الفصل الثامن

دين الفرس

ضاع استقلال فارس بالفتح الإسلامي كما أسلفنا، وأصبحت ولاية إسلامية، ووقع كثير من الفرس في أيدي العرب أسرى، واستُرِقَّ بعضهم ووُزِّع على العرب، ودخل كثير من الفرس في الإسلام، وتعلم كثير منهم العربية، حتى كان منهم في الجيل الثاني من يتكلم العربية كأحد أبنائها؛ ولكنهم برغم هذا كله لم يصبحوا في جملتهم كالعرب في عقيدتهم، ولا كالعرب في مطامعهم وطموحهم ونزعاتهم، ولا كالعرب في عقليتهم، بل اعتنقوا الإسلام فصبغوه بصبغة الفارسية، ولم يتجردوا من كل عقائد الدين القديم وتقاليده، ففهموا الإسلام بالقدْر الذي يسمح به دين قديم اعتنقه قومه أجيالًا، ونشأ فيه ناشئهم وشب عليه؛ كذلك تعلم الكثير منهم العربية، ولكن لم يترك خياله الفارسي، ولم ينس ما كان لقومه من شعر ومثل وحكمة، كان من أثر ذلك طبيعيًّا أن تدخل تعاليم في الإسلام جديدة، ونزعات دينية جديدة، ظهر أثرها فيما بعد، وأظهرها في الإسلام التشيع والتصوف، وكان من أثر ذلك أيضًا أن يُغْمَر الأدب العربي بالحِكم الفارسية، والقصص الفارسية، والخيال الفارسي.

إذًا كان للفرس دين ذو أثر، وأدب ذو أثر؛ فلندرس باختصار دينهم وأدبهم، لنستطيع بعدُ أن نفهم أثر ذلك؛ ولسنا ندرس دينهم منذ نشأتهم، ولا نعرض لأصل أدبهم وتدرجه في الرقي، فذلك ما لا يهمنا كثيرًا، وإنما نتعرض لدينهم وطرف من أدبهم في الدولة الساسانية التي حكمت الفرس قبل الإسلام، واستمرت في الحكم من سنة ٢٢٦م إلى سنة ٦٥١م حين تسلمها العرب من أيديهم وحكموها بولاتهم، فهذه الدولة الساسانية هي التي كان لها الأثر المباشر في المسلمين من الناحية الدينية والأدبية جميعًا.

دين الفرس: اشتهر الفرس — والجنس الآري عامة — بأنهم ميالون إلى عبادة المظاهر الطبيعية؛ فالسماء الصافية، والضوء، والنار، والهواء، والماء ينزل من السماء؛ جذبت أنظارهم وجعلتهم يعبدونها على أنها كائنات إلهية، حتى سموا الشمس «عين الله» والضوء «ابن الله»، كما أن الظلمة والجدب ونحوهما كائنات إلهية شريرة ملعونة.

ومن أول أمرهم وقفوا الإنسان أمام آلهة الخير يستمد منهم المعونة، ويُصلِّي لهم ويُسبح بحمدهم، ويُقدم الضحايا إليهم.

ورأوا أن آلهة الخير في نزاع دائم مع آلهة الشر، وأعمال الإنسان من صلاة ونحوها تعين آلهة الخير في منازلتها آلهة الشر؛ واتخذوا النار رمزًا للضوء، وبعبارة أخرى رمزًا لآلهة الخير يشعلونها في معابدهم، وينفخونها بإمدادهم، حتى تقوى على آلهة الشر وتنتصر عليها، وقد كانت هذه النار منبعًا عندهم لخيال شعري خصب.

  • (أ)
    زردشت (Zoroaster): ثم جاء بعدُ زَرْدُشْت — نبي الفرس — فدعا إلى تعاليم جديدة أسست على الديانة القديمة بعد إصلاحها.
    وقد كان وجود زردشت نفسه موضع شك عند كثيرين، وموضع جدل طويل بين النافين والمثبتين، واختلف المثبتون في تاريخ وجوده على أقوال تتردد بين سنة ٦٠٠٠ قبل الميلاد و٦٠٠ ق م، وقد ألف الأستاذ «جاكْسُن Jackson» كتابًا قيمًا في حياته١ كان له أثر كبير في ترجيح كفة المثبتين لوجوده، وقد وصل في بحثه إلى أن زردشت شخص تاريخي لا خرافي، وأنه كان من قبيلة ميديا (في الجزء الغربي الشمالي من فارس)، وأنه ظهر أمره نحو منتصف القرن السابع قبل الميلاد، ومات نحو سنة ٥٨٣ق.م بعد أن عُمِّر ٧٧ سنة وأن موطنه كان أذرَبيجان، ولكن أول نجاح ناله كان في بَلْخ، وعلى أثر دخول الملك «بِشْتَاسْب»٢ في دينه، وأن دينه انتشر من بلخ إلى فارس كلها.

