِ المُدام، ومع أن الحقائق أثبتت عكس ما يتوهمون، فإنهم في كل وادٍ يهيمون، وقد سمعتك تترنمُ بها في ألحانِك، وتذكرها في نثرك وأوزانك، كأنك مرتاحٌ إليها أو مقبلٌ — معاذ اللهِ — عليها.
سعيد (لسعاد) : كيف تنكرين محاسن المُدام، وقد حسَّنَها أكثرُ الأنام؟! فلا يكادُ يوجد مجلس آدابْ، إلَّا وفي صدرهِ مائدةُ الشرابْ، أو تقرئين ترجمةَ أميرٍ وسلطانْ، إلَّا وتجدين ما كانوا عليه من مؤانسةِ الراحِ والندمان.
غانم (لسعيد) : هَوِّنْ عليك أيها الأمير، ولا تُطنِب في هذا التعبيرْ، وقل لي أي ملكٍ من ملوكِ العربِ بعد الإسلام، أو أي سلطانٍ من سلاطينِ التُّركِ والأعجام، وأي عاقلٍ من الحكماءِ السابقين، والفلاسفةِ المتمسكين بالدين، كان يُعَاقِرُ العُقَارْ، ويستحلُّ ما فيها من الإثم والإضرار؟ أَغرَّكَ ما ينسبه بعضُ المخرفين، وأصحابُ القصصِ الكاذبين، لأمير المؤمنين هارون الرشيد، وولدِهِ مأمون الرشيد، وما ذكروه عن الإمام يحيى بن أكثم الفاضل، وعن الشيخِ الأصْمعِي الكامل، وأمثالِ هؤلاءِ الأبرار، من السُّكرِ مع الندمانِ والجُوارْ؟ فما هذا إلَّا إفكٌ وبهتان، وتضليلٌ من ذوِي الحسدِ والعُدوان، وإلَّا فإن هؤلاءِ الكرام كانوا من أجلَّةِ الأفاضلِ الأعلام، المتمسكينَ بالأحكامِ الدينية، القائمين بنشر لواء العرفان والمدنيَّة، مجالسُهم العلوم والآداب، ومحافلُهم الوقارُ من عهدِ الشباب، وشرابُهم دمُ الأعادْ، وسماعُهم صليلُ السيوفِ يومَ الطِّرَادْ.
يُطْرِبنا صليلُ أعوادِنا
لا بالغِنَا والخمرِ والكاسِ
شرابُنا من دمِ أعدائِنا
وكاسُنا جمجمةُ الرَاسِ
وبذلك فتحوا الأمصار، ودَوَّخوا الأقطار. فروَّح اللهُ أرواحهم، وروَّى بغيثِ الرحمةِ تربةً ضمَّتْ أشباحَهُمْ، ولنرجع لِمَا كنا فيه يا سعيدَ الزمان، فالخمرةُ محرَّمَة في التوراةِ والإنجيلِ والقرآن، وهي في الجملة أُمُّ الكبائر، وطالما أفْقَرَتْ الزارعَ والتاجر، نستعيذ بالله منها، ونسأله البعدَ عنها.
سعيد (لغانم) : إنَّ الشعراء في الغالبِ مُقَلِّدون، ويقولون ما لا يفعلون. فأشكرُك على صدقِ نَهْجَتِك، ولله درُّك ودرُّ ابنتِك!
غانم (لسعيد) : عن إذنك أتوجه الغيْطَ وأنظرُ الأشغال، فما أبعدَ الخيرَ على الكَسُولِ البطال.

(ثم يخرج)

سعيد (لسعاد) : إن أباك يا عزيزتي طال أجله، وخيركم مَن طال عمرهُ وحسن عمله.

(ثم يطرق الباب.)

سعيد (لسعاد) :
انظري مَن الطارق
يا مُنيةَ فؤادِ العاشق

(ثم تخرج سعاد.)

سعيد (لنفسه) : إني أحببتُ هذه الفتاة محبةً لا سُلوانَ لها مدَى الحياة، وقد مضَتْ على ذلك أعوام، ولم أُحادِثها بالمرام. فالأصوبُ أن أُصَرِّحَ لها بالمحبَّة، وأعاهدها معاهدةَ الأحبَّة، ثم أسعى معها للاقتران، في أقربِ فُرصَةٍ من الزمان.

(تدخل سعاد وبيدها كتاب.)

سعاد (لسعيد) : هذا كتابٌ من حضرةِ أبيك. باركَ اللهُ لهُ فيك.
(ثم يتناوله سعيد ويقرؤه وهو):

إلى ولدِنَا الوحيدْ، الأمير سعيدْ، بوصولِ كتابنا إليكَ، ووقوعِهِ بين يديكَ، تبادر بالحضورِ إلينا، بغيرِ بُطْء علينا.

(ثم يطوي الكتاب ويقول):

سعيد (لنفسه) :
ليت شعري لماذا يطلُبُني أبي
وهلْ في الغيب صلاحي أمْ عطَبي
سعاد (لسعيد) : لا تهتم أيُّها الأميرُ الجليل؛ فإن الوالدَ لا يرى لولدِهِ غيرَ الخيرِ الجزيل. فامتثلْ لأمرِ والديْك يا عالِيَ الهمَّة، واخفضْ لهما جَنَاحَ الذلِ من الرحمة، وبادر لحضرتهما سميعًا ونصيرًا، وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرًا.
سعيد (لسعاد) : اصرفي عن فكركِ تلكَ الأوهام، واصغي لما أُلقيهِ إليكِ من الكلام، وذلك أنَّ لي سرًّا مَصُونًا في صدري، وأن فؤادي لَيَبْخَلُ بهِ على غيري، فاحفظيهِ مِثْلِي يا سعاد، وأحلِّيه في صدركِ مَحَلَّ الفؤاد.
يا سعاد اسمعي مقالي وَصُوني
لي سِرِّى فالحرُّ يرعَى الصِّيانَة
واحفظِيهِ حتى إذا الوقتُ وافى
سَلِّمي لي أمَانتِي بالأمانَة
سعاد (لسعيد) :
هاتْ قُلْ لي أَسمعْ وكُنْ مطمئنًا
يا أميري إِني محلُ الصيانَة
وتراني للعهدِ أكثرَ حِفظًا
وتراني للسرائر أرعَى الأمانَة

(ثم يطرق الباب.)

سعيد (لسعاد) :
اذهبِي يا غايةَ الأماني
وانظرِي مَنْ هذا الطارقُ الثاني

(ثم تخرج سعاد.)

سعيد (لنفسه) : اللهمَّ احفظنا من الضيرْ، واكفنا شرَّ كلِّ طارقٍ يطرقُ إلَّا بالخيرْ.

(ثم تدخل سعاد.)

سعاد (لسعيد) :
إنَّ الطارقَ أيها الحبيبْ
هو خالُك الأميرُ نسيب
سعيد (لسعاد) :
أَدخِليهِ هذا المكانْ
وانصرفِي إلى حُجرَتِكِ الآن

(ثم تخرج سعاد.)

سعيد (لنفسه) :
إنَّ حضورَ خالي مُبكِّرًا
لا بُدَّ أنْ يكونَ لحادثٍ جَرى

(ثم يدخل نسيب.)

نسيب (لسعيد) :
صباحُك يا ابنَ المعالي سعيد
وطالعُ سعدِكَ بالأنسِ عيدْ
فَدُمْ كلَّ يومٍ كما تشتهي
بعيشٍ رغيدٍ وحظٍّ جديد
سعيد (لنسيب) :
عِمْ صباحًا يا خالْ
ودُمْ فَائِزًا بالآمال
نسيب (لسعيد) : اعلمْ يا ابنَ أختي أني حضرتُ إليك؛ لأقُصَّ أعجبَ الأنباءِ عليك، وهو أنَّ عمَّكَ الأميرَ ظافر، سوَّلَ لوالدِك إدخالَكَ في دائرةِ العساكر، وظاهرُ قصدِهم والمراد، إبعادُكَ عن السيدةِ سعاد، ولكنْ غرضُ عمكَ المكنون، إيقاعُك في عذابِ الهُونْ، وقد كتبَ لقائدِ الجيش، أنْ يُحرِمَك من لذةِ العيش؛ لِمَا بينَ أبيك وهذا القائد، من الضغائِن والمكائد، وهو اليومَ يترقبُ لكم فُرصةَ الانتقام، على طولِ الأيام، ووالدُك لحُسنِ نواياه لم يُدرِك ما أضمَرهُ لهُ أخاه، وبلَغَني أنَّهُ بعثَ في طلبِك؛ لِيُرسِلَك بيدهِ إلى عطَبِك، فلمْ أتمالك دُونَ أن بادرتُ بالحضور؛ لأُخبرَك بحقائقِ الأمور.
سعيد (لنسيب) : لقد أوريت نار همي، وما سبب عداوة والدي وعمي؟
نسيب (لسعيد) : اعلم أن والدة أبيك طاهر، غير والدة عمك ظافر، وقد مات والدهما وهما صغيرين، وترك لهما ثروة تملأُ العين. فأما والدة أبيك فكانت عالية النسب، كاملة الأدب، فقامت بحق تأديبه، وحسن تهذيبه، ولما بلغ والدك مبلغ الرجال، زوَّجته بأمك ذات الكمال، وصفت لهما بذلك الأوقات، وهذا نتيجة فضيلة الأمهات، وأما والدة عمك فإنها سافلة الحسب، كثيرة الزهو قليلة الأدب، ففرحت بموت بعلها، وألهاها الغرور عن تربية نجلها، فشرب من نبعها، وجرى على طبعها، حتى أثقل كاهلهما الدين، وأصبحا صفر اليدين، وهذا نتيجة جهل الأمهات، والانغماس في الشهوات، ثم داخلهما الحسد الشديد عليك وعلى أبيك يا سعيد، وهما يعملان على حتفه؛ ليغتالا أمواله رغم أنفه، وهذا نتيجة جهل الضرائر، وما ينجم عنهنَّ من الخسائر. فهذه حقائق أقصها عليك، والأمر يا ابن أختي إليك.
سعيد (لنسيب) : كل شيء بإرادة الله وعلمه، وهو الحاكم لا معقب لحكمه، وماذا عسى يعمله القائد مهما أراد، إذا سلك الإنسان سبيل الاستقامة والرشاد؟! وإني على كل حال أيها الكريم، أكرر لك الشكر مصحوبًا بالتكريم.
نسيب (لسعيد) : إذًا أستأذنك في الذهاب.
سعيد (لنسيب) : سِر محفوظًا بعناية الكريم الوهاب.

(ثم يخرج نسيب وتدخل سعاد.)

سعاد (لسعيد) : طال حديثك يا ذا الأريب، مع خالك الأديب. فلعله يكون خيرًا، ولا أراك الله ضيرًا.
سعيد (لسعاد) : أخبرتك منذ برهة وجيزة، بأني سأعلمك بأسراري العزيزة، وقد آن الأوان، ولم يبقَ محل للكتمان، وذلك أني أحبك يا سعاد، وبقلبي نار ذات اتقاد، وكنت أتمنى التأهل بكِ يا ذات الفطن، في أقرب فرصة من الزمن، ولكن حالت الآن عوايق، وأمور لها حقائق. فهل تحفظين عهدي، وتبقين على ودي. سعاد … سعاد … لا تسكتي يا غاية المراد. كلمة منك تشفي الفؤاد. زوِّديني بوعد أطمئن به قبل الفراق، فلست أدري متى يكون التلاق.
دور
آه يا وعدي ووجدي
ساءني البعد
عن الحبيب
وعدمت اليوم رشدي
فاتني القصد
زاد النحيب
هل أرى بالوصل سعدي
زانه الرشد
بلا رقيب
يا ويل الزمن
أولاني المحن
أضناني الشجن
ساءني دهري
سعاد (لسعيد) : آه يا سعيد! هل قلبك من حديد؟! قل لي ما حالك، وماذا قاله خالك؟
سعيد (لسعاد) : اعلمي يا ذات الطلعة البهية، أني سأنتظم في سلك العسكرية، والمستقبل مجهول، ولكن الخير مأمول.
سعاد (لسعيد) : إني وعيش أبيك، لك من ضمن جواريك، ولكن كيف أطيق بعدك، أو أعيش بعدك؟! آه قَلَّ الجَلَد، وعدمت الرشد!
يا سعيد ارحم سعادًا
زادني الوجد
يا ذا الحبيب
كيف لي ألقى رشادًا
والنوى يعدو
يا ذا الأديب
هل ألاقي الدهر جادًّا
والهنا يبدو
رغم الرقيب
يا ناس اعلموا
حالي وارحموا
والأجر اغنموا
قد مضى عمري
سعيد (لسعاد) : لا تبكي يا سعاد، وودعيني قبل البعاد.
سعاد (لسعيد) :
لا تروِّع قلبي بذكر البعاد
يا سعيد وارحم فؤاد سعاد
وتعطَّف فالصبر بعدك أضحى
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
سعيد (لسعاد) :
كفكفي الدمع يا سعاد ونادي
خادمي يا حبيبتي بالجواد
سوف أمضي إلى أبي فالتواني
غير مُجْدٍ في مِلَّتي واعتقادي

(وإلى هنا تخرج سعاد.)

سعيد (لنفسه) :
ليت شعري إني أسير وهل سيـ
ـري إلى دار شِقوَةٍ أو رشاد
غير أني أرعى أبي ومن العا
ر هوان الآباء والأجداد
سأنال المنى إذا طال عمري
في طويل الأزمان والآباد

(ثم تدخل سعاد.)

سعاد (لسعيد) :
قد جاء الخادم بالحصان
طبق أمرك يا سعيد الزمان
سعيد (لسعاد) :
إني أزمعت على الرحيل
وأستودعك الله الجليل
يا سعاد ودِّعيني
واحفظي عهدي المصان
وإلى الهم دعيني
هكذا حكم الزمان
سعاد (لسعيد) : لك قلبي يا سعيد، مسكنٌ طول الزمان. أنت لي قربك عيد، والنوى يُصْمِي الجنان.
سعيد (لسعاد) :
إن روحي طوع حبك
في ابتعاد واقتراب
سلِّمي الأمر لربك
فعسى يدنو الإياب
سعاد (لسعيد) :
مَن له يا رب أشكي
حالتي بعد الغياب
أسهر الليل وأبكي
سوءَ حظي والعذاب

(ثم يدخل الخادم.)

الخادم (لسعيد) :
سيدي طال انتظاري
واقفًا عند الجواد
فتفضل فاصطباري
عَزَّ يا نعم الجواد

(يقولون جميعًا):

ربِ هبْنا حسن صبر
منك يرضي العاشقين
واجعل العقبى لخير
رغم أنف الحاسدين

(ثم يخرجون جميعًا وتنكشف ستارة أخرى.)

