في الشعر

الشعر هو أول فن أدبي مارسه وبرع فيه إسماعيل عاصم منذ أن شبَّ في الحياة. فعندما كان تلميذًا بمدرسة القلعة، زارها سعيد باشا،١ فمدحه التلميذ إسماعيل عاصم بقصيدة — تدل على فطرته الشعرية ومقدرته على نظم الشعر منذ عهد الصبا — مطلعها:
مدارس العلم بالأنوار قد سطعت
أرجاؤها لسعيد العصر مذ قدما٢
ولم يُشغِل العمل الوظيفي شاعرنا عن قرض الشعر، فنجده في أوقات الفراغ يتسلى إما بوضع الألغاز بصورة شعرية أو حل الألغاز٣ النثرية بالشعر أيضًا، وإن دل هذا فإنما يدل على امتلاكه لناصية هذا الفن العربي الأصيل.

ففي ٢٧ / ٨ / ١٨٧٠ نشر شاعرنا لغزًا بمجلة «روضة المدارس المصرية» — عندما كان المعاون الأول بمديرية الفيوم — بدأه بهذه الأبيات:

ما اسم شيء للناس بالنفع قد عمَّ
نصفه مهمل وباقيه معجم
ورباعي الحروف في العد لكن
حاز كل العلوم والله أعلم
نصفه الأوَّلي رشف لذيذ
تارة والهلاك يحصل من ثم٤
وفي ١٢ / ١٠ / ١٨٧٠ نشر بنفس المجلة حسن عاكف لغزًا نثريًّا على هيئة مسألة حسابية.٥ فقام بحلها عاصم في ٢٥ / ١٠ / ١٨٧٠ — عندما كان المعاون الأول بمديرية الجيزة — لا بالنثر كما هو المعتاد في حل الألغاز النثرية، ولكن بأبيات شعرية دلالة على قدرته في هذا الفن، ومطلعها:
رأينا سؤالًا للنجيب المدقِّق
يبين لنا عن فهمه المتأنق٦
وفي مجال مدح الملوك والسلاطين كانت له بعض القصائد، كأترابه من شعراء هذه الفترة. فقد مدح السلطان الغازي عبد الحميد خان٧ في أحد أعياد جلوسه السعيد على عرش السلطنة العثمانية بقصيدة طويلة مطلعها:
صفا الوقت فاغنم حظهُ فالصفا صدف
وعوض على النفس الأبية ما سلف

وله أيضًا منظومة شعرية في الخديو توفيق قالها عند عودته من الإسكندرية عقيب الثورة العرابية عام ١٨٨٢، مطلعها:

لله في الخلق لطف رقَّ معناهُ
فليس يدري امرؤ ما كنه عقباهُ

وله منظومة أخرى قدَّمها للجناب العالي بمناسبة عيد الأضحى مطلعها:

ليس ارتياحي براح من يدي بكرِ
بل راحتي بكر معنى من سنا الفكر٨

وكما مدح وأثنى عاصم على الملوك والسلاطين كباقي الشعراء المشهورين، قرَّظ بعض الكتب أيضًا كعادة الشعراء في ذلك الوقت. بل ووُضع اسمه ضمن أشهر شعراء العصر في دليل مصر لعام ١٨٨٩، أمثال: عبد الله باشا فكري والشيخ علي الليثي ومحمد عثمان جلال وعلي فهمي ابن رفاعة الطهطاوي وحفني ناصف وإسماعيل صبري.

ففي عام ١٨٨٩ قرَّظ كتاب «دليل مصر لعامي ٨٩-١٨٩٠»٩ ليوسف آصاف وقيصر نصر بقصيدة منها هذه الأبيات:
سفرٌ به شمس الفصاحة أسفرت
عن نور تاريخ الأواخر كالأوائلْ
جمعَ الحقائق والرسومَ كأنما
في طيهِ سرُّ الوجود لهُ رسائلْ
نعم الكتاب كأنه في عصرهِ
مرآة حال الكائنات بغير حائلْ١٠

