الفصل الثاني

اتصال العرب بمن جاورهم من الأمم

شاع بين الناس أن العرب في جاهليتها كانت أمة منعزلة عن العالم، لا تتصل بغيرها أي اتصال، وأن الصحراء من جانب والبحر من جانب حصراها وجعلاها منقطعة عمن حولها، لا تتصل بهم في مادة، ولا تقتبس منهم أدبًا ولا تهذيبًا، والحق أن هذه فكرة خاطئة، وأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم ماديًّا وأدبيًّا، وإن كان هذا الاتصال أضعف مما كان بين الأمم المتحضرة لذلك العهد، نظرًا لموقعها الجغرافي ولحالتها الاجتماعية.

وهذا الاتصال بين العرب وغيرهم كان من طرق عدة، أهمها:
  • (١)

    التجارة.

  • (٢)

    إنشاء المدن العربية المتاخمة لفارس والروم.

  • (٣)
    البعثات اليهودية والنصرانية التي كانت تتغلغل في جزيرة العرب، تدعو إلى دينها وتنشر تعاليمها، وسنذكر كلمة عن كل منها:
    • (١)
      التجارة: من قديم كانت جزيرة العرب طريقًا عظيمًا للتجارة؛ فطورًا تنقل غلاتها إلى ممالك أخرى كالشام ومصر، وأهم هذه الغلات البخور الذي يكثر في الجنوب ولا سيما في ظَفَار؛ وطورًا تنقل غلات بعض الممالك إلى البعض الآخر؛ ذلك لأن طريق البحر لم يكن طريقًا آمنًا، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلًا وكان خطرًا، لذلك أحاطوه بشيء من العناية، كأن تخرج التجارة قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محدودة وفي طرق محدودة.

      وكان في جزيرة العرب طريقان عظيمان للتجارة بين الشام والمحيط الهندي: أحدهما يسير شمالًا من حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي، ومن ثمَّ إلى صُور؛ والثاني يبدأ من حضرموت أيضًا، وسير محاذيًا للبحر الأحمر متجنبًا صحراء نجد وهجيرها، ومتجنبًا هضاب الشاطئ ووعورتها، وعلى هذا الطريق الأخير تقع مكة في المنتصف تقريبًا بين اليمن وبَطرَة.

      هذه الطرق التجارية أفادت العرب فائدة كبيرة، وفتحت لهم بابًا للرزق كبيرًا، فمنهم من كان يسكن المدن الواقعة على الطريق ويُتاجر لنفسه، ومنهم من كان يُستخدم في التجارة سائقًا أو حارسًا أو دليلًا.

      ومع ميل العربي للغزو والنهب، وتهديده للممالك الممدنة على التخوم، ومهاجمته لها من حين لآخر، فإن حبه للوفاء، وشعوره بالشرف وتقديره للوعد الذي يصدر منه جعله يستطيع أن يتعامل مع من حوله من الأمم، ويُمهد الطريق لتجارة واسعة منظمة، فكان كثير من القبائل يحمون القوافل من تعدي قبائل أخرى في نظير جُعْل يأخذونه؛ وكثيرًا ما يردون الجعل إذا عدا عادٍ على قاقلة فلم يستطيعوا رده، وزاد في نجاحها علمهم بالصحراء وسبلها، ومواضع الأمن والخوف فيها، وقدرتهم على تحمل القيظ وعناء السير.

      كانت التجارة قديمًا في يد اليمنيين، وكانوا هم العنصر الظاهر فيها، فعلى يدهم كانت تُنقل غلات حضرموت وظفار وواردات الهند إلى الشام ومصر، ثم انحط اليمنيون لأسباب أشرنا إلى بعضها من قبل، وحل محلهم في القبض على ناصية التجارة عرب الحجاز، وكان ذلك منذ القرن السادس للميلاد، فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلًا ما يبيعونها في أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحِيرة؛ وجعل عرب الحجاز مكة قاعدةً لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم ووصل المكيون قبيل الإسلام عندما كان العداء بين الفرس والروم بالغًا منتهاه؛ إلى درجة عظيمة في التجارة، وعلى تجارة مكة كان يعتمد الروم في كثير من شئونهم، حتى فيما يترفهون به — كالحرير — وحتى يستظهر بعض مؤرخي الفرنج أنه كان في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية يستخدمها الرومانيون للشئون التجارية وللتجسس على أحوال العرب، كذلك كان فيها أحباش ينظرون في مصالح قومهم التجارية١.

      كان أشهر من يسكن مكة قبيلة قريش، وأبوها النضر بن كنانة، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي، وقد رأى بعضهم أنها سُميت قريشًا لاشتغالها بالتجارة، ففي لسان العرب: «وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع، من قولهم: فلان يتفرش المال؛ أي: يجمعه».

      وفي الأغاني: «إن عمارة بن الوليد المخزومي وعَمْرَو بن العاص وكانا كلاهما تاجرين خرجا إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرًا ووجهًا»٢.
      وقد ساعد قريشًا على بلوغ هذه المنزلة موقعها الجغرافي، فقد ذكرنا أنها تقع في منتصف الطريق، وعين زمزم تستقي منها القوافل وتأخذ حاجتها من الماء، ولأن قريشًا أهل الكعبة التي يدين العرب بعظمتها وتقديسها لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ.
      قال الزمخشري في الكشاف: «كانت لقريش رحلتان: يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يُتعرض لهم، والناس غيرهم يُتَخَطَّفون ويُغار عليهم، قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.

      كان التجار يخرجون بتجارتهم قوافل عظيمة، وقد رآها «سترابو» وشبه القافلة منها بجيش، وذكر الطبري أن قافلة من هذه القوافل بلغت خمس مئة وألف بعير، وقال ابن هشام في غزوة بدر: «ثم إن رسول الله سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلًا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون، منهم مَخْرَمة بن نوْفل وعمرو بن العاص»، وكانت هذه القوافل تخرج مع عظيم استعداد وكبير حَيْطة، تتقدمها الكشافة تتعرف ما في الطريق، والهداة يهدون السبيل، والحراس يخفرون القافلة.