    ومع هذا فلا تزال بعض هذه النتائج التي وصل إليها جاكسن مجالًا للبحث، ويروي أهل دينه كثيرًا عما صحب ولادته من المعجزات وخوارق العادات والإشارات، وأنه انقطع منذ صباه إلى التفكير، ومال إلى العزلة، وأنه في أثناء ذلك رأى سبع رؤى، ثم أعلن رسالته فكان يقول: إنه رسول الله بعثه ليزيل ما علق بالدين من الضلال، وليهدي إلى الحق، وقد ظل يدعو الناس سنين طوالًا فلم يستجب لدعوته إلا القليل، فأُوحي إليه أن يهاجر إلى بلخ، فنشر دعوته في بلاط الملك، فاستجاب له أولًا أبناء الوزير ثم الملكة نفسها، وقاومه رجال البلاط وجادلوه، ولكنه انتصر عليهم بدخول الملك نفسه وهو بِشْتَاسْب في دينه، وقد تحمس الملك لهذا الدين الجديد، فتتابع للدخول فيه أفواجًا.

    تعاليمه: نلاحظ فيما ذكرنا أن الفرس قبل زردشت بنوا دينهم على أساسين:
    • (١)

      أن لهذا العالم قانونًا يسير عليه، وأن له ظواهر طبيعية ثابتة.

    • (٢)

      وأن هناك نزاعًا وتصادمًا بين القوى المختلفة، بين النور والظلمة، والخصب والجدب … إلخ، فجاءت تعاليم زردشت مبنية على هذين الأساسين أيضًا، إلا أن مَن قبله كانوا يعبدون الأرواح الخيرة وهي كثيرة، فوحدها زردشت في إله واحد هو «أهُرَامَزْدَا»، وكذلك فعل في قوى الشر، فحصرها في شيء واحد سمي «درُوج أهْرِمَن»، وبذلك كانت عنده قوتان فقط: قوة الخير وقوة الشر.

    ولزردشت كتاب مقدس يُسمى «أفِسْتَا Avesta» وعليه شرح يُسمى «زندافست»؛ قال المسعودي: «واسم هذا الكتاب «ألايسْتا»، وإذا عُرب أثبتت فيه قاف فقيل «الايستاق»٣ وعدد سوره إحدى وعشرون سورة تقع كل سورة في مئتي ورقة … وأنه كتب باللغة الفارسية الأولى وأن أحدًا اليوم لا يعرف معنى تلك اللغة، وإنما نقل لهم إلى هذه الفارسية شيء من السور في أيديهم يقرءونها في صلواتهم، في بعضها الخبر عن مبتدأ العالم ومنتهاه، وفي بعضها مواعظ» ا.هـ مختصرًا.

    وأصل الأفستا ومؤلفو سوره لا يزال موضع جدال بين الباحثين، كما هو الشأن في زَرَدُشت نفسه، ويقول «البَرْسِيُّون»: «إن الأفستا كان في عهد الدولة الساسانية مؤلفًا من إحدى وعشرين سورة لم يبق منها في عهدنا إلا سورة كاملة وبعض آيات من سور مختلفة»، وهذا الذي وصل إلينا لا يحتوي إلا على مقطعات في الشعائر الدينية، وفي قوانين للمعابد الزردشتية.

    وقد عاملهم المسلمون في الفتح معاملة أهل الكتاب، وعدوا كتابهم كأنه كتاب منَزَّل، وجرى عمر على ذلك لما رُوِي له الحديث: «سنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب…» إلخ.

    والمشهور من تعاليمه أنه كان يقول: إن للعالم أصلين أو إلهين: أصل الخير وهو «أهُورَ» أو أهورامزْدَا، وأصل الشر وهو «أهْرِمَنْ»٤ وهما في نزاع دائم، ولكل من هذين الأصلين قدرة الخلق، فأصل الخير هو النور وقد خلق كل ما هو حسن وخير ونافع، فخلق النظام وخلق الحق وخلق النور وكلب الحراسة والديك ونحو ذلك من الحيوانات النافعة، والواجب على المؤمن العناية بها؛ وأصل الشر هو الظلمة، وقد خلق كل ما هو شر في العالم، فخلق الحيوانات المفترسة والحيات والأفاعي والحشرات والهوام، وعلى المؤمن قتلها، والحرب بين هذين الروحين سِجال، ولكن الفوز النهائي لروح الخير؛ والناس في الحرب ينحازون إلى الروحين، فمنهم من ينصر «أهورا» ومنهم من ينصر «أهرمن»، وليس الروحان يباشران الحرب بأنفسهما بل بمخلوقاتهما.

    وكان الإنسان موضع نزاع بين الروحين؛ لأنه مخلوقُ مَزْادَا، ولكنه خلقه حر الإرادة، فكان في الإمكان أن يخضع للقوى الشريرة، والإنسان في حياته تتجاذبه القوتان، فإن هو اعتنق دينًا حقًّا، وعمل عملًا صالحًا، وطهر بدنه ونفسه، فقد أخزى روح الشر، ونصر روح الخير واستحق الثواب من «مزدا»، وإلا قوَّى روح الشر وأسخط عليه «مزدا».

