الفصل الثالث عشر

وصف الحركة العلمية إجمالًا

نستعمل هنا الحركة العلمية بأوسع معانيها، ونعني بها كل ما عُني المسلمون بالتفكير فيه تفكيرًا منظمًا نوعًا ما، من تشريع وتفسير وحديث وتاريخِ وسِيَر، وما إلى ذلك، ولسنا نستثني إلا حركة العقائد الدينية، وسنفرد لها بابًا خاصًّا؛ والحركة الأدبية وقد كُتب فيها جزء خاص، والآن ننظر نظرة عامة في الحركة العلمية من عهد الإسلام إلى سقوط الدولة الأموية.

الأمية: تركنا العرب في الجاهلية، وليس لهم علم ولا فلسفة، ولم يكن من بينهم من يصح أن يُسمى عالمًا إلا قليل، وعلى تجوز في إطلاق كلمة عالم، كالذي حكينا عن الحارث بن كَلَدَة والنَّضْرِ بن الحارث.

وقد كان الجهل فاشيًا فيهم، والأميَّة شائعة بينهم — خصوصًا في الأقطار البدوية — لما قدمنا من أن الكتابة والعلم إنما يكثران حيث يكثر العمران، ويقول ابن خلدون: «إن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وهؤلاء تعلموا من الحميريين».

وسواء صح هذا أو لم يصح، فالحجازيون والمصريون عمومًا كانوا أشد بداوة وأكثر أمية، حتى يروي لنا البلاذُري في كتابه «فتوح البلدان»: «أن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجَرَّاح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حُذَيْفة بن عُتْبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلَمة بن عبد الأسد المخزومي، وأَبَان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبد الله بن سعيد بن أبي سَرْحٍ العامري، وحُوَيْطِب بن عبد العُزَّى العامري، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وجُهَيْم بن الصَّلْت، ومن حلفاء قريش العلاء بن الْحَضْرَمي»١ وقليل من نسائهم كنَّ يكتبن، كحفصة وأم كلثوم من زوجات النبي والشّفاء بنت عبد الله العدَوية، وكانت عائشة أم المؤمنين تقرأ المصحف ولا تكتب٢ وكذلك أم سلَمة، فإذا كانت قريش — وشأنها في الحجاز ما بينا قبلُ من تقدمها في الشئون التجارية — ليس فيها إلا سبعة عشر كاتبًا، كان الكاتبون في غيرها من القبائل المضرِّية أندر، ويروي البلاذري أيضًا «أن الكِتاب (يريد الكتابة) بالعربية، في الأوْس والخزرج كان قليلًا، وكان بعض اليهود قد علم كِتَاب العربية وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوْس والخزرج عدة يكتبون، وقد عدهم فكانوا أحد عشر»٣ ولندرة الكتابة كانوا يُلقِّبون مَنْ جمع بين معرفة الكتابة والرمي والعوم «الكامِل»، فلقبوا بهذا اللقب سعد بن عُبادة، وأسْيَد بن حضَيْر وعبد الله بن أُبيّ٤، وقد رأيت فيما قبلُ أنه في الجاهلية لُقب به سُوَيد بن الصامت.
فلما جاء الإسلام استكتب رسول الله بعض هؤلاء الذين يعرفون الكتابة لكتابة ما ينزل من القرآن، فكان أول مَن كتب له مَقْدَمَه المدينة أُبيُّ بن كعب الأنصاري، فكان أُبيّ إذا لم يحضر دعا رسول الله زيد بن ثابت الأنصاري، فكتب له؛ فكان أُبيّ وزيد يكتبان الوحي بين يديه وكُتُبه إلى من يكاتب من الناس ومن يقْطع وغير ذلك، وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد … إلخ٥، ثم كتب له عثمان بن عفان، وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنَة، وأبَان بن سعيد، وخالد بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، ويروي الواقدي أن حنظلة بن الربيع كتب بين يدي رسول الله مرة فسُمي حنظلة الكاتب.

وحتى هؤلاء الذين كانوا يكتبون الوحي لم يكونوا مهرة في الكتابة، ولا كتابتهم سائرة على نمط واحد، ولا خاضعة لقوانين الإملاء، فكتبوا «لا أذبحنَّه» بزيادة ألف، وكذلك «لا أوضعوا»، وكتبوا «بأييد» بياءَين، وكتبوا «امرأت فرعون» و«قرتُ عين لي ولك» بتاء مفتوحة، وحذفوا الألفات من مواضع دون مواضع مع تساويها في نظر الإملاء، وسبب ذلك — كما يعلله ابن خلدون — ضعفهم في صناعة الخط، وأنهم لم يبلغوا حدَّ الإجادة فيها.

أثر الإسلام في الحركة العلمية: وجاء الإسلام فأفاد الحركة العلمية من وجوه:
  • (الأول): أن نشر الدين كان يستتبع الحاجة إلى القارئين الكاتبين، فقد كانت آيات القرآن تُكتب ويتلوها من يعرف القراءة على من لم يعرف، وقد جاء في حديث إسلام عمر: «أنه عمد إلى أخته وختَنِه وعندهما خبَّاب بن الأرَتِّ معه صحيفة فيها «طه» يُقرئها إياها»؛ فكان طبيعيًّا أن يشجع النبي على تعلُّم الكتابة؛ وقد ورد أنه في غزوة بدر «كان فداء بعض الأسرى الذين يكتبون أن يُعلِّموا عشرة من صبيان المدينة الكتابة»، ورأى بعض المسلمين أنهم في حاجة إلى الكتابة ليعرفوا دينهم على الوجه الأكمل.

    بل حث النبي بعض أصحابه أن يتعلموا لغة غير اللغة العربية، لما دعت الحاجة إلى ذلك — بعد انتشار الإسلام — ففي «البخاري» عن زيد بن ثابت قال: «أُتِيَ بي النبيَّ مَقدَمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأتُ عليه فأعجبه ذلك، فقال: تعلمْ كِتابَ (كتابة) يهود، فإني ما آمنهم على كتابي، ففعلتُ، فما مضى لي نصف شهر حتى حذِقته، فكنت أكتب له إليهم؛ وإذا كتبوا إليه قرأت له»، وفي حديث آخر: «عن زيد بن ثابت قال: قال لي النبي : إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليَّ أو ينقصوا، فتعلم السريانية، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا».

    ولما فُتحت البلاد كان العنصر العربي هو العنصر الحاكم، فكان لا بد له أن يتعلم وأن يقرأ ويكتب، فكثرت القراءة والكتابة وخاصة في عهد التابعين.

    كذلك هؤلاء الداخلون في الإسلام من غير العرب اضطروا إلى تعلُّم العربية لدينهم ولدنياهم، حتى اضطروا أن يتعلموا النحو لإصلاح لغتهم، كما نقلنا ذلك عن أبي عبيدة.

    أضف إلى ذلك أن الفتح الإسلامي استتبع الحضارة، فبنيت — في عهد عثمان ومَن بعده — الدور والقصور وشيدت بالكلس، وجعلت أبوابها من الساج، واقتنى كثير من الصحابة الأموال والجنان والعيون، كالزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص والمقْدَاد، وهذا من غير شك يستتبع رقي الصناعة ومنها الكتابة.

  • (الثاني): مما أثر به الإسلام في الحركة العلمية أنه نشر بين العرب كثيرًا من التعاليم التي أبنَّاها من قبلُ، فرفعت مستواهم العقلي كما نشر بينهم كثيرًا من أحوال الأمم الأخرى وتاريخها، بإطناب أحيانًا وبإيجاز أحيانًا، حسبما يدعو إليه موقف العظة، فقص علينا قصة آدم ونوح وإبراهيم ويوسف وموسى ويونس وداود وسليمان وغيرهم عليهم السلام، وشيئًا من أخبار أممهم، في أسلوب جذاب، هيج النفوس إلى الاستزادة، وتعرف ما عند الأمم الأخرى منها — كاليهود والنصارى — فكان في ذلك من الثقافة، أفاد المسلمين ووسع مداركهم.

    ثم شرح أحكامًا في الزواج والطلاق والشئون المدنية والجنائية، كانت قانونًا نظم أمور المسلمين في معيشتهم الاجتماعية والاقتصادية، واتخذه الفقهاء والمشرِّعون مرجعهم يستنبطون منه الأحكام، ويستهدونه فيما يعرض من حوادث جديدة خلقتها مدنيتهم، فكان ذلك أساسًا لحركة تشريعية واسعة، نعرض لوصفها فيما بعد.

    ذلك عدا ما له من أثر لغوي ولساني، موضعه قسم آخر من الكتاب.

  • (الثالث): وشيء آخر للإسلام كان له أثر كبير في الحياة العقلية، وهو أنه سلك في دعوته إلى الإيمان بالله وصفاته من علم وقدرة ووحدانية مسلكًا يثير العقل، وهو الدعوة إلى النظر إلى ما في العالم من ظواهر: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ، فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ؛ إلى كثير من أمثال هذا.

