الفصل الحادي عشر

الفلسفة اليونانية

في العصور الأولى للمسيح ظهر في الإسكندرية المذهب المعروف «بالأفلاطونية الحديثة»، وكان لهذا المذهب أثر كبير في فلاسفة المسلمين وعلماء الكلام وخاصة المعتزلة والصوفية.

مؤسس هذه المذهب «أَمُنْيُوسْ سكَّاس» كان أول أمره حمالًا، ثم صار معلم فلسفة في الإسكندرية، وقد وُلد من أبوين نصرانين، ولكنه صَبأ إلى الدين اليوناني القديم، وهو أول المعلمين الإسكندريين الذين حاولوا التوفيق بين تعاليم أفلاطون وأرسطو، ولم يُؤثر عنه أي كتاب، ولذلك كانت معلوماتنا عن تعاليمه قليلة، ومات سنة ٢٤٢ م، ويُعد تلميذه «أفلُوطين» منظم هذا المذهب وأكبر مؤيديه والمدافعين عنه، بل ربما عُدَّ هو مؤسسه، وقد ولد سنة ٢٠٥م في ليكوبوليس Licopolis (أسيوط) وتعلم في الإسكندرية ولازم أمُنْيُوسْ نحو إحدى عشرة سنة، وقد التحق بحملة سارت لغزو فارس، لتعرف علوم الفرس والهنود، وسافر إلى رومة سنة ٢٤٥ م، وأسس بها مدرسة للفلسفة ومات سنة ٢٧٠ م، والعرب لم تعرف كثيرًا عن أفلوطين هذا، ولكن تعرف مدرسته وتطلق عليها «مذهب الإسكندرانيين»، ويطلق عليه الشهرستاني «الشيخ اليوناني»، وقد نقل إليهم كثير من فلسفته معزوة خطأ إلى غيره، وقد ألف أفلوطين كتبًا كثيرة حُفظت عنه، ويطلق عليها اسم (التاسوعات) «إنَّيد Enneads»؛ وتفرع مذهبه إلى فروع كثيرة، فكان منه فرع في الإسكندرية، وفرع في الشام، وفرع في أثينا، وله آراء في الطبيعة لا تهمنا الآن، وله آراء في الإلهيات نذكر طرفًا منها:

يقول: إن هذا العالم كثير الظواهر، دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه، بل لا بد لوجوده من علة سابقة عليه هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم واحد غير متعدد، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار، لا يحده حد، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه، فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يحلَّ فيما خلق، بل ظل قائمًا بنفسه مسيطرًا على خلقه، ليس ذاتًا، وليس صفة، هو الإرادة المطلقة، لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له.

كيف نشأ عنه العالم؟ وكيف صدر هذا العالم المركب المتغير من البسيط الذي لا يلحقه تغير؟ كان هذا العالم غير موجود ثم وُجد، فهل يمكن أن يصدر عن الخالق ذلك من غير أن يحصل تغير في ذاته؟ كيف يصدر هذا العالم الفاني من الله غير الفاني؟ هل صدر هذا العالم من الصانع عن روية وتفكير أو من غير روية؟ ولِمَ وُجد الشر في العالم؟ ما النفس وأين كانت قبل حلولها بالبدن وأين تكون بعد فراقه؟

هذه المسائل وأشباهها كانت من أهم المسائل التي شغلت أفلوطين ومدرسته، وثار حولها الجدل وذهبوا فيها مذاهب يخرج بنا شرحها عما رسمنا، وإنما أشرنا إليها لنُبين فيم كان هذا العالم العلمي يبحث، ولنستطيع بعدُ أن نعرف أثرهم.

وكان هذا المذهب الإسكندري في أول أمره يميل إلى البحث والتفكير العقلي المحض، ثم أخذ يناصر الوثنية اليونانية، ويقاوم النصرانية، ثم انحدر إلى أن اقتصر على الشغف بالاطلاع على المغيبات، وخوارق العادات، والاعتداد بالسحر، والتصرف بالأسماء والطلاسم، والكهانة والتنجيم والدعوات والعزائم، ونحو ذلك.

