الفصل الحادي والعشرون

القدرية أو المعتزلة

يدلنا تاريخ الفكر البشري على أن من أولى المسائل التي تعرض للعقل عندما يبدأ التعمق في البحث مسألة الجبر والاختيار: هل إرادتنا حرة تعمل ما تشاء وتترك ما تشاء، وتشكِّل عملها كما تشاء، أو أنَّا مجبَرُون على عمل ما نعمل فلا نستطيع أن نعمل غيره، وأن إرادتنا معلولة بعلل، فإذا حصلت العلل حصل المعلول لا محالة؟ وهي مسألة شغلت الفلاسفة ورجال الدين جميعًا في العصور المختلفة، تعترضك في الأخلاق وفي القانون، وفي فلسفة التاريخ، وفي علم الكلام، وفي الفلسفة على العموم، وقد نشأت الأبحاث الدينية في هذا الموضوع لما نظر الإنسان فرأى أنه — من ناحية — يشعر بأنه حر الإرادة يعمل ما يشاء، وأنه مسئول عن عمله، وهذه المسئولية تقتضي الحرية، فلا معنى لأن يُعذب وُيثاب إذا كان كالريشة في مهب الريح لا بد أن تتحرك بحركته وتسكن بسكونه؛ ومن ناحية أخرى رأى أن الله عالم بكل شيء، أحاط علمه بما كان وما سيكون، فعلِمَ ما سيصدر من كل فرد من خير أو شر، وظن أن هذا يستلزم حتمًا أنه لا يستطيع أن يعمل إلا على وفق ما علم الله، فحار في ذلك بين الجبر والاختيار، وأخذ يفكر: هل هو مجبَر أو مختار.

وقد وردت آيات في القرآن قد تُشعر بالجبر مثل: خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، وهناك آيات تُشعر بالاختيار وأن الإنسان مسئول عن عمله إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، إلى كثير من أمثال هذه الروايات؛ ووردت أحاديث كثيرة إن صحت تدل على تعرضه عليه السلام لمسألة القدر تصريحًا أو تلميحًا، فعن جابر قال رسول الله : «لا يُؤمن عبد حتى يؤمن بالقَدَر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه»، وعن علي قال: كنا في جنازة ببقيع الغَرْقد فأتانا رسول الله ، فقعد وقعدنا حوله وبيده مِخْصرة فجعل ينكت بها الأرض ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعدُه من النار ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير على عمل الشقاء؛ ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ.

فلما انتهى المسلمون من الفتح وهدأوا وأخذوا يُفكرون ظهرت هذه المسألة، وكان قد تكلم فيها من قبل فلاسفة اليونان ونقلها عنهم السريانيون، وتكلم فيها الزردشتيون، كما بحث فيها النصارى، فظهر في الإسلام قوم يقولون بحرية الإرادة معارضين في ذلك الفكرة الشائعة بأن الإنسان مسيَّر لا مُخَير، رُوي عن نافع قال: «جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: إن فلانًا يقرأ عليك السلام — لرجل من أهل الشام — فقال ابن عمر: إنه بلغني أنه قد أحدث التكذيب بالقدر، فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني عليه السلام»، وقد سُمي هؤلاء الذين يقولون بأن الإنسان حر الإرادة، وبعبارة أخرى: أن الإنسان له قدرة على أعماله «بالقَدَرِية»، وسماهم بذلك خصومهم لحديث ورد: «القدرية مجوس هذه الأمة»؛ وكان الذين يقولون بحرية الإرادة يرون أن أولى الناس بأن يُطلق عليه اسم القدرية هم الذين يقولون بأن القدر يحكم جميع أعمال الإنسان من خير وشر، وعلى كل حال فقد لصق الاسم بالطائفة الأولى وصار لقبًا لها.

وقد ذكروا أن من أسبق الناس قولًا بالقدر مَعْبَد الجُهني، وَغَيْلان الدمشقي، أما معبد فقد قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: «إنه تابعي صدوق، لكنه سن سنة سيئة فكان أول من تكلم في القدر، قتله الحجاج صبرًا لخروجه مع ابن الأشعث»، فترى من هذا أن قتله كان قتلًا سياسيًّا، وإن كان كثير يذكرون أنه قتله لزندقته، وكان يُجالس الحسن البصري أولًا وقد سلك سبيله كثير من أهل البصرة، وقال ابن نباتة في «سرح العيون»: «قيل: إن أول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيًّا فأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي»، وأما غيلان الدمشقي فكان يسكن دمشق، وأبوه كان مولى لعثمان بن عفان، قال الأوزاعي: «قدم علينا غيلان القَدَري في خلافة هشام بن عبد الملك، فتكلم غيلان وكان رجلًا مفوَّهًا، ثم أكثر الناس الوقيعة فيه والسعاية بسبب رأيه في القدر، وأحفظوا هشام بن عبد الملك عليه، فأمر بقطع يديه ورجليه وقتله وصلبه».

وقد رُوي أن غيلان وقف يومًا على ربيعة «الرأي»، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله يُحب أن يُعْصَى؟ فقال له ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يُعصى قسرًا؟! وحُكي «أن عمر بن عبد العزيز بلغه أن غيلان وفلانًا نطقا في القدر فأرسل إليهما وقال: ما الأمر الذي تنطقان به؟ فقالا: هو ما قال الله يا أمير المؤمنين، قال: وما قال الله؟ قالا: قال: هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا، ثم قال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، ثم سكتا؛ فقال عمر: اقرآ، فقرآ حتى بلغا إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ … إلى آخر السورة؛ قال عمر: كيف تريان؟ تأخذان الفروع وتدعان الأصول! قال ابن مهاجر: ثم بلغ عمر أنهما أسرفا فأرسل إليهما وهو مغضَب، فقام عمر وكنت خلفه قائمًا حتى دخلا عليه وأنا مستقبلهما، فقال لهما: ألم يكن في سابق علم الله حين أمر الله إبليس بالسجود ألا يسجد؟ قال: فأومأتُ إليهما برأسي أن قولا نعم وإلا فهو الذبح، فقالا: نعم، فقال: أولم يكن في سابق علم الله حين نهى آدم وحوَّاء عن الشجرة أن يأكلا منها فألهمهما أن يأكلا منها؟ فأومأت إليهما برأسي، فقالا: نعم، فأمر بإخراجهما، وأمر بالكتاب إلى سائر الأعمال بخلاف ما يقولان، وأمسكا عن الكلام، فلم يلبثا إلا يسيرًا حتى مرض عمر ومات ولم يُفد الكتاب، وسال بعد ذلك منهما السيل».