    هذا الضرب من الآيات بعث العقل على النظر في الكون، وكان له أثر في نمو الحياة العقلية.

ولعل هذا — أعني النظر في الكون للاستدلال منه على الله وصفاته — هو الذي كان يطلق عليه القرآن الحكمة، فقد قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ، ونحن إذا قرآنا ما ورد في القرآن من أقوال وجدناها من هذا النوع، وقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وسمى موضع العظة حكمة: وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ، وسمى ما أوحى الله به إلى محمد حكمة لهذا فقال: ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ … إلخ، وقد سئل مالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له٦.
وكذلك لفظ العلم؛ فالقرآن لم يستعمل الكلمة بالمعنى الذي استُعمل بعدُ، حين تقول: «علم النحو» أو «علم الفقه» وهو ما يقابل كلمة Science، وإنما استعملها — على ما يظهر — بمعنى المعرفة بأوسع معانيها: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا.

وهو بهذا المعنى يُطلق حتى على المعارف الدنيوية، كما ورد على لسان قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ٧ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي؛ أي: معرفة بطرق كسب المال، ولكن أكثر ما يُستعمل في هذا النوع من المعرفة الذي يوصل إلى الهداية، كأنه هو المعرفة التي يعتد الله بها، فهو في هذا قريب من معنى الحكمة الذي ذكرنا إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ … إلخ.

وصف الحركات العلمية وأشهر القائمين بها: إذا نظرنا إلى الحركات العلمية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية وجدناها اتجهت ثلاثة اتجاهات: حركة دينية، ونعني بها البحث في الشئون الدينية من تفسير القرآن وحديث وتشريع؛ وما إلى ذلك؛ وحركة في التاريخ والقصص والسيَر ونحوها؛ وحركة فلسفية في منطق وكيمياء وطب وما إليها، ونعيد هنا ما ذكرنا قبل، من أنَّا إذا قلنا حركة علمية فلسنا نعني علومًا منظمة لها أبواب وفصول، فذلك ما لم يصل إليه هذا العصر، وإنما نعني النواة التي تكونت حولها العلوم بعدُ، وسنصف هذه الحركات الثلاث وصفًا إجماليًّا:
  • الحركة الدينية: : كانت هذه الحركة أكبر الحركات وأوسعها نطاقًا، فقد أقبل الناس على القرآن يفهمون معانيه، ويفسرون آياته، ويستنبطون منه الأحكام، وكذلك فعلوا في الحديث.

    وقد بدأت هذه الحركة في حياة رسول الله ، ثم أخذت في الاتساع بعده، وقام أصحابه بقسط وافر منها.

    وبديهي أن أصحاب رسول الله كانوا مختلفين اختلافًا كبيرًا في درجتهم العلمية، كاختلافهم في الفضائل الأخرى؛ فكان بعضهم أشجع من بعض، وبعضهم أكرم من بعض، كذلك كان بعضهم أعلم من بعض، جاء في الحديث أن رسول الله قال: «إنَّ مَثَلَ ما بعثني به الله من الهُدَى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة طيِّبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ العشْبَ الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قِيعَان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ» … إلخ٨.
    ويقول مسروق وهو من التابعين: «لقد جالست أصحاب محمد فوجدتهم كالإخَاذ٩ فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم»١٠.
    واشتهر من الصحابة ستة أو سبعة عُدُّوا الطبقة الأولى في العلم، يختلف العادُّون في بعضهم، فيضعون واحدًا مكان آخر، وهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة؛ وهؤلاء كلهم من قريش، ما عدا ابن مسعود فإنه هُذَلي، وزيد بن ثابت فهو من الأنصار، ويقول مسروق: «شامَمْتُ أصحاب رسول الله١١ فوجدت علمهم انتهى إلى ستة، إلى عمر وعليّ وعبد الله (ابن مسعود) ومعاذ وأبي الدَّرْداء وزيد بن ثابت، فشاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله»١٢ وروى يزيد بن عُميرة السِّكْسَكِيُّ، وكان تلميذًا لمعاذ بن جبل: «أنه لما حضرت الوفاة معاذًا أمره أن يطلب العلم من أربعة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سَلام، وسلمان الفارسي وأبي الدرداء»، فترى من هذا اختلافهم فيمن هو الأعلم، واختلاف النظر في هذا طبيعي في كل عصر وكل أمة.
    وعلى كل حال فقد عُدَّ بضعة من الصحابة هم الطبقة الأولى في العلم، وعُدَّ عشرون من الطبقة الثانية، ونحو مائة وعشرين من الطبقة الثالثة١٣ ويطول بنا القول لو عددنا أسماءهم وبيَّنا نسبهم.

    ونحن إذا ألقينا نظرة على الطبقة الأولى — بعد قراءة تاريخهم العلمي — وجدنا شخصياتهم العلمية مختلفة؛ فعمر بن الخطاب — مثلًا — لا نجد له كثيرًا من الأقوال في تفسير القرآن، كما لا نجده مكثرًا في جمع الحديث، ولكن مِيزَته الكبرى — على ما يظهر لنا — قوته الفطرية في الحكم على الأشياء، وإصابته في معرفة العدل والظلم، وخبرته الواسعة بالعالم الذي يُحيط به، يقول أبو ذر: سمعت رسول الله يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به».

    وهذه الميزة تُفسر لنا بوضوح مواضع كفايته، فعقله عقل قضائي، كان يُفتي الناس حتى في حياة رسول الله، ورويت عنه أحكام كثيرة في مشكلات المسائل، وفراسته في الناس وفيمن يولِّيه الأعمال فراسة في منتهى الصدق، جاء في العقد الفريد: كان عبد الله بن عباس من أحب الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يُقدمه على الأكابر من أصحاب محمد ولم يستعمله قط، فقال له يومًا: كدت أستعملك، ولكني أخشى أن تستحل الفيء على التأويل، فلما صار الأمر إلى عليّ استعمله على البصرة فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ، كذلك إدراته للمملكة الإسلامية على سعتها، ومواجهته لأمور عظام نشأت عن الفتح، لم تكن في عهد الرسول ولا أبي بكر، تحتاج إلى عقل كبير في تصريفها والتشريع لها، كل هذا ونجاحه فيه يجعلنا — من غير شك — نقرأ في عمر سعة العلم، ويجعلنا نتصور نوع العلم الذي كان به ممتازًا.
    على العكس من ذلك نرى ابنه عبد الله، وهو أحد علماء الصحابة، فهو يعطينا صورة علمية غير صورة عمر: جَمَّاع للحديث، يتلمسه حيث كان، ويتحرى ألفاظ النبي بدقة، يقول أبو جعفر: «ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله إذا سمع من رسول الله حديثًا أجدرَ ألا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا، ولا، من عبد الله بن عمر بن الخطاب»؛ ولكنه كما قال الشعبي: «كان جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه١٤، حمله الورع والخوف من الله ألا يُكثر من الفتوى وألا يدخل في شيء من الفتن»، يقول ابن الأثير: «وكان ابن عمر شديد الاحتياط والتوقي لدينه في الفتوى، وكل ما تأخذه به نفسه، حتى إنه ترك المنازعة في الخلافة مع كثرة ميل أهل الشام إليه ومحبتهم له، ولم يُقاتل في شيء من الفتن، ولم يشهد مع عليّ شيئًا من حروبه»١٥ كما اشتُهر بأنه ثقة في رواية الحوادث التاريخية التي وقعت في صدر الإسلام لاتصاله برسول الله والخلفاء من بعده واهتمامه بتعرفها، فترى من هذا أن شخصيته العلمية كانت كثرة الجمع ودقة النقل، لا كثرة الاستنباط، ولا وفرة الفتوى.
    ونموذج آخر نراه في عبد الله بن عباس، كما تُصوره لنا كُتب السيَر والتفسير، فقد كان واسع الاطلاع في نواح مختلفة، يعرف الشعر والأنساب وأيام العرب، ويجتهد في تعرف ما عند الصحابة من حديث وعلم، يقول: «وجدت عامة حديث رسول الله عند الأنصار، فإن كنت لآتي الرجل فأجده نائمًا، لو شئت أن يُوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح، حتى يستيقظ متى استيقظ، وأسأله عما أريد ثم أنصرف»؛ كذلك كان يعلم ما ورد في تفسير القرآن، وأسباب نزوله، وحساب الفرائض والمغازي، ويعرف شيئًا من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل، وكانت أكثر حياته حياة علمية يتعلم ويُعلِّم، لم يشتغل بالإمارة إلا قليلًا، لما استعمله عليّ على البصرة، وعمِّر طويلًا، فقد مات نحو سنة ٧٠هـ عن نحو سبعين عامًا؛ وكان عبد الله بن عمر يتهمه بالجرأة في تفسير القرآن ثم عدل عن ذلك١٦.