ولما انتصرت النصرانية وجاء «جوستنيان» أغلق مدارس الفلسفة في أثينا، واضطهد الفلاسفة، فمنهم من فرَّ (ومن هؤلاء سبعة سافروا إلى فارس فاستقبلهم كسرى أنوشِرْوَان، واحتفى بهم وأنزلهم منزلًا كريمًا، وجعل من شروط الصلح مع حوستنيان أن يُعنَى بهم، وكان هؤلاء السبعة من فلاسفة الأفلاطونية الحديثة)؛ ومنهم من تنصر، وبعض المتنصرين أخرجوا كتبًا في الأفلاطونية الحديثة مصبوغة بالصبغة النصرانية، ككتاب دَيُونِيسُوس، ألفه أفلاطوني مجهول — في منتصف القرن السادس للمسيح — باسم ديونيسوس، ادعى أنه من تلاميذ بولس الحَوَاري، وقد شرح أسرار الربوبية ودرجات عالم الملكوت والكنيسة السماوية على المذهب الأفلاطوني، فصار من ذلك الوقت عمدة للنصارى في ذلك١، ثم دخل هذا المذهب في الإسلام عن طريق فريق من المعتزلة والحكماء والصوفية، ومنهم أخذت جل أفكارهم جماعة «إخوان الصفا» وغيرهم.
السريانيون: قام السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية — وخاصة مذهب الأفلاطونية الحديثة — في العراق وما حوله، وأخذوا ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية، وهي إحدى اللغات الآرامية — انتشرت فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها — وكان من أهم مراكزها الرُّها (Edessa) ونَصِيبين، وفوق هذا كانت هي لغة الأدب والعلم لجميع كتَّاب النصرانية في أنطاكية وما حولها، وللنصارى الخاضعين لدولة الفرس، وأنشئت في هذه الأصقاع مدارس دينية متعددة كانت تعلم فيها اللغة السريانية واليونانية جميعًا في الرها وفي نَصيبين وفي جُنْدَيْسابور.

بل كانت اللغة السريانية أيضًا لغة الوثنية وآدابها؛ وأشهر مراكز الوثنية السريانية مدينة حَرَّان (في جنوبي الرُّها)، وقد ظلت هذه المدينة مركزًا للديانة الوثنية والثقافة اليونانية إلى ما بعد الإسلام؛ فكانوا بعد الفتح الإسلامي يدرسون الرياضة والفلك والفلسفة على المذهب الأفلاطوني، وهم الذين تسموا — بعد ذلك — في عصر المأمون وبعده بالصابئين؛ وكان منهم كثيرون من المؤلفين، ومن تولوا الترجمة بعدُ.

•••

وقد عاشت الآداب السريانية من القرن الثالث الميلادي إلى القرن الرابع عشر؛ ولكن حياتها بعد الفتح الإسلامي كانت حياة ضعيفة لغزو اللغة العربية لها وغلبتها.

وبقي لنا من الأدب السرياني مجموعة في مختلف أنواع الكتابة، ولكن الذي بقي منها إنما هو من المدرسة النصرانية لا الوثنية؛ فهناك كتب في الصلوات والأدعية الدينية والأقاصيص التاريخية، والتاريخ العام، والفلسفة، والعلوم، وكلها مصبوغ بالصبغة الدينية؛ لأن أكثر الكتَّاب كانوا قسيسين ورهبانًا، وهناك قليل من الآثار الأدبية نظمًا ونثرًا.

وخدم السريانيون العلم والفلسفة بما ترجموا أكثر مما ألفوا، فلم يبتكروا كثيرًا.

وحفظت اللغة السريانية بعض الكتب اليونانية التي فُقد أصلها، وكانت ترجمتهم لكتب الفلسفة اليونانية هي الأساس الذي اعتمد عليه العرب والمسلمون أول أمرهم، وقد كانت الترجمة السريانية في عهدها الأول ترجمة حرفية تقريبًا، ثم تحرر الكتَّاب المتأخرون من حرفية الترجمة.

وكان هؤلاء السريانيون ينقلون العلوم اليونانية بدقة وأمانة فيما لم يمس الدين، كالمنطق والطبيعة والطب والرياضة، أما الإلهيات ونحوها فكانت تُعدَّل بما يتفق والمسيحية، حتى لقد حوَّلوا أفلاطون في كتابتهم إلى راهب شرقي، فقالوا: إنه بنى لنفسه معبدًا في برية بعيدًا عن الناس، وظل يتعبد فيه سنين؛ وهذه هي الطريقة التي سلكها المسلمون بعدُ، فقد أغفلوا من الإلهيات كثيرًا مما يُخالف تعاليم الإسلام، ولم يقتصر السريانيون على الترجمة من اليونان، بل ترجموا كذلك من الفهلوية فترجموا منها تاريخ الإسكندر، نقله الفرس عن اليونانية، ثم نقله السريانيون من الفهلوية وكذلك ترجموا كليلة ودمنة إلى السريانية في القرن السادس الميلادي، وقصة السندباد في القرن الثامن.