    كذلك من أهم مبادئه: أن أشرف عمل للإنسان الزراعة والعناية بالماشية، فحبب إلى الناس أن يزرعوا، وأن يعيشوا مع ماشيتهم، وأن يجدوا ويعملوا، حتى حرم على أتباعه الصوم؛ لأنه يضعفهم عن العمل، وهو يريدهم أقوياء عاملين.

    وعلم أن الماء والهواء والنار والتراب عناصر طاهرة يجب ألا تنجس، وكان من مظاهر هذا تقديس النار واتخاذها رمزًا، وتحريم تنجيس الماء الجاري، وتحريم دفن الموتى في الأرض، ونحو ذلك:

    وللإنسان حياتان: حياة أولى في الدنيا، وحياة أخرى بعد الموت، ونصيبه في حياته الآخرة نتيجة لأعماله في حياته الأولى، قد أحصيت أعماله في كتاب، وعدت سيئاته ديونًا عليه؛ وفي الأيام الثلاثة التي تعقب الموت تُحَلِّقُ نفس الإنسان فوق جسده، وتنعم أو تشقى تبعًا لأعماله، ومن أجل هذا تقام الشعائر الدينية في هذه الأيام إيناسًا للنفس، وعند الحساب تمر النفس على صراط ممدود على شَفير جهنم، وهو للمؤمن عريض سهل المجاز، وللكافر أرقُّ من الشعرة؛ فمن آمن وعمل صالحًا جاز الصراط بسلام؛ ولقي «أهورا» فأحسن لقاءه، وأنزله منزلًا كريمًا، وإلا سقط في الجحيم وصار عبدًا لأهْرِمَنْ، وإن تعادلت سيئاته وحسناته ذهب الروح إلى الأعراف إلى يوم الفصل.

    وقد غيّب على الإنسان في حياته الدنيا ما أُعِدَّ له بعد موته، ولم يعلم الخير من الشر، فكان من رحمة الله أن أرسل رسولًا يهدي به الناس؛ وفي الأساطير الزردشتية أن النبوة نزلت أولًا على جَمْشِيد ملك الفرس، ولكن لم يستطع حملها، فحملها زردشت، فكان الله يكلمه وينزل عليه الوحي.

    ويعلم زردشت أن يوم القيامة قريب، وأن نهاية هذه الحياة ليست بعيدة وسيستجمع «مزدا» قوته، ويضرب إله الشر ضربة قاضية، ويعذبه بالجحيم هو ومن أطاعه.

    فلسفته: بجانب هذه التعاليم الدينية نرى للديانة الزردشتية أبحاثًا فيما وراء المادة، ولكن لم يكن بحثهم فيها شاملًا — كالذي كان عند اليونان — بل كان بحثًا جزئيًّا مفرقًا؛ كذلك نرى لهم في هذا خاصية تشبه التي كانت للعرب بعد الإسلام، وهي امتزاج أبحاثهم — فيما وراء المادة — بالدين والتوفيق بينهما، ولم يبحثوا فيها بحثًا مستقلًّا كما فعل اليونان مثلًا.

    فمن أبحاثهم الفلسفية بحثهم في النفس، فالديانة الزردشتية ترى أن نفس الإنسان قد خلقها الله بعد أن لم تكن، وتستطيع أن تنال الحياة الأبدية السعيدة إذا حاربت الشرور في العالم الأرضي، وقد منحها الله حرية الإرادة، فهي تستطيع أن تختار الخير أو الشر، وللنفس الإنسانية قوى مختلفة:
    • (١)

      الضمير أو الوجدان.

    • (٢)

      القوة الحيوية.

    • (٣)

      القوة العقلية.

    • (٤)

      القوة الروحية.

    • (٥)

      القوة الواقية … إلخ.

    وبعدُ؛ فهل دين زردشت ثَنْوِي يرى أن العالم يحكمه إلهان: إله الخير وإله الشر وأن لكل إله ذاتًا مستقلة؟ أو هو موحد يرى أن العالم يحكمه إله واحد، وأن ما في العالم من خير وشر، وما فيه من قوتين متنازعتين ليستا إلا مظهرين أو أثرين لإله واحد؟ اختلف الباحثون في الإجابة عن هذا السؤال، فيرى كثيرون أنه ثنوي كما يدل عليه ظاهر كلامه، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض كُتَّاب الفَرَنج ومنهم مَن كتب في دائرة المعارف البريطانية مادة زردشت؛ ومنهم من يرى أنه موحد، وإلى ذلك ذهب الشهرستاني والقَلْقَشَنْدِي في صبح الأعشى وغيرهما، ويقول الأستاذ هُوجْ Haug: «إن زردشت كان من الناحية اللاهوتية موحدًا، ومن الناحية الفلسفية ثنويًّا»، ولعله يرد من قوله هذا أنه من ناحية العقيدة الدينية كان يرى أن للعالم إلهًا واحدًا، ولكن إذا تعرض لشرح فلسفة العالم وما فيه من خير وشر يتطاحنان وما إلى ذلك فهو ثنوي يرى أن في العالم قوتين.