    فترى من هذا صورة أخرى غير السابقتين، ترى فيها ضربًا من تخصيص الحياة للعلم، وضربًا من سعة الاطلاع في نواحٍ علمية مختلفة، نعم قد أحيط اسمه ببعض المبالغات — على ما يظهر — نشأت في الدولة العباسية لما كان جدَّ الخلفاء، ولكن لهذه المبالغات أساسًا صحيحًا من سعة العلم وقوة الحجة، وأكثر ما اشتُهر به أقواله في تفسير القرآن.

    وشخصية رابعة هي أصعب ما يكون تصويرًا؛ دخلها من المبالغات والأكاذيب ما وقف المؤرخَ حائرًا، تلك هي شخصية عليّ بن أبي طالب؛ فليس هناك من الشخصيات في ذلك العصر ما دار حوله الجدل، وأفرط فيه المحبون والكارهون، واختلق حوله المختلقون، وتأسست من أجله المذاهب الدينية، كالذي كان لشخصية عليّ؛ فقد رووا عنه ٦٨٦ حديثًا مسندًا إلى رسول الله لم يصح منها إلا نحو خمسين١٧، ونسبوا إليه ديوان شعر، ويقول المازني: إنه لم يصح أن تكلم بشيء من الشعر غير بيتين:
    تِلْكُمْ قُرَيْشٌ تَمَنَّانِي لِتَقْتُلَنِي
    فَلا وَرَبِّكَ ما بَرُّوا ولا ظَفِرُوا
    فَإِنْ هَلَكْتُ فَرَهْنٌ ذِمَّتِي لَهُمُ
    بِذَاتِ وَدْقَيْنِ لا يَعْفُو لَهَا أَثَرُ١٨
    ونسبوا إليه ما في نهج البلاغة، وهو يشتمل على كثير من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحِكم، وقد شك في مجموعها النقاد قديمًا وحديثًا كالصَّفَدِي وهوار Huart١٩ واستوجب هذا الشك أمور: ما في بعضه من سجع منمق، وصناعة لفظية — لا تُعرف لذلك العصر — كقوله: «أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير»، وما فيه من تعبيرات إنما حدثت بعد أن نُقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية وبعد أن دونت العلوم، كقوله: «الاستغفار على ست معانٍ، والإيمان على أربع دعائم»، وكالذي فيه من وصف الدار وتحديدها بحدود هي أشبه بتحديد الموثِّقين، كقوله: «وتجمع هذه الدار حدود أربعة، الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات» … إلخ، هذا إلى ما فيه من معانٍ دقيقة منمقة على أسلوب لم يُعرف إلا في العصر العباسي، كما ترى في وصف الطاووس؛ كما نسبوا إليه كتابًا في الجفر، تُذكر فيه الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم؛ وحكايته مع أبي الأسود الدؤلي في وضع النحو معروفة مشهورة؛ كل هذا ما يجعل من العسير على المؤرخ الناقد وصف شخصيته العلمية وصفًا يطمئن إليه، أيُّ ما في نهج البلاغة لعليّ؟ وأيها ليس له؟ وأي ما رُوي عنه من الحِكم والأمثال له؟ وأيها ليس له؟ وأي الأحاديث وما صدر عنه من الأحكام، وما استشاره فيه الخلفاء من الشئون يصح عنه؟ وأيها لا يصح؟ كل هذه الأشياء لا تزال مجالًا للبحث.
    وعلى كل حال إذا نحن رجعنا إلى كتب السيَر الموثوق بها، كطبقات ابن سعد، نرى أنه كان كذلك ذا عقل قضائي، فقد ولاه رسول الله قضاء اليمن، وله آراء ثبتت صحتها في مشاكل قضائية عديدة، حتى قيل فيه: «قضية ولا أبا حَسَنٍ لها»، وحكى علقمة عن عبد الله قال: «كُنا نتحدث أن مِن أقضى أهل المدينة عليّ»، وفوق هذا كان يهتم بالقرآن يعرف معانيه، وفيم نزل حتى «زعموا أنه كتبه على تنزيله»٢٠ وهو في هذا كان أستاذًا لعبد الله بن عباس أخذ عنه كثيرًا، ويُقارنون بينهما فيقولون: «إن عبد الله بن عباس كان أعلمهما بالقرآن، وكان عليّ أعلمهما بالمبهمات»٢١.
    ويطول بنا القول لو وصفنا الميزة العلمية لكل من مشهوري الصحابة، أمثال عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، ومُعاذ بن جَبَل، وأبي ذرّ، وأبي موسى الأشعري، ولكن يمكننا أن نقول إجمالًا: إن الشخصيات السابقة تبين أشهر النواحي العلمية، وهؤلاء الذين سمينا يشاكلونهم فيها أو بعضها، رُوي عن أبي البَخْتري أنه قال: «أتينا عليًّا فسألناه عن أصحاب محمد فقال: عن أيهم؟ قال: قلنا: حدثنا عن عبد الله بن مسعود، قال: عَلِمَ القرآن والسنَّة ثم انتهى، وكفى بذلك علمًا، قلنا: حدثنا عن أبي موسى، قال: صُبِغَ في العلم صبغة؛ ثم خرج منه، قال: قلنا: حدثنا عن عمَّار بن ياسر، فقال: مؤمن نسي وإذا ذُكِّر ذكر، قال: قلنا: حدثنا عن حذيفة، فقال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين، قال: قلنا: حدثنا عن أبي ذَرّ، قال: وعي علمًا ثم عَجَز فيه، قال: قلنا: أخبرنا عن سلمان، قال: أدرك العلمَ الأوَّل والعلم الآخر، بحر لا يُنزَح قعرُه، منا أهل البيت، قال: قلنا: فأخبرنا عن نفسك يا أمير المؤمنين، قال: إياها أردتم؟ كنتُ إذا سألتُ أُعطيت، وإذا سكتُّ ابتُدئْتُ»٢٢ لكن لا بأس أن نذكر كلمة عن عالمين لكل منهما ناحية خاصة في العلم، وهما: عبد الله بن سَلام، وسلمان:

    فأما عبد الله فكان يهوديًّا، ويظهر أنه كان مثقفًا بالثقافة اليهودية، فقد عده المفسرون في أوائل الذين قال الله فيهم: «أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسْراَئِيلَ»، أسلم على أثر هجرة الرسول إلى المدينة — على أحد الأقوال — وصحب عمر في سفره إلى الشام، ووقف خطيبًا في المتألبين على عثمان يُدافع عنه ويخذِّل الثائرين، ومات نحو سنة ٤٠هـ، واشتهر بين الصحابة بالعلم حتى رأيتَ أن مُعاذًا عدَّه رابع أربع يُطلب عندهم العلم، ونقل المسلمون عنه كثيرًا يدل على علمه بالتوراة وما حولها، وتجمَّع حول اسمه كثير من الإسرائيليات، ونقل عنه الحديث أبو هريرة وأنس بن مالك، وينسب إليه ابن جرير الطبري في تاريخه كثيرًا من الأقوال في المسائل التاريخية الدينية.

    وعلى كل حال فهو يمثل لنا ناحية خاصة دخل منها على المسلمين بعض أقوال التوراة وما إليها، ولصق بعضها بتفسير القرآن وبالقَصَص، وسنعرض لذلك بعدُ.

    وأما سَلمان الفارسي — إن صح ما يروي محمد بن إسحاق — فإنه تنقل في أديان مختلفة قبل أن يُسلم، كان مجوسيًّا مخلصًا للمجوسية (حتى كان قاطن النار التي يوقدها أهله) ثم كان نصرانيًّا مخلصًا للنصرانية متصلًا بأتقى رجالها، ثم كان عبدًا مملوكًا ليهودي من بني قُرَيظة (ولكنه لم يتهوَّد)، ثم أسلم فأخلص في إسلامه، كذلك يُروى أنه قبل أن يُسلم تنقل في بلاد كثيرة، فهو من أصبهان (على رواية)، ثم انتقل في طلب النصرانية إلى الشام، ثم إلى الموصل ثم إلى نَصِيبين، ثم إلى عمُّورية من أرض الروم، ثم إلى جزيرة العرب يطلب الإسلام فنزل بوادي القُرى، وهناك غدر به قوم من كَلْب فباعوه، ثم انتهى إلى المدينة فأسلم٢٣.

    فترى من هذا أن قد كان له علم بديانات مختلفة، ولعل هذا هو ما عناه عليّ بن أبي طالب بقوله فيه: «من لكم بمثل لقمان الحكيم، عُلِّم العلم الأوّل، والعلم الآخِر، وقرأ الكتاب الأوّل، وقرأ الكتاب الآخر، وكان بحرًا لا يُنْزَفُ».

    وتدلنا سيرته على أن نزعته الدينية كانت نزعة زهد وورع، وقد مات بالمدائن في خلافة عثمان.

