الفصل الأول

في وكالة الصابون

استولى على مصر بعد الخلفاء الفاطميين كثير من السلاطين، ظلت تحكم باسمهم إلى أن آل أمرها إلى المماليك، فاستبدوا في أحكامهم، وضج أهلها بالشكوى منهم. واستمر الحال على هذا المنوال حتى غزاها الخليفة التركي السلطان سليم، في عهد سلطانها الغوري، فتم له فتحها ودخلها بعد قتله في وقعة مرج دابق، حيث شنق خليفته طومان باي، فصارت مصر منذ ذلك الحين تابعة لتركيا.

ونظرًا إلى بعدها من دار الخلافة، رأى السلطان سليم أن يجعل في إدارتها انقسامًا يأمن معه خروجها من طاعته، فجعل حكومتها مؤلفة من ثلاث سلطات:
  • أولًا: سلطة الباشا: وهو الوالي الذي يرسله من الآستانة، ومقره في قلعة القاهرة، ويختص بتلقي أوامر السلطنة وتبليغها ومراقبة تنفيذها.
  • ثانيًا: سلطة البكوات: وهم بقية الحكام المماليك، وقد عُهد إليهم في إدارة المديريات وحفظ الأمن والنظام في البلاد، كما هو شأن المديرين الآن.
  • ثالثًا: سلطة الوجاقات: وهي القوة العسكرية. وكانت مؤلفة من الإنكشارية، والمتفرقة، والدلاتية (جند المغاربة)، وغيرهم. وعليها جباية الضرائب والإعانات والغرامات وما إليها من الأموال التي تُؤخذ لخزانة الدولة، كما أن عليها الدفاع عن البلاد عند الحاجة إلى ذلك.

على أن البكوات المماليك لم يقنعوا بالسلطة الكبيرة التي مُنحت لهم، فما لبثوا قليلًا حتى عادوا إلى الاستبداد.

وكان من بينهم «شيخ البلد» المنوط به حكم القاهرة والسهر على استتباب الأمن والنظام فيها كما هو شأن محافظها الآن. غير أنه لم يكن يقنع بما دون السلطة المطلقة، ولم يكن للباشا التركي بجانبه من السلطة إلا مظاهر جوفاء، لا أثر لها على الإطلاق.

فلما كانت سنة ١٧٦٣، وآلت مشيخة البلد إلى علي بك الكبير، كان أكثر المماليك شهامة وأعظمهم همة وأشدهم بطشًا. ولكنه طمع في الاستقلال بمصر، وحدثته نفسه بافتتاح البلاد المجاورة لها أيضًا.

ولم تكن القاهرة في تلك الأيام على ما هي عليه الآن من اتساع العمران وكثرة السكان. فالأحياء المعمورة فيها حينذاك لم تكن تزيد على أحياء: الحمزاوي والغورية والجمالية والنحاسين وما جاورها. أما الفجالة وشبرا والعباسية والإسماعيلية والجزيرة وغيرها من الأحياء الحديثة فلم تكن قد أُنشئت بعدُ.

وكان للمدينة سور منيع به أبواب عدة ضخمة تُغلَق عقب غروب الشمس كل يوم، فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يدخل المدينة أو يخرج منها إلا بإذن خاص، وما زالت بعض هذه الأبواب وآثار السور باقية حتى اليوم.

أما أغنى هذه الأحياء كلها وأكثرها سكانًا وروادًا، فكانت هي الأحياء الواقعة في منطقة الجمالية وما جاورها من الغورية وخان الخليلي؛ حيث تقوم مختلف المتاجر وقصور الأغنياء.

وهناك في الجمالية كانت توجد وكالة الصابون، وهي يومئذٍ مجتمع كبار التجار وأصحاب الثروة، فلا تخلو ساحتها الرحيبة من مئات منهم طول النهار، بين بائعين ومشترين ومتفرجين.

وكان من بين تجار تلك الوكالة، في العهد الذي جرت فيه وقائع روايتنا هذه، تاجر يُقال له «السيد عبد الرحمن». اشتهر رغم ضخامة ثروته واتساع تجارته بالتواضع الجم والاستقامة والبر بالفقراء، مع رجاحة العقل والاتزان. وقد تعوَّد أن يقضي نهاره في الوكالة يشرف على حركة البيع والشراء في متجره الكبير، فإذا جاء المساء عاد إلى منزله في شارع الكعكيين في الغورية، حيث زوجته وولده الوحيد منها، وبعض السراري الشركسيات والحبشيات.