    •••

    والديانة الزردشتية كانت هي الديانة السائدة في فارس وما حولها في عهد الكَيانِيِّين Achaemenian، فلما انتصر الإسكندر سنة ٣٣١ق.م كان ذلك ضربة لهذه الأسرة ولديانتها، ثم انتعشت في عهد الأسرة الساسانية التي بدأت حكمها سنة ٢٢٦م وظلت هي ديانة الفرس إلى الفتح الإسلامي فاعتنق كثير منهم الإسلام، وفر بعضهم أولًا إلى جزائر في الخليج الفارسي ثم إلى الهند، ولا تزال منهم طائفة في بمباي يسمون بالْفَرْسيين Parseec يتمسكون بهذا الدين إلى اليوم؛ وبقيت طائفة في فارس تستمسك بدينها بعد الفتح، واستمرت معابد النار قائمة في كل ولاية من ولايات فارس تقريبًا في القرون الثلاثة الأولى بعد الفتح٥.

    ولعلك من قراءة مذهبهم تشعر بما كان لهم من أثر كبير في المسلمين، وسيتضح ذلك تمام الوضوح عند الكلام على المذاهب الدينية، إلا أنه يصح لنا أن نذكر هنا إجمالًا أن عقيدة العامة من المسلمين في الصراط بهذا النمط الذي يحكيه زردشت، وفي الأعراف على هذا الوجه، وتحليق الروح على الجسد، وإقامة الشعائر لذلك ثلاثة أيام، كل هذه عقائد تُشبه مشابهة تامة ما في الديانة الزردشتية، وقول المعتزلة في الجبر والاختيار، وقول الصوفية في أقسام النفس، كله مأخوذ عن هذه الديانة، وسنعرض لهذا الموضوع في موضعه إن شاء الله.

  • (ب)
    ماني والمانوية٦: من أشهر المذاهب الدينية التي كثر أتباعها، المانوية، وقد ولد ماني — مؤسسها — حسبما يقول البَيْروني في كتابه «الآثار الباقية» سنة ٢١٥ أو ٢١٦ م، وعاش مذهبه — برغم ما لقي من اضطهاد — إلى القرن السابع الهجري، والثالث عشر الميلادي، وكان له أتباع كثيرون في آسيا وفي أوروبا، وكان له أثر كبير في الآراء الدينية، وكانت تعاليمه مزيجًا من الديانة النصرانية والزردشتية، وهي — كما يقول الأستاذ برَوْن — أن تُعَدَّ زردشتية منصَّرَة أقرب من أن تعد نصرانية مُزَرْدَشة، وقد كتبت عنه مصادر عربية وأخرى أوروبية، وقد وثَّق الأستاذ برون المصادر العربية وقال: إنها أقرب إلى الصحة، وأهم المصادر العربية في هذا: الفِصَل في الملل والنحل لابن حزم، والمِلل والنِّحَل للشهرستاني، وفهرست ابن النديم، وتاريخ اليعقوبي، والآثار الباقية للبيروني وسَرْح العيون لابن نباتة.

    وخلاصة مذهبه أن العالم كما قال زردشت نشأ عن أصلين وهما: النور والظلمة، وعن النور نشأ كل خير، وعن الظلمة نشأ كل شر، والنور لا يقدر على الشر، والظلمة لا تقدر على الشر؛ وما يصدر عن الإنسان من خير فمصدره إله الخير، وما يصدر من شر فمصدره إله الشر، فإن هو نظر نظرة رحمة، فتلك النظرة من الخير والنور، ومتى نظر نظرة قسوة فتلك النظرة من الشر والظلمة، وكذلك جميع الحواس، وقد امتزج الخير والشر في هذا العالم امتزاجًا تامًّا؛ وقد أطال هو وأصحابه في كيفية هذا الامتزاج بما يُشبه الخرافات.

    وهو في هذا لا يخرج كثيرًا عن تعاليم زردشت — كما ترى — ولكن يُخالفه بعدُ في أمر جوهري: وهو أن زردشت كان يرى أن هذا العالم الحاضر عالم خير، لما فيه من مظاهر نصرة الخير على الشر، في حين أن ماني يرى أن نفس الامتزاج شر يجب الخلاص منه، وزردشت يرى أن يعيش الإنسان عيشة طبيعية، فيتزوج وينسل، ويُعنَى بزرعه ونسله وماشيته ويقوِّي بدنه ولا يصوم، وأنه بهذه المعيشة ينصر إله الخير على إله الشر؛ وأما ماني فنزع منزعًا آخر هو أشبه ما يكون بالرهبنة، وقد كان ماني — كما يقولون — راهبًا بحرَّان، فرأى أن امتزاج النور بالظلمة في هذا العالم شر، ومن أجل هذا حرَّم النكاح حتى يستعجل الفناء؛ ودعا إلى الزهد، وشرع الصيام سبعة أيام أبدًا في كل شهر، وفرض صلوات كثيرة، يقوم الرجل فيمسح بالماء ويستقبل الشمس قائمًا، ثم يقوم ويسجد وهكذا، اثنتي عشرة سجدة، يقول في كل سجدة منها دعاء، ونهى أصحابه عن ذبح الحيوان لما فيه من إيلام، وأقر بنبوة عيسى وزردشت وقال: إني (ماني) النبي الذي بشر به عيسى.

