الفصل السابع عشر

التشريع

كان عرب الحجاز في الجاهلية — كما رأيت — بدوًا أو شبه بدو، فلم تكن لهم حكومة منظمة، ولا ملوك يمنعون من تعدي بعضهم على بعض بما لهم من قوة تنفيذية، إنما كانوا قبائل، إذا كثر عددها انقسموا إلى بطون وأفخاذ وعشائر؛ والرابطة بين أفراد القبائل هي رابطة الدم، فكل من كانوا من دم واحد — ولو في زعمهم — عُدُّوا كتلة واحدة لأفرادها الحق في التمتع بحمايتها، والاستصراخ بها، وعليها أن تدافع عنه، وتطالب بدمه، وعليه الذود عنها، والخضوع لعرفها ودينها، وكان لكل قبيلة شيخ هو صاحب السيادة على أفراد القبيلة، مكنته من هذه السيادة ولادته من بيت الرياسة أو سِنُّه وحكمته، وهو الذي يمثلها في علاقاتها الخارجية بالقبائل الأخرى، وإنما كان يستمد قوته ونفوذه من الرأي العام لقبيلته، لا بما له من جيش وجنود ونحو ذلك.

وكان لكل قبيلة عُرف وتقاليد، تشترك أحيانًا في أمور وتختلف في أخرى تبعًا لبعدها عن البداوة وقربها منها، وكان للقبيلة حاكم يحكم بين مَن تنازع منهم حسب تقاليدهم وتجاربهم، فالأغاني يقول في أكثم بن صَيْفيِّ: «إنه كان قاضي العرب يومئذ»، والمَيْداني يقول في عامر بن الظَّرِب: «كان من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهمًا، ولا بحكمه حكمًا»، ولو تتبعنا كتب الأدب لرأينا فيها أن العرب كانوا تارة يتحاكمون إلى شيخ القبيلة، وتارة إلى الكاهن، وتارة إلى من عُرف بجودة الرأي وأصالة الحكم، ومن الصعب وضع حدود فاصلة لاختصاص كلٍّ، بل مما نشك فيه كثيرًا أنه كان هناك حدود فاصلة في الواقع.

هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدوَّن، ولا قواعد معروفة، إنما يرجعون إلى عرفهم وتقاليدهم التي كوَّنتها تجاربهم أحيانًا، ومعتقداتهم أحيانًا، وما وصل إليهم عن طريق اليهودية أحيانًا، ولم يكن لهذا القانون الجاهلي المؤسس على العرف والتقاليد جزاء، ولا المتخاصمون ملزمون بالتحاكم إليه والخضوع لحكمه، فإن تحاكموا إليه فبها وإلا لا، وإن صدر الحكم أطاعه إن شاء، وإن لم يطعه فلا شيء أكثر من أن يحل عليه غضب القبيلة.

وقد روت لنا كتب الأدب كثيرًا من قضاياهم في الخصومات الأدبية، وهي أن يتنازع سيدان أيهما أسود فيتحاكمان إلى حَكَمٍ، فمن حُكم له كان الفضل والشرف له ولعشيرته، والذل والعار للمنفور؛ وهذه القصص تدلنا على أن هؤلاء الحكام كانوا من قبيل ما نسميهم بالمحكمين، فلم يكن لهم سلطة مستمدة من الحكومة؛ إذ لا حكومة لهم تمدهم بالسلطان، ولا الخصوم ملزمون بالتقاضي أمامهم، وكل ما في الأمر أن الرجل إذا عُرف بسداد الرأي، وصحة الحكم، وسعة العلم بوقائعهم ونسبهم نصبوه حكمًا، وروى لنا البخاري قضية جنائية حدثت قبيل الإسلام١، فقد روى أن رجلًا من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم — وقد انقطعت عروة جُوَالِقِه — فقال: أغثني بعِقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالًا فشد به، فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذي استأجره، ما بال هذا البعير لم يُعقل؟ فقال: ليس له عقال، فقال: فأين عقاله؟ وحذفه بعضًا كان فيها أجله، فمر به «بالمقتول» رجل من أهل اليمن قال: … فهل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: إذا شهدت الموسم فناد يا لَقُريش، فإذا أجابوك فناد يا لبني هاشم، فإذا أجابوك فاسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانًا قتلني في عقال، ومات المستأجَر؛ فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب، فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذلك منك، فمكث حينًا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه وافى الموسم … حتى جاء أبا طالب، قال أمرني فلان أن أبلغك رسالة: إن فلانًا قتله في عقال؛ فأتاه «المستأجِر» أبو طالب، فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تُؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به … إلخ الحديث.

وهذه القصة تدلنا على أنواع كثيرة من النظام القضائي عندهم.

ويظهر أن مكة قبيل الإسلام بلغت شيئًا من الرقي في نظامها الحكومي، ومنه القضاء، كما يدلنا على ذلك ما رُوي من توزيع الأعمال على عشرة رجال من عشرة أبطن٢، كالحجابة والسقاية والرَّفادة والنَّدْوَة واللواء، وكان من هذه الأعمال شيء يتعلق بالقضاء عهد به إلى أبي بكر في الجاهلية؛ فقد ذكروا أنه عهد إليه بالأشْنَاق، وهي الديات والمغارم، ويدلنا على ذلك أيضًا ما رووا لنا من اجتماع بعض قبائل قريش على حِلْف الفضول، فقد تحالفوا على ألا يُظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويؤيدوا له مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم.

كذلك كان التشريع في المدينة قبل الإسلام راقيًا رقيًّا نسبيًا لاختلاط العرب فيها باليهود، وكان عندهم من التوراة وشروحها كثير من الأحكام، وكانوا خاضعين في شئونهم للقانون اليهودي.

وقد تعرض الإسلام للقانون الجاهلي، وبعبارة أخرى لعرف العرب وتقاليدهم في الجاهلية، فأقر بعضًا وأنكر بعضًا وعدَّل بعضًا، مثال ما أقره: القَسَامة وهي التي حكينا عن البخاري قصتها من قبل، فقد أخرج مسلم والنسائي عن رجل من أصحاب النبي أن رسول الله أقر القَسَامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادَّعوه على يهود خيْبر٣، وعدَّل الإسلام بعض شريعة الجاهلية في الحج والزواج والطلاق والمهر والخُلْع والإيلاء، وألغى نظام التبني المعروف — كان — في الجاهلية، كما ألغى البيع بإلقاء الحجر والملَامسة والمنابذة؛ ويطول بنا القول لو ذكرنا ما يُروى من هذه النظم في الجاهلية، وما أدخله عليها الإسلام من تعديل أو إلغاء.

•••

جاء رسول الله ، وأقام بمكة نحو ثلاث عشرة سنة، ثم أقام بالمدينة نحو عشر سنين، وهذا العصر أعني العصر الذي عاش فيه النبي بعد الهجرة هو عصر التشريع حقًّا، ففيه كان ينزل القرآن بالأحكام، وتصدر عنه الأحاديث مبينة لما يعرض من الحوادث، وهذان المصدران — الكتاب والسنة — هما أعظم مصادر التشريع الإسلامي.

القرآن: نزل القرآن — كما رأيت — منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، منه ما نزل بمكة ويبلغ نحو ثلثي القرآن، ومنه ما نزل بالمدينة ويبلغ نحو الثلث.