المنظر الثاني

(تنكشف الستارة عن منزل الأمير طاهر وفيه روضة وساقية وهو جالس مع زوجته الأميرة فاخرة.)

طاهر (لفاخرة) :
روض وماء وأزهارٌ مفتحة
ومشتهى النفس من روح وريحان
وزوجة بعفاف النفس طاهرة
كما قضى الحب أرعاها وترعاني
ونعمة بمزيد الشكر وافية
هذا هو العيش لولا أنه فاني
فاخرة (لطاهر) :
يا طاهر أنت لي روحي وريحاني
وأنت راحي بل روحي وجسماني
وأنت ذخري وأنت الناس أجمعهم
أرعاك فرضًا على نفسي وترعاني
لك البقاء بقاء لا فناء له
في العالم الدنيوي للعالم الثاني
فالدار هذي طريق نحو آخرة
وذو المآثر فيها ليس بالفاني
طاهر (لفاخرة) : كأنكِ يا فاخرة تقولين بالبقاء، مع أن مصير الأحياء للتلاشي والفناء. فبأي مذهب أنت متمسكة؟ أوضحي لي بيان هذه الفذلكة.
فاخرة (لطاهر) : كيف تعتقد بالفناء المحض، مع أن هذا لم يقل به إلَّا البعض؟! وأما الذي عليه معظم الأقوال، هو أن أجسامنا إنما يعتريها الانحلال، ثم تتجمع وتخرج بإذن الله جهرًا، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، على أن الفناء حسي يتناول الصورة، ولا علاقة له بالمادة المأثورة، والإنسان حي وإن مات؛ إذا هو خلَّف مِن بعده المكرمات، وقد ورد في جوامع الكلم الصوالح. «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو كتاب نافع، أو ولد صالح.»
طاهر (لفاخرة) : أحسنتِ يا فاخرة، ونج لأفكارك السافرة، وإن الثلاثة التي يحيا بها الإنسان، متوفرة عندنا منها اثنتان، وهما الصدقة الجارية، وكتب العلم الوافية؛ لأني ولله الحمد شيدت مدارسَ علمية، وأوجدت جمعيات أدبية، وأجريت عليها من الصدقات، ما يقوم بها في الحال، ويحفظها إن شاء الله في الاستقبال، ولم أضيع أموالي إسرافًا وتبذيرًا، ولم أكنزها شحًّا وتقتيرًا، واتخذت حكمة المعتدلين إمامًا، الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا، وألَّفت كتبًا في أكثر العلوم، كما هو معلوم للعموم، لا سيما علم الفقه الذي يحتاجه المتعبدون، «وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون»، وفي المعاملات الشرعية والأحكام التي يرجع إليها القضاة والحكام؛ لأن شريعتنا القويمة الغرا بحر تستمد منه الشرائع الأخرى. فهذان الركنان تأسَّسا عندنا والحمد لله، وأما الثالث وهو الولد الصالح، فآه ثم آه؛ لأني في ريب من هذا الحظ السعيد، على ما يظهر لي من أخلاق ولدنا سعيد.
فاخرة (لطاهر) : ما لك أحجمت عند ذكر الولد الصالح، ورميت سعيدًا بهذا الريب السانح، مع أنه بحسن تربيتك مثال الكمال، ونموذج الصلاح في الأعمال.
طاهر (لفاخرة) : صدق مَن قال إن الوالدة بولدها مُغربِة، والبنت بأبيها معجبة، وأنت تعلمين يا شريفة الأصل، أن مَن ركب مطية الهوى ضلَّ، وأن ولدك قد أطاع هواه، وترك أمه وأباه، وارتكب أعظم الجرائم، وعلِق بسعاد ابنة غانم، وأصبح لا ينفك عن مغانيها، ولا يبرح من ضيعة أبيها، وهو رجل من أتباعنا، وبنته من ضمن متاعنا. فهل بعد هذه الفضائح، يكون لنا الولد الصالح؟!

(ثم يدخل مرسال آغا.)

مرسال (لطاهر) : إن أخاك الأمير ظافر واقف بالباب.
طاهر (لمرسال) : ليتفضل بالإجلال والترحاب.

(ثم يخرج مرسال.)

طاهر (لفاخرة) : وإني بعثت أخي البارحة إلى سعيد؛ ليأتيني عنه بالخبر المفيد، وأظنه حضر ليخبرني بذلك. فاذهبي يا عزيزتي الآن إلى خدرك المصان.

(ثم تخرج فاخرة ويدخل ظافر.)

ظافر (لطاهر) : حياك الله يا نخبة الأنجاب.
طاهر (لظافر) : وأنت حُييت يا معدن الآداب.
ظافر (لطاهر) : بعد ما اتفقنا البارحة يا ذا الروية، على إرسال سعيد للعسكرية، وكان خالهُ الأمير نسيب يعارضنا في هذا الرأي المصيب، قد توجهت لمنزل سعاد، فوجدت سعيدًا معها على غير رشاد، وأمامهما أباريق المُدام.
طاهر (لظافر) : يا ويلاه! وأباريق المُدام!
ظافر (لطاهر) : نعم موضوعة على مائدة الطعام، وقد لعب الخمر برأسيهما، وأخذ الطرب من نفسيهما، وسلَّمتُ عليه بكل اعتبار، فازدراني وعاملني بالاحتقار. فذكرت لهُ اسمك، فأنكرك وأنكر رسمك، وأرغى وأزبد من شدة السكر عربد.
طاهر (لظافر) : وا فضيحتاه! وبعد ذلك ماذا أجراه؟
ظافر (لطاهر) : وأخيرًا طردني من الناد؛ مرضاة لخاطر سعاد. فكتمت ما عندي له من النصيحة، وخرجت خوفًا من الفضيحة، وحضرت إليك يا همام؛ لتنظر في مستقبل ولدك والسلام.
طاهر (لظافر) : كيف يكون العمل، وقد عدمت الحول والحيل؟
ظافر (لطاهر) : ليس عندنا طريقة ناجحة، غير إرساله للعسكرية كما اتفقنا البارحة، وأن سمو الوالي يبتهج بأولاد الأشراف، ويمنحهم في العسكرية الانعطاف، وإذا تمَّ لنا انتظام سعيد في هذه الخدمة الجليلة، فإنه يفوز في المستقبل بالنعم الجزيلة، ويبتعد عن سعاد، ويتم لنا بذلك المراد.
طاهر (لظافر) : هذا هو عين التدبير، ولا ينبئك مثل خبير، وإني بعثت في الصباح أسرع بريد، في طلب هذا الولد العنيد.
ظافر (لطاهر) : وبعد أن يتوجَّه سعيد وتأمن من ضيره، تسعى في زواج سعاد بغيره؛ لتنقطع منهما الآمال، وتنصلح بعد ذلك الأحوال.
طاهر (لظافر) : هذه واجبات كالفريضة، وها أنا ذاهب لأكتب لمقام الولاية العريضة.

(ثم يخرج طاهر.)

ظافر (لنفسه) : العناية صدف، والغواية تحف، وسيذهب سعيد للعسكرية، وقد كتبت لقائد الجيش أن يذيقه المنية. ثم أعمل على قتل طاهر، وأتنعم بعدهم بهذا النعيم الوافر.
نلت بالمكر والخداع مرامي
وأصابت سهام لؤمي المرامي
يتلقى إبليس مني دروسًا
دونها الخمر في فساد الأنام
لا أبالي بصاحب أو قريب
حين ألقيه في ردى الاجترام
نلت قصدي من اللئيم سعيد
وسألقي أباه في الإعدام
بعدهم أستريح منهم وأجني
ثمرات الغنى مدى الأيام

(ثم يخرج ظافر ويدخل طاهر وزوجته فاخرة.)

طاهر (لفاخرة) : إني بعثت في طلب ولدنا سعيد، وسيأتي في وقت غير بعيد، ونعرض لأعتاب دولة الوالي العلية، ليأمر بقبوله في الجنود الشاهانية؛ لكي يخدم أوطانه، ويرفع بجده شانه؛ لأن العمل والاجتهاد أساس ترقي الملك والبلاد، والبطالة والخمود، أصل كل رذيلة في الوجود، وهذا ما كان أصاب الشرق وذهب بنضارته، وأضاع محاسن حضارته، يوم كانت القوة الحاكمة، عن واجباتها نائمة، وكانت القوة المحكومة، بيد الجهالة على نفسها مقسومة، ولكن تلك أمة قد خلت، وأيام في خبر كان انطوت. أما الآن وقد اعتدلت الأحكام، وقامت بالواجب الحكومة والحكام، واتسع نطاق المعارف، وانبعثت روح العوارف، كان أول واجب علينا الاقتداء بهم في الإصلاح، ومعاونتهم على ما فيه للأوطان النجاح؛ ولذلك رأيت من الفروض الدينية، أن ينتظم ولدي في العسكرية. متطوعًا في الجهاد؛ ليقوم بحق الله والعباد، فأرجوك يا قرينتي الفاخرة أن تساعديني على نوال هذه النعمة الوافرة.
فاخرة (لطاهر) : كيف يرتاح لبُّك، ويطاوعك قلبك على إبعاد سعيد، وهو ولدنا الوحيد، وتجعله عرضة للأخطار، وهدفًا لسهام النوائب والأضرار، ونصبح غير آمنين بحياته، ولا عالمين بيوم محياه ومماته. فبحياتي عليك أيها الماجد، أن لا تفجعني في ولدي الواحد.
طاهر (لفاخرة) : أتريدين التشبه بأهل بعض البلاد، حين يبكون ويندبون الأولاد إذا طلبتهم الحكومة السَّنية، إلى الخدمة العسكرية. عار ويا ألف عار! ولماذا لا نتشبه بالشعوب الأخرى الرفيعة، حين تلبي الأمر بذلك مطيعة، بل تأتي أشرافهم للخدمة متطوعين، ولإعزاز الوطن مسارعين. فحتَّامَ يا تُرى هذه الغفلة؟! ومتى يا رب نبرأ من هذه العلة؟! وهل تبخلين بولدك أيتها القرينة، على حياة وطنك الثمينة؟!
دعيني أقاسي من ملامتك المحن
ولو فارقتني الروح في عزَّة الوطن
ولم يكن بُني فوق نفسي معزَّة
ولا هو دوني الآن في قوة البدن
فلا توجدي لي في طريقي عوائقًا
وإلاَّ فلا نفع لديكِ على السكن
وها هو قد وافى سعيد ووجهه
يلوح عليه حسن مستقبل الزمن
فإياكِ أن تبدي إليه إشارة
تثيرين فيها من جهالتك الإحن

(ثم يدخل سعيد.)

سعيد (لطاهر) :
صباح كما ترضى عليك سعيد
ويوم بإقبال المسرة عيد
فأنت حياتي والحياة عزيزة
وأنت وجودي والوجود يفيد
طاهر (لسعيد) :
نهارك عندي يا سعيدُ سعيد
وعمرك بالنفع المزيد مديد
دعوتك فاسمع يا بني نصائحي
مطيعًا فنصح الوالدين مفيد
اعلم يا ولدي أن العمر مزرعة، وثمارها العمل والمنفعة، وخير الأعمال الشرعية، ما شمل نفعه البرية. قال سيد الناس: خير الناس مَن نفع الناس؛ ولذا وجب على الإنسان، أن يعمل بقدر الإمكان، وإلَّا كان حملًا ثقيلًا بغير مزية، على كاهل الهيئة الاجتماعية، وأشرف الناس عملًا الملوك العظماء، ثم الوزراء الأمناء، ثم العلماء العاملون، ثم القضاة العادلون، ثم أرباب المصالح والحكام، والقائمون بتنفيذ الأحكام، ثم الأمراء والأكياس، ثم بقية الناس، والقوة الحافظة لنظام هذا الاجتماع، الكافلة بإقرار الأمن وإحكام الأوضاع، هي قوة الجند النظامية، وأمانة رجال العسكرية، فضلًا عما لها من المزايا الفاخرة، وثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة؛ ولهذا أحببت لك يا ولدي المفضال، أن تكون من ضمن أولئك الرجال؛ لكي تقوم بشبيبتك في خدمة الوطن، وتحفظه من طوارئ العدوان والمحن، وتكتسب زيادة الشرف، وتكون لوالدك نعم الخلف، وتقتدي بك الأنام، فإن الخواص في الغالب قدوة العوام.
الشهم يُعرف بالإقدام والشمم
والمرءُ يصعد للعلياء بالهمم
والملك بالعدل والإنصاف مرتفع
بسلم العلم يرقى ذروة النعم
وكل شعب سرى والجهل قائده
يهوى به لحضيض الذل والوجم
هذي المواطن يا نجلي تطالبنا
بنهضة الحق فاحموها بكل كَمي
صرنا شيوخًا وأنتم في شبيبتكم
فريحونا وجدوا يا ذوي الهمم
وأظهروا شرف الشبان واجتهدوا
بالحزم في العمل المبرور والحكم
ولا يشوبن من أعمالكم كسل
فإنه يوقع الأوطان في الندم
وارعوا الأمانة والإخلاص يجمعكم
حسن الصفا والوفا بالعهد والذمم
وراقبوا الله في أعمالكم تجدوا
منه الحماية في بدءٍ ومختتم
سعيد (لطاهر) : اعلم يا سيدي الوالد، وولي نعمتي الماجد، أني لست من الشبان ذوي الجهالة، الذين يميلون للراحة والبطالة، ويستحبون الضلالة على الهدى، ويضيِّعون باللهو أوقاتهم سدى، ولست ميالًا للسرف، والزهو والترف، ولم تبعثني البواعث للخمرة أم الخبائث، ولا ارتحت للحانات، وفضائح الراقصات، ولا ألِفت المقامرة، وأضعت فيها أموالي صفقة خاسرة، ولم يترك لي الحزم حاجة، للاقتراض من بنك الخواجة، ولا أهملت مع الإمكان حقوق الله، ولا كنت كمن اتخذ إلهه هواه. فهذه النقائص حال بيني وبينها الأدب، وعزة النفس وشرف الحسب، والفضل في كل ذلك منك وإليك، وهو عائد بالثناء والشكر عليك، وإني طالما تمنيت أن أباشر أعمالًا جليلة، تظهر لي فيها بعنايتكم الفضيلة، وأكرمها خدمة وطنية، الخدمة العسكرية؛ لأكون عن قومي على أهبة الدفاع، والمهاجمة إذا دعا إليها اندفاع، وتأتيكم عني الأخبار، بما يكون به الافتخار. فأرجوك أن تمنحني برضائك، وتزودني بدعائك، وأرجوكِ يا أماه ألا يروعك الفراق. فعن قريب يكون مع الممنونية التلاق، وسأظهر إن شاء الله بشرف الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من الحكمة والسداد؛ حتى لا يُقال علينا بعدهم في الندوات، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأسألكَ يا والدي الدعا؛ فإن الله مجيب لمن دعا.
طاهر (لسعيد) : لله درك يا ولدي، ويا حشاشة كبدي! كتب الله لك السلامة، في الترحال والإقامة، وخذ هذه عريضة العبودية، لأعتاب سمو الوالي العلية، ومتى انتظمت مع رجال الجهاد. كن مطيعًا للرؤساءِ والقواد، واحتفظ يا بني على وصايا أبيك، بارك الله لنا فيك.
لك الله سافر بالسلامة ناجحًا
بنيل المنى فالله منك قريب
وأودعك الرحمن في الغربة التي
جنحت لها والفكر منك مصيب
وأوصيك بالتقوى فربك عالم
بسرَّك والنجوى عليك رقيب
ودافع عن الأوطان بالروح وليكن
إليك من النصر القريب نصيب
وأحبِب لكل الناس ما أنت تبتغي
لنفسك تصبح والعدو حبيب
وعظِّم مقام الناس كلًّا بقدره
يواسيك كلٌّ منهم ويجيب
ولازم جناب العدل فالظلم علة
تبيد القوي والاعتدال طبيب
وكن دائمًا سمح المحيا بشوشه
فليس لذي الوجه العبوس خطيب
ولا تاس إن فاتت مع الجهد فرصة
وراقب سواها فالمجدُّ يصيب
خذ العفو والإحسان تستعبد الورى
ولا تنتقم فالإنتقام عطيب
وسامح لتلقى إن جنيت مسامحًا
فكل امرئ لا بدَّ فيه ذنوب
ولا تُبدِ يومًا عيب غيرك واشتغل
بنفسك واحفظها ففيك عيوب
وكن حازمًا في كل أمرك واعتمد
على الله تنجح فالزمان عجيب
فاخرة (لسعيد) :
ولو لم يكن هذا الرحيل لمقصد
شريف لطالت لوعة ونحيب
ولكن فراق الأهل في طلب العلا
يهوِّن أوصاب النوى ويثيب
وليس وداعًا بل ودادٌ وقوفنا
فأنت لنفسي يا بني قريب
خيالك في عيني وذكراك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
سعيد (لطاهر) :
أودعكما يا والدي وأرتجي
بقاءَكما إن الإلهَ مجيب
فدوما بخير واذكراني بالدعا
بخير أراه فاللقاءُ نصيب
(ثم تنزل الستارة ويتم الفصل.)