ولولا ما كان يقاسيه هو وغيره من استبداد المماليك وجورهم، وكثرة الضرائب التي يطلبونها من وقت لآخر لكان له من ثروته الضخمة وتجارته الرابحة وحياته المنزلية الهادئة ما يجعله أسعد السعداء، ولاسيما أن ولده الوحيد السالف الذكر، واسمه حسن، كان قد أتم تعليمه في الجامع الأزهر، ثم التحق بالبيمارستان المنصوري القائم في شارع النحاسين أمام الطريق المؤدي إلى بيت القاضي؛ حيث أبدى تفوقًا في دراسة الطب على يد أستاذ مغربي فيه، واشتهر بين زملائه وعارفيه بالاستقامة والذكاء والاتزان كأبيه. فلم يكن يغشى مكانًا غير البيت والمدرسة، ولا يمل المطالعة للاستزادة من المعارف والعلوم.

•••

أمضى السيد عبد الرحمن نهاره حتى العصر مشرفًا على العمل في متجره بوكالة الصابون كعادته. وكان ذلك في يوم من أيام سنة ١٧٧٠. فلما سمع أذان العصر، أشار إلى خادمه فجاء بسجادة فرشها على دكة في ركن من المتجر ليصلي عليها العصر بعد أن توضأ لهذا الغرض.

ولم يكد السيد عبد الرحمن يبلغ الدكة وهو يتمتم ببعض الأدعية ويحمد الله على ما أولاه إياه من النعم والخيرات، حتى لحق به أحد الكتبة في المتجر، وأنبأه بأن بعض موظفي الحكومة جاءوا يطلبون مقابلته. فاستعاذ بالله من ذلك، لعلمه بأن هؤلاء الموظفين لا يأتون إلا لطلب ضريبة أو إعانة أو توقيع عقوبة مالية بغير ذنب ولا جريرة.

وحدثته نفسه بأن يرجئ مقابلتهم حتى يصلي، لكنه خشي أن يهيِّج ذلك غضبهم وانتقامهم، فرفع طرفه إلى السماء وتنهد، ثم عاد أدراجه إلى مجلسه المعتاد في المتجر ليستقبلهم هناك ويرى ما وراء هذه الزيارة.

وكان هؤلاء الموظفون ثلاثة: أحدهم الجابي، وهو في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين، والعمامة فوق القاووق، وحول وسطه مَنْطِقة عريضة عُلق بها خنجر من الأمام، وعلى منكبيه جُبة تدلى على جانبها الأيمن سيف معقوف، وقد تغضن وجهه وشاب شعر رأسه. والثاني جندي يحمل في يده دفترًا كبير الحجم كُتبت فيه أسماء التجار وغيرهم من الملاك والعمال، وبيانات عن الضرائب المطلوبة من كل منهم. أما الثالث فهو الكاتب، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي منطقته دواة مستطيلة من النحاس.

فلما دخل عليهم السيد عبد الرحمن، بالغ في تحيتهم والترحيب بهم. وأسرع في مشيته للقائهم متكلفًا البشاشة والابتسام، ثم أمر لهم بالقهوة والغليون — أداة تدخين التبغ في ذلك العهد — ثم جلس بين أيديهم يكرر التحية والملاطفة اجتذابًا لرضاهم عنه. وقلبه يخفق بين جوانحه مخافة أن يكون مجيئهم لأمر من ورائه خسارة له.

وضاعف من خشيته وريبته أن الجابي، لم يزده ذلك كله إلا غلظة وغطرسة، وبقي صامتًا يرمقه شزرًا في ازدراء ملحوظ، وقد جلس جلسة الكبرياء واضعًا إحدى ساقيه فوق الأخرى. فلما جاء الخادم بالقهوة وبدأ بتقديمها له متأدبًا. أشاح عنه بوجهه، والتفت إلى السيد عبد الرحمن. وقال له غاضبًا: «إننا لم نأتِ لنشرب قهوتك، ولا حاجة لنا بها. وإنما جئنا نطلب حقوق الدولة!»

فأجفل السيد عبد الرحمن، وتحقق وقوع ما كان يحذره، لكنه كظم ما به متجلدًا وقال متظاهرًا بالبشاشة: «أهلًا وسهلًا ومرحبًا بالسادة الأجلاء، مُروا بما شئتم، فما نحن إلا عبيد مولانا علي بك ورهن أمره في كل وقت!»

فقال الجابي: «مطلوب منك أن تدفع ألف نصف، مساعدة للحملة الذاهبة لنجدة شريف مكة بعد أيام.»