      وقد كان عرب الحِيرَة يتعهدون بحماية قوافل التجارة الفارسية عند مرورها في العرب في نظير جُعْل كبير يأخذونه من الفرس، ويروون أن الفرس مرة استكثروا هذا الجعل فأبوا دفعه، فهاجم العرب قافلة فارسية وهزموا حُمَاتها، وكان هذا اليوم أحد أيام العرب المشهورة، ويُسمى يومَ ذي قار، وبه تغنى الشعراء، وعدُّوه نصرًا للعرب على الفرس.

      كانت القوافل التي تذهب من بلاد العرب إلى الشام تنزل في أسواق مدينة عينتها لهم الحكومة الرومانية لتحصل منهم الضرائب المفروضة على «الصادرات»، ولتراقب الأجانب الذين يقدَمون بلادها، وكانت هذه القوافل أول ما تنزل في البلاد الرومانية تنزل في أيلَة، وهي المعروفة اليوم بالعقبة، ومنها تذهب إلى غزَّةَ، وهناك تتصل بتجار البحر الأبيض، ومن غزة يذهب بعض التجار إلى بُصْرَى.

      وقد رووا أن النبي سافر في هذه القوافل مرتين: مرة وسنه اثنتا عشرة سنة إلى بصرى، وأخرى وسنه خمس وعشرون.

      •••

      أترى أن هذه التجارة تقتصر على تبادل العروض والنقود، ولا تتعداها إلى الأمور المعنوية والأدبية؟ لسنا نرى ذلك، بل نرى أن العرب استفادوا فوق تجارتهم المادية شيئًا من مدنية الروم والفرس وأدبهم، وهذا طبيعي، فالرحلات إلى الأمم الممدنة تجعل دائمًا تحت أعين الراحلين مدينة جديدة يقتبسون منها على قدر استعدادهم؛ ولا يزال عرب اليمن والحجاز أنفسهم في أيامنا هذه يستفيدون من زيارة مصر والشام، ويأخذون من مدنيتهما وعلومهما؛ بل لا نستطيع أن نصدق أن قافلة كبيرة كهذه تنتقل بتجارتها العظيمة لتتعامل مع أمة أجنبية من غير أن يكون فيها أفراد يعرفون لغة الذين يتعاملون معهم، ويكونون واسطة للتعارف بينهم، قد تقول: إنهم كانوا يعرفون اللغة الأجنبية كما يعرفها «التراجمة» اليوم، وهؤلاء ليسوا أهلًا لنقل مدنية ولا أدب، فنقول: قد يكون ذلك صحيحًا إلى حد ما، ولكن يجب ألا ننسى أن من بين الذين كانوا ينتقلون بالتجارة أعظم قريش ثروة وعقلًا؛ وقد رأينا فيما نقلناه أنه كان من بين رجال القافلة أبو سفيان ومَخْرَمة بن نوفل وعمرو بن العاص وهم سادة قومهم؛ ومنهم من كان له يد في إدارة شئون الأمة في الإسلام بعدُ، فهم لا يُقارنون بتراجمة اليوم، وهم أكثر استعدادًا لنقل مدنية بما يرون من نظام في المعيشة ومبان ضخمة ومعابد، وبما يرون من حكومة تشرف على الأسواق وتجبي الضرائب ونحو ذلك، وبما يسمعون من قصص وأدب إذا فرغوا من تجارتهم وتنادموا، ونقل من يعرف منهم اللغة حديثَهم إلى من لا يعرفها، نعم إن هذا لا يكون نقلًا صادقًا ولا ترجمة دقيقة، ولا شبه دقيقة لتاريخ أو أدب، ولا يستطيع أحد أن يدعي ذلك، إنما هذه النتف التاريخية والأدبية التي — تنقل وإن كانت مشوهة — لا تخلو من أثر في عقلية العرب، ودليلنا الآن على هذه الاستفادة ما أخذه العرب في جاهليتهم من كلمات كثيرة فارسية ورومانية ومصرية وحبشية، نقلها هؤلاء التجار وأمثالهم وأدخلوها في لغتهم، وجعلوها جزءًا منها، وأخضعوها لقوانينها ونطق بها القرآن، وسنأتي على براهين أخرى فيما بعد.

    • (٢)
      إنشاء المدن العربية على التخوم: إذا نحن نظرنا إلى مصور آسيا وجدنا أن جزيرة العرب كانت تقع بين أعظم مدنيتين في العالم: فارس شرقًا والرومان غربًا، وقد حاول الفرس والروم أن يُخضعوا العرب لحكمهم اتقاء لغزوهم وسلبهم، ولكنهم كانوا يعدلون عن ذلك لما يستلزمه فتح جزيرة صحراوية من ضحايا في الأنفس والأموال، ولأن طبيعة العيشة العربية جعلتهم لا يخضعون لقوة واحدة إذا تغلب عليها المحارب خضعت له الأمة، بل هناك عصابات وقوات متعددة لا بد لإخضاع البلاد من الاستيلاء عليها جميعًا وليس ذلك باليسير؛ من أجل هذا رأى الفرس والروم أن خير وسيلة لدفع شر العرب أن يساعدوا بعض القبائل المجاورة على أن يقروا على التخوم يزرعون ويتحضرون، ثم يكونوا رِدْءًا لهم يصدون غارة البدو الذين يغزون وينهبون؛ فتكونت إمارة الحيرة على تخوم الفرس وإمارة الغساسنة على تخوم الرومان.
      • إمارة الحيرة: كان العرب قديمًا على تخوم فارس من قبل إنشاء إمارة الحيرة في تاريخ لا محل لسرده، وفي عهد سابور الأول ملك الفرس (حول سنة ٢٤٠م) أسس الفرس إمارة الحيرة على نهر الفرات وأمّروا عليها عَمْرو بن عدي.