الفصل الثاني

المنظر الأول

(تنكشف الستارة عن الأمير طاهر وزوجته فاخرة ونديمتها سلمى.)

طاهر (لفاخرة) : قد أنبأتنا الأخبار الهنية، بارتقاءِ ولدنا للمناصب العلية، وهذا ما كنا نتمناه، ولكن آه ثم آه؛ لأنه مع هذا البعاد لم يزل مشغوفًا بحب سعاد، ويراسلها وتراسله، وربما كان يواصلها وتواصله.
فاخرة (لطاهر) : الحمد لله على علو منزلة سعيد، بحسن رضائك أيها المجيد، وإنه ما ارتقى للمناصب، إلَّا بمعاناة المناصب. فلم يبقَ عنده حينئذٍ وقت ولا معاد، للمراسلة والمواصلة مع سعاد، وهو الآن إنما يجتهد في ازدياد شرفه. مَا جَعَل َالله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
طاهر (لفاخرة) : كيف تنكرين على ما أقول، وتجعلينه بعيدًا عن المعقول، وقد وقع في يدي كتاب منه إليها، يعرض فيه قلبه وروحه عليها؟! فخذيه وانظريه، وإذا شئت فاسمعيه (ثم يقرأ الكتاب):

إلى حبيبة الفؤاد، عزيزتي سعاد، سلام كثغرك في الرقة، وتحيات تتأرج بها الأرقة، يهديهما إليك، محب فؤاده لديك، ثم أبشرك يا حبيبتي بأن العدا، ذهب كيدهم لي سدى، وبلغت من الارتقاء الأمل، وربما صحت الأجسام بالعلل، ولا يكدرني غير الفراق، والشوق للتلاق فأسألكِ، أن تجعلي وصيتي نصب عينك، حتى يجمع الله بيني وبينك.

الإمضاء: محبك الطاهر سعيد طاهر
فاخرة (لطاهر) : وأي شيء في هذا الكتاب، يستحق عليه سعيد العتاب؟ وهل يا تُرى الحب اختياري يقبل التغيير، أم هو اضطراري بحكم التأثير؟ وماذا يفيد الاغتراب، إذا تمكَّنت المحبة من الأحباب؟!
إذا تمكَّن حب بالفتى وسرى
في الروح والجسم مسرى البرد في العلل
وصار للذات وصفًا قبل نشأتها
لما تعارفت الأرواح في الأزل
فكيف يدرك للصب التحول عن
وصف به قام في مأوى وفي رحل
وهل تقوم مقام الأصل عارية
هيهات ما الكحل في العينين كالكحل
ومع ذلك فأي ضرر أو انتقاد، على حب سعيد لسعاد، وقد أثبتت الأفكار الصادقة أن كل نفس في الوجود عاشقة، وبرهنت لنا الحقائق أن المعشوق بحسب مزاج العاشق؟! وكم للعشق من فضائل يتخذها العاشق للمعشوق من أجمل الوسائل؟! أما ترى أن أول شيء ذكره سعيد في الكتاب، هو تبشير سعاد بما ناله من رفعة الجناب، لما رآه فيها من محاسن الخصال، فأخذ يتقرب إليها من طريق الكمال، وحينئذٍ فلا شيء موجب للتكدير من جهتهما يا حضرة الأمير؟!
طاهر (لفاخرة) : إني أعلم ما تقولين، ولكني لا أرى ما ترين، وأي رأي يكون للنساء يا عديمة الرواءِ؟!
فاخرة (لطاهر) : كيف تقول يا ذا الذكاءِ، أن لا رأي للنساء، وهذا هو الاستبداد، والمكابرة من الرجال والعناد، ويمكنني أن أقيم على هذا البيان، كل دليل وبرهان؟!
طاهر (لفاخرة) : دعينا من هذا المقال؛ لأنه لا يناسب هذه الحال، والواجب على الوالد أن يسعى لما فيه إصلاح ولده، وأن يرده عن غيه إلى رشده، وإني سآتي بسعاد إلى هذا المقام، وأزوجها لمن يكون مثلها في المقام، فينحسم الإشكال، وينقطع الجدال.

(ثم يلتفت إلى الآغا ويقول):

طاهر (لمرسال) : اذهب يا مرسال آغا، أسرع من سهم الوغى، وأتني بالفتاة سعاد.
مرسال (لطاهر) : لك الأمر وعلينا الانقياد.

(ثم يخرج)

طاهر (لفاخرة) : إن سعاد ستأتي الآن، وأنت عليك تدبير هذا الشان، وإرضاؤُها بالزواج لمن اختاره لها من الأزواج، وهدديها بالوبال والنكال، إذا هي رفضت أمري في الحال.

(ثم يخرج طاهر وتبقى فاخرة وسلمى نديمتها.)

فاخرة (لسلمى) :
من كان يبغي سبيلًا عزَّ مسلكه
هيهات إن كان بالسراء يسلطه
ومَن رمى سهم بغي من كنانته
فسهمه راجع فيه ويهلكه
وليس ينجح في أعماله رجل
ونفسه بقياد الشر تملكه
فقل لمن يتمنى للسوى ضررًا
ما كل ما يتمنى المرءُ يدركه
وإني أرى الأمير يا نديمتي سلمى، سار في هذا الطريق سير الأعمى؛ لأني أعلم أن سعيدًا مغرم بسعاد، وهي تحبه ملء الفؤاد، وكيف أنها بعد ارتباطها بابن الأمير، تتنازل لشخص عن هذا المقام حقير؟! هيهات هيهات! ولو أنها تساوي الرفات، فماذا ترين يا سلمى، في حل هذا المعمَّى؟
سلمى (لفاخرة) : إن رأيك أيتها الفاخرة، من الحكمة الباهرة، وإن سعاد غادة أديبة، وعاقلة نجيبة، مع ما لها من نضرة الصباحة، ونظرة السماحة، وطلاوة الدلال، وحلاوة المقال، ورقة الخصر، ودقة الثغر، ودل الهيف، ولطف الترف، وصباح الغرة، وشفق الطرة، والنغمات الشجية. على الألحان الموسيقية، وبالجملة هي نموذج الكمالات، بين جميع الغانيات، فهي والحالة هذه، لا ترضى بالدون، ولو ذاقت في حب سعيد المنون، وإذا هي تزوجت بسواه قهرًا، وأغصبها الأمير على غيره قسرًا، فماذا تعملون بالأمير سعيد حين يحضر ويشاهد هذا الخطب الشديد، وليس الغرض مجرد العناد، وإرغام أنف الأولاد، فإن لهم حقوقًا يطالبون بها شرعًا. قال تعالى: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، وإذا ضاعت حقوق الولد عند والديه، فإن طاعتهما ربما تخرج من يديه. فاتخذي يا مولاتي الحكمة في هذا الغرض، من قبل أن يتعاصى على الطبيب المرض.

(ثم يدخل مرسال ويقول):

مرسالة (لفاخرة) : قد أقبلت يا مولاتي السيدة سعاد.
فاخرة (لمرسال) : أحضرها إلى هذا الناد.
سلمى (لفاخرة) : سترين من جلال رونقها، وتسمعين من جمال منطقها، ما يبهر النظر، ويدهش الفكر، وتعلمين عذر سعيد، في هذا الجمال الوحيد.

(ثم تدخل سعاد وتقول):

سعاد (لفاخرة) :
صباحك مولاتي سعيد وأيامك
ولا برحت باليُمن تخفق أعلامك
ولا زلت في خدر الجلال مصونة
تفوز لديك بالكرامة خدامك
فاخرة (لسعاد) :
صباحك مأنوس به طاب إكرامك
وعمرك تهنى بالصفا فيه أيامك
فأهلًا وسهلًا يا سعاد تفضلي
علينا بهذا الحسن فالحسن خدامك
اجلسي يا سعاد، على الرُّحب بالإسعاد، وخبريني بشعرك هو إنشاء أم إنشاد.
سعاد (لفاخرة) : بل هو ارتجال، يا ربة الكمال.
فاخرة (لسعاد) : وهل درستِ شيئًا من العلوم؟
سعاد (لفاخرة) : نعم يا صاحبة الفضل المعلوم، حضرت علم الأوزان، والنحو والبيان، والصرف والأصول، والفقه يا فاخرة الأصول، وحفظت تاريخ الأمم، من عرب ومن عجم، وعرفت فضائلهم فاتبعتها، وانتقدت الرذيلة فاجتنبتها.
فاخرة (لسعاد) : وهل عرفت شيئًا من علم الموسيقى؟
سعاد (لفاخرة) : نعم درست هذا الفن أيضًا وعرفت طريقه.
فاخرة (لسعاد) : هل تسمحين بإسماعنا شيئًا من الألحان، لتنتعش منا الأرواح والأبدان.
سعاد (لفاخرة) : سمعًا وطاعة يا رفيعة الشان.

(وتنشد هذين البيتين):

أغث أخاك إذا نابته نائبة
ولا تكن عن صروف الدهر باللاهي
واعطف على مستجير جاءَ ملتجئًا
فالناس بالناس حيث الكل بالله
فاخرة (لسعاد) : ما أحسن تربية البنات! فإنهنَّ سيصرن يومًا ما أمهات، ويكون عليهنَّ تربية الأبناء، فإنهن المدرسة الأولى للأحياء، وهل تعلمت يا سعاد الرقص؟
سعاد (لفاخرة) : كنت أود ذلك لولا ما فيه من النقص.
فاخرة (لسعاد) : كيف ذلك يا ذات الفطن، والرقص من أركان المدنية في هذا الزمن، حتى أصبح زينة الولائم والمحاضرة، حين يتعانق الشاب والغادة بالمخاصرة؟! شؤُون تدل على الوئام، والتحابب والالتئام، فما بالك بعد هذا النص، ترميه بالنقص؟!
سعاد (لفاخرة) : آه يا ربة البيان! يضيق الصدر ولا ينطلق اللسان، وهل يروقك أن تدخل ابنتك العاقلة، في المجتمعات السافلة، وتُطرِب الحاضرين بأنغامها، وتميس أمامهم بقوامها، والشبان حولها وقوف، هذا هائم وذاك مشغوف؟! ثم تقولين يا ذات الشمائل العربية، إن ذلك من أركان المدنية؟! وأما ما يحصل من بعض العواهر الشرقيات، من الرقص في الحانات، فهذا لم يكن من عوائد الشرق المندوحة، ولا الخصال العربية الممدوحة؛ ولذلك لا يحضرها أحد من الأفاضل، بل هي مجتمع الأوباش والأسافل، وسيأتي يوم تبطل فيه هذه العوائد الردية، بعناية الحكومة السَّنية.
فاخرة (لسعاد) : لله درك! وماذا تقولين في الزواج؟
سعاد (لفاخرة) : إن الزواج يا معدن الابتهاج لازم للإنسان؛ لأن عليه التناسل وهو علة العمران، وأما أولاد السفاح، فإنهم أبناء الشر والافتضاح؛ لعدم وجود الرابطة الشرعية، وفضيلة الواصلة الدينية، فيصبحون في الوجود هملًا، لا يحسنون في المجتمع الإنساني عملًا.
فاخرة (لسعاد) : ولماذا لا تتزوجين يا سعاد، وتحصلين على رغد العيش ونعمة الأولاد؟
سعاد (لفاخرة) : إن الزواج أيتها الأميرة، ليس من الأمور الصغيرة؛ ولذلك وجب انتقاء الأزواج، حسبما يلائم الطبع والمزاج، ليدوم بين الزوجين الائتلاف، ولا يحوم حولهما خلاف، والعاقلة بما ينفعها خبيرة، والإنسان على نفسه بصيرة.

(ثم يدخل مرسال آغا.)

مرسال (لفاخرة) : قد أرسلني مولاي لأعرض عليك أمرًا، وأن يكون حديثنا فيه سرًّا.

(تقوم فاخرة وتبتعد قليلًا.)

إن الأمير استحسن زواج ابنة غانم بالحاج بكير آغا الخادم، وجعل مهرها خمسين دينار، وأن يكون عقد الزواج هذا النهار، وقد بعث في طلب القاضي والشهود؛ لإظهار ذلك في عالم الوجود. فبشريها بصفاء الحال، وعديها بحسن الاستقبال.
فاخرة (لسعاد) : قد أبرأَ العليلَ الطبيبُ، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، ولك البشرى يا سعاد، بإقبال الإسعاد. فقد زوجك الأمير بجناب الحاج بكير، فاقبلي هذه النعمة بالشكر، ولا تقابلي الجميل بالنكر.
سعاد (لفاخرة) : كيف ذلك أيتها السيدة الجليلة، وما هذه الأمور المستحيلة؛ لأن الأمير لم يكن ولي أمري، ولا هو عالم بما في صدري، وأنا لم أوكله في زواجي، ولم أبين له منهاجي، فهل رآني من الأنعام يقودني إلى حيث شاءَ بذمام؟! أم أي شرع وناموس، أباح له التصرف في الأعراض والنفوس، وإلى متى يكون استبداد الأكابر على من لديهم من الأصاغر؟! فأخبري حضرة الأمير الهمام، بأني أرفض هذا الأمر والسلام.