ونحن إذا تتبعنا الآيات المكية نجد أنها لا تكاد تتعرض لشيء من التشريع في المسائل المدنية والأحوال الشخصية والجنائية، إنما تقتصر على بيان أصول الدين والدعوة إليها، كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ والأمر بمكارم الأخلاق كالعدل والإحسان، والوفاء بالوعد، وأخذ العفو، والخوف من الله وحده، والشكر، وتجنب مساوئ الأخلاق، كالزنا، والقتل، ووأد البنات، والتطفيف في الكيل والميزان، والنهي عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، حتى ما شُرع في مكة من عبادات كالصلاة والزكاة لم يكن على التفصيل والبيان الذي عرف في المدينة، فالزكاة في مكة كانت بمعنى الصدقة والإنفاق في سبيل الخير من غير أن يُحدَّد لها جزء معين ولا نظام خاص، وكذلك الصلاة إنما أمر المسلمون أول أمرهم بنوع من الصلاة لم يحدد بأنه خمس في اليوم وهكذا، ولعل أوضح ما يبين التعاليم التي كان يدعو إليها الإسلام في مكة سورة الأنعام المكية.

أما التشريع في الأمور المدنية من بيع وإجارة وربا ونحو ذلك، والجنائية من قتل وسرقة، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق، فكل ذلك كان بعد أن هاجر النبي إلى المدينة، ولعل خير ما يوضح هذا النوع من التشريع سورتا البقرة والنساء المدنيتان، والعلة في ذلك واضحة، فإن أصول الدين وهي التي جاء بها التشريع المكي مقدمة في الأهمية وفي المنطق على أصول الأحكام التي جاء بها التشريع المدني، وأيضًا فإن الأحكام هي أشبه ما تكون بقوانين الدولة، وهي إنما تُوضع بعد تكون الدولة وقرارها، ولم يكن الحال كذلك إلا في المدينة، أما في مكة فقد تقضى زمن النبي بها في دعوة الناس إلى الدين الجديد، ولم يدخل فيه في السنوات الأولى إلا العدد القليل.

وهذه الآيات القانونية، أو كما يسميها الفقهاء آيات الأحكام ليست كثيرة في القرآن، ففي القرآن نحو ستة آلاف آية، ليس منها مما يتعلق بالأحكام إلا نحو مئتين وحتى بعض ما عدَّه الفقهاء آيات أحكام لا يظهر أنها كذلك، وليس عدها من آيات الأحكام إلا مغالاة في الاستنتاج، لا يساعد عليه سياق الآيات، وذلك كاستنتاج أن لفظ «أشهد» من ألفاظ اليمن من قوله تعالى: ذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ۗ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، وكاستنتاج حرمة لحم الخيل والبغال والحمير من قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ واستنتاج وجوب الأضحية من قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إلى كثير من أمثال ذلك.

وترتيب القرآن توقيفي، لم يراع فيه تاريخ النزول، ولا اتحاد الموضوع؛ لذلك لا ترى الآيات القانونية قد جُمعت في موضوع واحد، ولا الآيات المتعلقة بموضوع واحد في مقام واحد أو مقامين إلا نادرًا كآيات المواريث وآيات الطلاق، والسبب في ذلك على ما يظهر أن القصد الأول للقرآن تأسيس أركان الدين، والدعوة إلى التوحيد، وتهذيب النفوس، ووضع مبادئ للأخلاق، فأما القصد التشريعي فيلي هذا، ومن ثم كان كثير من آيات التشريع واردًا في سياق القصد الأول وعلى أسلوب الدعوة والهداية، لا على الأسلوب القانوني المألوف مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.

وكان التشريع أكثر ما يكون بمناسبة حوادث تحدث، فيتحاكم فيها المتخاصمون إلى الرسول، فتنزل الآية أو الآيات ناطقة بالحكم؛ مثل ما رُوي أن رجلًا من غَطَفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه، فترافعا إلى النبي فنزلت: وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ الآية. وكالذي رُوي أن أهل المدينة — في الجاهلية وفي أول الإسلام — كانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوَّجها غيرَه وأخذ صداقها ولم يعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلَها وضارَّها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها؛ فتُوفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبَيْشَة٤، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم يُنفق عليها، يضارها لتفتدي منه بمالها، فأتت كبيشة إلى رسول الله وقصَّت قصتها، فقال لها رسول الله، اقعدي حتى يأتي فيك أمر الله؛ فانصرفت، وسمعت بذلك نساء المدينة فأتين رسول الله، وقلن ما نحن إلا كهيئة كبيشة، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ … الآية٥.
وأحيانًا تحدث حادثة جزئية تستدعي نزول آيات تبين أحكام الموضوع كله كآيتي الميراث: سْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ … الآية٦.

ولعلك لمحت معي ما ذكرتُ من حادثة كبيشة أن الناس حتى في المدينة كانوا يسيرون فيما لم يرد فيه حكم إسلامي على المألوف عندهم في الجاهلية حتى يُغيره الإسلام أو يقرَّه، بل قد رُوي لنا أن بعض من ينتسب إلى الإسلام — في العهد الأول بالمدينة — كان يُريد أن يسير على النمط الجاهلي في التقاضي وفي الحكم، فقد جاء في الطبري أن رجلًا من الأنصار يقال له قيس ورجلًا من اليهود، تخاصما فتنافرا إلى كاهن بالمدينة ليحكم بينهما، وتركا نبي الله ، وكان اليهودي يدعوه إلى نبي الله وقد علم أنه لن يجور عليه، وجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا إلى أن يقول: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وفي موضع آخر: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ولعل هذه الآيات هي أول ما نبه إلى وجوب رجوع المسلمين في تقاضيهم إلى أحكام الإسلام.

ويمكننا أن نقول: إن آيات الأحكام بالمدينة كانت تنزل حسب تطور جماعة المسلمين بالمدينة، ولو وقفنا على تاريخ نزول آيات الأحكام بها وتتبعنا تسلسل الآيات تبعًا لتسلسل الحوادث لفهمنا أصدق فهم حالة المسلمين الاجتماعية وتدرجها في الرقي، وفهمنا بحق مجمل الآيات ومفصله، ومطلقها ومقيدها، ولعل هذا المعنى هو الذي يرمي إليه «الشاطبي» في كتابه «الموافقات» من قوله: «المدني من السور ينبغي أن يكون مُنزلًّا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه التنزيل … إلخ»٧ فالدعوة السلمية في مكة ثم تشريع الحرب والجهاد في أول عهد الإسلام بالمدينة، ثم التوسع في أحكام الحرب بعد ذلك، والأمر بالزكاة على وجه عام ليس فيه تقدير ما في مكة، ثم تحديد القدر وبيان مصارف الزكاة في المدينة، كل هذا — ونحوه كثير — كان تابعًا لنمو جماعة المسلمين ورقيهم، فكان التشريع ينزل طبقًا لحالتهم، وقل مثل ذلك فيما ورد من آيات مُسَالمَةٍ لليهود أول الأمر، ثم آيات شدةٍ وحربٍ لَمَّا ناصب اليهود المسلمين العداء، بل ترك الإسلامُ الناس يأتون بعادات جاهلية لا يحبها كالخمر، استدراجًا لهم وتأليفًا لقلوبهم، حتى إذا نضجوا وأصبح من الممكن تنفيذ الأمر والنهي أمَرَ ونَهَى.

وهذا التدرج ومراعاة حال جماعة المسلمين هي التي تُفسر لنا العلة في تشريع النسخ، وهو أداة لا بد منها في القوانين الإلهية والوضعية، يقول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقول: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ويقول الطبري في تفسير النسخ: «أن يحوَّل الحرام حلالًا، والحلال حرامًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا»؛ وعللوا جواز النسخ بأن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات، وقد حدث ذلك فعلًا في الشريعة الإسلامية، فقد أُمرت المرأة أن تعتد حولًا إذا مات عنها زوجها وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ثم نسخ باعتدادها أربعة أشهر وعشرًا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وحصل مثل ذلك في الحديث: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فالآن ادخروها»، و«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».