ومن أشهر رجال الدين والأدب من السريانيين الذين يعرفهم المسلمون بَاردِيصان أو ابن ديصان Bardaisan (مات سنة ٢٢٢م)، وديصان اسم نهر نُسب إليه، وله مذهب ديني مَزَج فيه الثَّنْوية بالنصرانية كما فعل ماني، وكان يُنكر بعث الأجسام، ويقول: إن جسد المسيح لم يكن جسمًا حقيقيًّا بل صورة شبِّهت للناس أرسلها الله تعالى. وله تعاليم كثيرة بقيت بعد ظهور الإسلام، ومنها استمد الرافضة بعض أقوالهم، وانتسب إليه بعضهم كأبي شاكر الديصاني وأخذ علماءُ الكلام في الرد عليهم، وهم يكتبون عن أتباعه تحت اسم «الديصانية»،

ومن أشهرهم أيضًا سِرْجيس الرَّسْعَنِي من مدينة «رأس عين»، وقد مات سنة ٥٣٦ م، وهو من أشهر المتأدبين بالآداب اليونانية وترجم منها إلى السريانية كتبًا كثيرة بعضها محفوظ إلى عهدنا في المتحف البريطاني، منها رسائل لأرسطو ولِفُورْفُورْيُوس ولجالينوس، وألف رسالة في المنطق ليست كاملة تبحث في المَقُولات العشر، والإيجاب والسَّلب، والجنس والفصل … إلخ، وألف رسالة أخرى في تأثير القمر وفي حركة الشمس، وقد انتشرت كتبه بين اليعاقبة والنساطرة وعدُّوه عمدتهم في المنطق والطب.

وألف غير سرجيس كثيرون — في هذا العصر — في النفس والقضاء والقدر والنحو، وفي أن الإنسان عالَم صغير وفي تركب الإنسان من جسم وروح … إلخ.

ولما فتح المسلمون هذه البلاد في القرن السابع الميلادي أسلم بعض السريانيين، وظل بعضهم محافظًا على دينه يدفع الجزية، ولكن الآداب السريانية على الجملة أخذت في الضعف، ومع ذلك فقد نبغ كثير منهم في العصر الأموي والعباسي، وظلت المدارس السرياينة مفتوحة في عهد الدولة الأموية كما كانت، ولم يكن الخلفاء والأمراء يتدخلون في شئونهم إلا عندما يحتدم النزاع الديني بينهم فيلجأ بعضهم إلى الولاة يستنصرهم.

واشتهر من هؤلاء في العصر الأموي يعقوب الرُّهَاوِي (٦٤٠–٧٠٨م تقريبًا) وقد ترجم كثيرًا من كتاب الإلهيات اليونانية، وليعقوب هذا أثرٌ كبير الدلالة، فقد أُثِرَ عنه أنه أفتى رجالَ الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين التعليم الراقي، وهذه الفتوى تدل من غير شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة عليهم، وتردد النصارى أولًا في تعليمهم.

ولما جاء دور نقل الفلسفة والعلوم إلى العربية في العهد العباسي، كان لهؤلاء السريانيين الفضل الأكبر في الترجمة، أمثال حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وابن أخته حبيش، مما نعرض إليه في موضعه إن شاء الله.

الآن نستطيع أن نفهم أن الثقافة اليونانية كانت منتشرة في العراق والشام والإسكندرية، وأن المدارس انتشرت فيها على يد السريانيين، وأن هذه المدارس وهذه التعاليم أصبحت تحت حكم المسلمين، وامتزج هؤلاء المحكومون بالحاكمين على الشرح الذي شرحته، فكان من نتائج هذا أن تشعَّت هذه التعاليم في المَلَكة الإسلامية، وتزاوجت العقول المختلفة، كما تزاوجت الأجناس المختلفة، فنتج من هذا التزاوج الثقافة العربية أو الإسلامية، ونتجت المذاهب الدينية والفلسفة الإسلامية والحركات العلمية والفنون الأدبية.