(ثم يدخل الأمير طاهر.)

طاهر (لسعاد) : ماذا تقولين يا سعاد، وماذا يفيدك هذا العناد؟ أخروج عن الطاعة، وأنت عديمة الاستطاعة؟! أما عرفت يا ذات الهفوة، أن الحق للقوة؟! فامتثلي أمر الزواج ببكير، وإلا أذقتك عذاب السعير.
سعاد (لطاهر) : اعلم يا ذات الفتوة، أن الحق ليس للقوة، ولكن القوة للحق إذا تجرَّدت عن البهتان والملق، وإلَّا فلا نعدها قوة أبدًا، بل نعتبرها اغتصابًا نكِدًا، نرجع فيه للمخاصمة إلى محكمة الحق العليا أمام جميع عقلاء الدنيا، وإلا فأروني أي قوة بغير الحق دامت، وأي أمة استطالت على حقوق الغير ثم طالت؟! كلا بل إنهم تركوها وتركوا معها أماكنهم، وأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم، والحق لا يضيعه يا ذا الفكر العال، غير بلادة صاحبه أو الإهمال، أو الطيش في الطلب، أو عدم الحكمة في الأخذ بالسبب، وإلا فأروني أي صاحب حق طلبه بالشرع والقانون، ثم عاد بصفقة المغبون، وهكذا أنا أعرف حقوقي، وأرى مواضع بري وعقوقي، فلا تغتر يا حضرة الأمير بقوتك، فقدرة الله الحق فوق قدرتك.
طاهر (لسعاد) : اتركي يا سعاد المراوغة، ولا تسلكي سبيل المزاوغة، ولا يغرنك الوعد والوعيد، من ولدي الأحمق سعيد، فإنه جاهل بواجبه، ووصولك للسماء أقرب من الزواج به، فاتركيه واعشقي سواه، وابعدي عنه سألتك الله.
سعاد (لطاهر) : إني يا مولاي ليس لي علاقة بالأمير سعيد.
طاهر (لسعاد) : اسكتي ولا تثيري غضبي الشديد، وتهيئي للمسير إلى أبيك في الحال، ولا تبوحي لأحد بهذا المقال.

(تقبِّل يده وتخرج.)

طاهر (لمرسال) : اذهب يا مرسال، وأتني بالغضوب والمنتقد في الحال، وانصرفي الآن يا فاخرة، إلى حجرتك الطاهرة.

(ثم يخرج مرسال وفاخرة.)

طاهر (لنفسه) : إن سعاد عرفت مكانها من قلب سعيد، وأصبح السعي في تفريقهما لا يفيد، وهي لا شك تسعى الآن في حتفي، وتأخذ مني ولدي رغم أنفي. فيذهب مجدنا، ويشقى سعدنا، وقد ورد في حكم مفتي الثقلين، جواز إفساد الثلث في إصلاح الثلثين؛ ولذلك أرى وجوب قتلها؛ جزاءً لها على سوءِ فعلها؛ لينجو ولدي من مكرها، وأنا أتخلص من غدرها.

(ثم يدخل مرسال.)

مرسال (لطاهر) : قد جاء المنتقد والغضوب.
طاهر (لمرسال) : أحضرهما لنأمرهما بالمطلوب.

(ثم يخرج مرسال.)

طاهر (لنفسه) : قد زهقت نفسي، وكدت أغيب عن حسي، فلا عشت إن بقيت عليها، ولم أهلك نفسها التي بين جنبيها.

(يدخل المنتقد والغضوب.)

طاهر (لغضوب) : إني ربيتكما يا غضوب؛ لتكونا عدتي وقت الخطوب، وقد دعوتكما لأمر أزعج بالي، وهيَّج بلبالي، فساعداني بساعد الهمة، واكشفا عن مولاكما هذه الغمة.
غضوب (لطاهر) : مُرْنَا بما تريد، من قطع صخر أو قطم حديد، أو سفك دم هاض، أو هتك أعراض، تجدنا لأمرك طائعين، ولندائك سامعين.
طاهر (لغضوب) : إن سعاد ابنة غانم، ارتكبت أقبح الجرائم، وأفسدت أخلاق ولدي سعيد، بعد ما كان لي أطوع من العبيد، ولم أرَ جزاءً لها على فعلها، غير التعجيل بقتلها، فماذا تريان، أيها الخادمان الأمينان؟
غضوب (لطاهر) :
الإعدام جزاء مثل هذه الغدَّارة
وسأمزق أحشاءها بهذه الغدَّارة
طاهر (لغضوب) : وإني أمرتها بالذهاب مع خادمها الآن، إلى منزل أبيها المهان؛ ليكون سيرها تحت الظلام، وتتمكنا من قتلها والإعدام، فامضيا واقطعا عليها طريقها، واقتلاها واقتلا رفيقها، واقتسما بينكما هذه الماية محجوب، ولكل منكما مثلها بعد إتمام المرغوب.

(ثم يأخذان الدنانير ويخرجان وتدخل فاخرة.)

فاخرة (لطاهر) : ما الخبر يا طاهر، وبماذا أوعزت لخدامك الفواجر؟
طاهر (لفاخرة) : دعيني يا فاخرة، أقاسي همومي القاهرة، وخبريني هل ذهبت سعاد؟ آه … وهل يتم لنا بقتلها المراد؟
فاخرة (لطاهر) : بقتلها المراد! آه ما هذه الأنكاد؟ وهل كنت تأمرهما بقتل البرية، التقية النقية، بغير ذنب جنته، أو إثم ارتكبته؟!
طاهر (لفاخرة) : لا تتكلمي فيما لا يعنيك، وإلا سمعت ما لا يرضيك.
فاخرة (لطاهر) : ماذا يكون جوابك يا ظلوم، يوم تجتمع عند الله الخصوم، يوم يتعلق المظلوم برقبة من ظلم، وينادي انتصر لي يا رب يا نعم الحكم؟ وبأي وجه تلقى الله، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذٍ لله؟ أسفي يا سعاد على شبابك الناضر! وا حسرتاه على جمالك الزاهر!
قتلوا وا حسرتاه ظلمًا سعاد
حيث ريعان الشباب
لم يخافوا يوم يلقون العواد
ويذوقون العذاب
آه يا ويلاه من غدر الزمان
سيراه الظالمون
نحن لله ومهما شاءَ كان
وإليه راجعون
طاهر (لفاخرة) : صه يا فاخرة، مه يا خاسرة، اسكتي يا عديمة السداد، وإلا ألحقتك بسعاد.
فاخرة (لطاهر) :
طاهر ارجع عن طريق الغادرين
كيفما تعمل تُدان
ليس يهدي الله كيد الخائنين
فاتقِ غدر الزمان
طاهر (لفاخرة) :
أفاخرة الجهولة ما دهاك
كفاك اليوم من لومي كفاك
وكفِّي الدمع لا تبكي سعادًا
فقد صادت سعيدًا في الشراك
وفازت بالذي حازت وأضحى
سعيد من عِداي ومن عِداك
ولولا أنني أنفذت أمري
لصرنا مع سعيد في عراك
فلا عاش الهِزَبْر بغير بأس
به يحمي العرين من الهلاك

(ثم يخرج وتبقى فاخرة.)

فاخرة (لنفسها) : بلغ السيل الرُّبا، وتفرَّق الجمع أيدي سبا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(ثم تخرج فاخرة وتنكشف ستارة أخرى.)

المنظر الثاني

(تنكشف ستارة أخرى عن جبال وأودية ويدخل الغضوب والمنتقد.)

غضوب (للمنتقد) : قد رأينا سعاد سائرة في سفح الجبل، فسبقناها إلى هذا المحل؛ إذ ليس لها سبيل سواه، وستأتي قريبًا ونعدمها الحياة.
المنتقد (لغضوب) : قل لي بالله يا غضوب، ما الذي جنته سعاد من الذنوب، حتى استحقت الإعدام، وشرب كأس الحِمام.
غضوب (للمنتقد) : جزاؤُها أيها المنتقد البصير، أنها خالفت مولانا الأمير، وخدعت ولده بالتضليل والختل، فاستحقت على ذلك القتل.
المنتقد (لغضوب) : وهل بيد الأمير مقاليد الأحكام، ويسوغ له شرعًا أن يأمر بالإعدام؟ وهل بمجرد أن سعاد أغوت ولده، وملكت بالحب قلبه وكبده، يكون الجزاءُ قتلها، مع أن الله يقول: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا؟! وإذا نحن قتلناها طاعة لهواه، فهل نكون الملامين أم هو الملام عند الله؟ فيلزمنا أن نعلم قبل كل شيء، أن الله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
غضوب (للمنتقد) : اترك يا أخي هذه الأفكار، واجعل أكبر همك كسب الدينار؛ لتعيش في الدنيا سعيدًا، وربما تكون عند الله شهيدًا، فهو رب كريم، يغفر الذنب العظيم.
قالت لي النفس أما تستحي
وأنت في وادي الخطايا مقيم
هلَّا تزودت فقلت أقصري
هل يُحمل الزاد لدار الكريم
المنتقد (لغضوب) : أفٍّ لهذه النصيحة يا ذا النجوى! وأين هي من قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى؟! فارجع بنا يا غضوب لله الحق، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
غضوب (للمنتقد) : ها هي قد أقبلت سعاد، فهلم بنا لنختفي في هذه الوهاد.

(ثم تدخل سعاد وخلفها خادمها حافظ وهي تنشد هذه الأدوار.)

سعاد (لنفسها) :
سرت يا نعم المسير
في هُرْي المولى سعيد
يا تُرى كيف المصير
هل شقاء أم سعيد
حافظ (لسعاد) : إني أحس يا مولاتي سعاد، بحركة في هذا الواد، وما أظنها إلا كمين، في هذا المكان المكين، فسارعي في المسير؛ لننجو من هذا المكان الخطير.
سعاد (لنفسها) : ليتني أموت بالمرة، وأستريح من هذه العيشة المرة.

(وإلى هنا ينطلق العيار ويهرب حافظ خادمها وتقع سعاد صريعة ويظهر غضوب.)

غضوب (للمنتقد) : إن الضربة أصابت، وآمالنا ما خابت، فاذهب يا منتقد وبشِّر الأمير، واحتفظ على نصيبي في الدنانير، وأنا أبقى لأواري رمتها في هذا الطلل، وأسلب ما عليها من الحلي والحلل.
المنتقد (لغضوب) : ستلقى من الله ما جنته يداك، يا سفاك الدماء يا أفَّاك.

(ثم يخرج المنتقد ويدنو غضوب من سعاد ويحرِّكها ويقول):

غضوب (لنفسه) : وا أسفاه! أخطأت الضربة الفتاة، وهي الآن مُغمى عليها، والحياة ملء عينيها، وإذا كنت أخطأت في الماضي، فسأصيب في قتلها بهذا الخنجر الماضي، ولماذا لا أحظى بوصالها، وأتمتع بجمالها، وبعد أن أقضي منها ما أريد، فقتلها عندي ليس ببعيد.

(ثم يدنو من سعاد ويحركها ويقول):

غضوب (لسعاد) : تنبهي يا سعاد، انتبهي يا غاية المراد.

(ثم تنتبه سعاد وتقوم وتقول):

سعاد (لنفسها) : سبحان الكريم الأول! سبحان من لا يغيب ولا يغفل!

(ثم يقع نظرها على غضوب فتقول):

سعاد (لغضوب) : من أنت أيها الإنسان؟ وأين نحن الآن؟
غضوب (لسعاد) : أنتِ يا مهجة القلوب، مع حبيبك غضوب، وأرجوك يا ذات الجمال، أن تسمحي لي بالوصال.
سعاد (لغضوب) : ممن تريد الوصال، يا ذا الفحش والضلال؟
غضوب (لسعاد) : خلي عنك العربدة، فلا بد من وصالك ولو كنت في بروج مشيدة.

(ثم يهيم بها.)

سعاد (لغضوب) : يا غضوب استحي من الله؛ فإنه يرانا ولا نراه، وارجع عن هذه الأوهام، واعلم بأن الله سريع الانتقام.
يا غضوب ارتجع لك الله عني
واتقِ الله وانتبه يا غافل
فمحال نوال قصدك مني
لو أذوق المنون من كف سافل
غضوب (لسعاد) :
يا سعاد اسمحي بوصلك إني
لي قلب إلى وصالك مائل
إن هتك الأعراض من ضمن فني
وفؤادي عن المواعظ غافل
سأنال المرام رغمًا لأني
عالم بالخنا وبالفسق عامل
هكذا هكذا رُبيت وما لي
رادع في الصبا فنصحك عاطل
سعاد (لنفسها) : يا مفرِّج الكروب، أغثني من هذا الغضوب.
غضوب (لسعاد) : لو نزل إسرافيل وميكائيل، وتبعهما جبرائيل وعزرائيل، لينقذوك مني فهذا شيء مستحيل.
سعاد (لنفسها) : أين عيونك يا سعيد، وتنقذني من هذا الكرب الشديد؟
غضوب (لسعاد) : سعيد يا خاسرة، سعيد يا فاجرة، خذيها من يدي القاسية، طعنة هي عليك القاضية.