        وكان النظام المتبع أن عرب الحيرة يقدمون الطاعة لملك فارس، وهو يُولي عليهم أميرًا من أنفسهم، وعليهم أن يحموا فارس من كل مغير من نواحيهم، والفرس مقابل ذلك يعفونهم من دفع الإتاوة.

        وقد كان نظام الفرس إذ ذاك نظامًا إقطاعيًّا، يكاد يستقل كل والٍ بأمر مقاطعته، ويستمر واليًا مدى حياته غالبًا، ويراعي الملك رغبة المقاطعة فيمن يُولَّى عليها، عكس النظام الروماني فقد كان نظامًا مركزيًّا.

        وفوق هذا كان عرب الحيرة أكثر استقلالًا، فهم لا يرتبطون بفارس إلا بما توجبه المعاهدات عليهم، وقد اعتاد ملك الفرس أن يُنصِّب أميرًا من قبيلة لَخْم (وهي قبيلة من أصل يمني كما يذكر النسابون) وإذا مات الأمير عَيَّنَ من يختاره من بيته.

        كان عرب الحيرة إذ ذاك في رخاء يحسدهم عليه غيرهم من العرب لخصب أرضهم، وغنى إقليمهم، وكانوا هم الصلة بين الفرس وعرب الجزيرة، يحملون إليهم التجارة الفارسية، ويبيعونها في أسواقهم، ويبشرون بالفرس ومدنيتهم، وفي عهد يَزْدَجِرْد الأول (٣٩٩–٤٢٠م) أرسل الملك أكبر أبنائه (بَهْرَام) إلى عرب الحيرة لينشأ بينهم، ويتعلم الصيد، وينعم بجودة الهواء؛ وذلك في عهد النُّعْمان الأول، وكان بهْرام جُور هذا يعرف العربية كما يعرف اليونانية، وقد نازعه على الملك أخوه بعد وفاة يزدجرد، فعاونه العرب وتعصبوا له؛ فلما اعتلى عرشه لم ينس ما كان لعرب الحيرة من يد عليه فقربهم وأعلى شأنهم.

        ويظهر أن الحيرة بلغت شأوها أيام المنذر الثالث، وكان معاصرًا لِجُوستنيان، حتى روى بعض المؤرخين أنه لما عقد الصلح بين الفرس والرومان سنة ٥٢٢م كان من شروطه أن يدفع الرومان قدرًا من المال لملك الفرس وللمنذر، وبعد ذلك بسنين أحس المنذر بضعف الفرس فتحالف مع الرومان، ثم مال بعدُ إلى الفرس فأسره الرومانيون ونفوه إلى صِقِلِّيَة.

        وبعده ولي النُّعمان بن المنذر الخامس زوج هند، وهو الملقب بأبي قابوس وصاحب النابغة الذبياني، وقد غضب عليه كسرى ففر هاربًا ثم لجأ إليه فحبسه حتى مات، وكان ذلك حوالي ٦٠٢ م، وبموته ألغت الحكومة الفارسية نظام إمارة اللَّخْمِيِّين، وولَّت من قبلها حاكمًا فارسيًّا يخضع له أمراء العرب، واستمر الحال على هذا حتى سنة ٦٣٣م حين فتحها خالد بن الوليد.

        كان عرب الحيرة أرقى عقلًا ومدنية من عرب الجزيرة لتحضرهم ولمجاورتهم مدنية الفرس العظيمة، واتصالهم بهم اتصالًا وثيقًا، وكان منهم من يعرف اللغة الفارسية ويجيدها؛ ففي ابن خلدون «أن عَدِيَّ بن زيد (الحيري) كان من تراجمة أبرويز (ملك الفرس) وأن أباه زيدًا كان شاعرًا خطيبًا وقارئًا كِتاب العرب والفرس»٣ ولا شك أن معرفة بعض هؤلاء الحيريين للغة الفرس كانت واسطة لنقل شيء من حضارتهم وآدابهم إلى العرب.

        بل إن عرب الحيرة هؤلاء تسرب إليهم شيء من علوم اليونان وآدابهم؛ ذلك أن الحكومة الفارسية في عهد هُرْمز الأول أنشأت مستعمرات كونتها من أسرى الحرب الرومانيين، وكان من بين هؤلاء الأسرى من ثقِّف بالثقافة اليونانية، ومنهم من كان يفوق الفرس في الفن والهندسة والطب فاستخدموه في مهام شئونهم، ومن هؤلاء الأسرى من نزلوا الحيرة؛ ويظن بعضهم أنهم هم منبع النصرانية فيها؛ وعلى كل حال فقد كان في الحيرة مبشرون بالنصرانية داعون إليها، ولبى الدعوة منهم هند زوج النعمان الخامس وقد أنشأت ديرًا سُمي بدير هند كان إلى عهد الطبري.

        وقد كان لعرب الحيرة وأمرائهم وتاريخهم أثر كبير في الأدب العربي والحياة العقلية للعرب عامة، فأحاديث جَذِيمة الأبرش وأساطير الزباء (وهما من الحيرة قبل إنشاء الإمارة التي ذكرناها) والخَوَرْنق والسَّدِير والتغني بهما وبعظمهما، والأقاصيص حول سِنِمَّار باني الخورنق والأمثال التي ضُربت فيه، ويوما النعمان: يوم نعيمِه ويوم بؤسه، كل هذه وأمثالها شغلت جزءًا كبيرًا من الأدب العربي، وكلها تتعلق بعرب الحيرة وحياتهم، أضف إلى ذلك ما ذكره «ابن رُسْتَه» في «الأعلاق النفيسة» من أن أهل الحيرة علموا قريشًا الزندقة في الجاهلية، والكتابة في صدر الإسلام.

        وكان أمراء الحيرة مقصدًا لشعراء عرب الجزيرة ينفحونهم بالمال الكثير ليبشروا بهم بين البدو وفي أنحاء الجزيرة، وديوان النابغة الذبياني مملوء بالقصائد التي قيلت في مدح النعمان والاعتذار إليه ونحو ذلك.