    وقد ذكر أن هُرْمزُ ملك الفرس اعتنق مذهبه وأيده، وأنه دخل في دينه كثير من الناس، فلما مات هرمز وخلفه بَهْرَام الأول لم يرتح إلى تعاليمه وقتله وشرد أصحابه، ولكن لم تمت تعاليمه، كان لدينه أئمة يتعاقبون، وكان مركز الإمام أولًا في بابل، ثم تحول إلى سَمَرْقَنْد، وقد قال ابن النديم: «إنه لما انتشر أمر الفرس وقوي أمر العرب عادوا إلى هذه البلاد — ولا سيما في فتنة الفرس، وفي أيام ملوك بني أُمية — فإن خالد بن عبد الله القَسْري كان يُعْنَى بهم، وآخر ما انجلوا من أيام المقتدر، فإنهم لحقوا بخراسان خوفًا على نفوسهم، ومن بقي منهم ستر أمره، وقد قالوا في المواضع الإسلامية، فأما مدينة السلام فكنت أعرف منهم أيام معز الدولة نحو ثلاث مئة، وأما في وقتنا هذا فليس بالحضرة منهم خمسة أنفس» ثم عد بعضًا من رؤسائهم الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، فعد منهم الجَعْد بن دِرْهَم، وكان مؤدبًا لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أُمية؛ وكان خالد بن عبد الله القسري يُرمى بالزندقة، وصالح بن عبد القُدُّوس، وبَشّار بن بُرْد، وسلْم الخاسر، وقال: «قيل: إن البرامكة بأسرها إلا محمد بن خالد بن بَرْمك كانت تُرْمى بالزندقة؛ وقرأت بخط بعض أهل المذاهب أن المأمون كان منهم وكذب في ذلك، وقد أصبحت رياستهم الآن في سمرقند».

    وكذلك انتشرت في أوروبا إلى فرنسا الجنوبية، وقد ذكروا أن «سانت أوغسطين St. Augustine» ظل مانويًّا عهدًا طويلًا قبل أن يعتنق النصرانية.

    وكان للمانوية حركة أدبية في التأليف، وأثاروا كثيرًا من المسائل جادلوا فيها من نشأتهم، فقد حكوا أن موَبذ مُوبَذان (قاضي القضاة) ناظر (ماني) فقال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح لتستعجل فناء العالم؟ فقال ماني: واجب أن يُعان النور على خلاصه بقطع النسل؛ فقال الموبذ: فمن الحق الواجب أن يُعجَّل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه، وتُعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم، فبُهت ماني، فأمر بهْرام به فقُتل، كذلك حكوا أن المأمون ناظر أحد المانوية فقال: هل ندم مسيء على إساءته؟ قال: بلى، قد ندم كثير، قال: فخبِّرني عن الندم على الإساءة إساءة هو أم إحسان؟ قال: إحسان، قال: فالذي ندم هو الذي أساء؟ قال: نعم، قال: فأرى صاحب الخير هو صاحب الشر؛ وقد بطل قولكم إن الذي ينظر نظرة الوعيد غير الذي ينظر نظرة الرحمة؛ قال: فأزعم أن الذي أساء غير الذي ندم؛ قال: فندم على كل شيء كان من غيره أو على شيء كان منه؟ فقطعه بهذه الحجة.

    وقد شغلت تعاليمهم جزءًا غير قليل من علم الكلام عند المسلمين، يذكرون آراءهم ويُعْنَون بالرد عليها، فضلًا عن أن هؤلاء المانوية أثاروا مسائل كثيرة كالبحث في المعاد، هل هو بالأجسام أو بالأرواح، أخذ المسلمون يتجادلون فيها وينحازون إلى طوائف.

    هناك مسألتان جديرتان بالبحث:
    • (الأولي): لم اضطهدت المانوية قبل الإسلام وفي الإسلام؟

      وقد أشرنا إلى الجواب عنها فيما تقدم، فالذي دعا بهرام إلى قتله هو وأصحابه الناحية العملية؛ فقد كان زردشت يدعو إلى العمل، وكان في تعاليمه مؤيدًا للقومية والنزعة الحربية، مما يتفق وميول فارس إذ ذاك، وعلى العكس من ذلك تعاليم ماني، فهي أميل إلى الزهد والرغبة عن ملاذ الحياة واستعجال الفناء، وهي — لا شك — في منتهى الخطورة لمملكة حربية كفارس، ويُؤيد هذا ما جاء في الآثار الباقية: «أن بهرام قال: إن هذا خرج داعيًا إلى تخريب العالم، فالواجب أن نبدأ بتخريب نفسه قبل أن يتهيأ له شيء من مراده»، أضف إلى ذلك أنهم فوق تعاليمهم هذه كانوا — على ما يظهر — جادين في الدعوة إلى مذهبهم، يتسترون بالإسلام أو النصرانية لتتسنى لهم الدعوة، ويكونوا بمأمن من الاضطهاد.

