في المقالة

رابع فن أدبي مارسه إسماعيل عاصم، كان فن كتابة المقالات الأدبية، عن طريق المناظرة، وقد وجدنا إحدى هذه المناظرات منشورة بجريدة «الظاهر» عام ١٩٠٤١ وهي بين إسماعيل عاصم ومحمد أبو شادي٢ مدير ورئيس سياسة جريدة «الظاهر»، ويدور موضوعها حول: فقدان الخطابة من مصر.

ففي ١٨ / ٦ / ١٩٠٤ كتب أبو شادي مقالًا تصدَّر الصفحة الأولى من جريدة «الظاهر»، تحت عنوان: فقدان الخطابة من مصر، وتحدَّث فيه عن أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر بعد القضاء على أحمد عرابي، ووصف الشعور الوطني عند المصريين إزاء هذا الاحتلال الأجنبي في ذلك الوقت، وتمنَّى عودة هذا الماضي الجميل قائلًا:

«فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتُعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثِّلنا في مصافِّ الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال.»

ويؤكد هذا المعنى بتذكره لمواقف الرجال والطلبة في الماضي متحسِّرًا عليها، آملًا في دوامها قائلًا:

«فلو دامت تلك النهضة إلى الآن، ولو بقي رجالها على ما كانوا فيه من الحمية والتلهب غيرة وحماسًا، لكنا الآن في غير هذا المركز الحرج الذي تتمالأ علينا فيه دول الغرب ونحن صامتون.»

ثم يتطرق بعد هذه المقدمات إلى الموضوع الأساسي قائلًا:

«كنا نعهد في تلك الآونة أن مصر ملأى بالخطباء المصقعين الذين تتدفق أشداقهم بسيل من البلاغة وترتطم شفاههم في زبد من الحماس. فأين ذهبوا وماذا فعل الدهر بمواهبهم؟ وهل فُجعت مصر بهم أجمعين أم ضرب بينهم الخمول يجرانه فساكنوه وعاشوا تحت ظلاله هامدين؟ لمَ لا نسمع اليوم من جلبتهم اللذيذة ورنَّات أصواتهم العذبة الرخيمة إلا نغمة واحدة تتردد ما بين كل آونة وأخرى على فم خطيبنا الفرد سعادة مصطفى كامل باشا؟ أليس من العار على مصر — وقد امتلأت أصقاعها بأكثر من عشرة ملايين من الأنفس — ألا يكون لها من نابغي أبنائها سوى خطيب واحد؟!»

وحول هذا المعنى من فقدان الخطابة في مصر، وعدم وجود خطباء غير مصطفى كامل، استرسل الكاتب بإسهاب كبير. كما تطرق إلى معنى الخطابة وفائدتها، وضرب أمثلة من خطباء التاريخ الروماني واليوناني، وأيضًا من التاريخ العربي مثل هانئ بن مسعود … إلخ، ويتخذ من هذه الأمثلة نبراسًا لخطباء مصر قائلًا في ختام المقال:

«فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤًا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه. فإذا اجتمع لدينا عدد عديد من الخطباء المسمعين الذين يمكنهم أن يخطبوا في البلاد الأوروبية مبينين حالة مصر وفعال المحتلين بها، ويتهيأ لهم أن يسوقوا هذا الشعب الجامد بعصا التأثير البالغ إلى مواقف النشاط والإقدام والعمل، انتظرنا أن يكون لنا مستقبل سعيد.»

وطالما الموضوع تطرق إلى الخطابة والخطباء، واتهام صاحب الجريدة خطباء مصر بالتقاعس، بل وبالانقراض، حتى لم يبقَ منهم غير واحد فقط هو مصطفى كامل، فكان من الضروري الردُّ عليه من قبل أحد الخطباء، واستطاع إسماعيل عاصم أن يُرسل الردَّ على ما سبق كخطيب له باع طويل في مجال الخطابة، سواء عن طريق مقدرته الفنية في هذا المجال — التي رأيناها سابقًا — أو عن طريق عمله في المحاماة، التي تعتمد أولًا وأخيرًا على الأسلوب الخطابي، وعاصم يمتلك الميزتين، وتم نشر الردِّ بالجريدة — وفي نفس المكان وبنفس العنوان — في ٢٢ / ٦ / ١٩٠٤.