      • الغساسنة: كوَّن الغسانيون في الشام إمارة كالتي كونها اللخميون في الحيرة، ويذكر النسابون كذلك أن أصلهم من اليمن، وقد امتد حكمهم تقريبًا على مقاطعتي حَوْران والبلقاء، ويظهر أنه لم يكن لهم مقر ملك ثابت، فأحيانًا يُفهم من قول الشعراء أن الجَوْلان والجابية عاصمتهم، وأحيانًا يذكرون جِلَّق بالقرب من دمشق على أنها هي العاصمة.

        وعلى العموم فتاريخ الغسانيين في الشام من الأمور الغامضة في تاريخ العرب، وإذا قارنا بين ما رواه المؤرخون عن أمراء الحيرة وما رووه عن الغسانيين وجدنا الأول واضحًا مفصلًا، والثاني ناقصًا متناقضًا، فبينا حمزة الأصفهاني وأبو الفداء مثلًا يعدان ملوك الغساسنة واحدًا وثلاثين، إذا بابن قتبية والمسعودي يعدانهم عشرة أو أحد عشر، كذلك يعد حمزة مدة ملك الحارث بن جَبَلة عشر سنين، بينا مؤرخو الرومان المعاصرون يعدون ملكه ٤٠ سنة؛ وهكذا، بل إذا نحن قارنا بين ما رواه العرب عن الفرس وتاريخهم وما يتصل بهم عامة، وما رووه عن الرومان وما يتصل بهم، وجدنا أن ما ذكروه عن الأولين أدق وأقرب إلى الصحة، وما ذكروه عن الآخرين ناقص مضطرب غير صحيح — في كثير من الأحيان — ولعل السبب في هذا أن الفرس أنفسهم دوَّنوا ملكهم وملك الحيرة، وعنهم أخذ مؤرخو العرب وإن لم تصل إلينا الأصول التي نقلوا عنها، وقد جاء في تاريخ الطبري ما نصه:

        «وقد حُدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة (الحيريين) ومبالغ أعمال من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من بِيَع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها»٤.

        أما المؤرخون المعاصرون للغسانيين فكانوا يونانيين يكتبون باللغة اليونانية، وكان العرب أقل اتصالًا باليونانيين منهم بالفرس.

        أضف إلى ذلك أن مَن دخل في الإسلام من موالي الفرس كانوا أكثر عددًا من الموالي اليونانيين، وكان موالي الفرس يتعصبون لقومهم ويرون أن في حفظ تاريخهم ونشره رفعة لشأنهم.

        وعلى كل حال فقد كان للغسانيين إمارة بالشام، وكان بينهم وبين إمارة الحيرة عداء شديد، وكثيرًا ما وقعت بينهم الحروب الهائلة.

        وأهم أمراء الغسانيين وأول مَن يثق محققو المؤرخين بإمارتهم الحارث بن جَبَلة، وقد عينه الإمبراطور جوستنيان سنة ٥٢٩م أميرًا على جميع قبائل العرب في سوريا ومنحه لقب «فِيلارْكْ وبِطْريق Phylarch and Patricius» وهو أعلى لقب بعد الإمبراطور، وكان الحارث نصرانيًّا على مذهب اليعاقبة، وكان يُعد حاميًا من حماة كنيستها، وقضى أكثر أيام حكمه في محاربة المنذر الثالث أمير الحيرة، وفي يونيه سنة ٥٥٤ انتصر الحارث نصرًا عظيمًا على المنذر في قِنسرين، وربما كانت هذه الوقعة هي التي عُرفت عند العرب بيوم حليمة والتي ورد فيها المثل المشهور: «ما يوم حليمةَ بِسِرٍّ»، وقد سافر الحارث هذا سنة ٥٦٣م إلى القسطنطينية ليفاوض الإمبراطور في شئون الحرب التي بينه وبين الحيرة، وفي مَن يخلفه على كرسيه، ومات سنة ٥٦٩ أو ٥٧٠م.

        وخلفه ابنه المنذر فغزا عربَ الحيرة فانتصر عليهم في وقعة «عَيْن أُباغ»، ولم يكن الإمبراطور جوسْتين الثاني — وهو الذي خلفه جوستنيان — يميل إليه، فحاول اغتياله فلم يفلح، وعلم المنذر بمكيدته فثار وأبى محالفته، وظل كذلك ثلاث سنين، ثم هدد عربُ الحيرة تخومَ الرومانيين، فاضطروا لمصالحة المنذر والتعاقد معه في سنة ٥٨٠، وبعد موت الإمبراطور جوستين سافر المنذر بولديه إلى القسطنطينية فاستُقبلوا استقبالًا حافلًا وألبسه الإمبراطور التاج، ثم ساءت العلاقة بين الغساسنة والروم لأسباب يطول شرحها.

        ولما غزا الفرس الروم وأخذوا منهم أورشليم ودمشق (٦١٣–٦١٤م) انحط شأن الغساسنة وضُعف أمرهم، ويذكر مؤرخو العرب «أن آخر ملوكهم هو جَبَلةُ بن الأيهْم، وأن الإسلام جاء وهو على ملكه، ولما فتح المسلمون الشام أسلم جَبَلة واستشرف أهل المدينة لمقدَمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته، لكرم وفادته، وأحسن عُمر نزله وأحله بأرفع رتب المهاجرين، ثم غلب عليه الشقاء ولطم رجلًا من بني فَزَارة وطيئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر في القصاص فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر: لا بد أن أُقِيده منك … فهرب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة ٢٠هـ»٥.