وقد لاحظ الشاطبي — بحق — أن التشريع المكي قلَّ أن يتعرض للنسخ، والعلة في ذلك ما علمنا أن التشريع المكي إنما يتعرض لأصول الدين من توحيد وترك أوثان ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وهذه غير معقول فيها نسخ، إنما يحصل النسخ أحيانًا للأحكام الدينية التفصيلية، وذلك كان في المدينة.

تعرض القرآن في آيات الأحكام إلى جميع أنواع ما يصدر عن الإنسان من أعمال، إلى العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، إلى الأمور المدنية كبيع وإجارة وربا، إلى الأمور الجنائية من قتل وسرقة وزنا وقطع طريق، إلى نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث، إلى الشئون الدولية كالقتال، وعلاقة المسلمين بالمحاربين، وما بينهم من عهود وغنائم الحرب؛ وهو في هذا كله لا يتعرض كثيرًا للتفاصيل الجزئية، إنما يتعرض غالبًا للأمور الكلية، فهو لا يتعرض في الصلاة مثلًا إلى أوقاتها وهيئاتها، وفي الزكاة إلى مقدار الواجب فيها وأنواع ما يجب، وهكذا في بقية الأبواب، بل ترك ذلك إلى الرسول يبينه بقوله وفعله.

وهو في كثير من شئون التشريع مجدد مصلح، قد أدخل على النظام الجاهلي تغييرات وتعديلات يطول شرحها، فهو يقلل عدد الزوجات، ويزيد في حرية المرأة، ويُغير كثيرًا من عادات الجاهلية في زواجهم وطلاقهم، ويضع نظامًا للإرث يُخالف النظام الجاهلي؛ فقد كانوا في الجاهلية — مثلًا — لا يورثون النساء، ولا الصغار من أبناء الميت، إنما يورثون من يلاقي العدو، ويقاتل في الحروب٨، فشرع الإسلام توريث المرأة وكان ذلك شديدًا على النفوس؛ فقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: «لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس، وقالوا تُعطَى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويُعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يُقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة! … إلخ»٩ ومن أجل هذا أكد القرآن إعطاء المرأة نصيبها، وكرر ذلك في أكثر من موضع؛ وهكذا في كثير من الشئون التي تعرَّض القرآن لبيان أحكامها، ولسنا نستطيع هنا ذكر جميع ما شرعه القرآن من الأحكام١٠.

•••

وهناك نوع آخر من التشريع كان في عهد رسول الله، وهو التشريع بالسنة، ويختلف عن الكتاب في أن القرآن ألفاظه ومعانيه بوحي من الله، وأما السنة فألفاظها من عند الرسول، فالسنة أو أحاديث الرسول بينت كثيرًا من آيات القرآن كالذي رأيت في آيات الصلاة والزكاة، فالقرآن لم يبين هيئات الصلاة ولا أوقاتها، ولم يبين المقادير الواجبة في الزكاة ولا شروطها، إنما بيَّن ذلك النبي بقوله أو فعله؛ كذلك حدثت حوادث وخصومات قضى فيها النبي بالحديث لا بالقرآن فكان قضاؤه في ذلك تشريعًا، فكل ما قاله النبي أو فعله أو حدث أمامه واستحسنه كان تشريعًا، ومتى ثبت ذلك عن رسول الله كان في القوة بمنزلة القرآن، ولكن قلَّ أن يثبت ثبوتًا لا يحتمل الشك لما بينا قبل في كلامنا على الحديث.

ويتصل بهذا النوع ما ارتضاه أكثر الأصوليين من أن رسول الله كان يجتهد برأيه حيث لا يكون وحي، وأنه كان أحيانًا يخطئ في رأيه، واستدلوا على ذلك بأنه عوتب في أسرى بدر بقوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، وكان قد أشار عليه عمر بالقتل، ولو كان حكم بمقتضى الوحي ما عوتب؛ وروي أنه قال في حق مكة: «لا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شجرها»، فقال العباس: إلا الإذْخِر، فقال : إلا الإذخر، ونزل منزلًا للحرب فقيل له: إن كان بوحي فسمعًا وطاعة، وإن كان باجتهاد ورأي فليس منزلَ مكيدةٍ، فقال: باجتهاد ورأي، فرحل؛ وقال في حجة الوداع: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقْتُ الهَدْي»، وقال : «إنك تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقضي له قطعة من نار» ولكن اتفقوا على أنه لا يُقَرُّ على خطأ، فما اجتهد فيه وأقِرَّ عليه كان — لا شك — حجة١١.
وأحاديث الأحكام كثيرة وردت في كل الأنواع التي ورد فيها القرآن فبينت مجمله، وقيدت مفصله، وزادت أشياء كثيرة لم يذكرها القرآن، وقد عُني العلماء قديمًا بجمعها، ورتبوها حسب الترتيب الفقهي١٢.

هذان الأصلان — الكتاب والسنة — هما مصدر التشريع في عهد النبي ، ومن ذلك يتبين أن أساس القانون الإسلامي إلهي، مصدره الله فيما نص عليه من كتاب وحديث، ليست لأية سلطة حق في مخالفتها، ولا الخروج على ما ورد في نصوصها، إنما يجتهد المجتهدون فيما لم يرد فيه نص، مسترشدين بما ورد في الكتاب والسنة من قواعد كلية، وبذلك تخالف القوانين الوضعية، ففيها تكون السلطة التشريعية في منتهى الحرية في تفسير قانون أو تعديله أو إلغائه، وليس الشأن كذلك في القوانين الإلهية، فحرية الفقهاء والخلفاء محدودة في دائرة فهم نصوص القرآن، ومقدار الثقة بالحديث وعدمها، لم يرد فيه كتاب ولا سنة صحيحة.

•••

توفي رسول الله وانقطع الوحي، واتسعت المملكة الإسلامية اتساعًا عظيمًا وسريعًا وعجيبًا، ففي السنة الرابعة عشرة من الهجرة فُتحت دمشق، وفي السابعة عشرة تمَّ فتح الشام كله والعراق، وفي الحادية والعشرين تم فتح فارس، وفي السادسة والخمسين وصل المسلمون إلى سمرقند، وفي الغرب أخذت مصر في سنة عشرين، ثم امتدت الفتوح إلى المغرب، وأخذت إسبانيا حول سنة ٩٣هـ، ونال المسلمون من الغنى في المال والرقيق وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل، وكانت هذه الممالك المفتوحة غنيمة، وكانت ممدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر؛ تمثلت الحضارة الفارسية في فارس والعراق، والحضارة الرومانية في مصر والشام، ولم يكن الفتح الإسلامي سلبًا ونهبًا وتدميرًا، إنما كان فتحًا منظمًا يسير فيه القرَّاء والمعلمون والقانونيون مع الجند الفاتحين، ويحلون حيث حل الجند، فواجه المسلمون بهذا الفتح مسائل كثيرة — في كل شأن من شئون الحياة — تحتاج إلى تشريع لم يكونوا يحتاجون إليه وهم في جزيرة العرب؛ فنظام للريِّ يُخالف ري الجزيرة، وما كان منه في العراق يُخالف ما كان منه في مصر، ومسائل مالية عديدة معقدة لا تُقارن بالشئون المالية بجزيرة العرب، ومسائل الجيش والفتوح ومعاملة المغلوبين وعلاقة الفاتحين بهم، وما يُؤخذ من الضرائب ممن أسلم وممن لم يسلم، وأحوال في الزواج لم يكن يعرفها العرب، وأنواع في طريقة التقاضي، لم يكن لهم بها عهد وجنايات تُرتكب لم يرتكبها العرب في حياتهم البسيطة؛ وقل مثل ذلك في سائر الشئون الداخلية والخارجية، فواجه المشرعون الأولون أمرًا عظيمًا ولم يدَّع أحد أن القرآن والسنة الصحيحة نصَّا في المسائل الجزئية على كل ما كان وما هو كائن، فنتج عن هذا أن كان أصل آخر من أصول التشريع، وهو الرأي الذي نُظِّم بعدُ وسمي القياس.