    • (المسألة الثانية): أنا نرى كلمة الزندقة كثيرًا ما يُوصف بها أتباع ماني، فهل هي خاصة بهم؟

      الظاهر من عبارات ابن النديم أن الزنادقة كلمة تطلق على أصحاب ماني ومعتنقي مذهبه، وليست كلمة عامة تُطلق على كل كافر أو ملحد، ونرى الخياط المعتزلي في كتابه «الانتصار» يستعملها للدلالة على فرقة خاصة قرينةٍ لليهود والنصارى، فيقول مثلًا: «قال ابن الراوِندي: وزعم ثُمَامة أن أكثر اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة والدهرية يصيرون في القيامة ترابًا، ولا يدخلون الجنة … إلخ»، وقد استعمل الخياط هذه الكلمة في كتابه نحو خمس مرات كلها في مثل هذا التعبير.

    ويقول ابن قتيبة في كتابه «المعارف» عند كلامه على أديان العرب في الجاهلية: «كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قُضاعة؛ وكانت اليهودية في حِمْير وبني كِنانة وبني الحارث بن كعب وكِنْدة؛ وكانت المجوسية في تَمِيم منهم زرارة، وحاجب بن زُرارة ومنهم الأقْرَع بن حابس، كان مجوسيًّا؛ وكانت الزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة» وظاهر من تعبيره هذا أن الزندقة التي يعنيها دين خاص من أديان الفرس بدليل قوله: إنهم أخذوها من الحيرة، والحيرة كانت تحت حكم الفرس كما علمت، وقريب من هذا ما قاله الجوهري في الصحاح: «الزنديق من الثَّنْوية وهو معرّب، والجمع الزنادقة، وقد تزندق، والاسم الزندقة»، فظاهر من هذا أن الزندقة مذهب خاص كاليهودية والنصرانية، وأن استعماله في معنى الإلحاد على العموم إنما هو معنى حدث بعدُ، جاء في لسان العرب: «الزنديق القائل ببقاء الدهر، فارسي معرَّب «زَنْدَكَر» أي: يقول ببقاء الدهر، وقال أحمد بن يحيى: ليس في كلام العرب زنديق، فإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة، قالوا: مُلْحِدٌ ودَهْرِي»، ولكن هل هو يطلق على كل الثَّنْوية أو على مذهب خاص من الثنوية كالمانوية فقط؟ الظاهر من كلام ابن قتيبة أنه يُطلق على مذهب خاص، بدليل أنه قابلها في كلامه بالمجوسي، فذكر أن تميمًا تمجَّست، وقريشًا تزندقت، ولو كان يُريد من الزندقة الثنوية على العموم لما كان هناك معنى للمقابلة، ويؤيده ما في الصحاح: «الزنديق من الثنوية» ولم يقل «الزنادقة الثنوية»، ولكن هل يُطلق اللفظ على المانوية فقط؟ حكى الألوسي عن ابن الكمال أنه يُطلق على المزدكية، وأن مزدك ألَّف كتابًا اسمه «زند» وأن المزدكية غير المانوية، وهذا خطأ، فإن مزدك لم يضع، «زند»، وإنما شرَح كتاب «افستا» لزردشت.

    ويقول بعضهم: إن كلمة زنديق في الأصل، معناها بالفارسية الذي يتبع زَنْد، ثم أُطلق على المانوية؛ لأنهم كانوا يأخذون زند وغيره من الكتب المقدسة، ويشرحونها على مذهبهم بطريقة التأويل، ويقول الأستاذ «بيفان»: إنا نرى من كلام الفهرست، والبيروني أن المانوية يُطلِقون كلمة «السَّمَّاعين» على من لم يرقَوْا إلى الدرجة العليا من المانوية، ولم يلتزموا أن يُؤدوا كل الواجبات التي تفرضها الديانة من رهبانية وزهد … إلخ، ويقابلهم «الصِّدِّيقون» وهم الراقون الملتزمون بأداء تلك الواجبات، يفضلون الفقر على الغنى، ويزهدون في العالم وشئونه، وكلمة صديق عربية، ولها أصل آرامي وهو صديقي Saddiqai فقد أخذها الفرس فحوروها إلى زنديق فوضعوا ند nd موضع dd كما قالوا شنْباذ Shanbath في سبَّاذ Sabbath٧ وعلى قوله تكون الكلمة وُضعت لطائفة خاصة من المانوية ثم استُعملت في المانوية جميعًا، ثم استعملت في الإلحاد على العموم؛ كالذي رُوي عن أبي يوسف أنه قال: ثلاثة لا يَسْلَمون من ثلاثة، من طلب النجوم لم يسلم من الزندقة، ومن طلب الكيمياء لم يسلم من الفقر، ومن طلب غرائب الحديث لم يسلم من الكذب٨.
  • (جـ)
    مزدك: حول سنة ٤٨٧م ظهر في فارس مَزْدك، ويقول الطبري: إنه من أهل نَيْسَابور، ودعا إلى مذهب ثَنْوي جديد، فكان يقول أيضًا بالنور والظلمة؛ ولكن أكبر ما امتاز به «تعاليمه الاشتراكية»، فكان يرى أن الناس وُلدوا سواء فليعيشوا سواء؛ وأهم ما تجب فيه المساواة المال والنساء، قال الشهرستاني: «وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ»، وقال الطبري: «قال مزدك وأصحابه: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي؛ ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويرُدُّون من المكثرين على المقلين، وأن من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترض السِّفْلة ذلك واغتنموه، وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتُلي الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، وحملوا «قُبَاذ» على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئًا مما يتسع به»، وقال في موضع آخر: «وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، والتآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به وحثهم عليه من الدين، كان مكرمة في الفعال، ورِضًا في التفاوض» … إلخ٩.