        وكان هؤلاء الغسانيون — على ما يظهر — أرقى عقلية حتى من عرب الحيرة؛ لأنهم كانوا أقرب اتصالًا بالثقافة اليونانية والمدنية الرومانية، وكان شعراء العرب يفدون إليهم فيحسنون وفادتهم؛ فقد وفد عليهم، فيما نعرف، النابغة الذُّبياني والأعشى والمرقِّش الأكبر وعلقمة الفحل؛ وفيهم يقول حسّان:

        لله درّ عصابة نادمتهم
        يومًا بجلّق في الزمان الأول

        كذلك الأدب العربي مملوء بالقصص والأساطير والأمثال التي قيلت في هؤلاء الغساسنة، كالذي ذكروا من حكاية امرئ القيس وإيداعه مئة درع عند السموءل، فطلبها ملك من ملوك غسان فأبى أن يعطيها إياه فذبح ابنه، إلى كثير من أمثال ذلك.

        ويروي لنا أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني «أن حسان بن ثابت دُعي إلى مأدبة سمع فيها غناء رائقة وصاحبتها، فلما عاد إلى بيته قال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرًا ما سمعته أذناي بعد ليالي جاهليتنا مع جَبَلة بن الأيهم … لقد رأيت عَشْرَ قِيان: خمسٌ رومياتٌ يغنِّينَ بالرومية بالبرابط، وخمسٌ يغنِّين غناء أهل الحيرة، وكان (جَبَلة) إذا جلس للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضُرب له العنبر والمسك في صحائف الفضة والذهب، وأُوقد له العود المنَدَّى إن كان شاتيًا، وإن كان صائفًا بُطِّن بالثلج، وأُتي هو وأصحابه بكساء صيفية، ينفصل٦ هو وأصحابه بها، وفي الشتاء بفراء الفنَك٧ وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يومًا قط إلا وخلع عليَّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل وضحك وبذل من غير مسألة، على حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خنا قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشِّرك»٨ وهذه القصة إن صحت دلتنا على قدر من الحضارة والترف — عند الغسانيين — غير يسير.

      •••

      وهنا يستوقف نظرنا شيء يظهر لنا غريبًا: ذلك أنا نرى اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام عمَّروا قرونًا، وبلغوا من المدنية شأوًا بعيدًا — إذا قيس بحالة العرب في الجزيرة — وكان منهم مَن يخالط الفرس والروم ويتكلم بلغتهم، ودينهم كان أرقى على العموم من دين غيرهم من العرب، فهم إما نصارى أو مجوس؛ وهذا كله كان داعيًا إلى خصب الذهن وتفتق القريحة بالشعر، وكان من المعقول أن تخرج بلادهم فحولًا من الشعراء يفتحون فيه أبوابًا جديدة، ومعاني جديدة، مع رشاقة في اللفظ تتناسب مع حياتهم الحضرية، ولكننا — على غير المعقول — لم نظفر منهم بشعر ذي خطر، فهم مثلًا يحدثوننا عن عَدِيّ بن زيد الحيري، وهو شاعر ضعيف، كان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان فيه: «عديّ بن زيد في الشعراء بمنزلة سُهَيْل في النجوم: يعارضها ولا يجري معها»، وقَلَّ أن يحدِّثونا بعد عن شاعر فحل، وجامع «شعراء النصرانية في الجاهلية» مع تلمسه كل وسيلة لعد الشاعر نصرانيًّا والإشادة بذكر كل شاعر نصراني، لم يذكر لنا شيئًا عن غسان، ولم يحدثنا عن شاعر واحد غساني، وكل الذي يرويه لنا الأدباء إنما هو رحلة شعراء من الجزيرة — كالنابغة والأعشى وحسان — إلى أمراء الحيرة وغسان، فما السر في هذا؟

      قلبنا الأمر على وجوه مختلفة من النظر، فقلنا: لعل السر أن البادية هي منبع الشعر، وهي التي تُحرك العربي وتُغَذِّي خياله، وتُنطق لسانه، يشعر فيها باستقلاله وعظمته، لا ترهقه سلطة، ولا يُقيده قانون، تنبسط أمامه رقعة الأرض فينعم بمنظرها، فيجيش صدره، وينطق بالشعر لسانه، فإذا تحضر ذَلَّ، وعقلت من لسانه قوانين المدنية وتقاليد الحضارة، وحرم منظر الصحراء الجميل، فحرم الشعر الجميل، لهذا لم يك للعراقي شعر قيم، ولا للغساني شعر ما، ولكن رأينا أن هذا التعليل غير صحيح، فما عهدنا أن الحضارة تُميت الشعر، فحضارة الفرس والروم، وحضارة المسلمين في الدولة الأموية والعباسية لم تضيق خيالهم، ولم تعقل من لسانهم، والحضارة اليوم في أوروبا بعثت على الشعر، ولم تقف في وجهه! إنما كل ما يصح أن يقال: إن الحضارة تُميت أنواعًا من الشعر لا تعيش إلا في البادية، كما تحيا أنواعًا من الشعر لا تعيش إلا في نعيم الحضر.

      والتعليل الصحيح في نظرنا أن هؤلاء الحيريين والغسانيين كان فيهم شعراء، ولكن كانت لهم أيضًا لغة خاصة بهم غير لغة قريش التي سادت الحجاز، ولم تستطع أن تسود الحيرة وغسان لبعد موطنها، ولأن الحيريين والغسانيين أرقى ممن حولهم من العرب، فأنفوا أن يخضعوا للسان غير لسانهم، وقد يستتبع ذلك أن تكون لهم في الشعر أوزان خاصة تتفق مع لغتهم وعقليتهم، فلما جاء الإسلام، ونزل القرآن بلغة قريش أهمل الرواة ما كان خارجًا عن هذه اللغة وقواعدها وأوزانها.