جرى على هذا كثير من الصحابة، فكانوا يستعملون رأيهم حيث لا نص، وقد نقل إليها المؤرخون والمحدِّثون والفقهاء جملة صالحة من المسائل التي استعمل فيها الصحابة رأيهم؛ فلم يكد يُتَوَفى النبي حتى رأوا أنفسهم أمام أكبر مشكلة قانونية، وهي مَنْ يتولى الأمر بعده، أمِنَ المهاجرين أم من الأنصار؟ أم من هؤلاء أمير ومن هؤلاء أمير؟ وإذا فصل في ذلك، فمن هو خير من يتولاها؟ لم يرد في ذلك نص من كتاب ولا سنَّة، فلم يكن إلا أن يستعملوا رأيهم وقد كان؛ فالمحضر الذي ذكره المؤرخون لاجتماع السقيفة يدلنا على كيفية استعمال رأيهم، وتقليب الأمر على وجوهه ولم يفرغ أبو بكر من مبايعة الناس له حتى واجه مسألة الرِّدَّة، فرأى قومًا يمتنعون عن أداء الزكاة مع إقرارهم بالإسلام وإتيانهم للصلاة، فكيف يصنع بهم، ولم تحدث حادثة كهذه في عهد النبي؟ فلجئوا إلى الرأي، فقال عمر: كيف نُقاتلهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة.

وكذلك عرضت فكرة جمع القرآن في مصحف، واختلف الرأي أولًا بين أبي بكر وعمر، حتى شرح الله صدر أبي بكر لما يقول عمر.

وعرضت لهم مسألة الجد مع الإخوة، هل يرث الإخوة؟ فالقرآن لم ينص على هذه المسألة، إنما نص على الأب مع الإخوة، فذهب ابن عباس وأبو بكر إلى أنه يحجبهم كالأب، وذهب آخرون ومنهم زيد بن ثابت وعلي وعمر إلى إرثهم معه.

وأرادوا أن يُعطوا العطاء، أعني الغنائم التي يغنمونها في الحروب، فاختلفوا هل يسوَّى بين المهاجرين والأنصار؟ فقال عمر: لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرًا إلى النبي كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ؛ وكان أبو بكر يعمل برأيه فيسوي بينهم، ولما أفضت الخلافة إلى عمر فرَّق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم، ولما رُفعت إلى زيد بن ثابت مسألة من مات عن زوج وأبوين أعطى للأم ثلث ما بقي، فقال ابن عباس: أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد: أقول برأيي وتقول برأيك.

وفي تاريخ القضاة للكندي أن عياض بن عبيد الله قاضي مصر كتب إلى عمر بن عبد العزيز في مسألة، فكتب إليه عمر أنه لم يبلغني في هذا شيء، وقد جعلته لك فاقض فيه برأيك١٣، والأمثلة الواردة في هذا الباب كثيرة جدًا لا نطيل بسردها.
وعلى الجملة فقد كان كثير من الصحابة يرى أن يستعمل الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، والمتتبع لما روي عن العصر الأول في «الرأي» يرى أنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة «العدالة» وبعبارة أخرى ما يرشد إليه الذوق السليم مما في الأمر من عدل وظلم، وفسره ابن القيم: «بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب»، وأنا أقص عليك بعض أمثلة رُويت تبين كيف كانوا ينظرون إلى المسائل، وكيف يقبلونها على وجوهها، وكيف يستعملون رأيهم؛ من ذلك ما رُوي أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة، قال زيد — وكان رأيي يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته — فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضربت له في ذلك مثلًا، فقلت: لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خَوطَان١٤، ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغذوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه من الأصل؟ قال زيد: فأنا أعذله، وأضرب له هذه الأمثال، وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة١٥.
ورُفعت إلى عمر قصة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها، فتردد عمر: هل يقتل الكثير بالواحد؟ فقال له عليٌّ: أرأيت لو أن نفرًا اشتركوا في سرقة جَزُور فأخذ هذا عضوًا وهذا عضوًا أكنتَ قاطعهم؟ قال: نعم، قال فكذلك؛ فعمل عمر برأيه وكتب إلى عامله أن اقتلهما، فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم١٦.

ولما اختلفوا في المسألة المشتركة وهي التي تُوفيت فيها امرأة عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، كان عمر يعطي للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، فلا يبقى شيء للإخوة الأشقاء، فقيل له: هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة! فعدل عن رأيه وأشرك بينهم.

ولما سئل عليٌّ في عقوبة شارب الخمر قال: من شرب هذي، ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري — وهو القاذف — ومثل هذا كثير مما يدل على مقدار تفكيرهم القانوني في هذا العصر.

ولعل عمر بن الخطاب كان أظهر الصحابة في هذا الباب، وهو استعمال الرأي، فقد رُوي عنه الشي الكثير، وكان هذا من توفيق الله للمسلمين، فإن عمر قد واجه من الأمور المحتاجة إلى التشريع ما لم يُواجه خليفة قبله ولا بعده، فهو الذي على يده فُتحت الفتوح ومصرت الأمصار، وخضعت الأمم الممدنة من فارس والروم لحكم الإسلام، وهي حالة لم يحدث بعد نظيرها، فكان لعمر من التشريع في المسائل الاقتصادية والسياسية والعمرانية ما كان أصلًا للفقهاء من بعده، ولذلك يقول فيه الفقهاء في باب الجهاد والسِّيَر — وهو الباب الذي تبين فيه علاقة الغالبين بالمغلوبين — «إنه العمدة في هذا الباب».

بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يُعبر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته، ودليلنا على ذلك ما روى عنه من العلماء من أحكام نذكر بعضها:

فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ … الآية، فجعل المؤلفة قلوبهم مصرفًا من مصارف الزكاة، وقد ثبت أن النبي كان يعطي بعض الناس يتألف قلوبهم للإسلام، كما أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، حتى قال صفوان: لقد أعطاني وهو أبغض الناس إليَّ، فما زال يُعطيني حتى كان أحب الناس إليَّ، ثم في زمن أبي بكر جاء عيينة والأقرع يطلبان أرضًا، فكتب لهما بها، فجاء عمر فمزق الكتاب وقال: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه وإلا فبيننا وبينكم السيف١٧، فترى من هذا أن عمر علل الدفع إلى المؤلفة قلوبهم بعلة هي المصلحة، فلما ارتفعت هذه المصلحة بعزة الإسلام، وعدم حاجته إلى من تتألف قلوبهم لم يستمر في إجراء الحكم.
كذلك رُوي عن عمر أنه لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، ورُوي أن غِلمَةً لحاطب بن أبي بَلْتَعة سرقوا ناقة لرجل من مُزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يا كثيِّر بن الصلت، اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولَّى بهم ردهم عمر ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم؛ وايم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك … إلخ١٨.