    وقد اتخذه مسلمو الفرس مثلهم — كما اتخذ الحبشة بلالًا، والروم صُهَيْبًا — وفخرت به الشعوبية، وربطه الشيعة بعليّ والحسن والحسين، وعدَّه الصوفية أحد مؤسسيها، وبالغ فيه الفرس كثيرًا، ونسبوا إليه كثيرًا.

    •••

    وهذا القدر يكفينا في الدلالة على أنه كان بين الصحابة حركة علمية، وأن هذه الحركة أكثرها ديني، وأنه كان لها نواحٍ مختلفة، وشخصيات مختلفة.

    هؤلاء العلماء وأمثالهم من الصحابة تفرقوا في المملكة الإسلامية، في جميع أنحائها، وإن شئت فقل وُزِّعوا على الأمصار قصدًا إلى تعليمها؛ فعل ذلك رسول الله في مدن جزيرة العرب، فأرسل إلى اليمن وإلى البحرين وإلى مكة بعد فتحها، وكذلك فعل عمر بن الخطاب عندما اتسعت الفتوح وكثرت الأمصار. عن سالم بن عبد الله قال: «كنا مع ابن عمر يوم مات زيد بن ثابت، فقلت: مات عالم الناس اليوم، فقال ابن عمر: يرحمه الله اليوم، فقد كان عالِمَ الناس وحبرها، فرقهم عمر في البلدان»٢٤.
    وعن عمر بن الخطاب أنه قال حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام: «لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى عليَّ، وقال: رجل أراد جهادًا يُريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليُرزَق الشهادة وهو على فراشه» … إلخ٢٥، وكتب عمر إلى أهل الكوفة: «إني بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلِّمًا ووزيرًا، وآثرتكم به على نفسي، فخذوا عنه؛ فقدم الكوفة ونزلها، وابتنى بها دارًا إلى جانب المسجد» إلى كثير من أمثال ذلك.
    هؤلاء الصحابة العلماء الذين تفرقوا في الأمصار أنشئوا حركة علمية، في كل مصر نزلوا، وكونوا مدارس٢٦، وكان لهم تلاميذ ينقلون عنهم العلم، فتخرج عليهم التابعون ثم تابعوهم، مما سنعرض له عند الكلام على مراكز الحركة العقلية.

    وعندئذ دخل عنصر الموالي وأولادهم في الحركة العلمية، واتسع نطاقها، فكان منهم كثير من سادة التابعين وتابعي التابعين.

    الموالي والعلم: كان سكان البلاد كما علمنا يتكونون من عنصرين: عنصر عربي، وهو العنصر الفاتح؛ وعنصر أعجمي، وكان أكثر حملة العلم في عصر الصحابة العرب؛ لأن أكثر الصحابة عرب، فلما أخذ علماء الصحابة يعلمون في الأمصار المفتوحة، اشترك العرب والعجم في تلقي العلم عنهم؛ حتى إذا كان عصر التابعين وتابعيهم كان بعض حملة العلم عربًا وأكثرهم من الموالي أو أبناء الموالي، ويقول ابن خلدون في تعليل هذا: «والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقضتى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة، التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين، كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقْله القرَّاء؛ أي: الذين يقرءون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية يُومئذ صفة عامة في الصحابة — بما كانوا عربًا — فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء … ثم صارت هذه العلوم كلها ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها العرب، والحضر لذلك العهد هم العجم أو مَن في معناهم من الموالي وأهل الحواضر … لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس … فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما؛ وكلهم عجم في أنسابهم … وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه، وحملة علم الكلام وأكثر المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها فشغلتهم الرياسة في عهد الدولة العباسية» انتهى مختصرًا.

    وهو وإن كان يتكلم عن عصر التدوين، ويعني به على ما يظهر العصر العباسي، فعلته كذلك صحيحة في العصر الأموي — عصر التابعين ومن بعدهم — إلا أنه غالى في نظريته وسلب العرب ما كان لهم من حظ في المشاركة في العلوم، كان في العصر الأموي عرب من أشهر العلماء، كَسعِيد بن المُسَيِّب، وعَلْقَمة، وشُرَيْح، ومَسروق والنَّخعِيِّ وغيرهم، ولكن الأكثرين كانوا موالي أو في حكمهم؛ فكان في المدينة سليمان بن يسار، وكان من أعلم الناس وأفقههم، وأبوه مولى ميمونة زوج النبي ، ونافع مولى عبد الله بن عمر والذي روى عنه أكثر أحاديثه، وأصله من الدَّيلم؛ ورَبيعة الرَّأي وهو شيخ الإمام مالك، وأبوه فَرّوخ من الموالي.

    ومن علماء مكة مَجَاهِدُ بن جَبْر، وكان مولًى لبني مَخْزُوم، وهو من أكثر رواة التفسير عن ابن عباس، وعِكْرِمة مولى ابن عباس، والذي روى عنه أكثر علمه، وعطاء بن رَبَاح مَوْلى بني فِهْر من مولدي الجَند٢٧، وكان أسود، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس مولى حكيم بن حزام، وكان من أحفظ الناس للحديث.

    واشتهر من علماء أهل الكوفة: سَعِيدُ بن جُبَيْر مولى بني والِبَة، وكان أسود، واشتهر بالبصرة الحسن بن يسار، مولى زيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين، وكان أبوه من سبي مَيْسَان، وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق وهو من فقهاء البصرة، وكذلك الحسن البصري، وكان أبوه أيضًا من سبي ميسان.

    واشتُهر من أهل الشام مكْحُول بن عبد الله وهو معلِّم الأوزاعي، وأبوه من أهل هَرَاة، وأمه ابنة لملك من ملوك كابُل.

    واشتُهر في مصر يزيد بن حبيب مولى الأزْد، كان مفتي أهل مصر، وعنه أخذ الليث بن سعد، وكان يزيد بربري الأصل؛ أبوه من أهل دنقلة٢٨.

    وهناك غير هؤلاء كثير من العلماء من أبوين عربي وعجمي وكالذي رأيت من حكاية سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والمعروف بزين العابدين، فإن الزمخشري يروي أن أمهاتهم بنات يَزْدَجِرْد، وكالشعبي علامة التابعين فإن أباه عربي وأُمه سبي جَلُولاء.

    ويطول بنا القول لو أنا أحصينا مَن كَان من علماء هذا العصر من العرب ومن كان من الموالي؛ ولكن نظرة في أنسابهم عامة تدلنا على أن أكثرهم موالٍ.

    جاء في العقد الفريد: «وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان ديَّانًا شديد العصبية (أي للعرب): مَنْ كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: ثم مَن؟ قلت: محمد بن سيرين، قال: فما هما؟ قلت: موْلَيان، قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلْت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالٍ، قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالٍ، فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قُباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي، فارْبَدَّ وجهه، ثم قال: فمن فقيه اليمن؟ قلت: طاووس وابنه وابن منبه، قال: فمن هؤلاء؟ قلت: من الموالي، فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدًا، قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني، قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولًى، فازداد وجهه تربُّدًا واسودَّ اسودادًا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول، قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولًى، قال: فتنفس الصُّعَداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عتبة وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم (النخغي) والشعبي، قال: فما كانا؟ قلت: عربيان، قال: الله أكبر، وسكن جأشه».

    ونظير هذا ما جاء في معجم ياقوت في مادة خراسان «قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص: صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فصار فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن البصري، وفقيه أهل الكوفة النخغي٢٩، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة غير مدافَع سعيد بن المسيب».

    وهناك قصص أخرى كثيرة كهذه لا تخلو من نزعة شعوبية، ولكن أساسها صحيح، وهو أن أكثر العلماء من الموالي، ولذلك سبب آخر غير الذي ذكره ابن خلدون؛ وهو أن الصحابة — كما علمت — استكثروا من الموالي يستخدمونهم في بيوتهم وفي أعمالهم، فإذا كان الصحابي تاجرًا فمواليه أعوانه في التجارة، وإذا كان عالمًا كانت مواليه تلاميذه وأعوانه في العلم، ومتى كان عندهم حسن استعداد نبغوا فيه بحكم مخالطتهم لسادتهم في السر والعلن، وملازمتهم لهم في الإقامة والسفر، ودليلنا على ذلك نافع مولى عبد الله بن عمر، فقد أخذ عنه أكثر علمه، ويُسمِّي المحدثون رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سِلسِلة الذهب؛ وعِكْرِمة مولى ابن عباس، فقد مات عبد الله بن عباس وعكرمة على الرق، فباعه ولده عليّ بن عبد الله بن عباس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عكرمة مولاه عليًّا فقال له: ما خير لك، بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف، فاستقاله فأقاله، فأعتقه، إلى غير ذلك من الأمثلة.

    وسيأتي الكلام على الحركة الدينية بشيء من التفصيل في الباب الآتي.