فترى من هذا انتشار القول في القضاء والقدر في هذا العصر وشدة الجدل في هذا الأمر بين المتخاصمين، وقد اختلف الباحثون في منبع هذه الحركة: هل هو العراق أو الشام؟ فيذهب بعضهم إلى أن العراق منبع ذلك، بدليل أن هذه الحركة تكونت حول الحسن البصري وهو يسكن البصرة، وأن منشأ الاعتزال كذلك كان فيها، ويُؤيد ذلك ما رواه ابن نباتة من أن منشأ القول في ذلك نصراني من العراق أسلم وأخذ عنه مَعْبَد وغيلان؛ ويذهب آخرون إلى أن الحركة ظهرت في دمشق متأثرة بمن كان يخدم من النصارى في بيت الخلفاء كيحيى الدمشقي، وعلى كل حال فإنا نرى أن القول في القضاء والقدر سال سيله في العراق والشام في هذا العصر، ومن العسير تعيين أسبقهما، وقد قال «ابن تَيْمِيةَ»: «إن أكثر الخوض في القدر كان بالبصرة والشام وبعضه في المدينة».

وعلى العكس من هؤلاء القَدَرية طائفة الجَبْرِية، وكان من أولهم جهم بن صفوان — ولذلك تُسمى هذه الفرقة الجهمية — وكان يقول: إن الإنسان مجبور لا اختيار له ولا قدرة، وإنه لا يستطيع أن يعمل غير ما عمل، وإن الله قدر عليه أعمالًا لا بد أن تصدر منه، وإن الله يخلق فيه الأفعال كما يخلق في الجماد، فكما يَجْرِي الماء ويتحرك الهواء ويسقط الحجر، فكذلك تصدر الأفعال عن الإنسان يُصْدرها الله فيه وتُنْسب إلى الإنسان مجازًا كما تُنسب إلى الجمادات، فكما يُقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وطلعت الشمس وأمطرت السماء وأنبتت الأرض، كذلك يقال: كتب محمد، وقضى القاضي، وأطاع فلان، وعصى فلان، كلها من نوع واحد على طريق المجاز، والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر، والله قدَّر لفلان فعل كذا وقدر له أن يُثاب، وقدر على الآخر المعصية وقدر أن يُعاقب.

واشتهر بهذا القول جهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، من الموالي، وأقام بالكوفة، وكان فصيحًا خطيبًا يدعو الناس فيجذبهم إلى قوله، ظهر مذهبه في ترمذ، وكان كاتبًا «وزيرًا» للحارث بن سُرَيح، وقد خرج الحارث هذا على بني أمية في خراسان، واتبعه كثير من أهلها، وكان يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله واستعمال أهل الخير والفضل، وقد هُزم الحارث وأُسِرَ جهمُ بن صفوان فقُتل، ثم قُتل الحارث سنة ١٢٨هـ؛ ومن هذا ترى أن الجهم أيضًا قُتل لأمر سياسي لا علاقة له بالدين.

ولم يشتهر الجهم بمسألة الجبر فحسب، بل تعرض لشيء آخر لا يقل عنه خطرًا، وهو القول بنفي صفات الله، ذلك أنه وردت في القرآن آيات كثيرة تدل على أن لله صفات من سمع وبصر وكلام … إلخ، فنفى جهم أن يكون لله صفات غير ذاته، وقال: إن ما ورد في القرآن مثل سميع وبصير ليس على ظاهره، بل هو مؤول؛ لأن ظاهره يدل على التشبيه بالمخلوق وهو مستحيل على الله، فيجب تأويل ذلك، وقال: لا يصح وصف الله بصفة يُوصف بها خلقه؛ لأن ذلك يقتضي التشبيه، وقال: إن القرآن مخلوق خلقه الله، وكان ذلك نتيجة طبيعية لنفيه الصفات، فإذا كان الله لا يتكلم فليس القرآن كلام الله القديم إلا على التأويل، وإنما خلقه الله، وأنكر أن الله يُرى يوم القيامة، وقال: «إن الجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلها فيهما، وتلذذ أهل الجنة بنعيمها، وتألم أهل النار بجحيمها؛ إذ لا يتصور حركات لا تتناهى آخرًا، كما لا تتصور حركات لا تتناهى أولًا».

وقد نهض كثير من العلماء لمقاومة هذه الحركة، ونشطوا للرد على الجهمية نشاطًا عظيمًا، ولعل أهم ما حملهم على الرد مسألتان: مسألة الجبر؛ لأنها تدعو إلى التعطيل وترك العمل والركون إلى القدر، ومسألة المغالاة في تأويل الآيات التي تُثبت لله صفات، وفي هذا التأويل خطر على القرآن وتفهم معانيه.

ذابت القدرية والجهمية في غيرهما من المذاهب ولم يعد لهما وجود مستقل، وظهر على أثرهما مذهب المعتزلة، وكثيرًا ما يُسمى المعتزلة بالقدرية؛ لأنهم وافقوا القدرية في قولهم: «إن للإنسان قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى»، ونفوا أن تكون الأشياء بقَدَر الله تعالى وقضائه؛ وأحيانًا يُلقب المعتزلة بالجهمية، لا لأنهم وافقوا الجهمية في القدرة لأن الجهمية كما علمت جبرية؛ ولكن لأن المعتزلة وافقوا الجهمية في نفي الصفات عن الله وفي خلق القرآن، وقولهم: إن الله لا يُرَى، وقد ألف البخاري والإمام أحمد كتابين في الرد على الجهمية وعَنَيا بهم المعتزلة، والمعتزلة يبرءون من هذين الاسمين، فلا يرضون أن يُمسوا بالقدرية، ويقولون — كما رأيت — إن مثبت القدر أولى بالانتساب إليه من نافيه، ويتبرأ بشر بن المعتمر — أحد رؤساء المعتزلة — من الجهمية في أرجوزته إذ يقول:

ننفيهمو عنا ولسنا منهمُ
ولا همو منا ولا نرضاهم
إمامهم جهم وما لجهم
وصحب عمرو١ ذي التقى والعلم!
اسم المعتزلة: إذا نحن استعرضنا ما بين أيدينا من المصادر التي تكلمت في سبب تلقيب المعتزلة هذا اللقب وجدناها لا تعدو ثلاثة:
  • (١)
    أنهم لقبوا بالمعتزلة؛ لأن واصلًا وعمرو بن عبيد اعتزلا حلقة الحسن واستقلا بأنفسهما على أثر تقريرهما أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين، فسُموا من أجل ذلك بالمعتزلة٢، وهذا الرأي ضعيف من جملة وجوه:
    • (أحدها): أن انتقال واصل أو عمرو بن عبيد من حلقة في المسجد إلى أخرى ليس بالأمر الهام الذي صح أن تُلقب به فرقة، والأوجه أن تكون التسمية متعلقة بالجوهر لا بالعرض.
    • (ثانيها): اختلاف الرواة في الرواية، فبعضهم ينسب حادثة الانفصال إلى عمرو بن عبيد، وبعضهم ينسبها إلى واصل، وبعضهم ينسب هذه التسمية إلى الحسن البصري، وبعضهم ينسبها إلى قتادة؛ وهذا — من غير شك — يُضعف الرواية ويجعلها محلًّا للنقد.
    • (وثالثها): أن كثيرًا من الكتب تتكلم عن شخص فتقول: إنه «كان يقول بالاعتزال، أو هو من أهل الاعتزال»، وهذا يدل على أن اسم الاعتزال مذهب ذو مبادئ لا مجرد انفصال من مجلس إلى آخر، وأن الاعتزال معنى من المعاني لا حركة جسمية.
  • (٢)
    هناك رأي آخر يرى أن المعتزلة سُميت كذلك «لاعتزالهم كل الأقوال المحدثة»٣ يعنون بذلك أنهم خالفوا الأقوال السابقة في مرتكب الكبيرة؛ ذلك أن المرجئة كانت تقول: إنه مؤمن، والأزارقة من الخوارج كانت تقول: إنه كافر، وكان الحسن البصري يقول: إنه منافق، فخالف واصل ومن إليه هذه الأقوال كلها، وانتحى في القول ناحية أخرى فقال: إنه لا مؤمن ولا كافر، والقائلون بهذا يجعلون سبب التسمية معنوية لا حسية، ويجعلونها أيضًا تدور حول آرائهم واتخاذها منحى جديدًا.

    وقريب من هذا المعنى ما ذهب إليه عبد القادر البغدادي، في كتابه «الفَرق بين الفِرق»: «إن الحسن البصري لما طرد واصلًا من مجلسه واعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة وانضم إليه صديقه عمرو بن عبيد، قال الناس يومئذ فيهما: «إنهما اعتزلا قول الأمة» وسُمي أتباعهما من يومئذ بالمعتزلة».

    ونحو من هذا ما جاء في كتاب الأنساب للسمعاني إذ قال: «المعتزلي نسبة إلى الاعتزال وهو الاجتناب، والجماعة المعروفة بهذه العقيدة إنما سُموا بهذا الاسم؛ لأن أبا عثمان عمرو بن عبيد أحدث ما أحدث من البدع، واعتزل مجلس الحسن البصري وجماعة معه فسموا المعتزلة»٤.
  • (٣)

    ويُفهم من قول المسعودي في مروج الذهب رأي ثالث، وهو أنهم سُموا بالمعتزلة لقولهم بأن صاحب الكبيرة اعتزل عن الكافرين والمؤمنين، فالمعتزلة على رأيه هم القائلون باعتزال صاحب الكبيرة.

والقولان الأخيران مختلفان وإن كان الفرق بينهما دقيقًا؛ فعلى الرأي الثاني الاعتزال وصف للفرقة نفسها؛ لأنها أحدثت رأيًا جديدًا خالفت فيه من قبلها؛ وعلى الرأي الثالث الاعتزال وصف لمرتكب الكبيرة في الأصل، وسُميت الفرقة بها؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين٥.
وهذه الأقوال كلها تُريد أن تُفهم نتيجتين:
  • (الأولى): أن الاعتزال تكوَّن حول الحسن البصري وتلميذيه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد.
  • (والثانية): أن الاعتزال كان يدور حول مسائل دينية بحتة.

فهل هاتان النتيجتان صحيحتان؟

إنا بالرجوع إلى كثير من كتب التاريخ نرى أن كلمة اعتزال ومعتزلة واعتزل استُعملت كثيرًا في صدر الإسلام في معنى خاص، هو أن يرى الرجل فئتين متقاتلتين أو متنازعتين ثم هو لا يقتنع برأي إحداهما ولا يُريد أن يدخل في القتال والنزال بينهما؛ لأنه لم يُكوِّن له رأيًا، أو رأى أن كليهما غير محق، من ذلك ما نراه من إطلاق المؤرخين هذه الكلمة كثيرًا على الطائفة التي لم تشترك في القتال بين علي وعائشة في حرب الجمل، وعلى الذين لم يدخلوا في النزاع بين علي ومعاوية.

جاء في تاريخ الطبري أن قيس بن سعد عامل مصر لعلي كتب إليه يقول: «إن قِبَلي رجالًا معتزلين قد سألوني أن أكف عنهم، وأن أدَعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويُرى رأيهم، فقد رأيت أن أكف عنهم وألا أتعجل حربهم، وأن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله أن يقبل بقلوبهم، ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله»٦ وفي موضع آخر: «ولم يلبث محمد بن أبي بكر شهرًا كاملًا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادَعهم، فقال: يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا من بلادنا فبعثوا إليه إنا لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه أمورنا ولا تعجل بحربنا»٧.
ومثل هذا ورد في ابن الأثير وأبي الفداء، بل إن عبارة أبي الفداء في ذلك أوضح إذ يقول: «وسموا هؤلاء المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي»، ففي هذه العبارة تصريح بأن كلمة «المعتزلة» أطلقت عليهم، ونستطيع من ذلك أن نستنتج نتيجتين تخالفان المشهور:
  • (الأولى): أن هذه الكلمة سُميت بها فئة خاصة قبل مدرسة الحسن البصري بنحو مائة عام، وأن إطلاقها على مدرسة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كان إحياء للاسم القديم لا ابتكارًا، وأنه من العسير علينا أن نُصدق أن هذا الاسم — وقد كان معروفًا وله صبغة خاصة — يُطلق لمناسبة انتقال «واصل» من سارية إلى سارية٨.
  • (الثانية): أن هذا الاسم — وهو الاعتزال — أُطلق على الذين لم ينغمسوا في حرب الجمل ولم يشتركوا في وقعة صفين، وهذه المسائل التي كان يدور عليها القتال مسائل سياسية تدور كلها حول قتل عثمان وقتلته والقصاص منهم، وعلي واستحقاقه للخلافة، ومعاوية وهل هو أولى بالخلافة من علي، ونحو ذلك؛ والانقسام فيها بين الناس كان انقسام أحزاب سياسية، ولكن من الحق أن نُقرر أن المسائل في ذلك العصر سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو شخصية كانت كلها مصبوغة صبغة دينية، «فنظام الأسرة والعلاقات التجارية والعقود المالية وما إلى ذلك كلها تصطبغ بالدين وترجع إليه، وتعوَّل عليه»؛ فالحزب أو الطائفة التي أُطلق عليها في الصدر الأول اسم «معتزلة» كانت تُمثل فكرة سياسية مصبوغة بالدين، إذا أردنا أن نلخص رأيها في كلمة قلنا: إنها ترى أن الحق ليس بجانب إحدى الفرقتين المتنازعتين، فهما على باطل، أو على الأقل لم ينكشف الحق في جانب إحداهما، والدين إنما يأمر بقتال مَن بغى، فإذا كانت الطائفتان باغيتين أو لم يُعرف الباغي اعتزلنا وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ.