ومثل ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه» إلى كثير من أمثال ذلك، ويكفينا هذا القدر للدلالة على ما نقول.

وقد وجدت نزعة من العصر الأول لتنظيم هذا الرأي من طريق الاستشارة، فقد أخرج البَغَويُّ عن ميمون بن مَهْران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعَلِمَ من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله قضاء … فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر (رضي الله عنه) يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس الناس فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.

وفي المبسوط للسرخسي «أن عمر كان يستشير الصحابة مع فقهه، حتى كان إذا رُفعت إليه حادثة قال: ادعوا لي عليًّا، وادعوا لي زيدًا … فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه».

وعن الشعبي قال: «كانت القضية تُرفع إلى عمر (رضي الله عنه) فربما تأمل في ذلك شهرًا ويستشير أصحابه، واليوم يُفصل في المجلس مئة قضية».

ورُوي عن سعيد بن المسيب عن علي قال: «قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالمين أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد».

وعن شريح قال: قال لي عمر بن الخطاب: «أن أقض بما استبان لك من قضاء رسول الله، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم فاجتهد برأيك، واستشر أهل العلم والصلاح».

ولكن لم يُوضع — مع الأسف — نظام ملزم واضح يُبين كيفية الشورى ومَن الذين يُستشارون، وقيمة رأي المستشارين … إلخ، مع أن الحاجة ماسة إلى هذا التنظيم؛ وقد سار الأندلسيون فيه خطوة سديدة بتكوين مجلس للشورى يُعيَّن أعضاؤه من قِبَل الخليفة، ليس هنا موضع الكلام عليه.

على كل حال وجد العمل بالرأي، ونُقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا أفتوا فيها برأيهم كأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل؛ وكان حامل لواء هذه المدرسة أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن الخطاب؛ وأشهر من سار على طريقته عبد الله بن مسعود في العراق، فكان يتعشق عمر ويُعجب بآرائه، ورُوي عنه أنه قال: إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم، وجاء في أعلام الموقعين أن ابن مسعود كان لا يكاد يُخالف عمر في شيء من مذاهبه١٩، وقال الشعبي: كان عبد الله لا يَقْنُت، ولو قنت عمر لقنت عبد الله، وقال أيضًا: «ثلاثة كان يستفتي بعضهم من بعض، فكان عمر وعبد الله «بن مسعود» وزيد بن ثابت يستفتي بعضهم من بعض، وكان علي وأُبي بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض» وهذا الخبر يدلنا على أنه كان للصحابة العلماء مناح للتفكير، كل جماعة لهم منحى يألف بعضهم بعضًا، ويؤيد بعضهم بعضًا.
فكان عبد الله بن مسعود من منحى عمر، وأظهر مناحيه الاعتداد بالرأي حيث لا نص كما رأيت، وهذا المنحى يظهر في ابن مسعود واضحًا أيضًا، فقد قال أبو عمر الشيباني كنت أجلس إلى ابن مسعود حولًا لا يقول قال رسول الله ، فإذا قالها استقلته الرِّعْدة٢٠، ورُوي عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يعدل بقول عمر وابن مسعود إذا اجتمعا، فإذا كان قول عبد الله أعجب؛ لأنه كان ألطف.
وأنت إذا علمت أن علم أهل العراق كان عن عبد الله بن مسعود، وأن مدرسة العراق تُوِّجت بابي حنيفة٢١ رأيت سببًا كبيرًا من الأسباب التي جعلت مدرسة العراق تشتهر بالرأي وإعمال القياس.
انتشرت مدرسة الرأي هذه في القرن الأول والثاني للهجرة حتى كانوا ينسبون إليها، فسموا «ربيعَة الرأي» وهو من أكبر التابعين وشيخ الإمام مالك وكان من الموالي؛ وكان كثير من التابعين وتابعيهم من هذه المدرسة كالحسن البصري، وكان أكبر موطن لها العراق، ويرجع ذلك إلى أسباب ثلاثة:
  • (الأول): ما ذُكر من تأثير عبد الله بن مسعود فيهم، وهو ما علمت من ميل إلى الرأي يشارك فيه أستاذه عمر بن الخطاب.
  • (والثاني): ما ذكره ابن خلدون من أن الحديث كان في العراق قليلًا، وكان أكثر رواة الحديث في الحجاز؛ لأنه موطن النبي وكبار الصحابة.
  • (والثالث): أن العراق قطر ممدن كما علمت قد تأثر إلى درجة كبيرة بالمدنية الفارسية واليوناينة، والمدنية تضع تحت عين المشرع جزئيات كثيرة تحتاج إلى التشريع لا يُقاس بها القطر البدوي وما في حكمه، فإذا انضم إلى ذلك ما وصل إليهم من الحديث أنتج ذلك لا محالة إعمال الرأي.
وكان لمدرسة الرأي هذه مميزات واضحة:
  • (١)
    كثرة تفريعهم الفروع حتى الخيالي منها، وقد ألجأ إلى ذلك أوَّلًا كثرة ما يُعرف لهم من الحوادث نظرًا لمدنيتهم، ثم ساقهم ذلك إلى الجري وراء الفروض، فأكثروا من أرأيت لو كان كذا؟ فيسألون المسألة ويبدون فيها حكمًا، ثم يُفرعونها بقولهم: أرأيت لو كان كذا؛ ويُقلبونها على سائر وجوهها الممكنة وغير الممكنة أحيانًا، حتى سماهم أهل الحديث «الأرَأيْتيُّون»، قال الشعبي: «والله لقد بغض هؤلاء القوم إليَّ المسجد حتى لهو أبغض إليَّ من كناسة داري؛ قلت: من هم يا أبا عمر؟ قال: الأرأيتيون»٢٢ قال: «ما كلمة أبغض إليَّ من أرأيت» وكان مالك بن أنس لا يُقدَم عليه في السؤال كثيرًا، وكان أصحابه يهابون ذلك، قال أسد بن الفرات — وقد قدم على مالك — وكان أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة، فإذا أجاب يقولون قل له فإن كان كذا، فأقول له، فضاق عليَّ يومًا، فقال هذه سُلَيسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق٢٣، وقال سعيد بن المسيب لربيعة الرأي وقد اعترض عليه في مسألة: «أعراقي أنت؟ … إلخ» وكان عمل العراقيين سببًا في تضخيم الفقه وكثرة مسائله مما جعل الفقهاء الآخرين ينظرون فيها، ويبدون حكمهم فيها على أصول مذاهبهم؛ ويظهر أنه كان للمنطق السرياني الذي كان منتشرًا في العراق قبل الفتح — كما وصفنا من قبل — أثر في القالب الذي اتخذه العراقيون في تفريع المسائل.
  • (٢)

    قلة روايتهم للحديث واشتراطهم فيما يؤخذ به من الحديث شروطًا لا يسلم معها إلا القليل.