  • الحركة الثانية: حركة تاريخية، ولسنا نعني بها حركة تأليف الكتب التاريخية، وإنما نعني ما انتشر في المملكة الإسلامية في هذا العهد من أخبار الأمم الماضية والأجيال الغابرة، والأحداث التي كانت في عهد الرسول والخلفاء من بعده، ونظرة فيما روي في ذلك العصر تبين أنها كانت حركة واسعة، وأنها كانت الأساس الذي بُنيت عليه المؤلفات التي أُلفت بُعد، ككتب ابن إسحاق وابن جرير وأمثالهما، يدل على ذلك أنك لو تتبعت في ابن جرير الطبري — مثلًا — سلسلة روايته وجدت أن الرواة الثلاثة أو الأربعة الذين يتصلون بحياته كانوا في العصر العباسي، وهؤلاء يروون عمن قبلهم ممن كانوا في عهد الأمويين أو الخلفاء الراشدين، أعني بذلك أن الحوادث التاريخية التي دُونت كانت معروفة في عصرنا الذي نؤرخه، وابن إسحاق وأمثاله إنما رووا ما كان معروفًا وجمعوه.
    وقد نبعت هذه الحركة التاريخية من جملة مصادر:
    • (أولها): شعور بعض الخلفاء بالحاجة — في سياسة الدولة — إلى تعرف أخبار الملوك في الأمم الأخرى وسياستهم ونظامهم، وهذا كان ضروريًّا بعد أن اتسعت المملكة الإسلامية هذا الاتساع الكبير، كانت الحركة المالية في جزيرة العرب قبل الفتح حركة ضعيفة لا تكفي لتسيير الحركة الكبرى التي كانت بعد الفتح، فكان لا بد من علم بطرق تحصيل الأموال وحفظها وصرفها، وكذلك الشأن في إدارة البلاد وتنظيمها وطرق حكمها، فلجأ بعض خلفاء المسلمين إلى الوقوف على ما كان من ذلك عند الأمم الأخرى، كالذي روى المسعودي عن معاوية أنه بعد أن يفرغ من عمله «كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرَف الغريبة من نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وُكِّلُوا بحفظها وقراءتها؛ فتمر بسمعه كل ليلة جُمل من الأخبار والسِّيَر والآثار وأنواع السياسات» اهـ. ولا شك أنه تسرب بهذه الطريقة بعض المعلومات التاريخية إلى الخاصة من المسلمين.
    • (ثانيها): وهو أهم من الأول، أن كثيرًا من الشعوب المختلفة ذوات التاريخ دخلت في الإسلام، فأخذوا يدخلون تاريخ أممهم ويبثونه بين المسلمين، إما عصبية لقومهم أو نحو ذلك، فكثير من اليهود أسلموا وهم يعلمون كثيرًا من تاريخ اليهودية وأخبار الحوادث، حسبما روت التوراة وشروحها، فأخذوا يحدثون المسلمين بها؛ وهؤلاء ربطوها بتفسير القرآن أحيانًا، وبتاريخ الأمم الأخرى أحيانًا؛ إن شئت فاقرأ ما في الجزء الأول من تاريخ الطبري تجد منه الشيء الكثير مثل: «حدثني المثنَّى بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ بالخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة»٣٠ وكثير من هذا النوع رُوي حول ما ورد في القرآن من قصص الأنبياء، كذلك كان للفرس تاريخ وكان لهم أساطير، فلما أسلموا رووا تاريخهم، ورووا أساطيرهم، وكذلك فعل النصارى، فكانت هذه الروايات والأساطير عن الأمم المختلفة مبثوثة بين المسلمين، ومصدرًا من مصادر الحركة التاريخية عندهم.

      وهذان النوعان هما بالقَصص أشبه منهما بالتاريخ.

    • (ثالثها): وهو أهمها: أن المسلمين بدءوا من أول أمرهم يجمعون الحديث، وفي الحديث مناحٍ شتى من القول، ففيه ما كان يفعله النبي وأصحابه من عبادات وتشريع في المعاملات والجنايات، وفيه أقوال للوعظ والإرشاد، وفيه قسم تاريخي لا يُستهان به، فأحاديث تتعلق بحياة النبي في مكة وهجرته، وحياته في المدينة وغزواته، وأعمال لأبي بكر، وفتوحات عمر ونحو ذلك، وكلها حوادث تاريخية نُثرت في الحديث، وعُني بها بعض الصحابة، كالذي رأيت في عبد الله بن عمر، وكانت هذه الأحاديث التاريخية أساسًا لما أُلف بعدُ من كتب السيَر والمغازي، فقد أُفردت وأُضيف إليها ما لم يُتَحر فيه تحري ثقات المحدثين، والدليل على أن أصل هذه السير والمغازي هو الحديث ما تجده من وجوه شبه كبير في الأسلوب وفي طريقة سرد الوقائع وحكايتها.

    وقد عُني المسلمون من العصر الأول بإفراد ما يتعلق بالسير والمغازي في كتب خاصة، فقد رُوي أن وهب بن منبه (٣٤–١١٠هـ) ألف كتابًا في المغازي، كما رووا أن عروة بن الزبير بن العوام (٢٣–٩٤هـ) وهو من أشهر فقهاء المدينة ومحدثيها كان أقدم مَن ألَّف في سيرة رسول الله، ومثله معاصره أبَان بن عثمان بن عفان (٢٢–١٠٥هـ) فقد جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة (المتوفى قبل سنة ١٢٥هـ) كتابه في سيرة الرسول.

    كذلك رووا أن ابن شِهاب الزُّهري (٥١–١٢٤هـ) جمع كتابًا في المغازي، ومثله موسى بن عقبة (المتوفى سنة ١٤١هـ)٣١.

    ويظهر أن النمط الذي اتبع في تأليف هذه الكتب كان جمع الأحاديث المتعلقة بالسيرة أو المغازي لا أكثر من ذلك، وعلى الجملة فلعل هذا الباب كان أقرب من سابقيه إلى معنى التاريخ.

    وكل ذلك يدلنا على ما ذكرت من انتشار حركة تاريخية واسعة، وإن لم تُصبغ بالصبغة العلمية الدقيقة.

    القصص: ويتصل بهذا النوع ما يُعرف في ذلك العهد بالقَصَص، وقد استُحدث في صدر الإسلام، فقد رُوي عن ابن شهاب أن «أول من قص في مسجد رسول الله تميمٌ الداريُّ، استأذن عمر أن يُذكِّر الناس فأبى عليه، حتى كان آخر ولايته فأذن له أن يُذكر الناس في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر، فاستأذن تميم عثمان بن عفان فأذن له أن يُذكِّر يومين في الجمعة فكان تميم يفعل ذلك»، وفي رواية أخرى عن الحسن أنه سئل: متى أحدث القَصص؟ قال: في خلافة عثمان، فسئل: مَن أوّل مَن قص؟ قال: تميم الداري.

    وتميم هذا كان نصرانيًّا من نصارى اليمن أسْلَم في سنة تسع من الهجرة، وقد ذكر للنبي قصة الجسَّاسة والدَّجَّال٣٢، وكان يَتَرهب حتى قال عنه أبو نعيم: «إنه راهب أهل عصره»، وهي نزعة نصرانية بقيت عنده في الإسلام، ويذكرون أيضًا أنه أول من أسرج السراج في المسجد.
    وتكاد الروايات تتفق على أنه أول قاصّ، ولم أقف على ما كان يقصه؛ ولكن نظرة في حديث الجساسة والدجال، وفي أقوال له أخرى كثيرة منثورة، كالذي رُوي أن رَوْح بن زِنْباع زار تميمًا الداري فوجده يُنَقِّي شعيرًا لفرسه وحوله أهله، فقال له روح: أما كان في هؤلاء من يكفيك؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله يقول: ما من امرئ مسلم ينقي لفرسه شعيرًا ثم يعلقه عليه إلا كتب الله له لكل حبة حسنة٣٣، تدلنا على عقليته ونوع قصصه، ومنحاه فيما يَرْوِي.
    وصورة هذا القصص، أن يجلس القاص في مسجد وحوله الناس فيذكِّرهم بالله ويقص عليهم حكايات وأحاديث وقصصًا عن الأمم الأخرى وأساطير ونحو ذلك، لا يعتمد فيها على الصدق بقدر ما يعتمد على الترغيب والترهيب، قال الليث بن سعد: هما قصصان: قَصَص العامة وقصص الخاصة؛ فأما قصص العامة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم، فذلك مكروه لمن فعله ولمن استمعه؛ وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية، ولَّى رجلًا على القصص فإذا سلَّم من صلاة الصبح جلس وَذَكَر الله عز وجل وحَمَّده ومجَّده وصلى على النبي ، ودعا للخليفة ولأهل ولايته وحشمه وجنود ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة٣٤.