    فترى من هذا أن تعاليمه اشتراكية من أسبق الاشتراكيات في العالم، ويقول الأستاذ «نولْدِكِه»: «إن الذي يُميز مزدك عن الاشتراكية الحديثة ما لتعاليمه من الصبغة الدينية» وكانت له تعاليم روحية أخرى، فقد كان يُعلِّم القناعة والزهد، وحرمة الحيوان فلا يُذبح.

    وقد اعتنق مذهبه آلاف من الناس ولكن قُبَاذ نكَّل به وبقومه، ودبر لهم مذبحة سنة ٥٢٣م كاد يستأصلهم بها.

    ومع هذا فقد ظل قوم يتبعون مذهبه، حتى إلى ما بعد الإسلام، وذكر الإصْطَخْري وابن حَوْقل أن سكان بعض قرى كِرْمان كانوا يعتنقون المزدكية طول عهد الدولة الأموية.

    ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذَرٍّ الغِفاري وبين رأي مَزْدَك في الناحية المالية فقط، فالطبري يحدثنا أن أبا ذر: «قام بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء! واسُوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس»، ثم بعث به معاوية إلى عثمان بن عفان بالمدينة حتى لا يُفسد عليه أهل الشام، ولما سأله عثمان: ما لأهل الشام يشكون ذَرَبك؟ قال: لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا، فترى من هذا أن رأيه قريب جدًّا من رأي مزدك في الأموال، ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟ يُحدثنا الطبري أيضًا عن جواب هذا السؤال فيقول: «إن ابن السوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك، وأن ابن السوداء هذا أتى أبا الدرداء وعُبَادة بن الصامت فلم يسمعا قوله، وأخذه عبادة إلى معاوية وقال له: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر»١٠ ونحن نعم أن ابن السوداء هذا لقب لُقِّب به عبد الله بن سبأ، وكان يهوديًّا من صنعاء، أظهر الإسلام في عهد عثمان، وأنه حاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبث في البلاد عقائد كثيرة ضارة قد نعرض لها فيما بعد، وكان قد طوّف في بلاد كثيرة: في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حَسَن النية في اعتقادها، وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه، فقد كان من أتقى الناس وأورعهم وأزهدهم في الدنيا، وكان من الشخصيات المحبوبة التي أثرت في الصوفية.

    •••

    ومما كان يتصل بعقائد الفرس الدينية وكان له أثر في بعض المسلمين أنهم كانوا ينظرون إلى ملوكهم كأنهم كائنات إلهية اصطفاهم الله للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح من عنده، فهم ظل الله في أرضه، أقامهم على مصالح عباده، وليس للناس قبلَهُم حقوق، وللملوك على الناس السمع والطاعة، وهو معنى يشبه ما عرف في أوروبا بنظرية «الحق الإلهي Divine right وسادت فيها في القرنين السادس عشر والسابع عشر»، ويقول الأستاذ «برَوُن»: «لم تُعتنق نظرية الحق الإلهي بقوة كما اعتنقت في فارس في عهد الملوك الساسانية»، وقد كان الأكاسرة يزعمون أن لهم الحق وحدهم أن يلبسوا تاج الملك بما يجري في عروقهم من دم إلهي، ويستدل الأستاذ «نولدكه» على اعتناق الفرس لهذه النظرية بحكاية وردت في كتاب «الأخبار الطوال»: «وهي أن «بهرام جوبين» — ولم يكن من بيت الملك، وقد طلب الملك وحارب كسرى أبرويز فهزمه كسرى فهرب — مر في طريقه بقرية، فنزلها في أصحاب له، ونزلوا في بيت عجوز، فأخرجوا طعامًا لهم فتعشوا، وأطعموا فضلته العجوز، ثم أخرجوا شرابًا، فقال بهرام للعجوز: أم عندكِ شيء نشرب فيه؟ قالت: عندي قرعة صغيرة، فأتتهم بها فجَبُّوا رأَسها وجعلوا يشربون فيها، ثم أخرجوا نُقلا، وقالوا للعجوز: أم عندك شيء يجعل عليه النقل؟ فأتتهم بِمنْسَفٍ١١ فألقوا فيه ذلك النقل، فأمر بهرام فسقيت العجوز: ثم قال لها: ما عندك من الخبر أيتها العجوز؟ قالت: الخبر عندي أن كسرى أقبل بجيش من الروم فحارب بهرام فغلبه، واسترد منه ملكه، قال: فما قولك في بهرام؟ قالت: جاهل أحمق يدَّعي الملك وليس من أهل بيت المملكة! قال بهرام: فمن أجل ذلك يشرب في القرع، ويتنقل من المنسف! فجرى مثلًا في العجم يتمثلون به» اهـ.