(وإلى هنا ينطلق عيار ناري ويقع الغضوب ويأتي سعيد مسرعًا وهو يقول):

سعيد (لسعاد) :
لبيك إني يا سعاد فداك
ناديتِ باسمي فاستجبت نداك
ناديت باسمي يا سعاد فها أنا
وافيت أكفيك عداءَ عِداك
شُلت يمينك يا غضوب أردت أن
ترمي سعادًا في شراك هلاك
لم تخشَ عُقبى الغدر يا صنو الخنا
ونسيت قهر مدبِّر الأفلاك
فوقعت في الشر الذي أعددته
للغير والله مجيب الشاكي
هذا جزاؤُك يا خئون فسِر إلى
بئس المصير ولات حين فكاك
ثم أخبريني يا سعاد مَن الذي
بسهام هذي النائبات رماك
كيف استطال عليك هذا الكلب هل
من نفسه أو أوعز أفَّاك
يا ويلهم هلَّا ثنتهم رحمة
بك لكن الرحمن قد والاك
وعلى يدي كانت نجاتك فاشكري
لله فهو بفضله نجَّاك
المنتقد (لغضوب) :
هذا ما جنيته على نفسك يا خئون
وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون
وقد نجَّى الله هذه المسكينة
وكل نفس بما كسبت رهينة
سعيد (لسعاد) : لا بأس عليك يا سعاد، لقد فزنا من نجاتك بالمراد، فأخبريني يا عزيزتي بما حصل، وكيف أن الأمر إلى هذا الحد وصل.
سعاد (لسعيد) : الحمد لله على خلاصي من الهلاك، على يديك يا أيها الملاك، فقل لي أولًا كيف وصلت إلينا؟ ومَن الذي دلَّك يا مولاي علينا؟
سعيد (لسعاد) : لما أرسلني أهلي للعسكرية، وكان قصدهم إيقاعي في بلية، جاءت المقادير على خلاف ما أضمروه من التدابير، وأحبني دولة الوالي، ورقَّاني لكل منصب عالي، ومالت إليَّ الجنود، رغم أنف القائد الحسود، ولم يفُز ولله الحمد بالمراد، وكل ذلك من أجلك يا سعاد، ولما طال الفراق وزاد الهيام، استأذنت لأزورك وأهلي بضعة أيام، وبينما أنا سائر بغير رفيق، صادفت المنتقد يهرول في الطريق، وأخبرني بما حصل الآن، وبأن الغضوب قتلك في هذا المكان. فانطلقت إليك كالبرق من بعيد، وسمعت صوتك يستغيث باسم سعيد، فانحدرت انحدار الغيث، واندفعت اندفاع الليث، فوجدته هاجمًا عليك كالعدو المبين، ويريد أن يطعنك بالسكين، فبادرته بإطلاق الرصاص، ولو أمهلته لاستحال الخلاص. فأخبريني يا سيدة الحرائر، عما حصل لك من الأول للآخر.
سعاد (لسعيد) : لا شُلَّت يداك، وجعلني الله فداك، فعافني يا ذا المكرمة، من ذكر هذه الحوادث المؤلمة، وسل المنتقد إذا شئت عنها؛ فإنه لا يفوته شيء منها.
سعيد (للمنتقد) : قل لي يا منتقد عما صار، وكن صادقًا في رواية الأخبار.
المنتقد (لسعيد) : قد سوَّل عمك لأبيك بعد سيرك، أن يزوِّج سعاد بغيرك، ولما أبت عليه ذلك، نصب لها شِباك المهالك، وسيَّرها لوالدها في جنح الظلام، وأمرني وغضوب بقتلها والإعدام، ولما كان ذنبها لا يستحق أدنى عقاب، نصحت لصاحبي أن يرجع إلى الصواب، ولكنه أصرَّ على هذا القصاص، وأطلق عليها الرصاص. فرجعت والهم لي رفيق، حتى قابلتك يا مولاي في الطريق.
سعيد (لسعاد) : أحقٌّ ما يقول يا سعاد؟
سعاد (لسعيد) : أي ورب العباد، وبعد أن أخطأَتني الغدَّارة، سولت لغضوب نفسه الغدارة، أن يراودني عن نفسي، أو يلحقني بأمسي، فاخترت الفناء، على ارتكاب الخناء، حتى تعطف الرحمن عليَّ، وأرسلك يا مولاي إليَّ.
سعيد (لسعاد) :
آه! ما للزمان بلا ذنب يعاديني
ظلمًا وداعي الردى فيه يناديني
والدهر عمدًا ببلواه يفاجئني
والأهل أضحت بلا إثم تناويني
حتى استطال الغضوب الوغد مجترئًا
يا ويلتاه لهتك العرض والدين
يا موت زُرني فما لي في البقاء غرض
بحال بؤس وعيش ليس يرضيني
هكذا قضاء الله، فصبرًا على ما قضاه، حتى تلوح الفرصة، وتزول عنا الغصة، غير أني أفتكر الآن في أمر صعب، وهو أن الحكومة ستبحث عن قاتل هذا الكلب، وتقع هنالك الأبرياء، ويقاسون بسببي العناء، والرأي عندي صرف النظر الآن عن زيارة أهلي، وأوصلك إلى منزلك وأرجع إلى محل شغلي، وهناك ننظر مَن يتناوله الردى، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا. فهيا بنا لأوصلك إلى دارك، وحذارِ أن تبارحيها فإن العداة في انتظارك، والتزمي يا حبيبتي الصبر، وسلِّمي لله تعالى الأمر.

أدوار الختام

الجميع (لأنفسهم) :
يا نفس صبرًا فالحرج
من بعده يأتي الفرج
كم حادث أضنى المُهج
وزال والقلب ابتهج
سعيد (لسعاد) :
فارعي عهودي يا سعاد
وحافظي على الوداد
ولازمي نهج السداد
والله يقضي ما أراد
سعاد (لسعيد) :
كم ذا أقاسي يا سعيد
من حادث الكرب الشديد
والعمر أضحى لا يفيد
والموت أقصى ما أريد
الجميع (لأنفسهم) :
لا صفو يبقى للأنام
ولا رأينا الحزن دام
وكل شيء بالختام
والستر أغلى ما يُرام

الفصل الثالث

(تنكشف الستارة عن ديوان الولاية وفيه الوالي ومعه المفتي وقائد الجيش ورئيس الشرطة.)

الوالي (للرئيس) : وصلت إلينا الأخبار السرية، بوجود جثة قتيل في البرية. فهل لديك خبر من تلك النقطة، يا حضرة رئيس الشرطة؟
الرئيس (للوالي) : لم يصل عن ذلك خبر بعد، يا صاحب الدولة والمجد.
الوالي (للرئيس) : كيف ذلك أيها الهمام، وأنت المكلف بالضبط العام، والواجب علينا أن نسهر لتنام الرعية، ونتعب أنفسنا في راحة البرية، وليس القصد من وجودنا في الحكومة، مجرد العظمة الموهومة، فذلك ينافي أغراضي، والمحكمة ليست ملكًا للقاضي، والواجب على الرئيس، أن يكون قدوة للمرءوس، فالأجسام تصح ما صحَّت الرءوس؟!
الرئيس (للوالي) : إني يا مولاي منذ تقلدت الرئاسة، ناهج سبيل الحزم والكياسة، وما فرَّطت يومًا في عملي، ولا أفرطت في أملي، وربما يكون تأخير الخبر، لخاطر على حاكم الجهة خطر. وغلطة أحد العمال، لا يترتب عليها مؤاخذة الرئيس في الحال.
الوالي (للرئيس) : التسليم للحق أسلم، والرجوع إلى الصواب ألزم، والإصرار على الخطا، يكشف عن الجهل الغطا. وكيف تتبرأ من كلامي، مع أن القتيل وصل خبره إلى مقامي، وأنت عنه غافل، وبما يحدث في دائرة اختصاصك جاهل؟! فينبغي المبادرة الآن بالتعجيل في الذهاب إلى حيث وُجد القتيل، وتتحرَّى عن كيفية إهلاكه، وتجتهد في معرفة القاتل وإمساكه، وإياك والظلم فعاقبته ندامة، وهو ظلمات يوم القيامة، ولا تأخذ البريءَ في شبهة القاتل، ثم تفتخر باطلًا بأنك أظهرت الفاعل، فيؤديك ذلك إلى التلفيق، والغش في محاضر التحقيق، وربما كان القاتل مع المتفرجين ينظر إليك، ويضحك من جهلك عليك، وخذ بالأحوط في الأمور، إلى أن ينكشف المستور، وسيأتي إلينا قاضي التحقيق ومعه الطبيب، فكن لهما خير رفيق ومجيب.
المفتي (للوالي) : لو تمسَّكنا بأحكام الشريعة السمحاء، ما تجشمنا في القضا هذا العناء، ولكنكم مزجتموها بالسياسة، وسلَّمتم مقاليدها لأصحاب الرئاسة.
الوالي (للمفتي) : أما لهذه الأفكار غاية، يا حضرة مفتي الولاية؟ وإلا فقل لي أي قضية من هذا القبيل، حُكم فيها قبل عرضها على مفتي الشرع الجليل؟

(ثم يدخل التشريفاتي ويقول):

تشريفاتي (للوالي) : إن القاضي في قاعة التشريفاتية، ينتظر أمر دولتكم العلية.
الوالي (للتشريفاتي) : ليحضر في الحال.
تشريفاتي (للوالي) : أمرك يا معدن الإجلال.

(ثم يخرج)

الوالي (للقائد) : إني أرى يا حضرة قائد الجنود، أن عمل القاضي أهم عمل في الوجود، فهو يقضي بين الخصوم، وحكمه نافذ في العموم. فيا سعادة مَن أرضى الله والناس، وحكم بالشرع والقياس.
القائد (للوالي) : مهما كان القاضي أروعًا، فهو لا يرضى الخصمين معًا، والعادل مَن أرضى الحق، وتنزه عن الزيغ والملق.

(ثم يدخل القاضي.)

القاضي (للوالي) :
يا وزيرًا قد تجلَّى
عن سجاياه الصلاح
وبه العدل تحلَّى
أسعد الله الصباح
الوالي (للقاضي) :
دمت بالإصلاح قاض
ناهجًا نهج الصلاح
وعليك الحق راض
في مساء وصباح
قد وصل إلى مسامعنا خبر قتيل مجهول، بين أكام زحلة والتلول، وقد دعوتك لتتوجه الآن، مع رئيس الشرطة إلى ذاك المكان، وتباشر التحقيق بغاية الحكمة والتدقيق، واعلم بأنك محور الدائرة، وعلى أعمالك تدور الدائرة. فلا تقطع بالفكرة الصارمة، بجناية المتهم ما دامت الشبهة قائمة، وليكن حسن الخلق عنوان فعلك وقولك، ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك، ولا يستميلك الهوى فيضلك عن الصواب، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وتذكر قول الحكم العدل، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وجزاء الإحسان الإحسان، وكما يدين الفتى يُدان.
القاضي (للوالي) :
إني مطيع لأوامر دولتكم
وخاضع لإرادة عنايتكم
الوالي (للقاضي) : الطاعة للحق أولى، والخضوع للشرع أعلى، وإني لا أسلبك حرية الاستقلال، ولكني أراقب جميع الأعمال؛ لأتبين الأصالة من الخطل، ويكون لدينا الجزاء من جنس العمل.

(ثم يدخل سعيد.)

سعيد (للوالي) :
بك الصبح يا شمس الولاية أسفرا
يؤذن داعي السعد فيه مكبِّرا
فأنعم صباحًا وأتنِس بصفائه
كما ائتنست منك المدائن والقرى
رجعت ولم تمضِ ليالي إجازتي
لخَطب جرى بالأمس فيه دم جرى
الوالي (لسعيد) : لله درك يا سعيد! وكم لك عندنا من عمل مفيد، وما أظن إلا أنك سمعت بحادثة المقتول، فرجعت لتساعد على إظهار المجهول، وفضَّلت العود لمحل شغلك على المكث بين سكنك وأهلك. فهكذا تكون الشبان، وهكذا فلتكن خدمة الأوطان، وإني عينتك مع القاضي؛ لتكون بالحق سيفه الماضي، وما أعهده فيك من حسن الروية، يغنيني يا سعيد عن الوصية.
سعيد (للوالي) :
دع الهم إني أُشهد الله ما جرى
وأعرف سفَّاك الدماءِ الذي جرى
دم طاهر من غير إثم أراقه
أثيم وخلاه يسيل معفَّرا
وقد كان عن عمد ولا خطأ ومن
جنى عامدًا يُقتل وأن لتجسرا
الوالي (لسعيد) :
رويدك قل لي يا سعيد مَن الذي
أراق الدما حتى أراه فيُقبِرا
فإن كنت قد أمسكته فلك الثنا
وإلا فإن القبض لن يتعذَّرا
سعيد (للوالي) :
أمولاي هوِّن ما لديك فإنني
أنا القاتل الجاني عليه بلا مِرا
قتلت قتيلًا طاهرًا متعمِّدًا
لشهوة نفس لا لإثم به اجترا
سفكت دمًا قد حرَّم الله سفكه
وغادرته ويلاه يخبط في الثرى
وها أنا ذا قد جئت معترفًا وما
لمعترف عذر لديك فيُعذرا
فمر بالقصاص الآن عدلًا معجلًا
ومر بنفاذ تطمئن به الورى
القائد (للوالي) : قد وجب القصاص، وليس لسعيد منه مناص.
سعيد (للقائد) :
ويا قائد الجند ابتهج واحتكم فكم
نصبت لنا فخًّا ولكن تكسَّرا
ويا دولة الوالي تعطَّف بوالدي
وأهلي من بعدي فإني كما ترا
الوالي (لسعيد) : ما هذه الحال أيها المغبون؟ ومتى أصابك هذا الجنون؟ ومَن هو ذلك القتيل؟ وما سبب هذا الفعل الوبيل؟
سعيد (للوالي) : إني لست بمغبون، ولم يكن بي جنون. بل أنا القاتل الأثيم. أنا السفاَّك الزنيم. فاحكم على الجاني بما جناه، ولا تأخذك به رحمة في دين الله، ولا تسألني عن القتول، فإنه للآن عندي مجهول.
القائد (للوالي) : لا ظمأ لمغترف، ولا عذر لمعترف، والحكم عليه أحكم، وسموكم بالعدل أعلم.
الوالي (للقائد) : دع عنك الهياج، فليس لسوقه رواج، والتزم جادَّة الاعتدال، ولا تأخذ القاتل بكل ما قال. فليس كل اعتراف مقبول، ما لم يكن مطابقًا للحس والمعقول، ولا يأخذنك الطيش في الطالحات، وادرءوا الحدود بالشبهات. فالمستعجلون بالشر قد يخيب أملهم، ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم. فاذهبوا بسعيد للسجن الآن، حتى ننظر فيما كان.
القائد (للحجاب) :
اقبضوا على هذا القتَّال
وكبِّلوه بالسلاسل والأغلال
سعيد (للقائد) :
تحكَّم فهذا اليوم ما كنت تبتغي
عليَّ وللبدر المنير أفول
تهون علينا أن تُصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
الوالي (للقائد) : حيث إن سعيدًا من رجال الجنود النظامية، فتكون محاكمته أمام محكمة عسكرية، وعندها يقضي القانون، بحسبما كان فيما يكون، وليكن انعقاد المجلس، تحت رئاستك في هذا المجلس. فاجعل الحق ديدنك، والتثبت من الحقائق معدنك، وأطلق للمتهم حرية الدفاع، وأولِه منك حسن الاستماع، فربما يظهر من فلتات لسانه، ما يخفيه عنك في جَنانه، والذي يصدر به حكم المحكمة، يُعرض لسدتنا المعظمة.
القائد (للوالي) : أرجو أن يكون سموكم مرتاح البال، فإني ما ألِفت غير الحق والاعتدال، ولا تعوَّدت في الأحكام الظلم.
الوالي (للقائد) : سننظر ما يصدر به الحكم.