    وقد نما القَصص بسرعة؛ لأنه يتفق وميول العامة، وأكثرَ القصاص من الكذب حتى رووا أن عليّ بن أبي طالب طردهم من المساجد واستثنى الحسن البصري لتحريه الصدق في قوله.

    ويظهر أنه اتخذ أداة سياسية من عهد الفتن بين علي ومعاوية، يستعين بها كلٌّ على ترويج حزبه والدعوة له، يدلك على ذلك ما نقلنا عن الليث بن سعد، وما روى ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب أن عليًّا رضي الله عنه قَنَت فدعا على قوم من أهل حربه، فبلغ ذلك معاوية، فأمر رجلًا يقص بعد الصبح، وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام.

    وارتفع شأن القصص حتى رأيناه عملًا رسميًّا، يُعهد به إلى رجال رسميين يعطون عليه أجرًا، فنرى في كتاب القضاة للكِندي أن كثيرًا من القضاة كانوا يُعينون قصاصًا أيضًا، فيقول: إن أول من قص بمصر سليمان بن عِتر التُّجِيبيُّ في سنة ٣٨هـ، وجُمع له القضاء إلى القصص، ثم عُزل عن القضاء وأُفرد بالقصص.

    ولا تهمنا هذه النواحي الرسمية، إنما يهمنا ما كان منه من صبغة تُشبه العلمية، ونرى أن هذا القصص هو الذي أدخل على المسلمين كثيرًا من أساطير الأمم الأخرى كاليهودية والنصرانية، كما كان بابًا دخل منه على الحديث كذب كثير، وأفسد التاريخ بما تسرب منه من حكاية وقائع وحوادث مزيفة أتعبت الناقد وأضاعت معالم الحق.

    ولا بد أن نُشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصص وأمثالهم، تجد ذكرهما كثيرًا في رواية القصص وفي التاريخ وفي الحديث وفي التفسير، هما: وهب بن مُنَبِّه، وكعْب الأحبار.

    فأما وهب بن منبه فيمني من أصل فارسي، وكان من أهل الكتاب الذين أسلموا وله أخبار كثيرة وقصَص تتعلق بأخبار الأوَل ومبدأ العالم وقصص الأنبياء، وكان يقول: قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتابًا، وقد تُوفي حول سنة ١١٠هـ بصنعاء، وأما كعب الأحبار أو كعب بن مانِع فيهودي من اليمن كذلك، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين، أَسلم في خلافة أبي بكر أو عمر على خلاف في ذلك — وانتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام، وقد أخذ عنه اثنان، هما أكبر من نشر علمه: ابن عباس — وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات — وأبو هريرة، ولم يُؤثر عنه أنه ألَّف كما أُثر عن وهب بن منبه، ولكن كل تعاليمه — على ما وصل إلينا — كانت شفوية، وما نُقل عنه يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها، جاء في الطبقات الكبرى حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن عبد القيس جالس إلى كتب وبينها سِفْر من أسفار التوراة وكعب يقرأ٣٥، وقد لاحظ بعض الباحثين أن بعض الثقات كابن قتيبة والنووي لا يروي عنه أبدًا، وابن جرير الطبري يروي عنه قليلًا، ولكن غيرهم كالثعلبي والكسائي ينقل عنه كثيرًا في قصص الأنبياء كقصة يوسف والوليد بن الرَّيَّان وأشباه ذلك، ويروي ابن جرير أنه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له: اعهدْ فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل في التوراة، قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك.

    وهذه القصة إن صحت دلت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضَعها هو في هذه الصبغة الإسرائيلية، كما تدلنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل.

    وعلى الجملة فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح.

    وقد أنحى باللوم كثير من العلماء على القصاص والوعاظ، كما فعل الغزالي في كتابه «الإحياء» فقد عد عملهم من منكرات المساجد، لما كانوا يقترفون من كذب، واستثنى الحسن البصري وأمثاله.

    والحق أن الحسن البصري كان قاصًّا من نوع آخر، فلم يكن ينحو منحى الذين يعتمدون على الإسرائيليات والنصرانيات، إنما كان يعتمد على التذكير بالآخرة ونحوها؛ ويستخرج العظة مما يقع حوله من حوادث؛ فقد كان يجلس في آخر المسجد بالبصرة وحوله الناس يسألونه في الفقه وفي حوادث الفتن التي كانت في عهده، ويحدثهم بما صح عنده من حديث، ويقصّ عليهم فيعظهم ويذكّرهم؛ فمما أثر من قَصَصه قوله: «يا بن آدم لا تُرْضِ أحدًا بسخط الله، ولا تطيعن أحدًا في معصية الله، ولا تحمدن أحدًا على فضل الله؛ ولا تلومن أحدًا فيما لم يُؤتك الله، إن الله خلق الخلق فمضَوْا على ما خلقهم عليه، فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزدد بحرصه في عمره، أو يغير لونه أو يزد في أركانه أو بَنَانه»، وكقوله: «يا بن آدم لم تكن فكوِّنْتَ، وسألْتَ فأُعْطِيتَ، وسُئِلْتَ فمَنَعْتَ، فبئس ما صَنَعْتَ»، ثم يكرر ذلك مرارًا، وله أقوال كثيرة من هذا النحو مبثوثة في كتب الأدب.

    وهنا أمر لا بد أن يكون قد استرعى نظرك، وهو أن أكثر مَن ذكرنا من منابع القَصص كتَمِيمٍ الداريّ، ووهب بن مُنبِّه، وكعب الأحبار من أهل الكتاب من اليمن، فما السر في ذلك، ولِمَ كان ما يُروى عن يهود اليمن في هذا النوع أكثر مما يُروى عن يهود الحجاز؟ لعل السبب أن اليمن كانوا أكثر حضارة كما علمت، وقد استتبع هذا وجود مدارس يهودية أرقى مما كان ليهود الحجاز — وهذه المدارس اليمنية ثابتة تاريخيًّا — فكان من نتيجة ذلك انتشار الثقافة اليهودية في اليمن بما فيها من شروح للتوراة وأساطير ونحو ذلك، على نمط أوسع مما كان ليهود الحجاز، فلما دخل يهود اليمن في الإسلام رووا ما تعلموا فكان لهم أكبر الأثر.

  • الحركة الثالثة: الحركة الفلسفية، وهي أقل الحركات — على ما يظهر — انتشارًا، وكان مظهرها — أولًا — في المدارس السريانية التي كانت منتشرة في أماكن كثيرة من المملكة الإسلامية — كما بينا قبل — وعنهم أخذ المسلمون، وكان من أثر ذلك ظهور بعض المذاهب الدينية التي سيأتي تفصيلها، وقد روينا ما كان لخالد بن يزيد بن معاوية من دراسة فلسفية.
    ونلاحظ أنه في هذا العصر ظهر كثير من أطباء النصارى في بلاط الخلفاء، وكان أكثرهم فلاسفة وأطباء معًا، كانت دراستهم الطبية لم تكن منفصلة عن دراستهم الفلسفية، كما كان الشأن في فلاسفة المسلمين بعدُ — كابن سينا والكِنْدي — ومن هؤلاء الأطباء الذين خدموا في البلاط الأموي «ابن أثَال»، وكان طبيبًا نصرانيًّا في دمشق؛ ولما ملك معاوية اصطفاه لنفسه، وكان كثير الافتقاد له، والاعتقاد فيه، والمحادثة معه ليلًا ونهارًا، و «عبد الملك بن أبْجَر الكِنَاني» وكان طبيبًا عالمًا ماهرًا، وكان في أول أمره مقيمًا بالإسكندرية وكان متولي التدريس فيها ولما استولى المسلمون على البلاد وملكوا الإسكندرية أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز، وكان حينئذ أميرًا قبل أن تصل إليه الخلافة، وصَحبَه، فلما أفضت الخلافة إليه نقل التدريس إلى أنطاكية وحَرَّان وتفرق في البلاد، وكان عمر بن عبد العزيز يستطبه ويعتمد عليه في صناعة الطب٣٦.

    وحكى القفطي في أخبار الحكماء: أن ماسرجويه الطبيب البصري كان إسرائيليًّا في زمن عمر بن عبد العزيز، وربما قيل في اسمه ماسرجيس، وكان عالمًا بالطب، تولى لعمر بن عبد العزيز ترجمة كتاب أهرن القس في الطب، وهو كنَّاش فاضل من أفضل الكنانيش القديمة، وقال ابن جلجل الأندلسي: ماسرجويه كان سريانيًّا يهودي المذهب وهو الذي تولى في أيام مروان في الدولة المروانية تفسير كتاب أهرن القس بن أعين إلى العربية، ووجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب فأمر بإخراجه، ووَضَعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين لينفع به، فلما تم له في ذلك أربعون يومًا أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم.

    ولماسرجويه من التصانيف كتاب قوَى الأطعمة ومنافعها ومضارها، وكتاب قوى العقاقير ومنافعها ومضارها.