      ولا يطعن في هذا الرأي ما يُروى من شعر لعديّ بن زيد، وما يروى لنا من رحلة شعراء الجزيرة إلى الحيرة وغسان وتفاهمهم، فإن عديّ بن زيد — كما يحدثنا الرواة — له نسب في عرب الجزيرة، ورحلة الشعراء ليست اعتراضًا وجيهًا؛ لأنا نرى أن لغة الحيرة والغسانيين مع اختلافها عن لغة الحجاز قريبة منها لاتفاق الأصل الذي تفرعت عنه لغات العرب ولهجاتها؛ فليس ببعيد أن يكون للحيريين والغسانيين لغة خاصة وهم مع ذلك يستطيعون أن يفهموا لغة قريش إذا حُدِّثوا بها.

      ودليلنا على صحة هذا الرأي أن النسابين — كما ذكرنا — يذهبون إلى أن اللخميين والغسانيين من أصل يمني، وثقات المؤرخين قديمًا وحديثًا يؤكدون أن لغة اليمن كانت غير لغة قريش؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون: «ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته، تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا، خلافًا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق القَيْل في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا، وليس هذا بصحيح؛ ولغة حمير مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها»٩.

      فلو جارينا النسابيين فيما قالوا في أصل لخم وغسان كان الأمر في اختلاف اللغتين واضحًا، بل أكبر ظننا أن اللخميين والغسانيين كانوا نبطًا لا يمنيين ولا عربًا خلصًا، وأنه كان لهم شعرهم وآدابهم باللغة النبطية.

    • (٣)
      اليهودية والنصرانية: من عوامل نشر الثقافة الأجنبية في جزيرة العرب انتشار اليهودية والنصرانية.
      • اليهودية: انتشرت اليهودية في جزيرة العرب قبل الإسلام بقرون، وتكونت فيها مستعمرات يهودية، وأشهرها يَثرِب، وهي التي سميت بعدُ بالمدينة، ولكن مَنْ هم هؤلاء اليهود في جزيرة العرب؟ هل هم من عنصر يهودي أم هم عرب تهوَّدوا؟ وإذا كان الأول فمن أين أتوا: هل أتوا من فلسطين أو من غيرها؟ اضطربت الأخبار في ذلك، ويظهر أن الصنفين كانا موجودين في الجزيرة، يهود نزحوا وعرب تهوَّدوا، فياقوت في معجمه يذكر أن يهود يثرب عرب تهودوا، ويقول صاحب الأغاني: «إنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا في الشام فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم خرج بنو النَّضير وبنو قُرَيظَة وبنو بَهْدَل هاربين منهم إلى مَن بالحجاز لما غلبتهم الروم على الشام»، وليس هنا موضع تحقيق ذلك.

        وعلى كل حال فقد كان في القرون الأولى للميلاد مستعمرات يهودية: في تَيْمَاء، وفي فَدك، وفي خيبر، وفي وادي القُرى، وفي يثرب وهي أهمها، وكان يهود يثرب ثلاث قبائل: بني النَّضير، وبني قَيْنُقَاع، وبني قُرَيْظَة.

        وقد اشتهر اليهود في جزيرة العرب حيث حلوا بمهارتهم في الزراعة كما اشتهروا في يثرب أيضًا بصناعاتهم المعدنية كالحدادة والصياغة وصنع الأسلحة.

        وقد كان بيثرب قبيلتا الأوسِ والخزرج نزحتا إليها من اليمن — كما يذكر النسابون — حوالي سنة ٣٠٠م بعد أن سبقهم اليهود إلى استعمارها، وكانت العلاقة بين اليهود والأوس والخزرج حسنة في أول الأمر، ثم ساءت قبل الهجرة لأسباب يختلف الباحثون فيها.

        كذلك عمل اليهود على نشر ديانتهم جنوبي الجزيرة، حتى تهود كثير من قبائل اليمن، ومن أشهر هؤلاء المتهودين ذو نواس، وقد اشتهر بتحمسه لليهودية، واضطهاده لنصارى نجران، وذكروا في سبب ذلك أن يهوديًّا كان بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظُلْمًا، فرفع أمره إلى ذي نواس وتوسل إليه باليهودية، واستنصره على أهل نجران وهم نصارى فحمى له ولدينه وغزاهم١٠.

        ويظن بعض المؤرخين أن حركة ذي نواس هذه كانت حركة وطنية، ذلك أن نصارى نجران كانوا على ولاء مع الحبشة، وكانت الحبشة تعد حامية النصرانية في نجران، وقد اتخذت النصرانية وسيلة للتدخل في شئون اليمن، فأراد ذو نواس وقومه محو هذا النفوذ الحبشي؛ ولذلك لما قَتَل ذو نواس نصارى نجران استنجد بقيتهم بالحبشة فأنجدوهم، وكانت بينهم حروب، وكان عامُ الفيل مما لا محل لذكره هنا.

        نشر اليهود في البلاد التي نزلوها في جزيرة العرب تعاليم التوراة وما جاء فيها: من تاريخ خلق الدنيا، ومن بعث وحساب وميزان، ونشروا تفاسير المفسرين للتوراة وما أحاط بها من أساطير وخرافات كالتي أدخلها — بعدُ — مَن أسلم من اليهود مثل كَعْب الأحبار ووهب بن مُنَبِّه وأضرابهما، وكذلك كان لليهود أثر كبير في اللغة العربية، فقد أدخلوا عليها كلمات كثيرة لم يكن يعرفها العرب، ومصطلحات دينية لم يكن لهم بها علم، مثل جهنم والشيطان وإبليس ونحو ذلك.

        أضف إلى هذا أن اليهودية حلت بجزيرة العرب بعد أن تأثرت بالثقافة اليونانية تأثرًا كبيرًا؛ لأنها ظلت قرونًا تحت الحكم اليوناني الروماني، ولأنها كانت منتشرة في الإسكندرية وعلى شواطئ البحر الأبيض حيث الثقافة اليونانية، وكان من أحبار اليهود مَن تعلم الفلسفة اليونانية وتأدب بآدابها، فتسربت تلك الثقافة إلى اليهودية، كما تسرب إليها بعض مبادئ من القانون الروماني.