وفي ١٥ / ٧ / ١٨٩٣ نشرت مجلة «المنظوم» قصيدة لإسماعيل عاصم قالها في وداع ابنه علي عاصم، عندما سافر إلى أوروبا لدراسة القانون، وهي قصيدة مكتظة بالنصائح والإرشادات الواجبة من أب لابنه. فنجده يشد أزره حتى يعود ظافرًا بعلمه، كما يوصيه بالتقوى والإيمان والتمسك بالدين، والبعد عن الرذائل. كما يرشده إلى مصاحبة الكرام ونبذ اللئام، وعدم العزلة عن الناس، بل دراسة طبائعهم، وينصحه بالتمسك بالعدل والابتعاد عن الظلم … إلخ هذه النصائح. ومن أبيات هذه القصيدة:

فأوصيك بالتقوى فربك عالم
بسرك والنجوى عليك رقيب
حافظ على الإيمان ما استطعت وليكن
به من رضا المولى إليك نصيب
وأحبب لكل الناس ما أنت تبتغي
لنفسك تصبح والعدو حبيب
وإياك إياك النقايص وليكن
من النفس يا ذخري عليك حسيب
وعاشر جميع الخلق وادرس طباعهم
وخذ ما تراه للعقول يطيب
وصاحب كرام القوم واهجر لئامهم
فإن الفتى للمصاحَبين نسيب١١

وإذا كنا — فيما سبق — قد أوردنا بعض الأبيات عن مدائح إسماعيل عاصم للملوك والسلاطين، فإن القصيدة الوحيدة الكاملة في هذا الموضوع، هي القصيدة المنشورة في مجلة «المنظوم» في ١ / ٩ / ١٨٩٣، وكانت في مدح الخديوي عباس باشا حلمي الثاني، بمناسبة عودته من الآستانة، وقد وردت هذه القصيدة ضمن عدة قصائد لشعراء آخرين في مدح الخديوي أيضًا، أمثال: الشيخ علي الليثي ومحمد أبو شادي وعائشة التيمورية. ومن أبيات هذه القصيدة:

مولاي أهلًا وسهلًا هاك أنفسنا
بها لقدومكم أجسامنا جادت
هذي الوفود من الأقطار تجذبها
محبة لك يا بحر الوفا ازدادت
لو استطاعوا لجاء القطر أجمعه
لكنه بالدعا أرواحهم نادت
فأسلم ودم وأقبل البشرى مؤرخة
عاد العزيز وأوقات المنا عادت١٢
ولم يقتصر شاعرنا على تقريظ الكتب فقط، كتقريظه لكتاب «دليل مصر»، بل قرَّظ أيضًا المجلات الأدبية والشعرية تشجيعًا لها، ومن هذه المجلات مجلة «أنيس الجليس»،١٣ التي قرَّظها شاعرنا في عددها الثاني في ٢٨ / ٢ / ١٨٩٨ بقصيدة، منها هذه الأبيات:
أسكرتنا ألفاظها فحسبنا
إنها للنهى حباب الكئوس
ورأينا كل المجلات مرءوسًا
وأنس الجليس مثل الرئيس
بلغت مشرق المعارف إسـ
ـكندرة١٤ في سنائها المأنوس١٥

ولم تتوقف موهبة إسماعيل عاصم عند حد قول الشعر في مدح الملوك أو الألغاز أو النصح والإرشاد أو تقاريظ الكتب والمجلات. بل زادت على هذه الأغراض غرضًا آخر، هو المناظرة الشعرية، ومنها مناظرته مع الشاعر خليل مطران على صفحات مجلة «أنيس الجليس» في عام ١٨٩٨، حول القضية الطريفة التي تتحدث عن أيهما أسبق في الحب، القلب أم العين. ففي ٣١ / ٧ / ١٨٩٨ نظَم مطران قصيدته، وأبان فيها القضية بين القلب والعين، ومنها:

بين قلبي ومقلتي
صدمة تُوهِن القوى
ونزاع بفصله
حكَّمَا قاضي الهوى

فردَّ عليه إسماعيل عاصم — في نفس المجلة — بقصيدة، منها:

ليس للعين والحشا
ما اقتضى حاكم الهوى
فهي من شأنها ترى
كل شيء لها استوى
فإذا استحسنت فللـ
ـقلب في الحب ما نوى
واستمرت المناظرة بينهما بصورة شعرية طريفة في أعداد أخرى من المجلة، وكان النصر حليف عاصم؛ لأنه استند على مؤهلاته القانونية والشعرية كمحامٍ في الدفاع والنظر في القضية.١٦