    هذا وأمثاله كوَّن حركة ثالثة هي التي سميناها بالحركة الفلسفية، ويدخل فيها ما رأيت من الجدل بين فرق النصارى والمسلمين، ولكنها على كل حال كانت أقل من الحركتين السابقتين.

    وهناك حركة رابعة، هي الحركة الأدبية موضوعها قسم خاص من كتابنا هذا.

    •••

    وهذه الحركات جميعًا كانت تتساند ويُعاون بعضها بعضًا، فأصحاب المذاهب الدينية اعتمدوا في تعاليمهم على الفلسفة وتعاليم الكتب والسنة، والمفسرون والمحدّثون والفقهاء كانوا يستعينون بالشعر والأدب على تفهم معاني القرآن والحديث، والمؤرخون والقصاص يستمدون بعض معلوماتهم من القرآن والحديث؛ وهكذا، وقلَّ أن تجد في هذا العصر ما نُسميه الآن تخصصًا، فليس هناك عالم بالتفسير فقط، أو الحديث فقط؛ لأن هذا الدور إنما يكون بعد تنظيم البحث، وهو دور لم يصلوا إليه في هذا العصر.

    وكذلك كانت الدروس فيها تفسير، وفيها حديث، وفيها فقه، وفيها لغة، وفيها جدال ديني.

    والذي يظهر أن الأمويين لم يُشجعوا من هذه الحركات الثلاث إلا الحركة الأدبية والقصص الرسمي، ففتحوا أبوابهم للشعراء والخطباء، وبذلوا لهم الأموال، وعينوا القصَّاص في المساجد، ولم يفعلوا شيئًا من ذلك للعلماء والفلاسفة، ولعل السبب في ذلك أمران:
    • (الأول): أن حكم الأمويين بُني على الضغط والقهر، فكانت حاجتهم إلى الشعراء والقصَّاص أشد؛ لأنهم هم الذين يُبشرون بهم، ويشيدون بذكرهم، ويقومون في ذلك مقام الصحافة لأحزابها؛ ومن أجل هذا لم يكن ينال الحظوة عند خلفاء بني أمية إلا من كان مادحًا لهم، فأما الشعراء العلويون والزبيريون ونحوهم فيحمدون الله أن سلموا منهم.
    • (الثاني): أن نزعة الأمويين نزعة عربية جاهلية لا تتلذذ من فلسفة، ولا من بحث ديني عميق، إنما يلذ لها الشعر الجيد، والخطبة البليغة، والحكمة الرائعة، قال المسعودي: «كان عبد الله بن مروان يحب الشعر والفخر والتقريظ والمدح، وكان عماله على مثل مذهبه»، وشأن أكثر بني أمية شأن عبد الملك؛ نستثني منهم خالد بن يزيد بن معاوية، فقد كان له نزعة فلسفية — كما أسلفنا — فوق نزعته الأدبية، قال فيه الجاحظ في البيان والتبيين: «وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبًا شاعرًا، وفصيحًا جامعًا، وجيد الرأي، كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء».

    كما نستثني عمر بن عبد العزيز، فقد كانت نزعته دينية وقد شقي به الشعراء؛ دخل عليه المُّصَيب بعد ما وليَ الخلافة، فقال له: إيه يا أسود أنت الذي تشهر النساء بنسيبك؟ فقال: إني تركت ذلك يا أمير المؤمنين، وعاهدت الله ألا أقول، وشهد له بذلك من حضر فأعطاه.

    إذا عدونا هذين (خالدًا وعمر) لم نجد كبير أثر للأمويين في تشجيع الحركة الفلسفية والدينية والتاريخية، كالذي نجده للعباسيين مثلًا؛ ومع هذا فقد نشطت هذه الحركات من نفسها، أما الحركة الدينية فللباعث الديني، وكان قويًّا إذ ذاك؛ وأما الحركة الفلسفية فلأن الدين في آخر عهد الأمويين اضطر إلى استخدام الفلسفة لمجادلة اليهود والنصارى، ولمحاربة الفرق الإسلامية بعضها لبعض، وأما الحركة التاريخية، فلما كان لها من صبغة دينية.

    في هذا العصر كان العلم — ولا سيما الديني — يُدرَّس في المساجد، يجلس الأستاذ في المسجد وحوله الآخذون عنه على شكل حلقة، وتكبر الحلقة وتصغر تبعًا لقدر الأستاذ؛ فالسيوطي في الإتقان يحدثنا أن عبد الله بن عباس كان يجلس بفناء الكعبة وقد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، ويُحدثنا ابن خلكان أن رَبِيعة الرَّأي كان يجلس في مسجد رسول الله في المدينة ويأتيه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، ويُحْدِق الناس به، وكانت حلقته وافرة، وكذلك كان مجلس الحسن البصري في مسجد البصرة، وقد يكون في المسجد جملة حلقات تجتمع كل حلقة على شيخ، كما حدثونا أن عمرو بن عُبَيْد ونفرًا معه كانوا يجلسون في حلقة الحسن البصري، ثم اعتزلوا حلقة الحسن وحَلَّقوا (أي: أنشئوا لهم حلقة خاصة)! وكذلك كان يفعل جعفر الصادق في المدينة، قالوا: وكان يشتغل بالكيمياء والزجر والفأل؛ ومثل هؤلاء كثيرون موزعون في الأمصار اتخذوا المساجد مدارس يعلمون فيها العلوم المختلفة، ولم أر ما يدل على أن المسلمين أنشئوا في هذا العصر مدارس خاصة للعلم إلا ما نقل المقريزي «عن الواقدي أن عبد الله بن أم مكتوم قدم مهاجرًا إلى المدينة مع مصعَب بن عمير، وقيل: قدم بعد بدر بقليل، فنزل دار القرَّاء»، ولم نعلم كثيرًا عن دار القراء هذه وهل خُصصت للمدارسة أوْ لا، وحَكى السيد أمير علي في كتابه «مختصر تاريخ العرب»: أن الحُرَّ بن يوسف بن الحكم بن أبي العاص بن أمية — وكان عاملًا لهشام بن عبد الملك على المَوْصل — بنى مدرسة بالموصل، ولكن لم يذكر له مستندًا، والذي في ابن الأثير أن الحرَّ هذا بنى المنقوشة، وهي دار يسكنها، وسميت المنقوشة؛ لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها، ولم يذكر أنه بنى مدرسة، والذي نعرفه أن بعض المدارس التي كانت في الممالك قبل الفتح ظلت على حالها بعد الفتح كبعض مدارس السريانيين، أما الأمويون فلا نعلم أنهم أنشئوا مدارس، ولكن كانت الدراسة العلمية في البيوت والمساجد.

    التدوين٣٧: ذهب بعضهم إلى أن تدوين العلوم والأخبار لم يحدث إلا في منتصف القرن الثاني للهجرة، وهذا على ما يظهر لنا غير صحيح، فإن التدوين بدأ من القرن الأول، بل كان قبل الإسلام تدوين، وكان هذا التدوين كثيرًا في البلاد المتحضرة كاليمن والحيرة، وقليلًا في بلاد الحجاز، فالحميريون في اليمن دونوا كثيرًا من أخبارهم وحوادثهم، ونقشوها على الأحجار، ولا تزال آثارهم في ذلك تُستكشف بين حين وحين، وقد حدثناك من قبل أن النبي لقي سُوَيْدَ بن الصامت وكان معه مجَلة لقمان، أعني صحيفة فيها حِكَمُ لقمان، فلما جاء الإسلام اتخذ النبي كتبة للوحي، فكانوا يكتبون على الرِّقاع والأضلاع وسَعف النخل والحجارة الرِّقاق البيض، ثم جُمعت هذه الصحف في عهد أبي بكر، وعُني بعض الصحابة بكتابة حديث رسول الله ، كعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يُدون ما يسمع من رسول الله، قال أبو هريرة: «ما أجد من أصحاب رسول الله أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب»، وقال عبد الله بن عمرو: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه» … (الحديث) بل قد رأيت أن النبي دعا بعض أصحابه أن يتعلم العبرية والسريانية ليدوِّن بها رسائله.

    فهذا تدوين للقرآن والحديث والرسائل التي كانت تُرسل من النبي ، وبعد هذا الزمن بقليل نرى أن المسلمين طرقوا موضوعات أخرى يدونونها؛ فابن النديم يُحدثنا في كتابه (الفهرست) أن عُبَيْدَ بن شَرْيَة الجُرهُمي كان في زمان معاوية وأدرك النبيَّ ولم يسمع منه شيئًا، ووفد على معاوية بن أبي سفيان؛ فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يدوِّن وينسب إلى عبيد بن شرية، وعاش عبيد إلى أيام عبد الملك بن مروان، وله من الكتب «كتاب الأمثال» و«كتاب الملوك وأخبار الماضين».