بقيت هناك مسألة وهي: هل هناك شَبه بين معتزلة الصدر الأول ومعتزلة واصل ومَن إليه؟ وهل للآخرين نزعة دينية تُشبه ما للأولين؟

فأكثر الكتب يذهب إلى أن محل الخلاف بين الحسن البصري وواصل كان — أول ما كان — حول مرتكب الكبيرة: أكافر أم مؤمن؟ وهذه المسألة وإن كانت في ظاهرها مسألة دينية بحتة إلا أن في أعماقها شيئًا سياسيًّا خطيرًا.

وبيان ذلك أنهم في هذه المسألة خالفوا الأزارقة من الخوارج والمرجئة؛ فالخوارج ترى أن العمل بأوامر الدين — من صلاة وصيام وصدق وعدل — جزء من الإيمان وليس الإيمان الاعتقاد وحده، فمن اعتقد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثم لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر كان كافرًا٩، وقد بالغ نافع بن الأزرق فكفَّر جميع من عدا فرقته — كما رأينا — وقال: «إنه لا يحل لأصحابه المؤمنين أن يأكلوا من ذبائح غيرهم، ولا أن يتزوجوا منهم، ولا يتوارث الخوارج وغيرهم، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف» وهذه التعاليم لها نتائج سياسية خطيرة، فقد أدت إلى وقوفهم أمام الأمويين موقفًا حربيًّا إيجابيًّا؛ لأن الأمويين في نظرهم مرتكبون للكبائر فهم كافرون، مَثَلُهُمْ مثل عَبَدة الأوثان، فيجب ألا يُعترف بخلافتهم؛ لأن أول شرط في الخليفة أن يكون مؤمنًا، بل يجب فوق ذلك أن يُقاتَلُوا حتى يدخلوا في مذهبهم؛ فعدم استحقاق الأمويين للخلافة ووجوب محاربة الخوارج لهم مسائل سياسية مصبوغة بالصبغة الدينية، وقد حقق الخوارج فكرتهم فعليًّا، فكان تاريخهم تاريخ قتال مستمر.

أما المرجئة فكانوا على الطرف الآخر من الخوارج، فقد جعلوا الإيمان مجرد الاعتقاد القلبي، وليست التكاليف من صلاة وصيام ونحوها جزءًا من الإيمان، ولا يُخرج الإنسان عن إيمانه ارتكاب الكبائر؛ فهم وسعوا دائرة من يُطلق عليه المؤمن إلى أقصى حد، بينما الخوارج ضيقوها حتى لا تسع إلا أنفسهم، بل لا تسع عند الأزارقة إلا فرقتهم ومن عداهم فكافر، وأكثر من هذا بالنسبة إلى المرجئة أن الشهرستاني حكى عنهم أنهم يقولون: «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، وهذا الرأي — من غير شك — له نتائجه السياسية: أهمها أنهم طبقوا نظريتهم هذه على كل ما حدث من الخلافات السياسية والدينية بين المسلمين، فليس عثمان وأنصاره ولا الخارجون عليه بكافرين، ولا عليٌّ وأتباعه وعائشة وأتباعها يوم الجمل بخارجين عن الإسلام، ولا من انضم تحت لواء علي أو تحت لواء معاوية يوم صفين بكافرين، بل المسألة فوق ذلك مسألة قلبية بحتة، فمن اعتقد أيَّ رأي بعد إيمانه وعمل وفق اعتقاده فهو مصيب، سواء نصر عثمان أو خرج عليه، وسواء كان مع علي أو معاوية.

والنتيجة الطبيعية لهذه الوجهة من النظر أن خلفاء بين أمية مؤمنون مهما ارتكبوا من الكبائر كما أن أعداءهم كذلك، ومن نتائج ذلك أيضًا أنهم لا يُوافقون الخوارج على محاربتهم للأمويين ومحاولتهم إزالة دولتهم، وفي هذا الرأي — رأي الإرجاء — تأييد للدولة الأموية وإن كان تأييدًا سلبيًّا لا إيجابيًّا «بمعنى أنهم ليسوا أعداءهم ولا خارجين عليهم ولا ناقمين منهم»، بل نرى أكثر من ذلك تأييدًا عمليًّا، فنرى «ثابت قطنة» أحد رجال الإرجاء وشعرائهم يعمل ليزيد بن المهلب ويتولى أعمالًا من أعمال الثغور فيحمد يزيد له مكانه لكتابته وشجاعته؛ ولكن يظهر أن الأمويين لم يعدوا المرجئة — على العموم — أعداءهم، كما لم يعدوهم إلا بمقدار ما يستفيد المحارب من المحايد.

إذن، وقف الخوارج موقفًا مشددًا لم يعدُّوا فيه مؤمنًا إلا فئة قليلة يحصون عددًا؛ ومن ناحية أخرى تساهل المرجئة تساهلًا كبيرًا، فهم كما أسلفنا لا يحكمون بالكفر على الأمويين والشيعة والخوارج ولا على أحد ممن نطق بالشهادتين؛ بل لا يحرمون بكفر الأخطل ونحوه من النصارى واليهود؛ لأن الإيمان محله القلب، وليس يطلع عليه إلا الله؛ وذلك يدعو إلى مسألة الناس جميعًا، وهذا النظر — كما قال زيد بن علي — أطمع الفساق في عفو الله.

وقف المعتزلة بين الخوارج والمرجئة موقفًا وسطًا، ولا بالشديد ولا بالهين اللين فقالوا — وعلى الأخص واصل وأتباعه — بالمنزلة بين المنزلتين، وبعبارة أخرى: بقول وسط بين الخوارج والمرجئة، قالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا؛ لأن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سُمي المرء مؤمنًا وهو اسم مدح، والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يُسمى مؤمنًا، وليس هو بكافر مطلق أيضًا؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه؛ لأنكارها١٠.