وحتى غالى القوم فرأوا عدم الأخذ بالحديث بتاتًا، وحجتهم في ذلك شكهم المطلق في رواة الحديث، وكثرة من جرَّحه المحدِّثون، حتى يكادوا لا يتفقون على أمانة محدِّث وصدقه، فقالوا: لا نترك كتاب الله الثابت المقطوع به لمثل هذا الحديث المشكوك فيه، وحتى من ظهرت أمانته، فمن يدرينا ما دَخيلة نفسه! وكانت هذه فئة كبيرة على ما يظهر، فقد عقد الإمام الشافعي في كتابه «الأم» فصلًا طويلًا عنوانه: «باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها»، وحكى آراءهم وناقشهم فيها مناقشة طويلة وبديعة٢٤، وحكى بعده بابًا آخر للرد على جماعة ذهبوا إلى أنه لا يؤخذ من الأخبار إلا ما اجتُمع عليه، فأما ما اختلفوا فيه فيقدم الرأي والقياس عليه٢٥، كان يناهض هذه المدرسة مدرسةُ الحديث أو أهل الحديث، ونرى لهذه المدرسة أصولًا في الصحابة، كالعباس، والزبير، ثم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن هذه المدرسة الشعبي من التابعين فإنه يقول: «ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله فخذوه وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش»، ومذهب هؤلاء أنهم إذا سئلوا عن شيء فإن عرفوا فيه آية أو حديثًا أفتوا وإلا لم يقولوا شيئًا، رُوي أن رجلًا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال: لم أسمع في هذا شيئًا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، قال: لا، ثم أعاد عليه فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: أنَّى؟ لعلِّي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيًا غيره فلا أجدك، ورُوي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة، فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيفُ الحديث أقوى من صاحب الرأي٢٦، ومثل هذه الأقوال كثير.
وأظهر ما كانت هذه المدرسة في الحجاز لعكس الأسباب التي ذكرناها في العراق، وكان من مميزات هذه المدرسة:
  • (١)

    كراهيتهم الشديدة للسؤال عن الفروض؛ لأن المصدر عندهم وهو الحديث محدود، وهم يكرهون إعمال الرأي، وقد رُويت أقوال كثيرة تدل على كراهيتهم للسؤال عن حادثة إلا إذا وقعت فعلًا، وعيبهم على العراقيين إثارة الفروض.

  • (٢)

    ومن مميزاتها الاعتداد بالحديث حتى الضعيف منه، وتساهلهم في شروطه وتقديمهم ذلك على الرأي، كالذي روينا عن أحمد بن حنبل.

وكانت هذه المدرسة كما أسلفنا سببًا غير مباشر لوضع الحديث، فقد رأى قوم لا يتحرون الصدق أن هناك مسائل لا تعد لم يرد فيها نص، ورأوا أعلام مدرستهم لا تقْدِم على الرأي تحل به المشاكل، فوضعوا الأحاديث الكثيرة يغطون بها هذا الموقف، قال عتيق الزبيدي: وضع مالك الموطأ عن نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو بقي قليلًا لأسقطه كله٢٧، ومن أدلتنا على ذلك ما بين أيدينا من كتب الفقه حتى فقه الإمام أبي حنيفة المشهور في عصره بإعمال الرأي، فإنك لا تجد فرعًا من فروعه إلا وفيه الحديث عن الرسول أو الصحابي، مع قول الثقات بأنه لم يصح عنده إلا أحاديث قليلة، وقد نبه العلماء على ضعف كثير مما ورد في هذه الكتب٢٨.

وتغالى أصحاب الحديث كما تغالى أصحاب الرأي، حتى قال بعضهم: إن السنة حاكمة على الكتاب، وليس الكتاب حاكمًا على السنة، وحتى كان في العصر الثاني من يقول: إن السنة تنسخ الكتاب.

•••

كان النزاع بين المدرستين شديدًا، ووجَّه كل فريق قوارص اللوم للآخرين، ووُضعت الأحاديث لتأييد كل مدرسة، فإذا روت مدرسة الحديث أن رسول الله قال: «يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته يحدِّث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله»٢٩ روت مدرسة الرأي أن رسول الله قال: «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله!»٣٠ وهذا هو الذي يُفسر لنا ما نراه في الكتب من تناقض، فقد رُوي عن أبي بكر في العمل بالرأي وفي ذم الرأي؛ وعن عمر في العمل بالرأي وذم الرأي، وابن مسعود كذلك٣١، وقد أجهد بعض العلماء أنفسهم في التوفيق بين هذه الأقوال المتناقضة، ورأوا أن نوعًا من الرأي محمود ونوعًا منه مذموم، وأن ما ورد عنهم في الذم إنما ينصرف إلى النوع المذموم، والذي نرى أن هذه الأقوال المتناقضة إنما هو من أثر المدارس المتنازعة، ومن وضع من اندس في كل مدرسة ولم يرع الحق ولم يخش الله.

وكانت بين المدرستين مناقشات طريفة نذكر لك مثلًا منها:

فقد رُوي أن ربيعة الرأي سأل سعيد بن المسيب عن عقل٣٢ أصابع المرأة: ما عقل الإصبع الواحدة؟ قال: عشرة من الإبل، فإصبعان؟ قال: عشرون، قال: فثلاثة؟ قال: ثلاثون، فأربع؟ قال: عشرون؛ قال: فعندما عظم جرحها نقص عقلها؟ فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ إنما هي السنة.

•••

وهناك مدرسة كانت بين المدرستين لا تُهمل الرأي بتاتًا، وهي مع ذلك غنية بالحديث ولا تُعمل الرأي إلا بشروط، وإلا عندما لم يكن نص في المسألة، ومن أعلام هذه المدرسة الإمام مالك ثم الإمام الشافعي.

وقد ارتقى البحث في الرأي ونُظم، ووُضعت له قواعد وشروط وسُمي بالقياس، وحصرَ الرأي بعد وضع هذه القواعد والنظم في دائرة ضيقة لا تتعدى غالبًا تشبيه ما لم ينص عليه بما نص عليه لعلة تجمعهما.

وهذه المدارس على اختلافها رقت التشريع رقيًّا بيِّنًا بما بحثت واستنبطت، حتى الأحاديث الموضوعة نفسها كان لها فضل في التشريع، فإنها لم تُوضع اعتباطًا ولا كانت مجرد قول يقال، إنما كانت في الغالب نتيجة تفكير فقهي وبحث واجتهاد، ثم وُضع هذا الرأي وهذا الاجتهاد في قالب حديث.

ولنعد الآن إلى إلقاء نظرة عامة على تاريخ التشريع في ذلك العصر.

في عهد الخلفاء الراشدين كان مركز الخلافة في المدينة، وكان فيها أكثر كبار الصحابة وأوسعهم علمًا، فلما توفي أبو بكر كانت تُعرض عليه معضلات المسألة ليقضي فيها، وكان — كما رأيت — يستشير كبار الصحابة فيما لم يرد فيه كتاب ولا سنة، ولم يُؤثر عنه أنه عين قاضيًا في ناحية من النواحي، وقد ذكروا أنه لما كثرت عليه شئون الأمة عهد بالشئون القضائية إلى عمر.

فلما تولى عمر وفُتحت الفتوح عين القضاة في الأمصار، في مصر والشام والعراق، وكان بجانب القاضي جملة من الصحابة والتابعين في كل مصر، عرفوا عادات المصر الذي نزلوا به ونوع معيشتهم وحالاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وكان لهم علم بالقرآن وجملة صالحة من الحديث، ورأيٌ يُحكمونه فيما ليس فيه نص، فكان هؤلاء يُسْتَفْتَوْنَ فيما يُعرض لهم فيفتون؛ وهؤلاء أصدروا فتاوى في أمور كثيرة عُدت بعدُ تقاليد لكل مصرٍ، أو بعبارة أخرى: سوابق قضائية تراعى إذا حدث مثلها، وقد ذكرنا قبلُ أن أهل المدينة كانوا يتبعون أكثر ما يتبعون فتاوى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله بن مسعود، وأهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص، هذه الفتاوى كانت تكثر بظهور أحداث لم يسبق صدور فتوى فيها واجتهاد العلماء في بيان حكمها.