وبعد أن عرض عاصم ملخصًا لفحوى المقال السابق، أبدى عدة ملاحظات عليه، من أهمها قوله: «إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تُرَ فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد والهيئة الحاكمة ينادون بالجنسية المصرية ويمقتون من لم يكن على شاكلتهم، وأخذوا يجبرون الأهالي على مقاومة السلطة الخديوية ومناوأة الحكومة فتارة ينادون بعزل الخديوي، وطورًا يرمونه بالمروق من الدين مع ما كان عليه — رحمه الله — من الصلاح والتقوى وحب الخير لبلاده، ولم يكن فيه عيب غير عدم الاستبداد والطمع اللذين كانا في عهد غيره، حتى تجرأت الأسافل والأوغاد على تلك الأفعال المشئومة التي كانت السبب الوحيد في احتلال البلاد بطلب أميرها وأعاظم رجاله. فأين كانت النهضة الوطنية وقتها … أم حسبنا أن ما قام به أولئك العصاة يُعد في عُرف الشرع والقانون نهضة وطنية … حاشا لله.»٣
ثم تطرَّق عاصم إلى تفنيد بعض أقوال أبي شادي، عندما تحسَّر على ماضي الجمعيات الأدبية والعلمية والأحزاب السياسية، قائلًا: «إن الجمعيات العلمية التي ذكرتم عنها أنها كانت تنعقد منذ عشرة أعوام، فإنها كانت مركَّبة من بعض تلامذة المدارس وبعض الأساتذة، ولم يكن فيها غير إلقاء خطب أدبية ومحاورات علمية، وكانت قوانينها تحرِّم عليهم الخوض في الديانة والسياسة … وأما الأحزاب السياسية والكتَّاب والخطباء السياسيين الذين قلتم بوجودهم فإنهم لم يكن لهم حقيقة في مصر لا منذ عشرة سنين ولا أكثر من ذلك؛ لأننا ما سمعنا أبدًا لغاية الآن بوجود أحزاب سياسية أو خطباء سياسيين في ديارنا، حتى ولا وجود كتاب سياسيين اللهم إلا في هذه السنين الأخيرة، وهم أصحاب الجرائد.» وأخيرًا تحدَّث عن الخطيب الأوحد — ويقصد به الزعيم مصطفى كامل٤ — وتعجَّبَ من حماس أبي شادي له، فأبانَ أن الخطيب لم يهاجم الاحتلال في مصر، بل هاجمهم في فرنسا، التي قامت بالاتفاق مع الإنجليز، وأصبحت خطبُ الخطيب لا تتعدى الكلمات الجوفاء المتناثرة في الهواء.

وبعد نهاية ردِّ إسماعيل عاصم، كتب أبو شادي تعقيبًا عليه — في نفس الصفحة والعدد — بدأه بالهجوم الشرس على اعتبار أن عاصم لم يُمعن النظر فيما كتب، كما اتسم رده بالاندفاع والتسرع وعدم الفهم. ثم استفاض في توضيح هذه الأمور والإتيان بالأدلة — البعيدة والغير مقنعة — مثل الحديث عن الجمعيات السياسية الموجودة في الماضي — وهي في الأصل جمعيات علمية أدبية — أمثال الجمعية الخيرية الإسلامية، والقبطية، ومصر الفتاة، والمقاصد الخيرية. ثم شحذ قلمه للدفاع عن مصطفى كامل بصورة مسهبة للغاية.

وأخيرًا وجَّه إلى إسماعيل عاصم كلمات قاسية، متهمًا إياه بالانحياز إلى الإنجليز قائلًا:

«لمن العار على مثل حضرته — وقد كان يملأ شدقيه باسم الوطنية فيما سلف — أن يدعونا ويدعو أبناء وطنه كلهم إلى الخضوع لسلطة المحتلين، والرضوخ لأحكامهم والاستظلال بظلالهم. فإن مثل هذه الأقوال لا يصح أن تبدر إلا من شاب لم يعرك الحوادث ويصابر الأيام، ويبلُ الدهر حلوه ومره، ولكن ما عسانا نقول لمن سعى من مصر إلى لندرة [لندن]؛ ليرى الإنكليز مقدار محبته لهم فعاد محشوًّا بالميل والإخلاص إليهم٥ … وليكن هذا الذي كتبناه كافيًا للتعقيب على رسالة الزميل الفاضل ونعود إليها فنوفيها قسطها بما هو أوضح وأشرح، سواء وفَّى بوعده من البيان أو لم يوفِّ والسلام.»