وهذا الرأي يستتبع آراء سياسية خطيرة ككل من القولين السابقين، فقد اضطر المعتزلة أن يطبقوا نظريتهم على الأعمال التي عملت منذ نشب الخلاف بين المسلمين، أي الفريقين كان مخطئًا: عثمان أم قاتلوه؟ وهل كان عليٌّ محقًّا في وقعة الجمل أو عائشة؟ كيف نحكم على من كان في يدهم إدارة الحرب في صفين، من مرتكب الكبائر منهم، مَن الذي يعدُّ بحق فاسقًا؟

والحق أن فرقة المعتزلة كانت أجرأ الفِرق على تحليل أعمال الصحابة ونقدهم وإصدار الحكم عليهم؛ فالمرجئة تحاشت الحكم بتاتًا كما يقتضيه مذهبهم، والخوارج وإن أصدروا أحكامًا فإن أحكامهم كانت قاصرة على مسائل محدودة كالتحكيم وعلي ومعاوية١١. أما المعتزلة فلهم أحكام عامة في كثير من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي هريرة وغيرهم، وكانوا في منتهى الصراحة في إبداء رأيهم؛ فواصل ابن عطاء «لم يجوِّز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل، وجوَّز أن يكون عثمان وعليٌّ على الخطأ»١٢، وسب عمرو بن عبيد أبا هريرة وطعن في روايته، إلى كثير من أمثال ذلك، وهنا نتساءل: ماذا كان موقف الدولة الأموية من آراء المعتزلة السياسية في هذا الموضوع؟
الذي يظهر لي أنهم عدُّوا جرأة المعتزلة في نقد الرجال نوعًا من التأييد لهم أكثر من تأييد المرجئة فإن تأييد المرجئة كما قلنا تأييد سلبي، فهم تركوا الخلافات الحزبية من غير نقد ومن غير تحليل، وهذا يُؤيد عليًّ وأتباعه ومعاوية وأتباعه؛ ولكن إذا انضاف إلى ذلك ما عند جمهور الناس إذ ذاك من شعور ديني برفعة شأن عليٍّ ومن إليه، فذلك يجعلنا نعتقد أن تأييد فكرة المرجئة للأمويين تأييد ضعيف، أما المعتزلة فتأييدهم لهم أقوى؛ لأن نقد الخصوم ووضعهم موضع التحليل وتحكيم العقل في الحكم لهم أو عليهم يزل — على الأقل — فكرة التقديس التي كانت شائعة عند جماهير الناس، نعم إن المعتزلة وضعوا معاوية وأصحابه موضع النقد كذلك، «وأكثرهم تبرأ من معاوية وعمرو بن العاص»١٣ وعمرو بن عبيد خوَّن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفيء، ولكن يظهر أن الأمويين رأوا أن في ذلك من الكسب لهم أكثر من الخسارة، فهذا — على الأقل — يجعل معاوية وعليًّا في ميزان نقد واحد، وفي الغالب ترجح كفة معاوية وآله؛ لأن الدولة دولتهم والناس يخشون نقدهم ولا يخشون نقد غيرهم، ومن نتائج ذلك ما يُروى عن ابن كيسان الأصم «أنه كان يُخطئ عليًّا في كثير من أفعاله ويُصوِّب معاوية في بعض أفعاله»١٤. ولنا على ما ذهبنا إليه دليلان:
  • (الأول): أنا لم نعثر فيما قرأنا في كتب التاريخ أن رجلًا من كبار المعتزلة كواصل وعمرو بن عبيد وأمثالهما قد اضطهد من الأمويين أو عمالهم لذهابه هذا المذهب وتصريحه بآرائه في هذا الموضوع، بل كل الذي رأينا أن المعتزلة هم الذين هاجموا الخليفة الأموي الوليد لما اشتهر وتهتك، ووقف بعضهم — ومنهم عمرو بن عبيد — بجانب يزيد يُحاربون الوليد، حتى إذا انتصر يزيد وولي الخلافة عرف للمعتزلة موقفهم فقربهم وعلا إذ ذاك شأنهم.
  • (الثاني): وهو أهم، ما نقل من أن بعض المتأخرين من خلفاء بني أمية كيزيد بن الوليد ومروان بن محمد اعتنق مذهب الاعتزال، ومن المحال أن يعتنقوه إذا كان يُضعف دولتهم ويُؤيد خصومهم.

لعلنا نستطيع أن نستنتج من هذا كله أن هناك وجه شبه كبير بين فئة المعتزلة الأولى الذين اعتزلوا الطائفتين المتقاتلتين، أعني عليًّا وعائشة وطلحة والزبير أوَّلًا، ثم عليًّا ومعاوية ثانيًا، وبين فئة المعتزلة الثانية التي رأت أن ليس حقًّا ما عليه الخوارج من تكفير وحرب وقتال، وما عليه المرجئة من لين وتسامح؛ وأن كلتا الفرقتين المعتزلتين قد انتحت ناحية وحدها تُخالف في منحاها الطوائف المختلفة في زمانها؛ وأن كلتا الفرقتين تُمثل في أساس تعاليمها ناحية سياسية دينية، وإن كانت فرقة المعتزلة الثانية أضافت إلى ذلك بعدُ أبحاثًا دينية بحتة كبحثهم الميتافيزيقي في صفات الله، وأنه ليس بجسم ولا عرض … إلخ، وهذا القول يُسْلِمُنا — من غير شك — إلى ترجيح الرأي القائل بأنهم سُموا المعتزلة لاعتزالهم قول الأمة، يعنون بذلك أنهم اشتقوا لأنسفهم طريقًا جديدًا ساروا فيه وخالفوا غيرهم، وليس تحولهم من سارية جديدة — إن صح — إلا رمزًا لتنحيهم عن هذه الفرق وإنشائهم فرقة جديدة.

على كل حال لم يكن كثير من المعتزلة يرضى عن هذه التسمية، وإنما كانوا يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد؛ أما التوحيد فلأنهم نفوا صفات الله وعدوا القول بها تعديدًا لله؛ وأما العدل فلأنهم نزهوا الله عما يقول خصومهم من أنه قَدَّر على الناس المعاصي ثم عذبهم عليها، وقالوا: إن الإنسان حر فيما يفعل، ومن أجل هذا عُذِّب على ما يفعل، وهذا عدل.

اشتهر من أوائل الداعين إلى الاعتزال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد١٥، فأما واصل فكان من الموالي، ولد في المدينة سنة ٨٠هـ ثم انتقل إلى البصرة، وسمع من الحسن البصري وغيره وتوفي سنة ١٣١، وكان خطيبًا بليغًا مقتدرًا على الكلام سهل الألفاظ، يقول فيه بعضهم:
عَلِيم بإبدال الحروف وقَامِعٌ
لكل خطيب يبلغ الحقَّ باطلُه

وقد ألف كتبًا كثيرة لم يصلنا منها شيء.

وأما عمرو بن عبيد فمولى كذلك، تتلمذ للحسن البصري واعتنق رأي واصل بن عطاء في الاعتزال، وألف كتبًا كثيرة لم تصلنا، واشتهر بالزهد والورع، وفيه يقول أبو جعفر المنصور:

كلُّكمْ يَطلُبُ صَيْد
غَيْرَ عَمْرو بْنِ عُبَيْد

وتوفي سنة ١٤٥هـ في رجوعه من الحج.

وكلاهما «واصل وعمرو» عُرف بالتقوى والصلاح، ويعدان بحق مؤسسي مذهب الاعتزال.

وتتلخص تعاليم المعتزلة في الأصول الآتية:
  • (١)

    القول بالمعتزلة بين المنزلتين؛ أي أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، لكنه فاسق، والفاسق يستحق النار بفسقه.