        وقال بُلدْوِين في كتابه معجم الفلسفة: «إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام في المدنية والعلوم والدين بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق، واتصل الدين بالفلسفة اتصالًا وثيقًا، كان من نتائجه ظهور عقائد دينية لا هي من الفلسفة المحضة ولا من الدين الخالص؛ بل أخذت بطرفٍ من كلٍّ، وجاء ذلك من عاملين: أحدهما ميل اليهود إلى التوفيق بين معتقداتهم الدينية والعلم الغربي الذي كان متأثرًا بالعلم اليوناني؛ وثانيهما أن المفكرين الذين استمدوا آراءهم من الفلسفة اليونانية رأوا أن يوفقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية المحضة التي جاء بها المشارقة، ومن أي الجهتين نظرنا رأينا أن النتيجة كانت فلسفة دينية لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص»، فلما انتقلت اليهودية إلى العرب كانت تحمل في ثناياها شيئًا من ذلك.

      • النصرانية: انقسمت النصرانية في ذلك العهد إلى جملة كنائس؛ وإن شئت فقل إلى جملة فرق، تسرب منها إلى جزيرة العرب فرقتان كبيرتان: النساطرة، واليعاقبة، فكانت النسطورية منتشرة في الحيرة، واليعقوبية في غسان وسائر قبائل الشام؛ كذلك كانت هناك صوامع في وادي القرى.

        وأهم موطن للنصرانية في جزيرة العرب كان (نَجْران)، وكانت مدينة خِصْبة عامرة بالسكان، تزرع وتصنع الأنسجة الحريرية، وتُتاجر في الجلود وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحُلل اليمانية التي تغنى بها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتد إلى الحيرة.

        وكان يتولى أمورها رؤساء ثلاثة: السيد، والعاقب، والأسْقُف، ويظهر أن السيد كان اختصاصه كاختصاص رؤساء القبائل، فهو رئيسهم في الحرب، وهو الذي يدير أمورهم الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل الأخرى؛ والعاقب يتولى الأمور الداخلية الدنيوية؛ والأسقف الأمور الدينية، وهم الثلاثة يتشاورون في المسائل الهامة، قال ياقوت في المعجم: «ووفد على النبي وفد نجران وفيهم السيد واسمه وهب، والعاقب واسمه عبد المسيح، والأسقُف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله مباهلتهم فامتنعوا وصالحوا النبي فكتب لهم كتابًا، فلما وَلِيَ أبو بكر أنفذ ذلك لهم، فلما وَلِيَ عمر أجلاهم واشترى منهم أموالهم».

        وكان بنجران كعبة، قال ياقوت: «وكعبة نجران هذه — يقال — بيعة، بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتَمُّون»، ويستظهر بعض الباحثين أنها كانت كعب للعرب تحج إليها قبل مجيء النصرانية، ثم اتخذها النصارى بعد انتشار النصرانية فيها.

        وكان نصارى نجران — على ما يستظهر (أُوليرى) — على مذهب اليعاقبة، وهذا يعلل اتصالهم بالحبشة (لأنهم كانوا يعاقبة أيضًا) أكثر من اتصالهم بالرومان.

        واشتهر بين العرب من رؤسائها قبل الإسلام قسُّ بن ساعِدَة، ويذكر أدباء العرب أنه كان أسقف نجران، ويقطع «لامانْس» — في كتابه عن يزيد — ببطلان ذلك ويذكر أنه لم يكن له صلة بنجران.

        وقد أوقع ذو نواس بأهل نجران وقتلهم — كما ذكرنا ذلك عند الكلام على اليهودية — ويروي بعض المؤرخين أنه نزل في ذلك قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ؛ وذلك بعيد؛ لأن كُلًّا من اليهود والنصارى يؤمن بالله العزيز الحميد، وقد استنجد النصارى بالحبشة فأنجدوهم، وغزوا بلاد العرب سنة ٥٢٢م ثم سنة ٥٢٥م وهزموا ذا نواس، وأنشئوا مستعمرة حبشية على شاطئ البحر الأحمر، وحكموا تهامة واستمر حكمهم إلى سنة ٥٧٥م حيث غزا الفرس بلاد اليمن واحتلوها وطردوا الحبشة منها، واستمرت النصرانية في نجران إلى عهد عمر فأجلاهم عنها وذهب أكثرهم إلى العراق.
        وقد نشرت المسيحية تعاليمها بين العرب، وأوجدت فيهم مَن يميل إلى الرهبنة ويبني الأديرة؛ فهم يحدثوننا أن حنظلة الطائي فارق قومه ونَسَكَ، وبنى ديرًا بالقرب من شاطئ الفرات، ويُعرف هذا بدير حنظلة، وترهب فيه حتى مات، ويذكرون أن قُسَّ بن ساعدة «كان يتقَفَّر القِفار، ولا تكنه دار، يتحسَّى بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام»، ويقولون: «إن أُمَيَّةَ بن أبي الصَّلْت كان قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبُّدًا، ويذكرون أن عدي بن زيد نصح النعمان ملك الحيرة حتى حبب إليه النصرانية، ثم وضع تاجه، وخلع أطماره، ولبس أمْسَاحه، فلزما عبادة الله في الجبال حتى مات النعمان»١١.

        وكان القسس والرهبان يرِدُون أسواق العرب، ويعظون ويُبشرون، ويذكرون البعث والحساب، والجنة والنار، وقد ورد في القرآن كثير من الآيات تحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم، مما يدل على انتشار هذه التعاليم بينهم.

        وكان من هؤلاء النصارى شعراء كقُسِّ بن ساعدة، وأُمَيَّةَ بن أبي الصَّلْت، وعدي بن زيد، وهؤلاء لهم مسحة خاصة في شعرهم، عليها طابع الدين ومتأثرة بتعاليمه، تُزَهِّدُ في الدنيا وشئونها، وتدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه، وهذه الأشعار وإن قلد أكثرها فقد أحكم تقليدها، حتى ليدلنا تقليدها على منهاج أصلها.