ولعل أبا شادي شعر بأنه لم يستطع الردَّ بصورة مقنعة في تعقيبه السابق، فأفرد مقالًا آخر للردِّ على عاصم نشره في ٢٥ / ٦ / ١٩٠٤ تحت عنوان: ردٌّ على انتقاد. وبدأه بالهجوم على عاصم أيضًا، ناعتًا إياه بالسد والصخرة التي تعترض الفلاح عند حرث أرضه؛ لذلك لزم اقتلاعها من مكانها. ثم أسهب كعادته في الحديث عن مصطفى كامل بصورة متكررة، ومعادة لما قاله سابقًا. ثم تطرق مرة أخرى إلى مقال عاصم، وقام بتفنيده بصورة جاءت أقل بكثير من تعقيبه السابق؛ حيث خرج عن موضوع المناظرة في أكثر الأحيان، وأخيرًا يختتم رده بالحديث عن مصطفى كامل قائلًا:

«يجب علينا وعلى أمثالنا أن نكون في مقدمة الذين يخدمون مصر بخطبهم، ولسنا فيما كتبنا عن مصطفى كامل باشا إلا مؤيدين إنسانًا قام بأمر خطير، وكذلك نفعل مع كل مصري يخدم وطنه بنصح وإخلاص، والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.»

وفي ٢٩ / ٦ / ١٩٠٤ قام إسماعيل عاصم بالرد على تعقيب وردِّ أبي شادي، بمقال تحت نفس العنوان الأول: فقدان الخطابة من مصر. بدأه بإلفات نظر أبي شادي إلى توخي آداب المناظرة، وعدم التعصب لما ينشره. كما أبان له أن ردَّه يفتقد إلى الدليل، ونسب إلى شخصه أقوالًا لم يقلها، واختتم هذا الجزء بقوله:

«فأردت أن أبيِّن لكم في هذه العجالة الأدلة على أقوالكم من نفس مقالتكم، راجيًا منكم إقامة دليل واحد على ما نسبتموني إليه … فأما مقالة حضرتكم فإنها تشتمل على ثلاثة أمور: الأول منها أن مصر عقب الاحتلال كانت زاهرة بالنهضة الوطنية، والثاني أن مصر منذ عشرة أعوام كانت تُعقد فيها الجمعيات العلمية والأحزاب السياسية والخطب المنبهة للهمم ثم خفتت تلك الأصوات، والثالث أنه لا يوجد من نابغي مصر الآن غير واحد يخطب.»

ثم بدأ عاصم بتفنيد هذه الأمور متبعًا الأسلوب العلمي في المناظرة؛ حيث يأتي بالأدلة على ما يقول من نفس أقوال أبي شادي نفسه، وفي كل دليل يأتي برقم العدد والعمود والسطر، ومثال على ذلك قوله:

«قلتم إن جمعية مصر الفتاة وضعت لائحة بحثت فيها عن ترقية شئون مصر وقدَّمتها للخديوي الأسبق فقبِلها وقرَّر العمل بها (راجع ع٤ س٤٢)، والجواب على ذلك أن الخديوي الأسبق لو علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض وبكل كاتب أو خطيب يفوه بكلمة مما تكتبونه اليوم.»

كما نوَّه مرة أخرى على آداب المناظرة، قائلًا:

«إن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة.»

وكان تعقيب الجريدة على ما سبق بالآتي:

«الظاهر: ننشر هذه الرسالة الآن، ونرجئ الرد عليها إلى غد؛ نظرًا لضيق المقام.»

وفي ٣٠ / ٦ / ١٩٠٤ جاءت آخر مقالات المناظرة، تحت عنوان: انتقاد على رد، وبدأها أبو شادي كعادته بالهجوم اللاذع على إسماعيل عاصم، فوصف مناظرته بأنها غير محكمة، وعباراته غير فصيحة، وأدلته غير واضحة، بل إن مقاله السابق لا يستحق الاعتناء والحفاوة. ثم بدأ بالحديث عن زعم عاصم بأن في مصر خطباء غير الخطيب الأوحد مصطفى كامل، وردَّ على ذلك بصورة سريعة مشتَّتة، ابتعد فيها عن الموضوع الأصلي، وهكذا فعل في باقي الأمور الأخرى التي تعرَّض لها.