    وقد دعا إلى إثارة هذا القول أن الحروب السياسية من مقتل عثمان ووقعة الجمل ووقعة صفين جعلت الناس يتساءلون مَن المحق ومن المخطئ، ثم انتقلوا من ذلك إلى القول بأن المخطئ كافر أو مؤمن، فكانت الخوارج تقول بكفر مرتكبي الذنوب، والمرجئة يقولون بأنه مؤمن، وقال الحسن البصري: إنه منافق، فقال واصل: إنه فاسق وله منزلة بين الكفر والإيمان، وقال: إنه يخلد في النار.

  • (٢)

    القول بالقدر وأن الله لا يخلق أفعال الناس، وإنما هم الذين يخلقون أعمالهم، وأنهم من أجل ذلك يُثابون أو يُعاقبون، ولهذا وحده يستحق أن يُوصف الله بالعدل؛ ولعل الذي حملهم على هذا القول ما رأوه من مغالاة جهم بن صفوان وأصحابه في سلب الإنسان قدرته وجعله كالجماد تجري الأعمال على يديه كما تجري على الحجر، وقد رُوي أن واصل بن عطاء أرسل بعض أصحابه إلى خراسان لمباحثة جهم ومجادلته.

  • (٣)

    القول بالتوحيد فنفوا أن يكون لله تعالى صفات أزلية من علم وقدرة وحياة وسمع وبصر غير ذاته، بل الله عالم وقادر وحي وسميع وبصير بذاته، وليس هناك صفات زائدة على ذاته، والقول بوجود صفات قديمة قول بالتعدد، والله واحد لا شريك له من أي جهة كان، ولا كثرة في ذاته البتة، وتأولوا الآيات التي تثبت هذه الصفات والتي يُفهم منها أن له صفات كصفات المخلوقين، وربما كان قد دعاهم إلى هذا القول ما شاع في عصرهم من ذهاب قوم إلى تجسيد الله تعالى وإثبات صفات له كصفات المخلوقين، كمقاتل بن سليمان الذي عاصر واصلًا.

  • (٤)

    قولهم بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح، ولو لم يرد بهما شرع، وللشيء صفة فيه جعلته حسنًا أو قبيحًا، فالصدق فيه صفة ذاتية جعلته حسنًا، والكذب فيه صفة ذاتية جعلته قبيحًا، ولذلك يشترك العقلاء في حسن الإحسان إلى الفقير وإنقاذ الغريق، ويستقبحون كفران الجميل وإيلام البريء، ولو لم يصلهم في ذلك شرع، بل ولو كانوا ملحدين؛ والشرع لم يجعل الشيء حسنًا بأمره به، ولا القبيح قبيحًا بنهيه عنه، بل الشرع إنما أمر بالشيء لحسنه، ونهى عن الآخر لقبحه، ولا يستطيع الشرع أن يعكس؛ لأن أمره ونهيه تابعان لما في الشيء ذاته من حسن وقبح.

وربما دعاهم إلى وضع هذا المبدأ ما رأوا من مغالاة قوم وجمودهم على ما ورد من حديث ولو موضوعًا، ووقوفهم عند النص، فإذا لم يجدوا نصًّا لم يجرؤ على إبداء رأي، وقد رأيت هذه النزعة عند كلامنا على مدرسة الحديث، فأحس المعتزلة بالخطر الذي يصيب الناس من شل العقل إلى هذا الحد فوضعوا هذا الأساس، ولذلك كان علماء الحديث من أشد خلق الله كرهًا للمعتزلة، والعكس، ولما كانت الدولة للمعتزلة في عهد المأمون والمعتصم نكلوا بأهل الحديث تنكيلًا في فتنة خلق القرآن، ولما زالت دولتهم نكل بهم المحدِّثون.

كذلك تعرض المعتزلة للأمور السياسية التي سبقت عصرهم وأدلوا فيها بآرائهم، ولم يجاروا الحسن البصري في قوله: «تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا» بل قالوا: إن الصحابة أنفسهم كان يُخطئ بعضهم بعضًا ويُحارب بعضهم بعضًا، وقد رُوي عن عمرو بن عبيد في نقد الرجال الشيء الكثير، فقد سب أبا هريرة وطعن في روايته، وخوَّن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفيء كما أسلفنا، إلى كثير من أمثال ذلك، وعلى الجملة قد أباحوا لأنفسهم تشريح الصحابة ونقدهم والحكم على أعمالهم وحروبهم، وكان أكثرهم حرية في ذلك من اعتنق الاعتزال من الشيعة١٦، ونحن نذكر لك طرفًا من آرائهم في المسائل السياسية، فقد اتفقوا — تقريبًا — على أن بيعة أبي بكر بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص من النبي وإنما كانت بالاختيار، واختلفوا في أيهما أفضل: أبو بكر أم علي؟ فقال قدماء البصريين كعمرو بن عبيد والنَّظَّام والجاحظ وهشام الفُوَطي: أن أبا بكر أفضل من علي، وقال البغداديون كبِشْر بن المعْتَمِر وأبي الحسين الخياط: إن عليًّا أفضل؛ ولهم في ذلك حجاج طويل، ولما وصلوا إلى وقعة الجمل كان واصل بن عطاء يقول: إن أحد الفريقين فاسق بقتاله لا محالة، ولكن لم أستطع الجزم أي الفريقين هو الفاسق، وأما عمرو بن عبيد فقال بفسق الفرقتين المتقاتلتين جميعًا، وتبرأ المعتزلة من عمر ومعاوية وخطئوهما وأتباعهما وهكذا حللوا كثيرًا من الأعمال في التاريخ الإسلامي وأبدوا فيها رأيهم، واختلفوا فيما بينهم، وأدلى كلٌّ بالحجج التي يُعزز بها رأيه مما يطول ذكره.

•••

وقد نشأ الاعتزال كما رأيت في البصرة، وسرعان ما انتشر في العراق: واعتنقه من خلفاء بني أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد؛ وفي العصر العباسي تكوَّنت للاعتزال مدرستان كبيرتان: مدرسة البصرة ومدرسة بغداد، وكان بين معتزلي البصرة ومعتزلي بغداد جدال وخلاف في كثير من المسائل.

وكان المعتزلة أسرع الفرق للاستفادة من الفلسفة اليونانية وصبغها صبغة إسلامية، والاستعانة بها على نظرياتهم وجدلهم، وكان من أشهر من استخدم الفلسفة في ذلك أبو الهذَيل العَلَّاف والنَّظام والجاحظ، ولسنا نستطيع هنا أن نبين النظريات اليونانية وكيف نقلها أئمة المعتزلة، فموضع ذلك الكلام على الحركة العقلية في صدر الدولة العباسية إن شاء الله.