ولما جاءت الدولة الأموية نقلت مركز الخلافة إلى دمشق الشام، وفي عهدها ظهر أثر الامتزاج الذي كان بين العرب الفاتحين والأمم المفتوحة على النحو الذي أبناه من قبل.

وساعد على هذا الامتزاج أن المسلمين كانوا بحق في عصرهم الأول متسامحين مع غيرهم أجمل تسامح، وسيرة عمر بن الخطاب أصدق شاهد على ذلك، وإنما جاءت القسوة وسوء المعاملة بعد هذا العهد؛ فكان من أثر ذلك أن وضع تحت أعين المسلمين أنواع من المدنيات المختلفة وأنواع من الديانات المختلفة وأنواع من الأنظمة المختلفة، كل هذه جعلت المسلمين وغير المسلمين يتساءلون: ما حكم الإسلام فيها؟ ما رأي الإسلام في هذه الجزئيات الكثيرة التي أنتجتها هذه المدنيات؟ ما الذي يرضاه الإسلام وما الذي لا يرضاه؟ أيها يتفق مع قواعده الكلية وأيها لا يتفق؟ فكان موقف الفقهاء أمام هذه المشاكل من أصعب المواقف وأشدها عناء؛ وكانوا هم من جانبهم من أكثر الناس نشاطًا وتحملًا للعبء.

يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل «جولدزيهر» و«سانتلانا» إلى أن الفقه الإسلامي في هذا العصر تأثر كثيرًا بالقانون الروماني، وكان هذا الفقه الروماني مصدرًا من مصادره، استمدَّ منه بعض أحكامه، قالوا: كان في الشام مدارس للقانون الروماني عند الفتح الإسلامي في قيصرية وفي بيروت، وكان هناك محاكم تسير في نظامها وأحكامها حسب القانون الروماني، واستمرت هذه المحاكم في البلاد بعد الإسلام زمنًا؛ قالوا: وطبيعي أن قومًا لم يأخذوا من المدينة بحظ وافر إذا فتحوا بلادًا ممدنة نظروا ماذا يفعلون، وبِمَ يحكمون، ثم اقتبسوا من أحكامهم؛ وقالوا: إن المقارنة بين بعض أبواب الفقه وبعض أبواب القانون الروماني تقنعنا بما نقول، بل إن هناك قواعد نُقلت من القانون الروماني بنصها مثل: «البيِّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر»، وإن كلمتي الفقه والفقيه استعملتا وفاقًا لمعنى الكلمة المستعملة عند الرومان، فهم يستعملون كلمة “Juris” وهي تدل على الفهم والمعرفة والحكمة؛ وقالوا: إن الفقه الإسلامي أخذ عن القانون الروماني إما مباشرة أو عن طريق التلمود، فإن هذا التلمود أخذ كثيرًا من القانون الروماني، واتصال المسلمين باليهود مكنهم من الأخذ ببعض أقوال التلمود، إلى آخر ما قالوا.

ولسنا نرى أن الأدلة التي أتوا بها مقنعة، فتشابُهُ بعض أحكام في قانونين لا يجعلنا نقطع بأخذ أحدهما عن الآخر، سيما إذا رُوعي أن القوانين — إلهية أو وضعية — تُراعي العدالة في التقنين، وهناك أمور واضحة العدالة يتفق فيها المشرعون، كقاعدة البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، وكلمة الفقه في أصل اللغة العربية معناها العلم بالشيء والفهم له، ثم غلبت على معنى العلم بالدين والفهم له، كما غلب الشعر على ذلك الضرب المعروف من القول، وفي هذا المعنى استعملها القرآن قبل امتزاج العرب بالرومان فقال: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، ثم غلبت على هذا النمط من العلم «علم التشريع»؛ لأنه يتطلب فقهًا في الدين ومعرفة بالكتاب والسنة؛ وهذا شأن العرب في أسماء العلوم على العموم، تكون الكلمات عامة، ثم تُخَصَّص، ولم نعثر على أحد من الأئمة المشرعين أشار أية إشارة إلى القانون الروماني على سبيل النقد أو التأييد أو الاقتباس؛ وقد كان أولى الناس بالتأثر بالقانون الروماني الأوزاعِي، فقد عاش في بيروت، موطن أكبر مدرسة رومانية في الشام، وكان أكبر فقيه فيها، وقد التفت بعض المستشرقين إلى ذلك وقالوا: إن من دواعي الأسف أن مذهبه اندثر، ولو عثرنا عليه لوجدنا فيه أثرًا كبيرًا للقانون الروماني، ويظهر لنا أنه قول غير وجيه، فقد عثرتُ على جملة صالحة من مذهبه في الجزء السابع من الأم؛ ودلتني قراءتها على أن من الإنصاف أن يُعد الأوزاعي من مدرسة الحديث لا من مدرسة الرأي، عكس ما يقول «جولدزيهر»، ومدرسة الحديث أبعد مظنة من التأثر بالقانون الروماني.

ولسنا ننكر أن القانون الروماني أفاد من ناحية غير هذه، أعني ناحية عرض المسائل على الفقهاء ليبدوا فيها رأيهم حسب القواعد الكلية للشريعة الإسلامية، فمن المحقق أن مصر والشام كانت تحكمهما محاكم رومانية بالقانون الروماني، فلما جاء الإسلام ودخل قوم من هؤلاء المحكومين فيه، وخضع له غيرهم كان من الطبيعي أن يعرضوا تقاضيهم القديم وآراء محاكمهم القديمة على الإسلام لينظروا ما يقر منها وما لم يقر، هب اليوم أنه لداعٍ من الدواعي غُيِّر القانون المصري ووضعت أسس أخرى لقوانين جديدة؛ فمما لا شك فيه أن المتقاضين ورجال القضاء ونحوهم ممن كانوا يتقاضون حسب القانون القديم يثيرون مسائل ويعرضون رأيه، ويُقارنون بين التعاليم القديمة والتعاليم الجديدة؛ خصوصًا إذا لاحظنا أن القضاة في صدر الإسلام كان لديهم الشيء الكثير من المرونة والتسامح فيما لم يخرج عن قواعد الإسلام، قرأت في ذيل كتاب قضاة مصر «أن خير بن نعيم تولى قضاء مصر من ١٢٠–١٢٧» كان يسمع كلام القبط بلغتهم ويخاطبهم بها، وكذلك شهادة الشهود منهم، ويحكم بشهادتهم»٣٣.

•••

في هذا العهد — عهد الدولة الأموية — لا نرى خلفاءهم يهتمون بشيء من شئون التشريع إلا قليلًا منهم كعمر بن عبد العزيز، فالتشريع لم يرق تحت حمايتهم ورعايتهم، كالذي كان في عهد الدولة العباسية، إنما رقي في المدارس وفي حلقات الدروس المستقلة عن خلفائهم، ولم يبذل الأمويون محاولة في صبغ تشريعهم صبغة رسمية، فلا نرى في الدولة الأموية مثل أبي يوسف في الدولة العباسية، يحميه الخلفاء ويُؤيدونه في التشريع ويُوثقون الصلة بينه وبينهم، وبينه وبين قضاة الأمصار، ولا نرى من المشرعين من اتصل بالأمويين إلا قليلًا كالزهري.