(ثم يخرج الوالي والمفتي.)

القائد (للحاجب) : اذهب وادعُ حضرات أعضاء المحكمة العسكرية، ومعهم المدعي العمومي لننظر في هذه القضية. ثم ائتِ بسعيد المفتري، من الحبس العسكري.

(ثم يخرج الحاجب.)

القائد (للرئيس) : قد بلغ الأمل منتهاه، وسيلقى سعيدًا ما قدمت يداه؛ فإنه كان ثعلبًا محتالًا، وطاووسًا مختالًا، وإذا مكَّنتني الفرصة، أُجرِّع والده أيضًا كل غصة، وستكون حضرتك من ضمن أعضاء المجلس، فكن لي خير معين ومؤنس.
الرئيس (للقائد) : نعم ستراني معينًا لك في السر والنجوى؛ اقتداءً بقوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
القائد (للرئيس) : ما أكثر سلامة قلبك، وقد كان سعيد يعمل على قلبك، ويريد أن يهتضم شأنك، ويعزلك ويحل مكانك.
الرئيس (للقائد) : أرجو عدم التحامل على هذا المسكين؛ لكيلا نكون تحت قولهم إذا وقعت الماشية كثرت السكاكين، لا سيما أنك يا ذا المكرمة، ستكون رئيس المحكمة، فكن قدوة في العدل للقضاة؛ ليحكموا بالحق كما أنزل الله.

(ثم تدخل ثلاثة قضاة والمدعي العمومي ويجلسون ويفتح الرئيس الجلسة ثم يدخل سعيد ومعه المحامي.)

القائد (للمدعي) : اشرح التهمة والسبب، وأوضح للمحكمة الطلب.
المدعي (للمحكمة) : قد وجدت جثة قتيل مجهول في هذا الصباح، عند روابي زحلة والبطاح، وكشف عليها الأطباءُ حسب الأمر، وقالوا إنها جثة رجل في الأربعين من العمر، وإنه مصاب برصاصة من آلة نارية، دخلت رأسه من الجهة الخلفية، فهتكت المخ وكسرت العظام، ومات الرجل بهذا السبب بدون كلام، ولم يحصل الاهتداءُ على الفاعل، ولم يُعلم المقتول ولا القاتل، غير أن هذا المتهم الملام، كان استأذن رسميًّا في زيارة أهله بضعة أيام، وسافر من هنا البارحة وقت الغروب، ولكنه عاد في هذا الصباح وهو مكروب، واعترف أمام الجمهور جهرًا، بأنه القاتل عامدًا مصرًّا؛ ولهذا أطلب الحكم عليه بالإعدام، وإن أنكر فشهود الاعتراف تحضر إلى هذا المقام.
القائد (لسعيد) :
ما قولك في هذه التهمة
يا عديم النخوة والحشمة
سعيد (للقائد) : أما التهمة فصحيحة، وأما بذاءَة اللسان فقبيحة، والواجب على مَن للحكم انتصب، أن يكون كثير الحِلم قليل الغضب.
القائد (لسعيد) :
هل قتلت هذا الإنسان
وما سبب هذا العدوان؟
المحامي (للمحكمة) : لا يصوغ تكرار استجواب المتهوم، بغير طلب المحامي كما هو معلوم.
سعيد (للمحكمة) : كلا، بل أنا الجاني الغدَّار، مع العمد والإصرار. فاحكموا بإعدام هذا الجاني، فإني يا سادتي كرهت زماني.
المحامي (للمحكمة) : إن هذا الاعتراف باطل، ولسعيد في المسألة عذر كافل، وسأبيِّن للمحكمة، أمورًا في القضية مبهمة.
المدعي (للمحكمة) : قد اعترف المتهم بالإقرار، وليس لديه سبيل للاعتذار، فإطالة المحاماة، لا تفيد أمام القضاة.
المحامي (للمحكمة) : لا ينبغي المقاطعة والاندفاع، حتى أقضي واجب الدفاع، فالمحاماة والادعا خصمان، وكلاهما لدى المحكمة سيان.
الرئيس (للمحامي) : تفضل يا حضرة المحامي الفاضل، فأنت لدينا أفضل قائل، والقضا مرتبط بالمحاماة، وكلاهما يسعى لما يرضي الله.
المحامي (للمحكمة) : إن كلام المتهم لا يدل على اعتراف صحيح، بل هو صادر عن فؤاد جريح، مملوء بالأكدار والأحزان، وقد قال أمامكم إنه كره الزمان، وثبت من كلام المدعي العام، أن سعيدًا خرج من هنا وقت الغروب بالتمام، والمسافة إلى روابي زحلة ثلاث ساعات، وتقرر طبيًّا أنه مضى على قتل القتيل عشر ساعات، وعلى هذا الحساب المعقول، يكون القتل حصل وقت وصول سعيد إلى محل وجود المقتول. فأين حينئذٍ التربُّص والترصُّد وقصد القتل والتعمد؟ والواجب التثبت في هذه القضية، كما عهدنا في عدالتكم ورحمتكم القانونية.
سعيد (للمحامي) : خفِّض عليك يا ذا الرواء، فأي رحمة لسفَّاك الدماء؟! وإذا كان الجاني معترفًا بما جناه، فماذا عسى يجدي الدفاع والمحاماة، بل على قدر الجناية يكون العقاب، ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب.
الرئيس (للحجاب) : اذهبوا بسعيد إلى السجن الآن، ولا يبقى غير القضاة في هذا المكان.

(ثم يخرجون جميعًا وتتداول القضاة ثم يدعو الرئيس المدعي العمومي.)

الرئيس (للناس) : قد صدر الحكم بالإعدام، على سعيد بحد الحسام، ونكلف حضرة المدعي بعرض الحكم على سدة الوالي السَّنية، ولسموه في ذلك الإرادة العلية.

(ثم تنصرف المحكمة والناس وترتفع ستارة أخرى.)

المنظر الثاني

(تنكشف الستارة عن السجن وفيه سعيد.)

سعيد (لنفسه) :
يا زمان الهنا عليك السلام
بعدك العمر ليس فيه مرام
ليت شعري يا صاحب السجن ماذا
صدرت في قضيتي الأحكام
هل بقاءُ وما إليه سبيل
أم فناءُ وبئست الأيام
لست أخشى الحِمام لكن بسوء الـ
ـنفس من خصمها عليها احتكام
هل أرى والديَّ من قبل موتي
يرياني وكيف كان الختام
طاوعا حاسدي سدًى لهما العذ
ر ولو أمهلا لبان المرام
ونوايا الآباء للخير لكن
قدَّر الله دونه الأفهام
آه مَن لي بنظرة من سعاد
قبل ما يدهم الحياة الحِمام
فأراها وهل لعيني تراها
بعد ما لاقت الهوان الكرام
فالكريم الكريم يخجله الهو
ن ولا تستحي لذاك اللئام
يا عدوي احتكم ويا موت زُرني
فعلى هذه الحياة السلام
ما أسرع تقلب الأيام، وفتكها بالكرام! فمن بعد انطلاقي مرتاح النفس، أصبحت كما تروني مكبلًا بالحديد في الحبس، هكذا قضى رب الناس، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
رءوف (لسعيد) : ما لي أراك أيها الأمير، في هذا الانزعاج الكبير، وأنت الذي نبذت الهداية، واعترفت على نفسك بالجناية، ولم يكن ثَم عليك إكراه، ولا كان يعلم بأمرك إلا الله. حتى أوقعت ذاتك في المحن؟! فعاتب نفسك ولا تعاتب الزمن.
سعيد (لرءوف) : دعني يا رءوف وحزني، ولا تزدني شجنًا على شجني، وإني ما اعترفت بهذا الأمر، إلا لأقول بيدي لا بيد عمرو.
رءوف (لسعيد) : ادخل مكانك يا سعيد، فإن مأمور السجن مقبل من بعيد.

(ثم يدخل المأمور.)

المأمور (لرءوف) : أين سعيد يا رءوف؟
رءوف (للمأمور) : هو يا مولاي في مكانه مأسوف.
المأمور (لرءوف) : لقد ساءَنا والله مصاب سعيد، بل أساءَ الدنيا هذا الرزء الشديد، فإنه صدر عليه الحكم بالإعدام، ويا أسفاه على هذا البطل المقدام! ووردت لنا الأوامر بزيادة الحفظ عليه، وسيأتي حضرة القائد وينفذ الأمر الذي لديه، وقد أتيت إليك بهذا التنبيه؛ لتأخذ مع رفاقك بالأحوط فيه.

(ثم يخرج)

رءوف (لنفسه) : أسفي عليك يا سعيد! حزني عليك أيها البطل الصنديد! لقد كنت ليثًا في النزال، وغيثًا في النوال، وعونًا للوافد، وموردًا عذبًا للوارد. فيا ليت شعري ماذا جرى لك، وقد كنت بالحكمة تُجرِي أعمالك؟! وكيف يُحكم على مثلك بالإعدام، وأنت حامي الحِمى المقدام؟!
الله يبقى وكل الكائنات عدم
والمرءُ يشقى وعقباه عليه ندم
والموت يختطف الأرواح صاغرة
لا فرق بين كبير عنده وخدم
سعيد (لرءوف) :
والناس في غفلة عما يكون وما
يلقَون يوم يكون الله فيه حكم
إن أعدموني حياتي إنهم عدموا
ركنًا حصينًا وبحرًا في الكمال خِضم
لكنهم جهلوا شأني ولو علموا
حقيقة الأمر ما كان العدو رغم
أنَّى لهم بخفايا الأمر معرفة
وصاحب السر للسر المصون كتم
وكل هذا جرى لي والقضاء جرى
من أجل حب سعاد والغرام حكم
ولست أسلو هواها والحياة مضت
وكل شيء كما شاء الإله قسم
رءوف (لسعيد) : أناشدك الله العلَّام، أيها البطل الهمام، أن تخبرني باقترافك، وسبب اعترافك، ومن هي سعاد يا تُرى، التي جرى لك من أجلها ما جرى؟ وأين هو أبوك وأنت في حبسك؟ وأين ذووك الذين تفدي شرفهم بنفسك؟ فانتبه يا مولاي لعقلك، ولا تصمم على جهلك.
سعيد (لرءوف) : قد كان ما كان، وقُضي الأمر الذي فيه تستفتيان. فلا تطمع في حياتي يا رءوف، بعد ما اعترى بدر ذاتي الخسوف.
يا والدي هل لا أتاك
خبر على فقدي دهاك
يا ليت شعري هل أراك
وقتًا يجود به الزمان
وهل أراكِ يا سعاد
يومًا وذاك الأنس عاد
أم هل أموت بالبعاد
في الحبس يا رب الأمان
رءوف (لسعيد) : نعم كان ما كان، ولم يبقَ محل للكتمان، فهل لك من حاجة أقضيها إليك، وأعرضها يا مولاي عليك، فإن لك عليَّ أياد، طوَّقتني كالسوار للأياد.
سعيد (لرءوف) : سأخبرك ببعض ما صار، لعلك تبلغني بعض الأوطار، وذلك أني لما استأذنت البارحة في الذهاب إلى أهلي، بضعة أيام وأعود لمحل شغلي، عرَّجت على ضيعة حبيبتي سعاد؛ لأطفئ برؤيتها نارًا تتأجج في الفؤاد، وبينما أنا سائر في تلك التلال، سمعتها تستغيث باسمي بصوت عالٍ، ورأيت من بعيد رجلًا يراودها عن نفسها، أو يدخلها في رَمْسِها، وقد صَّوب نحو صدرها السكين، وهي تدفعه عن عرضها كما يدافع الليث عن العرين، ولما رأيت استحالة الخلاص، أطلقت عليه الرصاص، فزهقت في الحال نفسه الحزينة، ونجَّى الله تلك المسكينة.
رءوف (لسعيد) : آه … شُلت يمين ذلك الغدَّار، وليذهب إلى جهنم وبئس القرار. فقل لي ما هو ذلك الوغد ما أَلأَمَه، وما سبب كتمان ذلك على المحكمة؟ فكانت تحكم ببراءتك، وتشكرك الأمة على شهامتك.
سعيد (لرءوف) :
أقضي لأهلي ما وجب
لحفظهم من الوصب
وأرتضي وقع العطب
ولا أبوح بالسبب
يا والديَّ عشتما
ولا رأَيتم مأتما
وهل سعاد بعدما
أموت يوليها الطرب
وإن لي إليك حاجة يا رءوف، فإن قضيتها تكون نعم الخِّل العطوف.

(رءوف يفتح باب السجن بسرعة ويقول):

رءوف (لسعيد) :
ها هي مفتحة لك أبواب السجون
فانجُ بنفسك ويكون عليَّ ما يكون
ولا تستصغر همتي يا ابن الكرام
فمثلك لا يُحكم عليه بالإعدام
سعيد (لرءوف) : أشكرك على هذه الفتوة، والشهامة والمروَّة، ولكن هل رأيتني دنيئًا بهذا المقدار، حتى أرتكب عار الفرار؟! وإنما أرجوك يا أعز الناس، أن تأتيني بدواة وقرطاس؛ لأكتب كتابًا للسيدة سعاد، وتفضل بتوصيله الآن يا صاحب الأياد.
رءوف (لسعيد) : هذا أقرب ما يكون، يا رفيع الهمة والشئون.

(ثم يخرج)

سعيد (لنفسه) : أمِنْ بعد ما كانت تفر مني الأسود، يوم تخفق في ميدان الوغى البنود، تظنون أني أهرب من ناديكم؟! لا، قل: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم.

(ثم يدخل رءوف.)

رءوف (لسعيد) : ها هو القرطاس والدواه، فاكتب ما شئت وتوكَّل على الله.

(ثم يأخذ سعيد ذلك ويدخل السجن.)

رءوف (لمصطفى) : آه يا أخي مصطفى! منَّا على الدنيا العفا. لقد أدهشتنا شهامة هذا البطل، ولكن كتمانه للحقيقة من الخطل؛ لأنه تطرف في الشهامة، والتطرف في كل شيء ندامة، وأنت تعلم أن عندي أوامر سرية، من دولة الوالي العلية، بأن أعرض مباشرة عليه، أحوال السجن إليه، وقد علمنا الآن أن سعيدًا قتل ذلك الفاجر؛ صيانة للنفس والعرض الطاهر. وهذا لا يعاقب عليه القانون، بل بمثله يتنافس المتنافسون، وإذا وصل للمسامع العلية خبر ذلك، لا بد ينقذ سعيدًا من المهالك.
مصطفى (لرءوف) : لا تعجل بذلك يا ذا الروية، حتى تقف على أصل سر القضية.

(ثم يخرج سعيد.)