    ويقول في موضع آخر: إن صُحَارًا العَبْدِيَّ كان خارجيًّا، وكان أحد النسابين والخطباء في أيام معاوية بن أبي سفيان، وروى عن النبي حديثين أو ثلاثة، وله من الكتب «كتاب الأمثال».

    ويقول في موضع ثالث: إنه كان بمدينة الْحَدِيثة رجل يقال له: محمد بن الحسين جَمَّاعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب، والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات فأنس بي، وكان نفَورًا ضنينًا بما عنده، خائفًا من بني حمدان، فأخرج لي قِمَطرًا كبيرًا فيه نحو ثلاث مئة رطل من جلود وصِكاك وقراطيس، وورق صيني وورق تهامي، وجلود أدَم، فيها تعليقات عن العرب، وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأسماء والأنساب؛ وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم، فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبًا، إلا أن الزمان قد أخلقها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحدًا إثر واحد، ورأيت في جملتها مصحفًا بخط خالد بن أبي الهيَّاج صاحب عليٍّ، ورأيت فيها بخط الإمامين الحسن والحسين، ورأيت عنده أمانات وعهودًا بخط أمير المؤمنين عليٍّ، وبخط غيره من كتَّاب النبي ، ومن خطوط العلماء في النحو واللغة؛ مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني … ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسوَد ما هذه حكايته، وهي أربعة أوراق أحسبها من ورق الصين، ترجمتها: هذه فيها كلام الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يَعْمُر، وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط عِلَّان النحوي، وتحته: هذا خط النضر بن شُمَيل، ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القمطر وما كان فيه، فما سمعنا له خبرًا، ولا رأيت منه غير المصحف، هذا على كثرة بحثي عنه. ا.هـ باختصار.

    هذا في عصر الصحابة، فلما جاء عصر التابعين ومَن بعدهم قويت الحركة العلمية بسبب الفتوح، ودخول الأمم المتحضرة في الإسلام، والحاجة إلى تشريع واسع يتفق وما أحدثت المدينة من أحداث لم تكن، فكثر التدوين، فابن خلكان يُحدثنا أن وهب بن منبه المتوفى سنة ١١٠هـ وعمره تسعون سنة، ألَّف في ترجمة الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم.

    وابن سعد في الطبقات يذكر لنا أن هشام بن عروة بن الزبير قال: «أحرق أبي يوم الْحَرَّة كتب فقه كانت له، قال: فكان يقول بعد ذلك لأن تكون عندي أحبّ إليَّ من أن يكون لي مثل أهلي ومالي»٣٨.
    ويقول في موضع آخر عن عبد الرزاق قال: «سمعت معمَرًا قال: كنا نرى أنّا قد أكثرنا عن الزهري حتى قُتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه — يقول — من علم الزهري»٣٩.
    ويروي الأغاني «أن عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي (وكان في العصر الأموي) قد اتخذ بيتًا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتادًا، فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترًا فقرأه، أو بعض ما يُلعب به فلعب به»٤٠.

    وهذه كما ترى صورة لنادٍ فيه أدوات اللعب وأدوات القراءة وفيه لعب وقراءة.

    ويقول ابن خلِّكان أيضًا إن ابن شهاب الزهري «كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يومًا: والله لَهذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر»، وقد توفي سنة ١٢٤هـ، «وأن أبا عمرو بن العلاء وقد وُلد نحو سنة سبعين للهجرة كانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرَّأ — أي: تنسك — فأخرجها٤١ كلها، فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية»؛ وقد روينا من قبل أن خالد بن يزيد بن معاوية كتب ثلاث رسائل في الكيمياء وما إليها، ذكر ابن النديم أن زياد بن أبيه ألَّف كتابًا في علم الأنساب في مثالب العرب، وطعن فيه في أنسابهم لما طعن الناس فيه.

    هؤلاء وأمثالهم كانوا في العصر الأموي، وهذه الأخبار وإن كان بعضها محلًّا للشك، فهي في جملتها تدلنا على أن التدوين لم ينشأ في العصر العباسي كما يزعم بعضهم، ولكنه كان قبل ذلك، ويظهر مما عثرنا عليه أن التدوين بدأ بتقييد العلم من غير أن تظهر فيه للمؤلف شخصية ما، وليس له إلا الجمع، وكانت الكتب عبارة عن صحف يكتب عليها، وقد تكون صحفًا مفرقة ومبعثرة، فلما دخل الفرس والروم في الإسلام — وكانوا ذوي حضارة قديمة وكتب مؤلفة من قبل — أدخلوا على اللغة العربية بعد أن تعلموها نظام تأليف الكتب بالمعنى الذي نفهمه الآن من جمع ما يتعلق بالموضوع الواحد في كتاب واحد.

    ولكن ما كُتب في عصر الأمويين لم يصل إلى أيدينا منه إلا القليل، وأغلب هذه الكتب أُخذت عن العلماء من طريق الرواية، وأُدمجت في كتب العباسيين التي كانت أتم نظامًا، وأرقى في فن التأليف؛ وبعض هذه الكتب الأموية كانت موجودة في العصر العباسي وما بعده؛ فابن النديم يقول: إنه رأى صفحات أبي الأسود الدؤلي في النحو، وإنه رأى كتاب عبيد بن شرية في الأمثال؛ وابن خلكان يقول: إنه رأى كتاب وهب بن منبه في تاريخ اليمن، ولكن في عهدنا هذا لم يصلنا شيء يصح أن يوثق به إلا قليلًا.

    هذا مجمل الحركة العلمية في ذلك العصر، وسيأتي بعض تفصيل لها في الأبواب التالية.

١  فتوح البلدان طبع أوروبا ص ٤٧١ وما بعدها.
٢  المصدر نفسه.
٣  ص ٤٧٣.
٤  ص ٤٧٤.
٥  البلاذري ص ٤٧٣.
٦  ويفسر الطبري الحكمة بالإضافة في القول والفعل.
٧  أي المال.
٨  أخرجه البخاري ومسلم.
٩  الإخاذ: الغدير.
١٠  طبقات ابن سعد ٢: ١٠٤.
١١  شاممت الرجل، قارنته لأتعرف ما عنده.
١٢  الطبقات ٢: ١١٠.
١٣  الإصابة ١: ٩.
١٤  طبقات ابن سعد ٢: ١٢٥.
١٥  أسد الغابة ٣: ٢٢٨.
١٦  انظر الإتقان جزء ٢.
١٧  الفصل في الملل والنحل لابن حزم ٤: ١٣٧.
١٨  ذات ودقين: الداهية.
١٩  في كتابه (الأدب العربي).
٢٠  طبقات ابن سعد جزء ٢ — القسم الثاني ص ١٠١.
٢١  المصدر نفسه ص ١٢١.
٢٢  يُريد إذا سألت النبي أجابني، وإذا سكتُ بدأ يسألني ليفيدني.
٢٣  تجد القصة بطولها في طبقات ابن سعد في المجلد الرابع ص ٥٣ وما بعدها.
٢٤  طبقات ابن سعد ٤: ٦١.
٢٥  المصدر نفسه مجلد ٢ قسم ٢ ص ١١٧.
٢٦  نستعمل المدرسة هنا بمعناها الواسع ونعني بها دائرة الحركة العلمية لا البناء الخاص بالتعليم.
٢٧  الجند: بليدة باليمن.
٢٨  رجعنا في نسب هؤلاء ومحل إقامتهم إلى ابن خلكان وأعلام الموقعين وطبقات ابن سعد.
٢٩  هكذا ورد، وهو يدل على أن النخعي من الموالي، والذي في ابن خلكان أنه من النخع وهي قبيلة كبيرة من مذحج وأمه كذلك نخعية، وقيل في نسبه غير ذلك، وهذا هو الصحيح.
٣٠  الطبري ١: ٢٤.
٣١  وقد عُثر على قطعة من مغازي موسى طُبعت سنة ١٩٠٤م.
٣٢  الإصابة ١: ١٩١، وحديث الجساسة فيما يذكرون أن تميمًا حدث أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلًا من لحم وجذام فلعب بهم الموج شهرًا في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حين مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة: فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر (وذكر الصفة؛ لأن الدابة تُطلق على المذكر والمؤنث) فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. وسُميت الجساسة؛ لأنها تتجسس الأخبار فتأتي بها الدجال.
٣٣  أسد الغابة ٢: ٢١٥.
٣٤  خطط المقريزي ٢: ٢٥٣ طبعة أميرية.
٣٥  طبقات ابن سعد ٧: ٧٩.
٣٦  عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة.
٣٧  نعني بالتدوين ما هو أوسع معنى من التأليف، فنعني به تقييد الأخبار والآثار بالكتابة.
٣٨  جزء ٥: ١٣٢.
٣٩  جزء ٢ قسم ٢ ص ١٣٦.
٤٠  أغاني ٤: ٥٢.
٤١  لعله أحرقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