وفي هذا العهد لم تكن المذاهب الأربعة قد تكونت، إنما كان هناك أئمة كثيرون مجتهدون كالأوزاعي، اندثرت مذاهبهم، وبدأ في آخر عهد الدولة الأموية يظهر إمامان من الأئمة الأربعة: الإمام أبو حنيفة في العراق، والإمام مالك بن أنس في المدينة. فالإمام أبو حنيفة ولد سنة ٨٠هـ في ولاية عبد الملك بن مروان، وعاش نحو ١٨ سنة في ظل الدولة العباسية، وهو من أصل فارسي، أخذ الفقه عن جعفر الصادق من البيت العلوي، وعن إبراهيم النخعي من أكبر فقهاء عصره، وسمع الحديث من الشعبي والأعمش وقَتَادَةَ، واشتهر بقدرته التشريعية، وقوة حجته، وحسن منطقه، ودقته في الاستنتاج؛ ومن أجل ذلك عُد إمام أهل الرأي، ولم يصل إلينا شيء من تآليفه القانونية، ولا ثبت تاريخيًّا أنه دوَّن مذهبه في كتاب، إنما فعل ذلك تلميذاه من بعده: أبو يوسف ومحمد.

والإمام مالك ولد سنة ٩٦هـ بالمدينة من أصل عربي، وبها تعلَّم وعلَّم وألَّف، واشتُهر بأنه حجة في الحديث، وعُدَّ من أجل ذلك إمام أهل الحديث، ويمتاز مذهبه باعتماده على الحديث أكثر من أبي حنيفة، ويحتج بعمل أهل المدينة، وتوفي سنة ١٧٩؛ وخلف لنا كتاب الموَطأ، وقد اشتهر أنه كتاب حديث، ولكنه في الحقيقة كتاب فقه وإن ملئ حديثًا، فلم يكن غرضه أن يجمع فيه الأحاديث المعروفة في عهده، والتي صحت عنده، إنما غرضه الإتيان بالتشريع مستدلًّا عليه بالحديث؛ ولذلك نجد فيه فتاواه الشخصية وآراءه في بعض المسائل.

ولا نطيل بذكر ما كان بينهما من خلاف في وجهة النظر واختلاف في الأصول التي اعتمدوا عليها؛ فذلك بالعصر العباسي أليق، إنما نذكر هنا ملاحظة دقيقة لاحظها ابن خلدون عند تعليله؛ لانتشار مذهب مالك في المغرب والأندلس، فقد قال: «وأيضًا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعاونون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى الحجاز أميل، لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضًّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب»٣٤.
فهو يريد أن يقرر أن مدنية البلد الذي نشأ فيه الإمام أو بداوته لهذا أثر خاص في تكوين مذهبه، من كثرة فروع وقلتها، بل يظهر أن لها كذلك أثرًا في تكوين رأيه، ولو استعرضنا بعض خلافات بين الفقهاء لوجدنا ذلك واضحًا؛ فمن ذلك مثلًا أن أبا حنيفة يُجوِّز أن يفتتح الصلاة بالفارسية بدل أن يقول: «الله أكبر» بالعربية، ولو كان قادرًا على قولها بالعربية، ويُجوِّز أن يُقرأ القرآن بالفارسية، وخالفه في ذلك الإمام مالك والشافعي٣٥، ومثل تجويز الإمام أبي حنيفة أن تُزَوِّج المرأة الحرة المكلفة نفسها من غير وَلي، وقال مالك والشافعي: لا يجوز إلا بولي٣٦.
والظاهر أن هذا المنزع أعني تقدير الإمام للظروف التي تُحيط به وتأثيرها في آرائه إنما يكون حيث لا يصح نص عند الإمام، فأما إذا صح فلم يكن لهذه الظروف أثر في تكوين رأيه؛ ودليلنا على ذلك مثلًا ما نرى من أن مذهب أبي حنيفة اعتبار الكفاية في الزواج نسبًا، فقريش عنده أكفاء لبعض، وليس سائر العرب أكفاء لقريش، الموالي ليسوا بكفء للعرب، مع أن الإمام مالكًا يقول: لا تُعتبر الكفاءة إلا في الدين؛ لأنه صح عنده قوله عليه الصلاة والسلام: «الناس سَوَاسية كأسنان المُشط: لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى»٣٧ ولو كانت المسألة لتقدير الظروف فقط لانعكس المذهبان.
١  رواها البخاري في باب القسامة.
٢  انظر ذلك في العقد.
٣  تيسير الوصول ج ٣ ص ٢٠١.
٤  ترد في بعض الكتب «كبشة» وفي بعضها «كبيشة» وهما اسمان لها كما في الإصابة لابن حجر.
٥  تجد هذا وكثيرًا مثله في أسباب النزول للواحدي والنيسابوري.
٦  تجد هذا وكثيرًا مثله في أسباب النزول للواحدي والنيسابوري.
٧  الموافقات ٣: ٢٤٤، ٢٤٥.
٨  انظر الطبري ٤: ١٨٥.
٩  تفسير الطبري ٤: ٨٦.
١٠  أفرد قرم آيات الأحكام بالتأليف مثل: «التفسيرات الأحمدية في الآيات الشرعية» فاقتصر على آيات الأحكام وتفسيرها وبيان ما يستنبط منها، وانظر كذلك «التشريع الإسلامي» للمرحوم الأستاذ الخضري، فقد كتب فيه فصلًا مطولًا عن الأحكام التي وردت في الكتاب.
١١  انظر المستصفى للغزالي ٢: ٣٥٥.
١٢  من أقدم من عمل ذلك البخاري في صحيحه، ومن خير ما ألف المحدثون كتاب نيل الأوطار للشوكاني، فقد ضمنه ما في الكتب الستة ورتبه حسب أبواب الفقه وشرحه شرحًا مستفيضًا مبينًا ما يُستنبط منها من الأحكام.
١٣  ص ٣٤٤.
١٤  الخوط: الغصن الغض النابت حديثًا.
١٥  أعلام الموقعين ١: ٢٥٦.
١٦  أعلام الموقعين.
١٧  الزيلعي ١: ٢٩٩.
١٨  أعلام الموقعين ٣: ٣٢ و٣٣.
١٩  ج ١: ٢٢.
٢٠  أعلام الموقعين.
٢١  إذا تتبعنا تسلسل هذه المدرسة وجدنا أن أبا حنيفة أخذ عن حماد بن أبي سليمان، وهو أخذ عن إبراهيم النخعي، وإبراهيم أخذ عن علقمة بن قيس وهو تلميذ عبد الله بن مسعود.
٢٢  الموافقات ٤: ١٨٦
٢٣  المصدر نفسه ص ١٨٧.
٢٤  الأم ٧: ٢٥٠ وما بعدها.
٢٥  الأم ٧: ٢٥٤ وما بعدها.
٢٦  أعلام الموقعين ١: ٨٨.
٢٧  الديباج المذهب في تراجم المالكية للقاضي ابن فرحون ص ٢٥.
٢٨  انظر كتاب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي.
٢٩  الحديث في الموافقات للشاطبي ٤: ٧.
٣٠  الحديث في الموافقات أيضًا ٤: ٩ وقد نبه على وضعه.
٣١  نقل هذه الأقوال ابن القيم في أعلام الموقعين جزء ١.
٣٢  العقل: الدية.
٣٣  تاريخ قضاة مصر الكندي — ذيل عليه ص ٩٤٣.
٣٤  المقدمة ص ٣٧٥.
٣٥  الزيلعي ١: ١٠٩.
٣٦  الزيلعي ٢: ١١٧.
٣٧  الزيلعي ٢: ١٢٨ و١٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