ومهما يكن من أمر هذه المناظرة ورأي المناظرين فيما تحدثا به من أمور، إلا أنها تعكس لنا لونًا أدبيًّا آخر برع فيه إسماعيل عاصم كبراعته في الألوان الأدبية الأخرى، كالشعر والخطابة والمقامة. كما تُبيِّن لنا هذه المناظرة قدرة عاصم في المحاورة بالأدلة والبراهين وسهولة ألفاظه وحكمة منطقه، مما يُفصح لنا عن المخزون الثقافي والتاريخي لهذا الرائد، الذي ناظر أحد أعلام الصحافة في ذلك الوقت.

١  راجع: جريدة «الظاهر»، أعداد ١٧٦، ١٨٠، ١٨٢، ١٨٦، ١٨٧ من ١٨ إلى ٣٠ / ٦ / ١٩٠٤.
٢  وُلد عام ١٨٦٤ وعمل بالمحاماة والصحافة، ويُعد من أبرز الخطباء. وقد تلقى علومه بالأزهر، وأصدر جريدة «الإمام» الأدبية الأسبوعية عام ١٩٠٥، بعد جريدة الظاهر. كما رأس تحرير جريدة «المؤيد» فترة من الزمن. وكان آخر نقيب للمحامين في عهدها الأول. كما انتُخب عضوًا في مجلس النواب. وبسبب آرائه الوطنية، تم اعتقاله وسجنه. ومن مؤلفاته «الإحكام في الأحكام» و«الشريعة والقانون»، ولم ينشرهما فضاعا بعد وفاته التي كانت في ٣٠ / ٦ / ١٩٢٥. راجع: الزركلى، «الأعلام»، المجلد السابع، ص١٠٢، وأيضًا «ديوان حافظ إبراهيم»، الجزء الثاني، المطبعة الأميرية، ١٩٥٢، ص٢١٣، ٢١٤.
٣  ويجب علينا في وقتنا الحاضر ألا نتهم إسماعيل عاصم بالخيانة، أو عدم الوطنية. فهذا الرأي عن أحمد عرابي كان منتشرًا في ذلك الوقت. وكان رأي الحزب الوطني، وزعيمه مصطفى كامل، سيئًا في عرابي، وكان بعض الشعراء الكبار من أمثال شوقي ومطران يهجون عرابيًّا، وكانت جهات عديدة تعتقد أن عرابيًّا هو سبب الاحتلال الإنجليزي، ثم أخذ هذا المفهوم عن الثورة العرابية وزعيمها يتغير شيئًا فشيئًا بمرور الوقت.
٤  ونلاحظ أن عاصم في جميع المقالات، كان لا يذكره باسمه، بل بلقب الخطيب، استهزاءً به. وأيضًا يجب علينا ألا نتحامل على عاصم في هذا التصرف. فمصطفى كامل في هذا العام لم يكن هو مصطفى كامل الزعيم المشهور، بل كان أحد الوطنيين مثله مثل غيره من الوطنيين. وأيضًا يجب أن نلاحظ أن إسماعيل عاصم كان ينعته في مقالاته أيضًا بالابن؛ لفارق السن بينهما، رغم اشتراكهما في فن الخطابة الوطنية. ومن المؤكَّد أن تحامُلَ عاصم على مصطفى كامل، كان سببه حماس أبي شادي لمصطفى كامل كخطيب، وعدم ذكر عاصم من الخطباء، وسيتضح لنا هذا في موضع نشر المقالات بصورة كاملة.
٥  وأول مَن هاجم إسماعيل عاصم، ضاربًا على هذا الوتر، حلمي صادق صاحب جريدة «الأفكار». راجع الجريدة: أعداد ٣، ٥، ٧ في ٢٦ / ٨ / ١٩٠٠، ٦ / ٩ / ١٩٠٠، ١٤ / ٩ / ١٩٠٠ على الترتيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