والعرب أنفسهم اتصلوا بهذه الثقافات من قديم؛ فالقفطي في كتابه «أخبار الحكماء» يحدثنا «أن الحارث بن كلَدَة كان من ثقيف من أهل الطائف، رحل إلى أرض فارس، وأخذ الطب عن أهل تلك الديار من أهل جنْدَيْسابور وغيرها في الجاهلية قبل الإسلام، وجاد في هذه الصناعة، وطبَّ بأرض فارس، وعالج، وشهد أهل بلد فارس — ممن رآه — بعلمه، واشتهر طبه بين العرب، وكان رسول الله يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيسأله عن علته، وسُمَـيَّة مولاته هي أم زِياد بن أبيه».

وابن أبي أصَيْبِعَة يقول في كتابه «طبقات الأطباء»: إن النضر بن الحارث بن كَلَدَةَ ابن خالة النبي سافر البلاد كأبيه واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه أيضًا ما كان يعلمه من الطب وغيره، وكان النضر يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي ، واعتقد النضر أنه بمعلوماته وفضائله يستطيع أن يُقاوم النبوة، «وأين الثريا من الثرى».

وبعد الإسلام استمر هذا الاتصال، فهم يحدثوننا أن خالد بن يزيد بن معاوية «كان من أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب، وكان بصيرًا بهذين العلمين متقنًا لهما، وله رسائل دالة على معرفته وبراعته، وأخذ الصنعة عن رجل من الرهبان يقال له مَرْيانُسْ المذكور، وصورة تعلمه منه، والرموز التي أشار إليها»٢ ويقول ابن النديم: «إن خالدًا عُني بإخراج كتب القدماء في الصنعة وكان خطيبًا شاعرًا فصيحًا حازمًا، وهو أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وقد رأيت من كتبه كتاب الحرارات، كتاب الكبير، كتاب الصحيفة الصغير، كتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة»٣ ومات خالد سنة ٨٥هـ أو ٧٠٤م.

من هذا جميعه نرى أن الثقافة اليونانية — كالثقافة الفارسية — كانت مبثوثة بين المسلمين في البلدان المختلفة، وكان منالها منهم قريبًا، وأنهم أخذوا يستفيدون منها ويتعلمونها على المثقفين بها — ولو لم يكونوا على دينهم — كما تدلنا عليه فتوى يعقوب الرهاوي.

أضف إلى هذا أنه في ذلك العصر، وُجد الاحتكاك الديني بين المسلمين والنصارى، فأخذوا يتحادثون ويتحاجون في العقائد؛ ويدلنا على ذلك أن أحد المؤلفين — في هذا العصر — واسمه يحيى الدمشقي ألف رسالة على هذا النمط: «إذا قال لك العربي كذا فأجبه بكذا».

إذًا فمن الخطأ البيِّن الفكرة الشائعة أن العرب والمسلمين جميعًا كانوا بمعزل عما حولهم من الثقافات والأديان إلى العصر العباسي، وأن آراءهم وآدابهم وعلومهم نبتت وحدها من عقول عربية، من غير أن تُغَذَّى بغيرها؛ فقد رأينا أنهم — حتى في جاهليتهم — لم يكونوا بمعزل، وأنهم كانوا بعد الإسلام أكثر اتصالًا، ولا يقدح هذا في أية أمة، فالعلم ملك شائع، ومرفق مباح يغترف منه الناس جميعًا، وليس له حدود فاصلة كالتي ترسمها السياسة الدولية، وإنما الذي يقدح في الأمة حقًّا أن تغمض عيونها، وتسد آذانها عما حولها من نظريات وأفكار، أو أن يدفعها التعصب الأعمى أن تنسب لنفسها ما ليس لها، وتعزو إليها خلق ما لم تخلق، وابتداع ما لم تبتدع.

١  قد طبع في برلين كتاب اسمه «أرثولوجيا أرسططاليس» سنة ١٨٨٢ وهو في الإلهيات، تفسير فورفوريوس الصوري، نقله إلى العربية عبد المسيح الحمصي بن الناعمي وأصلحه يعقوب الكندي. والحق أنه ليس على مذهب أرسطو وإنما هو على مذهب أفلوطين، فإن فورفوريوس هذا تلميذ أفلوطين وتوفي سنة ٣٠٤ وألف هذا الكتاب على مذهبه.
٢  ابن خلكان ١: ٢١١.
٣  فهرست ابن النديم ص ٢٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