والحق أن المعتزلة هم الذين خلقوا علم الكلام في الإسلام، وأنهم أول من تسلح من المسلمين بسلاح خصومهم في الدين؛ ذلك أنه في أوائل القرن الثاني للهجرة ظهر أثر من دخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهرية، فكثير من هؤلاء أسلموا ورءوسهم مملوءة بأديانهم القديمة، لم يزد عليهم إلا النطق بالشهادتين، فسرعان ما أثاروا في الإسلام المسائل التي كانت تُثار في أديانهم، وكانت هذه الأديان التي ذكرناها قد تسلحت من قبل بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني ونظمت طريق بحثها وتعمقت في ذلك كثيرًا، فهاجموا الإسلام وهو الدين الذي يمتاز ببساطة عقيدته فأثاروا حوله الشكوك، وليس هؤلاء الذين أسلموا هم الذين فعلوا ذلك فقط، بل كانت البلاد الإسلامية مملوءة بذوي الأديان المختلفة الذين ظلوا على دينهم، وكان منهم كثيرون في بلاط الدولة الأموية يشغلون مناصب خطيرة، هؤلاء وهؤلاء أثاروا مسألة القدر على هذا النمط الفلسفي وكانت معروفة في دينهم، وأثاروا مسألة صفات الله وخلق القرآن ولها نظير في النصرانية، وأثار الزردشتيون كثيرًا من مسائلهم.

كل هذا دعا المعتزلة أن يتسلحوا بسلاح عدوهم فجادلوهم جدالًا علميًّا، وردوا هجمات القائلين بالجبر والمنكرين لله وما أثار اليهود والنصارى والمجوس من شكوك، ونشطوا لهذا العمل نشاطًا بديعًا؛ فواصل بن عطاء يقول عنه المرتضي: «إنه كان أعلم الناس بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج، وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين»، فأخذ بعد معرفة أقوالهم يرد عليهم في فصاحة من القول يصفها بشَّار بقوله فيه:

وَقَالَ مرْتَجِلًا تَغْلِي بَدَاهَتُهُ
كمِرْجَلِ القَيْنِ لمَّا خُفَّ باللَّهَبِ
وتصفه زوجته فتقول: «كان إذا جنَّه الليل صفَّ قدميه يُصلي، ولوح ودواة بجانبه، فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها ثم عاد لصلاته»، ولم يكتف بذلك بل بعث دعاته إلى الأمصار يُجادلون أصحاب التعاليم المخالفة وينشر مبادئه؛ فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب، وحفص بن سالم إلى خراسان يُناظر جهمًا القائل بالجبر، كما بعث إلى اليمن وإلى الجزيرة وإلى أرمينية، وأخذ واصل يُؤلف الكتب في ذلك حتى ليذكرون أنه ألف كتابًا فيه ألف مسألة للرد على المانوية — وكذلك كان عمرو بن عبيد يُجادل مخالفيه ويدعو إلى الاعتزال في مهارة، يقول واصفه: كان عمرو إذا رأيته مقبلًا توهمته جاء من دفن والديه، وإذا رأيته جالسًا توهمته أُجلس للقَوَد، وإذا رأيته متكلمًا توهمت أن الجنة والنار لم يُخلقا إلا له، وقد أبى هو وأصحابه الأولون — على ما يظهر — أن يتولوا للحكومة عملًا، وأرادوا أن يكون عملهم لله خالصًا، فابن قتيبة يُحدثنا: «أن عمرو بن عبيد قال لأبي جعفر المنصور: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلةً تَمَخَّضُ عن يوم لا ليلة بعده؛ فوجم أبو جعفر من قوله، فقال له الربيع: يا عمرو غَممْتَ أمير المؤمنين! فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنة، لم ير لك عليه أن ينصحك يومًا واحدًا، وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه؛ قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت لك خاتمي في يدك فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو: ادعنا بعدلك تَسْخُ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، أُردد منها شيئًا نعلم أنك صادق»١٧ ولكنهم مع هذا كانوا مكروهين من كثير من المسلمين لأسباب: أهمها أنهم خالفوا أهل الحديث في كثير من آرائهم فحمل عليهم المحدِّثون حملات عنيفة، ومنها أنهم حولوا العقيدة الإسلامية البسيطة إلى عقيدة فلسفية عميقة، ومنها أنهم في أيام سلطتهم في عهد المأمون والمعتصم نكلوا بالناس في القول بخلق القرآن، ولم يسيروا سيرة فلسفية في الاكتفاء بتأييد رأيهم بالحجة، حملوا الناس على القول برأيهم بالسيف، وكان في ذلك ذهاب دولتهم وسمعتهم؛ ولعل من هذه الأسباب أنهم أنزلوا الصحابة منزلة سائر الناس فلم يقروا لهم بعصمة، وجرءوا عليهم يُشرِّحون أعمالهم ويحكمون بصواب بعضها وخطأ بعضها، فقد رأيت ما قال عمرو بن عبيد، وجاء بعده النظام فنقد عمر وأبا بكر وابن مسعود في بعض أقوالهم، وأكذب حذيفة وأبا هريرة في حديث طويل١٨.

•••

وقد فشا في العصر الأموي الجدل في هذه المذاهب التي ذكرنا من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة وغيرهم، ومُلئت كتب التاريخ والأدب والملل بما كان يدور بينهم من حوار شديد، فابن أبي الحديد يروي لنا أن الخوارج — في حرب المهلب لهم — كانوا يضعون السيف من حين لآخر ثم يلتقون بخصومهم ويتجادلون ويدعون إلى مذهبهم، ويحدثنا الأغاني أن ثابتَ قُطُنَة استمع لقوم من الخوارج كانوا يجتمعون بقوم من المرجئة بخراسان فيتجادلون فمال إلى قول المرجئة وأحبه، وقال قصيدته التي ذكرناها في الإرجاء؛ ويحدثنا أيضًا أن شيعيًّا ومرجئًا اختصما واحتكما إلى أول من يطلع عليهما، فطلع «الدلال» فقالا له أيهما خير: الشيعي أم المرجئ؟ فقال: لا أدري إلا أن أعلاي شيعي وأسفلي مرجئ١٩، ويحدثنا ابن نباتة أن هذا الخلاف وصل إلى الشعراء، فقد كان ذو الرُّمة قدَريًّا، وكان رؤبة جبريًّا، وأنهما اختصما فقال رؤبة: والله ما فحص طائر أُفْحُوصًا، ولا تقرمص سبع قُرموصًا إلا بقضاء الله وقدره، فقال ذو الرمة: والله ما قرر على الذئب أن يأكل حَلُوبة عياييل ضرائك٢٠.