وكان شاعرنا يتمسك بتعاليم الإسلام السمحة، فكان يؤمن بالإخاء والمساواة بين المصريين، بغض النظر عن أديانهم. فنجده يشارك أُخوانه المسيحيين في احتفالاتهم الدينية، ففي ١١ / ٩ / ١٩٠٠ ألقى قصيدة في مركز جمعية التوفيق القبطية بمناسبة عيد النيروز، أبان فيها الوحدة بين الأديان، وحذَّر من مغبة الفتنة الطائفية، وحذَّر مِن مَن يريد التفريق بين الأقباط والمسلمين، ومن أبيات هذه القصيدة:

يا أمة القبط يا أهل الوداد ومن
عهد الوفاء عهدهم في ما عهدناهُ
إنا وأنتم كلانا واحد وإذا
أراد تفريقنا وغدٌ رفضناه
يضمنا وطن تدنو بنا لغةٌ
يظلنا عَلمٌ بالحق نرعاه١٧

ولإسماعيل عاصم تجربة فريدة في مجال كتابة الأزجال والمواويل. فقد وضع موالًا مشهورًا تقول كلماته:

يا دي الدلال والجمال والحب ونهاره
والشعر سال عا الجبين كالليل ونهاره
والدمع سال من الجفون كالبحر وأنهاره
ليه يا غزال الحِمى كتر الدلع والتيه
يا قلبي أسير في هواك ويحل أنهاره
وهذا الموال غنَّاه لأول مرة المطرب محمد صادق عام ١٩٠٤ في دار إسماعيل عاصم، ثم ذاع وانتشر بعد ذلك بين المطربين.١٨

وآخر قصيدة قالها شاعرنا — حسب ما توفَّر بين أيدينا من قصائد — كانت في ٣٠ / ١١ / ١٩١٧، يوم تأبين الشيخ سلامة حجازي بدار الأوبرا، وكان إسماعيل عاصم رئيس لجنة التأبين، ومن أبيات هذه القصيدة:

هكذا مات واستراح حجازي
بعد ما أنشَبت به الاسقام
بات في اللحد مستريحًا لدى الله
وبتنا يروعنا الإيلام
كان فينا يكاد يُحيي بمغنا
هُ رفاتًا تقيمها الأنغام١٩
١  سعيد باشا، هو ابن محمد علي. وُلِد عام ١٨٢٢ وتولَّى حكم مصر بعد مقتل عباس الأول عام ١٨٥٤، وله بعض الإصلاحات. وشارك في بعض الحروب الخارجية، مثل حرب القرم وحرب المكسيك، وهو الذي منح ديلسبس امتياز قناة السويس، وبدأت في عهده القروض الأجنبية، وتُوفي عام ١٨٦٣ وخلفه في الحكم الخديو إسماعيل.
٢  راجع: يوسف آصاف وقيصر نصر، السابق، ص٣٥٥.
٣  والألغاز فن من الفنون الأدبية المنتشرة في ذلك الوقت، وكان الأدباء والشعراء يتنافسون في مضمارها. وكانت بعض الصحف والمجلات الأدبية في القرن الماضي، تفرد لها بابًا مستقلًّا، ومنها على سبيل المثال مجلة «روضة المدارس» و«الجنان» و«الجنة» و«مكارم الأخلاق» وغيرها. وهذا الفن نطلق عليه الآن اسم «الفوازير».
٤  راجع: مجلة «روضة المدارس المصرية»، السنة الأولى، عدد ١٠، ٢٧ / ٨ / ١٨٧٠، ص١٩.
٥  راجع: مجلة «روضة المدارس المصرية»، السنة الأولى، عدد ١٣، ١٢ / ١٠ / ١٨٧٠، ص٢٤.
٦  راجع: مجلة «روضة المدارس المصرية»، السنة الأولى، عدد ١٤، ٢٥ / ١٠ / ١٨٧٠، ص١٩.
٧  السلطان عبد الحميد، هو السلطان الرابع والثلاثون في سلسلة سلاطين بني عثمان. وُلِد عام ١٨٤٢ وتولَّى السلطنة عام ١٨٧٦ بعد خلع السلطان مراد. وفي عهده نشبت حروب بين الروسيا والدولة العثمانية هُزم فيها العثمانيون، واستقلَّت بعض الولايات العثمانية في أوروبا عن الدولة. ونشطت في زمنه جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تطالب بالدستور، وفي نهاية المطاف أطاحت به في انقلاب عسكري عام ١٩٠٩ ونُفي إلى سالونيك ومات عام ١٩١٨.
٨  راجع: يوسف آصاف وقيصر نصر، «دليل مصر لعامي ١٨٨٩-١٨٩٠»، السابق، ص٣٥٥.
٩  وهذا الكتاب قال عنه أحمد حسين الطماوي: إنه أول كتاب من نوعه باللسان العربي يرشد الناس إلى ما تشتمل عليه مصر في جميع المعارف والعلوم … والكتاب يعتبر مرحلة قائمة بذاتها في مسيرة الكتاب العربي؛ لأنه دليل تفصيلي في سبيل التثقيف والتنوير. راجع: جريدة «أخبار الأدب»، عدد ١٢، ٣ / ١٠ / ١٩٩٣.
١٠  راجع: يوسف وقيصر نصر، السابق، ص٣٦٦.
١١  راجع: مجلة «المنظوم»، الجزء ١٧، ١٨، من ١٥ / ٧ / ١٨٩٣ إلى ١ / ٨ / ١٨٩٣، ص٢٥١–٢٥٣.
١٢  راجع: مجلة «المنظوم»، الجزء، ١٩، ٢٠، من ١٥ / ٨ / ١٨٩٣ إلى ١ / ٩ / ١٨٩٣، ص٢٩٢.
١٣  وهي مجلة نسائية علمية أدبية فكاهية، صدرت في الفترة ما بين ٣١ / ١ / ١٨٩٨، ٢٩ / ٢ / ١٩٠٨. ومن أهم كتَّابها ألكسندرة أفرينوه صاحبة المجلة، والشعراء: نجيب حداد، أحمد الكاشف، خليل مطران، أحمد محرم. وللمزيد عن هذه المجلة وصاحبتها، راجع: أحمد حسين الطماوي، فصول من الصحافة الأدبية، دار الفرجاني، ١٩٨٩، ص١٠١–١٥٨.
١٤  واسم «إسكندرة» هو اسم صاحبة مجلة «أنيس الجليس»، واسمها الكامل ألكسندرة أفرينوه (١٨٧٢–١٩٢٧). وهي إحدى رائدات النهضة النسائية في مصر، وأيضًا رائدة في مجال الصحافة النسائية في الشرق. كما كانت على صلة وثيقة بالملوك والسلاطين والأمراء والسفراء ورؤساء الدول العظمى. ولها غير أنيس الجليس مجلة «اللوتس» وكانت تصدر باللغة الفرنسية منذ عام ١٩٠٠. وبعد توقف «أنيس الجليس» و«اللوتس»، أصدرت جريدة «الإقدام» وهي جريدة يومية سياسية، صدر أول أعدادها في ٢٩ / ٤ / ١٩١٢. وللمزيد عن هذه الرائدة ومجلتيها وجريدتها، راجع: أحمد حسين الطماوي، مجلة «الهلال»، يولية ١٩٨٥، وأيضًا فصول من الصحافة الأدبية، السابق، نفس الصفحات.
١٥  راجع: مجلة «أنيس الجليس»، السنة الأولى، الجزء الثاني، ٢٨ / ٢ / ١٨٩٨، ص٦١.
١٦  راجع: أحمد حسين الطماوي، «الديوان المجهول لخليل مطران»، دار الفرجاني، ١٩٨٥، ص٢٢٧–٢٣٤.
١٧  راجع: مجلة «اللطائف المصورة»، السابق، ص٦.
١٨  راجع: محمود رمزي نظيم، السابق، ص٥.
١٩  راجع: جورج طنوس، «الشيخ سلامة حجازي، وما قيل في تأبينه»، مطبعة الرغائب، ١٩١٧، ص١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