        كذلك أدخلوا على اللغة العربية ألفاظًا وتراكيب لم تكن تعرفها العرب، فهم يذكرون أن أمية بن أبي الصلت علم العرب (باسمك اللهم)، وقُسّ أول مَن قال: (أما بعدُ)؛ وكان أمية يستعمل في شعره ألفاظًا مجهولة لا تعرفها العرب، كان يأخذها من الكتب القديمة، فمنها قوله: «قمر وسَاهورٌ يُسَلُّ ويُغْمَد»، وكان يسمي الله «السَّلْطيط»، وسماه في موضع آخر «التَّغْرُور» … إلخ.

        كانت النصرانية — فوق هذا — من قبل دخولها جزيرة العرب تحمل في ثناياها شيئًا من الثقافة اليونانية كما هو الشأن في اليهودية، فإنها إحدى الديانات التي وُلدت في الشرق، وانتشرت في الإمبراطورية الرومانية — معهد الثقافة اليونانية — وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وفي العصور المسيحية الأولى كان كثير من آباء الكنيسة فلاسفة قبل أن يكونوا رجال دين؛ لأنهم رأوا من الضروري أن يُؤيدوا أنفسهم وعقائدهم أمام الوثنيين، فلجئوا إلى الفلسفة يستمدون منها التعليل والبرهان، فتسربت إلى النصرانية فلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وقد امتاز الشرق بأن أُنشئت فيه مدارس لاهوتية متأثرة بالفلسفة اليونانية تقليدًا للأكاديميات اليونانية، وأشهر ذلك مدرسة الإسكندرية التي كانت في بدء القرن الثالث للميلاد، وأنشأ مَلْكِيُون سنة ٢٧٠م مدرسة في أنطاكية، وأُنشئت في نَصِيبِين مدرسة أخرى سنة ٢٩٧م وهذه كانت تُعلم السريانية واليونانية معًا.

        وكان النساطرة على الأخص أكثر إلمامًا بعلوم اليونان، وقد ترجموا كثيرًا من الكتب اللاهوتية والفلسفية عن اليونانية، كما اشتهروا بالطب والعلوم الطبيعية، وكان من رجال الدين النساطرة أطباء في بلاد فارس، ومنهم كثيرون انتشروا في الحيرة، ولعل هذا هو السبب في أنه بعد ضعف شأن الحيرة وانتشار الإسلام في هذه البقاع كان أول حامل للواء العلم في الإسلام «البصرة والكوفة» لجوارهما الحيرة، وكان أول كتب استخدمت لبث الثقافة اليونانية هي المكتوبة باللغة السريانية والتي خلفتها هذه المدارس النسطورية، وعلى العموم فقد كان هؤلاء النساطرة هم الصلة بين اليونان والعرب.

•••

هذه الأمور الثلاثة: التجارة، والإمارات على التخوم، واليهودية والنصرانية؛ كانت وسائل لتسرب المدنيات المجاورة إلى العرب ونفوذ ثقافتها إليهم؛ قال الهَمْدَاني في كتابه «الْوَشْي المرقوم»: «لم يصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلا من العرب (كذا)؛ وذلك لأن مَن سكن مكة أحاط بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس، وكذلك مَن سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير وسِيرَها في البلاد، وكذلك مَن سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان، ومَن وقع بالبحرين وعمان فعنه أتت أخبار السِّند وفارس، ومَنْ سكن اليمن علم أخبار الأمم جميعًا؛ لأنه كان في ظل الملوك السيارة»، ولكن لم تكن معرفتهم بذلك معرفة وافرة، إنما كانت تتسرب هذه المدنيات من مجرى ضيق، وقد ينال التحريف ما ينقلون من غيرهم، كالذي نراه في بعض أمثال العرب المنقولة عن أمثال سليمان، وفي بعض القصص المنقولة عن الفرس والروم، فلم يكن العرب يأخذون ممن حولهم علمًا منظمًا كما نأخذ نحن من المدنية الغربية؛ لأن هناك عوائق كانت تحول دون ذلك؛ منها: الحوائل الطبيعية بين العرب وغيرهم من بحار وجبال وصحراوات؛ ومنها: البعد الكبير بين العرب والفرس والروم من حيث الحالة الاجتماعية والدرجة العقلية؛ وأكثر ما يكون اقتباس الحضارة والمدنية إذا تقاربت العقليتان؛ ومنها: انتشار الأمِّية بين العرب إذ ذاك، حتى نَدَر أن تجد فيهم القارئ الكاتب، إنما كان المخالطون للفرس والروم ينقلون حِكمًا أو قصصًا أو أمثالًا أو حوادث تاريخية مما يخف حمله على الناقل، ومما يستطيع البدوي ومَن في حكمه أن يهضمه.

ولعله ظهر لك مما ذكرنا أنه قد كانت هناك صلة بين العرب وغيرهم من الأمم أثرت في حياتهم المادية والأدبية، وهو ما أردنا إثباته.

١  أوليري Arabia before Mohammad.
٢  أغاني: ٨: ٥٢.
٣  تاريخ ابن خلدون جزء ٢.
٤  الطبري جزء ٢ ص ٣٧.
٥  ابن خلدون ثاني.
٦  ينفصل: يمتاز.
٧  الفنك: دابة فروتها أطيب أنواع الفراء.
٨  انظر الحكاية يطولها في الأغاني جزء ١٥:١٦.
٩  المقدمة ٤٨٨.
١٠  ابن خلدون جزء ٢.
١١  روى الأغاني أن يحيى بن متى راوية الأعشى — وكان نصرانيًُّا عباديًّا — قال: كان الأعشى قدريًّا وكان لبيد مثبتًا، قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى
ناعم البال ومن شاذ أضل
وقال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالعد
ل وولى الملامة الرجلا؟
قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين، نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري الخمر فلقنوه ذلك ٨: ٧٩ وانظر كذلك ١٠: ١٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