ويقول الراجز:

يا أيها المضمر هَمًّا لا تُهَم
إنك إن تقْدَرْ لك الحُمَّى تُحَمْ
لو عَلوْتَ شاهقًا من العَلمْ
كيف تَوَقِّيكَ وقد جَفَّ القلَمْ!
ويروي الأغاني عن ابن قتيبة أنه كانت بين الطرِمَّاح والكُمَيْت خلطة ومودة وصفاء على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة، فكان الكميت شيعيًّا عصبيًّا عدنانيًّا، من شعراء مضر متعصبًا لأهل الكوفة، والطرِمَّاح خارجي صُفْري قحطاني عصبي لقحطان من شعراء اليمن، متعصب لأهل الشام، فقيل لهما: ففيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ قال: اتفقنا على بعض العامة٢١.

ويروي الأغاني أيضًا أنه كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد «هو جرير بن حازم» فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده؛ فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة، وأما بشار فبقي متحيرًا مخلطًا، وأما الأزدي فمال إلى قول السُّمَنِية «وهو مذهب من مذاهب الهند»، قال: وكان عبد الكريم يفسد الأحداث بدعوتهم إلى دينه، وما زال عمرو بن عبيد به حتى أخرجه من البصرة ثم دل عليه من قتله، وروى الإمام أحمد أن الجهم لقي بعض السمنية، فقال له السُّمَني: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: نعم، قال: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قال: فما يدريك أنه إله؟ قال له الجهم: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ قال: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا، قال فكذلك الله!

كل هذا يدلنا على أن حركة الجدال في المذاهب الدينية والآراء السياسية المصبوغة بالصبغة الدينية كانت في هذا العصر حركة عظيمة، وقد كان لها أثر كبير في العلم وفي السياسة وفي الأدب، وقد صدرت هذه الفرق عن عقليات مختلفة من فرس وروم وسريان وعرب وغيرهم، وكانت هذه العقليات تُؤمن بأديان مختلفة من يهودية ونصرانية ومجوسية ووثنية وغيرها؛ ولو ظلت الأمة الإسلامية أمة عربية فقط لرأينا فيها أمثال الخوارج وأمثال المرجئة، ولكن ما كنا نرى فيها مذاهب الشيعة الغالية وتعاليمهم الغريبة، وما كنا نرى المعتزلة وأبحاثهم الفلسفية ومذاهبهم العميقة.

•••

هذه الحركات العلمية التي شرحناها، والفرق الدينية التي أبنَّا تعاليمها كانت في الدولة الأموية على حالة السذاجة، لم تصل إلى درجة القواعد المنظمة، والعلوم المتميزة، والشرح المحكم، إنما وصلت إلى هذه الدرجة في صدر العصر العباسي لما أخذ خلفاء الدولة العباسية يُناصرون الحركة العلمية، وينهضون بالأساس الذي وضعه العلماء في الدولة الأموية، مستعينين على ذلك بترجمة ما وصلت إليه الأمم قبلهم، وموعدنا في الكلام على ذلك الجزء التالي إن شاء الله وهو المستعان.

١  يريد عمر بن عبيد أحد رؤساء المعتزلة.
٢  روى هذا الخبر المرتضى في المنية والأمل، والشهرستاني في الملل والنحل، وابن قتيبة في المعارف، وابن رستة في الأعلاق النفيسة، والشريشي في المقامات، وابن خلكان في ترجمة قتادة.
٣  حكى هذا القول المرتضى في كتابه المنية والأمل.
٤  السمعاني ص ٥٣٦ والعبارة غامضة إذ قد تحتمل الرأي الأول والرأي الثاني، وإن كانت إلى الثاني أقرب.
٥  وقد كنت رأيت رأيًا في الطبعة الأولى لهذا الكتاب وهو أن تسميتهم بالمعتزلة هو لقب لقبه بهم اليهود أسوة بما عندهم من كلمة الفروشيم ومعناها الاعتزال، وقلت: إنه لا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلم من اليهود، لما رأوه بين الفرقتين من الشبه في القول بالقدر ونحوه، ولكني رجحت بعد إمعان النظر العدول عنه.
٦  طبري ١: ٢٤٤ طبع أوروبا.
٧  طبري.
٨  اطلعت بعد كتابة هذا على بحث للأستاذ نلينو باللغة الإيطالية يذهب فيه إلى هذا الرأي.
٩  انظر في ذلك الملل والنحل للشهرستاني، والفضل لابن حزم، ومقالات الإسلاميين للأشعري، والفَرق بين الفِرق.
١٠  الشهرستاني ١: ٦١ هامش ابن حزم.
١١  قد يقال: إن الشيعة كانوا أجرأ في نقد الصحابة والنيل منهم إلى حد لم يصل إليه المعتزلة، وهذا صحيح، ولكن الشيعة إنما ينقدون من نقدوا قصدًا لإعلاء شأن علي وآله؛ أما المعتزلة فقد وزنوا الجميع بميزان واحد.
١٢  الشهرستاني ١: ٦٢، وانظر كذلك أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص ٣٠٧ و ٣٣٥.
١٣  المنية والأمل ص ٦.
١٤  المنية والأمل ص ٣٣.
١٥  لأحمد بن يحيى المرتضى كتاب اسمه المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، طُبع منه جزء في طبقات المعتزلة، وهو يذهب إلى أن مذهب الاتزال يرجع إلى الصدر الأول للإسلام، فقد عد من الطبقة الأولى للمعتزلة الخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وغيرهم، ومن الطبقة الثانية الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب وغيرهم، ومن الطبقة الثالثة الحسن بن الحسن وعبد الله بن الحسن وأبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وهو الذي أخذ عنه واصل، ومن الطبقة الرابعة غيلان الدمشقي وواصل بن عطاء … إلخ. والذي يظهر من كلامه أنه يُريد أن يعد معتزليًّا كل من ذكر له من الصحابة والتابعين قول يدل على أن الإنسان حر الإرادة أو يدل على أنه يرى الحسن والقبح العقليين؛ لأنه استدل مثلًا على أن أبا بكر وابن مسعود يريان مذهب الاعتزال بأنهما قالا في المرأة المفوضة في مهرها برأيهما؛ أي أنهما يقولان بالحسن والقبح العقليين ولذا حكما بالرأي، واستدل على أن ابن عباس منهم بأنه ناظر القائلين بالجبر من الشاميين وألزمهم الحجة، وليس يريد أن مذهب الاعتزال بهذا الاسم وبصفته مذهبًا كان من عهد أبي بكر.
١٦  إن أردت مثلًا لذلك فاقرأ الرسالة التي نقلها ابن أبي الحديد عن أبي جعفر في شرح نهج البلاغة ٤: ٤٥٤ وما بعدها.
١٧  عيون الأخبار ٣: ٣٣٧.
١٨  ترى هذا القول مطولًا ومردودًا عليه في كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٢١ وما بعدها.
١٩  يريد أن عقله وهواه مع علي، وشهواته مع المرجئة؛ لأنها لا تُكفر بالذنوب.
٢٠  العياييل: جمع عيل وهو ذو العيال، وضرائك: جمع ضريك وهو الفقير.
٢١  أغاني ١٥: ١١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