سعيد (لرءوف) : خذ هذا الكتاب يا ابن الأكارم، واذهب لمنزل وكيلنا الشيخ غانم، وبلِّغ سلامي أهل ذاك الناد، وسلِّمه إلى يد ابنته السيدة سعاد، وقل لها هذا هو الوداع الأخير، وارجع لي يا رءوف بغير تأخير. فهذا ما بقي لي من الدنيا من المرام، وبعدها مني على الحياة السلام.
رءوف (لسعيد) : هذا أمر يسير يا سعيد، ومنزل الشيخ غانم غير بعيد، وسأبعث بالكتاب مع أخي أسرع من لمح البصر؛ لأني صاحب الدور في الخفر.

(ثم يخرج)

سعيد (لنفسه) :
يا نفس صبرًا وماذا ينفع الصبر
وقد علمت بموتي وانقضى العمر
مصائب الدهر أنواع منوعة
ولم يكن كمصابي في الورى خسر
يهون الموت عندي كل نائبة
وتلك أمنية يلهو بها الحر
والموت إن لم يكن حالًا فبعدئذٍ
حتمًا ولكنما حرص الفتى سكر
مصطفى (لسعيد) :
صبرًا سعيد فلله العلي الأمر
والدهر يأتي بما لم يدرك الفكر
والصبر أحلى ولو مرت أوائله
والعسر لا بد يأتي بعده يسر
ورُب ضيقٍ بدا واليأس يصحبه
يأتي على إثره التفريج والبشر
وقدرة الله كم أبدت لنا عجبًا
وما لألطافه في خلقه حصر

(ثم يأتي رءوف.)

رءوف (لسعيد) : لما وصلت خارج الباب؛ لأسلم أخي الكتاب، أبصرت صبية ذات أنين، تتنفس الصعداء عن قلب حزين، ولما تأكدتْ من وجودك في الحبس، كادت تزهق منها النفس، وأسفرت عن محيا كالبدر، ولطمت على الخدين والصدر، ومعها رجل من هول المصاب يرتعد، واسمه المنتقد، وطلبت الدخول عليك، والمثول بين يديك، وما أظن إلا أنها السيدة سعاد، وها هي مقبلة على أثري لهذا الناد.
سعيد (لنفسه) : سعاد … سعاد. آه ما هذه الأنكاد؟! هل جاءت لتفرح بسعيد، حين تراه مكبلًا في الحديد؟! أم وافت لتشاركني في زفاف الإعدام، وتحظى معي بحسن هذا الختام؟!

(ثم تدخل سعاد بسرعة.)

سعاد (لسعيد) : نعم يا مولاي أتيت إليك في حبسك؛ لأشاركك في نعيمك وبؤسك، وأتجرع قبلك كأس الحِمام، وأفوز وحدي بهذا الختام.
سعيد (لسعاد) : سلِّمي يا سعاد لله التدبير، وودعيني يا حبيبتي الوداع الأخير.
سعاد (لسعيد) : إني أودع نفسي قبل وداعك، وأندفع للموت قبل اندفاعك، ولكن لماذا يقتلونك، وبحكمهم يظلمونك؟! ألأجلِ رجُلٍ غدَّار، أرحت من وجوده الديار، قتلته لحفظ نفسي، ولولاك لدخلت رمسي؟! أين الإنصاف أين الإسعاف؟! أين الرجال؟! أين الاعتدال؟!
ارحموني أيها الناس الكرام
من عناءٍ وعناد
وأسعفوني قد تمادى الانظلام
وجفا الحكم الرشاد
رءوف (لسعاد) : هل حضركما أحد وقتذاك وشهد؟
سعاد (لرءوف) : نعم حضرنا هذا المنتقد وهو أخو القتيل.
رءوف (للمنتقد) : أحقٌّ يا منتقد ما قيل؟
المنتقد (لرءوف) : نعم إن أخي الشقي قاتله الله، لقي من هذا الأمير جزاء ما جنته يداه، والله على ما أقول شهيد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
مصطفى (لرءوف) : إن القائد مقبل علينا، وقادم لدينا.
رءوف (لسعيد) : ادخل يا سعيد للسجن الآن. وأنتما اختفيا في هذا المكان.

(ثم يدخل القائد والعسكر.)

القائد (لرءوف) : أين سعيد المهان؟
سعيد (للقائد) : بل أنت المهان يا خوان.
القائد (لسعيد) : قد صدر الحكم بإعدامك، وهذا اليوم آخر أيامك، وقد أمهلتك ساعة تكتب فيها الوصية، ثم تستعد للقاءِ المنية.

(ثم يخرج)

(ثم تدخل سعاد مسرعة.)

سعاد (لسعيد) : سعيد سعيد … تموت … لا تفوت. لا … أنا المائتة. أنا الفائتة. روحي فداك، رغم أنف عِداك. أنا أموت وأنت تعيش، وأنت تهدأ وأنا أطيش. تبَّت يد القائد، الخائن الحاسد.

(ثم تبكي)

سعيد (لسعاد) :
دعيني فالرجال إلى القتال
وللأحزان ربات الحِجال
أموت فداء عرضي ثم أهلي
وبالدنيا الدنيئة لا أبالي
رءوف (لمصطفى) : إني ذاهب لدولة الوالي العلية، وأخبره بسر هذه القضية.

(ويخرج)

(ثم يدخل القائد ومعه العسكر والسياف.)

القائد (للجند) : أخرِجوا سعيد الخئون؛ ليذوق كأس المنون.

(ثم يخرج سعيد.)

القائد (لسعيد) : بناءً على حكم المحكمة العسكرية، ستشرب الآن راح المنية، فاستغفِر الله من جنايتك، وليعتبر سواك بغايتك، وتهيأ للتلاف، من يد هذا السياف.

(السياف يمسك سعيد.)

سعاد (للسياف) : ماذا تريدون، وماذا تعملون؟! أيقتل سعيد؟! آه ما هذا الكرب الشديد؟! أبدًا أبدًا. أطلِقوه وامسكوني، واتركوه واقتلوني.
القائد (لسعاد) : من هذه الفاجرة؟ اقبضوا على هذه الخاسرة.
القائد (للسياف) : اضرب عنقه، واقطع رمقه.
السياف (لسعيد) :
إلى الموت تعنو كل نفس أبية
وإن عظم المطلوب قلَّ المساعد
وكل امرئ يلقى مصابًا وإنما
مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
سعاد (للسياف) : شُلت يمينك يا سياف. ألم يأخذك على هذا الأمير انعطاف، وهو بريءٌ من الجناية، وبعيد عن الغواية؟!
القائد (لنفسه) :
ليت أعدائي تموت
مثل ما لاقى سعيد
بعده وقتي يفوت
في هَنا عيش رغيد

(يدخل الوالي متخفيًا.)

سعاد (للقائد) :
يا قائد الجند المهان
أطلقت للشر العنان
أَأمنت من كيد الزمان
بل كيفما تعمل تُدان
القائد (للجند) : أبعِدوا هذه المجنونة؛ فإنها ذات طيش ورعونة.
المنتقد (للقائد) : اعلم يا حضرة القائد، والشهم الماجد، أن القتيل هو أخي الوحيد، ولكنه شقي عنيد، للأعراض هتَّاك، وللدماء سفَّاك، ولولا همة الأمير سعيد الأبية، لفتك بعرض ونفس هذه الصبية.
القائد (للسياف) : اقطع رأسه، وأخمِد أنفاسه.
السياف (لسعيد) : ألك حاجة أيها الأمير؟
سعيد (للسياف) : دعني أودِّع سعاد، الوداع الأخير.
القائد (للسياف) : لا تقل عليه الأمير، فإنه وغد حقير.
القائد (لسعيد) : وهل نسيت يا ابن اللئام، ما فعله معي أبوك في سالف الأيام؟! فهذا وقت كشف العار، والأخذ منك بالثار.
سعيد (للقائد) : لا تشمت يا لئيم، فإن البغي مرتعه وخيم، ولو كان قتلي بأمرك، لشربت دمك من نحرك.
سعاد (للقائد) : أرجوك يا مولاي تأخير تنفيذ الأمر، وأن تعرض لسمو الوالي حقيقة الأمر، فلعل سموه للعفو يثيب، وفرج الله قريب.
القائد (لسعاد) : بلوغ هذا الأمل، أبعد عليكم من فَلَك زحل.
القائد (للسياف) : اضرب عنقه يا سياف، بغير مهلة ولا خلاف.
السياف (لسعيد) : حان الأجل، وخاب الأمل.

(يظهر الوالي جهرًا.)

الوالي (للسياف) : أخمد حسامك يا سياف، حتى ننظر في وجهة هذا الخلاف، فقد رأينا لزوم تأخير القتل، لما حدث من الشبهة فيما حصل من قبل، وبعد التثبت من حقائق القضية، يكون لنا فيها الإرادة العلية، وأطلقوا سراح سعيد من السجن الآن، ولتأتوا جميعًا في غد إلى الديوان.

(ثم إن سعيدًا وسعاد والمنتقد ورءوف ومصطفى والسياف ينشدون):

دام هذا الحزم والافتقاد
للورى يا ذا الهمام
هكذا المولى يجير العباد
من عناء الانظلام
وبروح العدل يحيي البلاد
ويوافينا المرام
فاسلم واسعد أنت الأمجد
نلنا المقصد بالتمام
(ثم تنزل الستارة.)

الفصل الرابع

المنظر الأول

(تنكشف الستارة عن الوالي وقائد الجيش ورئيس الشرطة، ورءوف ومصطفى السجَّانَين، وقاضي التحقيق وسعيد وسعاد ومفتي الولاية.)

الوالي (للقائد) : لقد اتخذت مركزك يا حضرة القائد؛ ذريعة للانتقام وسوء المقاصد، وجعلت صدرك مستودَع الأحقاد، وهذا لا يليق بشأن الحكام والقواد؛ لأن الحاكم أيها الماجد، للرعية في منزلة الوالد، وعقابه للجاني منهم عقاب تأديب، لا عقاب انتقام وافتراس غصيب.
القائد (للوالي) :
إني يا مولاي سائر على هذا النمط
وما سلكت في أحكامي سبيل الشطط
الوالي (للقائد) : ما أضر الإصرار، وعدم الاستغفار! وكيف تزعم أنك نزيه النفس، بعد ما شاهدت أحوالك في الحبس؟!
الوالي (للمنتقد) : وهل أنت يا منتقد أخو القتيل؟
المنتقد (للوالي) : نعم هو شقيقي يا مولاي الجليل.
الوالي (للمنتقد) : وهل عندك علم بحقيقة هذا الأمر؟
المنتقد (للوالي) : نعم أعرفه في السر والجهر.
الوالي (للمنتقد) : إذًا فأخبرنا عنه ولا تكتم عنا شيئًا منه.
المنتقد (لنفسه) : إذا أنا أخبرته بأساس الأمر ومبناه، يعتبرونني شريكًا للجاني فيما جناه، ويقع في الشرَك الأمير طاهر، وتدور على هذه العائلة الدوائر، فالأصوب أن أحصر التهمة كلها في القتيل، ولا أجعل لغيره فيها أدنى سبيل.
المنتقد (للوالي) : إن أخي الخائن المغضوب، واسمه غضوب، نشأَ على الفجور، والشقاءِ والشرور، ولم يكن له واعظ من نفسه، ولا زاجر من حسه، فصغرت الكبائر لديه، ومَن شبَّ على شيء شاب في الغالب عليه، وإني كنت سائرًا تلك الليلة، في حاجة إلى مدينة زحلة، فرأيت أخي كامنًا في الوادي بين تلاله، كأنه يترقَّب شيئًا في باله، فأردت استصحابه فامتنع، وعلى قمة التل ارتفع، ثم أبصرت خيالًا مقبلًا من كبد الواد، وتأملته وإذا هو سعاد، وليس معها غير رجل خدَّام. فعجبت من سيرها في ذاك الظلام، ولعلمي بأنها خطيبة سعيد الأمير، أردت الدنو منها لأسألها عن هذا المسير، وما أشعر إلا بطلقة نارية، أصابتها من يد أخي الدنية، وخادمها ركن للهرب، وأنا على أثره خوفًا من العطب؛ عساي ألتقي بأحد، أو أخبر حاكم البلد. وبينما أنا في هذا الكرب الشديد، رأيت سعيدًا مقبلًا من بعيد، فأخبرته بما صار، وأسرعنا كالجواد الكرار، فرأيناها على قيد الحياة، والغضوب يطالبها بما لا يُرضي الله، وهي تدافع عن عرضها المصون، رغم تهديد ذلك الخئون، ولما يئس غضوب من فعلها، ألقاها على الأرض وهمَّ بقتلها، فبادره سعيد بالرصاص، ولولا ذلك لاستحال الخلاص، ثم أمرني بأن أكتم ذلك، أو يلقيني في المهالك، ولما رأيت الأمر وصل به للإعدام، لم أستطع غير عرض الحقيقة والسلام.
الوالي (للمنتقد) : وأين خادم سعاد الآن؟
المنتقد (للوالي) : هو خارج الباب يا رفيع الشان.
الوالي (للحاجب) : عليَّ به أيها الحاجب.

(يخرج الحاجب.)

الوالي (لرءوف) : أخبرنا يا رءوف بغير ترديد، عما حصل في الحبس من سعيد.
رءوف (للوالي) : منذ دخل سعيد في حبسه، ما سمعنا منه غير البكاء على نفسه، ولما صدر الحكم عليه بالإعدام، لم يكن له في غير سعاد كلام، فسألته عن سبب فعله الفاضح، واعترافه الواضح، فقال إنه قتل ذاك النحس؛ صيانة للعرض والنفس، فلُمتُ عليه يا ذا المكرمة؛ لكتمانه السبب عن المحكمة، فكانت تحكم ببراءته، وتشكره الأمة على شهامته، ولما أقبل القائد وفعل ما فعل، حضرت وعرضت لأعتابكم ما حصل.
القائد (لرءوف) : وما الذي رأيته يا رءوف مني؟ وهل بلغ من قدرك أن تنقل عني؟
رءوف (للقائد) : نعم أيها القائد العظيم، وهذه البطاقة وقعت في الحبس من جنابكم الكريم، وحيث أبيتم إلا العدوان، فأنا أعرضها على ولي النعم الآن.

(ثم يتناول الوالي الورقة ويقرأها.)

الوالي (لرءوف) : هذه البطاقة لا علاقة لها بالقضية، ولكنها تدل على نواياه الردية، وسننظر فيها بعد. ونستجلي خفايا القصد.
الوالي (للتشريفاتي) : ائتوني بالأمير ظافر.
تشريفاتي (للوالي) : طوعًا أيها المولى الظافر.