    وهو استدلال ليس بالقوي فيما نرى، فإن كل أسرة مالكة متى استمرت في الحكم أجيالًا أَكسبها ذلك الحق في الملك عند عامة الناس في كل أمة، وإن لم يقدسوا ملوكها.

    وربما كان خيرًا من هذا في تأييد هذا الرأي ما جاء في كتاب «التاج»: «من أن ملوك آل ساسان لم يُكَنِّها أحد من رعاياها قط، ولا سماها في شعر ولا خطبة ولا تقريظ ولا غيره، وإنما حدث هذا في ملوك الحيرة»١٢.

    فالظاهر من هذا أن هؤلاء الملوك ترفعوا ورفعهم الشعب، حتى لم يكن من الأدب أن يجري على لسانه اسمهم ولا كنيتهم حتى ولا في الشعر.

    •••

    هذه مذاهب الفرس الدينية، وقد ذابت في المملكة الإسلامية بعد الفتح، وكثير منهم أسلموا ولم يتجردوا من كل عقائدهم التي توارثوها أجيالًا، وبمرور الزمان صبغوا آراءهم القديمة بصبغة إسلامية، فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من الملوك الساسانين، وثنوية الفرس كانوا منبعًا يستقي منه «الرافضة» في الإسلام، فحرك ذلك المعتزلة لدفع حجج الرافضة وأمثالهم؛ أضف إلى ذلك أن تعاليم زردشت، وماني، ومزدك، كانت تظهر من حين لآخر بين المسلمين في أشكال شتى، في أواخر الدولة الأموية والدولة العباسية، واضطر المسلمون أن يجادلوهم ويدفعوا حججهم، ويؤيدوا دينهم بالمنطق والبرهان.

    وكانت إثارة هذه المسائل أحيانًا تُقسم المسلمين أنفسهم إلى فرق، فينحازون إلى مذاهب ويتجادلون فيما بينهم، مما أدى إلى نشأة علم الكلام في الإسلام كما سنبينه بعدُ.

١  اسمه Life of Zoroaster.
٢  ورد اسمه في التهنامه جشناسب.
٣  انظر هكذا ورد بالياء، والظاهر أن الياء في ايستاق تصحيف وصوابه باء؛ لأنه في اللغة الفارسية تنقل الفاء باء عادة فيكون صواب كتابته الابستاق.
٤  يسمى أيضًا إله الخير يزدان، وفي ذلك يقول أبو العلاء المعري:
قال أناس باطل زعمهم
فراقبوا الله ولا تزعمن
فكر «يزدان» على غرة
فصيغ من تفكيره أهرمن
٥  وفي أواخر القرن الثالث الهجري ونهاية الثامن الميلادي أسلم سامان أمير بلخ وكان زردشتيًّا، وأسس مملكة إسلامية هي الدولة السامانية؛ وفي سنة ٨٧٣م دخل جمع كبير من أهل الديلم الزردشتيين في الإسلام على يد ناصر الحق أبي محمد، وفي سنة ٩١٢م دعا الحسن بن علي — من الأسرة العلوية التي كانت تحكم الشاطئ الجنوبي لبحر قزوين — أهل الديلم وطبرستان إلى الإسلام، فأجاب أكثرهم وكان بعضهم وثنيين وبعضهم زردشتيين، وفي سنة ١٠٠٣م/٣٩٤هـ دخل الشاعر المشهور مهيار الديلمي في الإسلام على يد الشريف الرضي وكان من عبدة النار، وقبله في أوائل القرن الثاني للهجرة وأوائل القرن الثامن للميلاد خرج من الزردشتية إلى الإسلام عبد الله بن المقفع، وقد بقي بعض الزردشتيين في فارس إلى اليوم، وقد قدر بعضهم عبدة النار فيها من عهد قريب بنحو ٨٥٠٠.
٦  يلاحظ أنهم تارة ينسبون إلى ماني منانية، وتارة ينسبون إليه مانوية، وهذه الأخيرة هي التي استعملها المتنبي إذ يقول:
وكم لظلام الليل من يد
تخبر أن المانوية تكذب
٧  انظر برون.
٨  العقد الفريد ١: ١٩٩.
٩  انظر تاريخ الطبري ٢: ٨٨ وما بعدها.
١٠  انظر الطبري ٥: وما بعدها.
١١  المنسف كمنبر: الغربال الكبير.
١٢  التاج ص ٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