(ثم يخرج)

الوالي (لمصطفى) : وهل تشهد بما قاله رءوف يا مصطفى؟
مصطفى (للوالي) : نعم يا مولاي، وحسْب سعيد عدلكم وكفى.
الوالي (لسعاد) : أخبرينا يا سعاد بما صار، فإنك سماء هذه الأمطار.
سعاد (للوالي) : إني خرجت من منزل الأمير طاهر وقت الغروب، مع خادمي لمنزل والدي المحجوب، ولما جنَّ علينا في الفلا الظلام، وناجانا الرعد وجاد الغمام، فاجأَتنا طلقة نارية مريعة، وقعت منها على الأرض صريعة، ولما أفقت وجدت رجلًا أمامي، وخيَّرني ما بين اغتصابي أو حِمامي، فاخترت دخول الرمس على ارتكاب الرجس. فهمَّ بقتلي غدرًا، وإذا برصاصة أصابته فورًا، وجاءَ على أثرها الأمير سعيد، ونجَّاني الله من البلاء الشديد.
الوالي (لسعاد) :
وهل تعلمين لذلك من سبب
وكيف تركك الخادم وهرب
سعاد (للوالي) : سبب ذلك الخيانة، وعدم العفة والأمانة، ولعل هروب الخادم، كان خوفًا من ذلك الآثم.

(ثم يدخل التشريفاتي ومعه حافظ.)

تشريفاتي (للوالي) : ها هو يا مولاي خادم سعاد.
الوالي (لحافظ) : أخبرنا يا جبان، عما حصل بغاية البيان.
حافظ (للوالي) : كنت مع سيدتي بمنزل الأمير طاهر، ثم خرجنا لمنزل أبيها العامر، وبينما نحن في التسيار، وقد أرخى الليل الستار، وإذا بطلقة ذات اتقاد، وقعت منها سيدتي سعاد، فظننتها ماتت في الحال، وأسرعت لأخبر والدها بالحال، ثم وصلت وأخبرته بهذا الكرب الشديد، وإذا بها أقبلت مع الأمير سعيد، وأخبرونا بأنها أخطأها الرصاص، وأن سعيدًا سبب نجاتها والخلاص. ثم سار سعيد لمحل خدمته، وهذا ما أعلمه قى قصته.
الوالي (للقائد) : قد علمنا ما في بطاقتك يا حضرة القائد، من حسن نواياك والمقاصد، وسأتلوها على الحضور؛ ليعلموا ما لديك من عزم الأمور:

إلى صديقي الناصر، القائد ناصر، قد أمكنني بعد كل جهد جهيد، أن أوقعت بالوغد سعيد، ابن أخي طاهر، عدوك الخاسر، ليدخل في العسكرية، ويكون تحت قيادتك القهرية، لعلك بنيران الأسى تصليه انتقامًا من الماكر أبيه.

إمضاء: صديقك ظافر. الأمير ظافر

(ثم يطوي الكتاب ويقول):

الوالي (للقائد) : وماذا جوابك أيها القائد، على هذا الجواب المشحون بالفوائد؟
القائد (للوالي) : ما هو إلا دليل على سوء نية ظافر، نحو أخيه الأمير طاهر.
الوالي (لسعيد) : أنبئنا يا سعيد بغير ملق، كما أعهده فيك من الشرف وحب الحق، عن سبب إنكارك، وحكمة أفكارك.
سعيد (لنفسه) : ماذا أقول يا ربي، وأنت وليي وحسبي؟!
سعاد (لسعيد) : أناشدك الله ألا تكتم شيئًا عن ولي النعم، فلعله ينجينا من هذه النقم، وكفانا يا سعيد، ما حل بنا من البلاء الشديد.
سعيد (لسعاد) : آه يا سعاد! كم ذا أقاسي من الأفكار!
دعيني فللأوطان والأهل عزة
على النفس مهما كان فيه خصام
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة
وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كرام
الوالي (لسعيد) : قد برح الخفا، وربح الوفا، ولم يبقَ محل للكتمان. فأخبرنا يا سعيد ولك الأمان.
سعيد (للوالي) : إن الحقيقة يا مولاي كما شهدت الشهود، على ذلك القتيل المنكود، وسبب إنكاري وهمي، خوفي على والدي وعمي؛ لأن القتيل من أتباع والدي طاهر، وعداوتي مع القائد أصلها عمي ظافر، على أنه لم يكن لوالدي علم بهذه القضية، وكذلك أفعال عمي من الضغائن البسيطة الأهلية. فخِفتُ من انقلاب الحقايق وتعميم الشر، وقلت بيدي لا بيد عمرو.

(ثم يدخل التشريفاتي.)

تشريفاتي (للوالي) : إن الأمير ظافرًا بالباب.
الوالي (للتشريفاتي) : ليأتِ إلى هذا الرِّحاب.
الوالي (لنفسه) :
إذا كانت الأهل العزاز هم العِدا
وذو الحكم في أحكامه للوفا ناسي
ولم يجد المظلوم في الناس منصفا
فلا خير في الحكام والأهل والناس

(ثم يدخل الأمير ظافر.)

الوالي (لظافر) :
أخبرنا عن سر هذا الكتاب
وما لديك فيه من الصواب

(ثم يتناول ظافر الكتاب ويقرأه ثم يدخل التشريفاتي.)

تشريفاتي (للوالي) : إن الأمير طاهرًا مع صهره نسيب، ووكيلهما الشيخ غانم الأديب، يريدون التشرُّف بلثم أعتابك.
الوالي (للتشريفاتي) : ائذن لهم بذلك.

(ثم يخرج التشريفاتي.)

سعيد (للوالي) :
مر بي يا مولاي للحبس في الحال
لكيلا يراني والدي في هذا الحال
الوالي (لسعيد) : لا تعجل يا سعيد، في كل ما تريد.
خذ التأني وحسن الحزم واسطة
لما تريد إذا ضاقت بك الحِيَل
فالدهر بين الورى في دوره عجب
وللزمان كما شاء القضا دول
ويدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
ظافر (للوالي) : إني يا مولاي صاحب الكتاب، والذي حصل كان بإيعاز هذا القائد المُهاب، وهو الذي أوقع بيننا الفتن؛ لما بينه وبين أخي من الضغائن والمِحن؛ ليتمكن في تفريقنا من اجتماع رأيه الفاسد، ثم يفترسنا واحدًا بعد واحد، وقد قيل إن تفرُّق الأحباء، موجب لجمع شمل الأعداء، وإني أخطأت في الانقياد له في هذه المعائب، وهذا جزاء مَن لم يتدبر حسن العواقب.

(ثم يدخل طاهر ونسيب وغانم.)

طاهر (للوالي) : ارحمني يا مولاي فإني مسَّني الضر، وجرعنا الدهر بكأسه المر، من هذا الرزء الشديد، الذي حل بولدي سعيد. فعامله يا مولاي بعدلك، وزودنا بجزيل فضلك.
الوالي (لطاهر) : قد تبيَّن لنا الصدق من الميْن، وظهر الصبح لذي عينين، ودلنا التحقيق على براءة ولدك وكرامته، وحسن قصده وشهامته، وأنه صان عرضًا طاهرًا من الهتك، وحقن دمًا زكيًّا من السفك، وقد كان إنكاره وتعرضه للقتل، دليلًا جديدًا على ما له من النخوة والفضل، وبناء على ذلك، وعلى علمنا بما هنالك، قد عفونا عنك يا سعيد، لتعيش من العدالة في عيش رغيد.

(ثم إن سعيدًا وسعاد والمنتقد ورءوفًا ومصطفى ونسيبًا وحافظًا ينشدون هذه الأدوار):

العدل والإنصاف روح الوطن
والعفو والإحسان أصل المِنن
وأنت مولانا إمام الهدى
بالعزم تحمينا وحسن الفِطن
الوالي (لظافر) : وإني أعلم يا ظافر أنكم من عائلة شريفة، عريقة الحسب منيعة، فينبغي أن تكونوا على قدم الوفاق، وتتجنبوا كل ما فيه النفرة والشقاق، وتذكروا قول رب العالمين: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ.
ظافر (للوالي) : هذا يكون بتوجهاتكم بيننا إن شاء الله، إلى أن يبلغ الأجل منتهاه، وإني أعرض على مسامع سموكم العلية، حاجة هي لنظام عائلتنا الضمانة القوية، وذلك أن ابن أخي مغرم بسعاد، وهو عندها غاية القصد والمراد، وإني أسأل أخي في حضرتكم الكريمة، أن يزوج ولده بهذه الدرة اليتيمة؛ لينال كلاهما المنى، ويعوضا ما قاسياه من العنا.
الوالي (لطاهر) : وما رأيك في ذلك أيها الأمير؟
طاهر (للوالي) : الأمر أمرك يا مولانا الخطير.
غانم (للوالي) : وابنتي جارية لسعيد الأمير.
الوالي (لطاهر) : قد رأينا الموافق أيها الأماجد، زواج الأمير سعيد بالسيدة سعاد، وأن يكون زفاف اقترانهما الآن، في قصرنا هذا المصان.
الوالي (لنسيم) : اذهب الآن يا نسيم، بالسيدة سعاد إلى دار الحريم، فقد أحسنَّا عليها بكل ما يلزم لجهازها، ولتحصل المبادرة بتجهيز معدات الفرح وإنجازها.

(ثم يخرج سعاد ونسيم.)

الوالي (لسعيد) : وليذهب سعيد وأهله الآن، إلى دار المهرجان.
طاهر (للوالي) :
لا زالت باليُمن ترقى
إلى أجلِّ المراتب
والناس عندك تلقى
بالعدل حسن العواقب

(ثم يخرج طاهر وسعيد ونسيب وغانم وظافر.)

الوالي (للناس) : وليمضِ كل منكم لما هو قاصد، ما عدا حضرة القائد.

(ثم يخرجون جميعًا.)

الوالي (للقائد) : ماذا تقول يا حضرة القائد، فيما نزل بسببك على هذه العائلة من الشدائد؟ إذ لولا ما اتخذناه من الحكمة والتدبير، لحاق بدارهم البلاء والتدمير، مع أن الواجب على الحكام، أن يقوموا بالإصلاح بين الأنام، وأن يكون المرءوس على قدم الرئيس، وإلا فيا ضيعة الأمن النفيس؛ لأن الرئيس مهما كان سديد الحزم، شديد القوة والعزم، فإنه محتاج إلى أمانة عماله، ومساعدته على جليل أعماله، فالفرد قليل الاستطاعة، ويد الله مع الجماعة، ولا سيما قواد العسكرية؛ فإنهم محل الأمانة للراعي والرعية، وإلا فيضطر الحاكم للاستبداد، رغم كل مقاومة وعناد؛ حفظًا لمراكز سلطته؛ وحرصًا على مصلحة رعيته؛ لكيلا تضطرب الأمة، وتدْلَهمَّ معاذ الله الغمة، ولما كانت هذه منك أول هفوة، ولكل جواد كما يُقال كبوة، فقد غفرتها لك هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، وأوصيك أن تنتبه لهذه الحقائق، وألا تفوتك ساعة بغير التفكير في الدقائق.
القائد (للوالي) : إني قبلت يا مولاي هذه النصيحة، وما حوته من جواهر الحكم الصحيحة، وأعرض على المسامع السامية، حاجة فيها الفوائد النامية، وهي مكافأة سعيد على صداقته، وحسن نواياه وشهامته؛ ليتحقق لسموكم صدق حالي، ويعلموا أنه ما بقي لهم سوءٌ في بالي.
الوالي (للقائد) : لك منَّا على ذلك الشكر، وسيصدر إن شاء الله به الأمر، وهيا لنَحضر مهرجان الزفاف، ونواليهم بالرعاية والانعطاف.

(ثم يخرجان وتنكشف ستارة أخرى.)

المنظر الثاني

(تنكشف الستارة عن طاهر وظافر ونسيب وغانم وحافظ وعبد الله وأنوار وأزهار.)

طاهر (لنفسه) :
هوِّن عظائم ما تلقى فرُب دجى
إذا اكفهرَّ جلاه الصبح بالبلج
ولا تضيق حرجًا إن داهمت محن
فآخر الصبر فيها أول الفرج

(ثم تظهر نغمات الجند بالأناشيد أمام دولة الوالي ويدخلون.)

جند (للملك) :
دام مولانا الوزير الأفضل
بالعُلا والافتخار
رأيه السامي سديد أكمل
بالوفا والاقتدار

(ثم يقف الجميع ويدخل الوالي والقائد ويجلسون.)

الوالي (لطاهر) :
من يصحب الصبر وافى بالهنا أمله
والحازم الشهم من يرضى الورى عمله
وذو الصداقة مَن طابت سريرته
ولا تخالف ما في صدره مُقله
وذو الشجاعة فينا مَن يفوز على
هواه حتى توارت بالهدى زلَله
فالعسر مهما اعتدى فاليسر غالبه
والضيق مهما تمادى ينقضي أجله
لقد كان ولدك يا طاهر في هذا الصباح، تنوح حسرة عليه النواح، وما أمسى عليه المساء، إلا وهو في صفاء وهناء، فسبحانك يا مقلب الليل والنهار! إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

(ثم يدخل التشريفاتي.)

تشريفاتي (للوالي) : إن موكب الزفاف في إقبال، على مقتضى إرادتك يا معدن الكمال.
الوالي (للتشريفاتي) : قابِلوه بجميل الاستقبال.
طاهر (للوالي) :
ملكت بالعدل أرواح العباد كما
أحييتها بحياة العفو والفضل
وسُست ملكك بالحزم السديد وبالـ
ـعزم الشديد فكنت الفرد في الكل

(ثم يدخل الموكب بأناشيد الزفاف وفيه سعيد وسعاد ويقبِّلان يد الوالي.)

الوالي (لسعيد) : لك الهناء يا سعيد، بهذا الزفاف السعيد، وبناءً على استرحام حضرة القائد، وما أنت عليه من المحامد، قد رفعنا رتبتك، وضاعفنا عليك نعمتك، فعِش مع أهلك بسلام، مرتاحًا بوفاء قائدك الهمام، منعَّمًا بصفاء الحال. فالله مقلب القلوب والأحوال، وهو سبحانه الذي حباك بهذه المواهب، وهكذا فليكن حسن العواقب.

(ثم يتقدم سعيد ويقبِّل يد الوالي ويتصافح مع القائد ثم ينشدون هذه الأبيات):

الجميع (لأنفسهم) :
طاب السرور فقم نعوِّض ما سلف
واغنم زمان الأنس ما لاحت صدف
واطرب على سجع الهزار وغنني
باسم العزيز فإن أوقاتي تحف
وانظر إلى نور الوجود كأنه
من نور مولانا الخديوي أخي الشرف
عباسنا الثاني العزيز على الورى
عالي الذُّرى بالعزم والحزم تصف
ملك تشخصه النفوس كأنما
في كل جارحة لها منه شغف
فالله يبقيه ويُبقي أهله
حصنًا لمصر لكي يعيد لها الترف
ورجال دولته الذين بأمره
حاموا عن المظلوم عدلًا فانتصف
وجميع أهل القطر في خير ومَن
بوجودهم حسن الختام لنا الشرف
(ستار الختام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