فاستكثر عبد الرحمن هذا القدر المطلوب من ماله، رغم دفعه ضرائب باهظة منذ عهد قريب، لكنه لم يجرؤ على إظهار ذلك، واكتفى بأن قال: «هل هذا المال مطلوب دفعه فورًا؟»

فنهض الجابي مغضبًا حانقًا وصاح به قائلًا: «ما شاء الله! ومتى تظن أن تدفعه إذن؟ أتريد أن يكون ذلك بعد عودة الحملة أو هلاكها؟ أم لعلك استكثرت أن تدفع ألف نصف من الآلاف المؤلفة التي تحصل عليها عفوًا بلا تعب من أموال الناس وأنت جالس على وسادتك في أمان واطمئنان، بينما نحن نتجشم الأخطار والأسفار لحماية بلادكم والدفاع عنها؟ كلا يا سيدي ثم كلا. يجب أن تدفع ألفين اثنين لا ألفًا فقط. فهل فهمت؟!»

فندم عبد الرحمن على تعجله بإلقاء ذلك السؤال، ووقف وقد امتقع لونه وارتجفت أطرافه، وخشي أن يضاعف الجابي قيمة الضريبة المطلوبة مرة ثانية، فمد يديه نحوه إشارة التوسل والخضوع وقال: «العفو يا سيدي الجاويش، إني ليسرني أن أقوم بالواجب عليَّ وزيادة، وإنما أردت بالاستفهام أن أعرف هل هناك فرصة لتأجيل الدفع أم لا، فالحالة التجارية كما تعلمون ليست في هذه الأيام على ما يُرام، وسبق أن تفضل جناب الخازندار بمثل هذا التأجيل مراعاة لظروف مماثلة.»

فازداد غضب الجابي، وانتهر السيد عبد الرحمن بشدة، وقال: «أتشكو الفقر وأنت قد ابتلعت أموال الناس، وعشت من الأرباح الطائلة في رغد ونعيم، بينما نحن في شقاء دائم وتعب لا يُطاق، ونلقي بأنفسنا إلى الهلاك دفاعًا عنكم وعملًا على راحتكم وطمأنينتكم؟ أم نسيت أن تظلمك للخازندار يعني أننا ظلمناك ولم نعدل في تقدير المال المطلوب منك؟!»

فأخذ السيد عبد الرحمن يستعطف الجابي ويحاول استرضاءه واتقاء غضبه بكل وسيلة. ثم نادى كاتب المتجر وأمره بأن يَعُد ألفي نصف ويحضرها فورًا، فحنى الكاتب رأسه سمعًا وطاعة ومضى لتنفيذ ما أُمر به. ثم عاد بالمبلغ المطلوب بعد قليل فسلَّمه للسيد عبد الرحمن، وقدَّمه هذا للجابي فتناوله منه متظاهرًا بعدم المبالاة، وسأله: «كم نصفًا دفعت؟»

قال: «دفعت الألفين اللذين طلبتموهما.»

فقذف الجابي بالكيس الذي به النقود إلى الأرض، ثم نهض مغاضبًا، وصاح بالسيد عبد الرحمن محتدًّا يقول: «لقد أبطرتكم النعمة. أإلى هذا الحد بلغ جهلكم وغروركم وقلة إنسانيتكم؟ أم حسبت أننا عبيد لك أو خدم عندك؟»

فارتعدت فرائصه، وازداد امتقاع وجهه، وابتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه، ثم دنا من الجابي وقال في خشوع: «العفو يا سيدي … لقد أطعت أمركم. ولي الشرف بهذه الطاعة الواجبة. فماذا أغضبكم؟»

فقال الجابي: «هل عميت عن حق الطريق؟»

ففطن التاجر إلى أنه لم يدفع للجابي بعض المال لنفسه فوق الضريبة كما هي العادة. وكان الخوف قد أنساه ذلك، فبادر بالاعتذار والاستغفار، مؤكدًا أنه لا يمكن أن يغفل أداء مثل هذا الواجب المقدس، وإنما وقع ذلك سهوًا منه ومن كاتبه. فقال الجابي: «حقًّا إنكم جهلة متأخرون، لا تحترمون موظفي حكومتكم وتتجاهلون حقوقهم. وكان يجب أن تدفع حق الطريق قبل دفع الإعانة نفسها.»

فأخذ السيد عبد الرحمن يتضرع إليهم أن يغفروا له ذلك الخطأ غير المقصود، مبديًا استعداده لدفع ما يأمر به الجابي، فقال هذا: «لا تطل الكلام، ادفع مائة نصف.»

قال: «سمعًا وطاعة.» ثم انطلق إلى خزانته وجاء بالمال المطلوب في إحدى يديه، وفي الأخرى مثله لكل من الكاتب والجندي حامل الدفتر، ثم سلم كلًّا منهم نصيبه من حق الطريق، وتنهد دلالة على الارتياح، ووقف بين أيديهم متأدبًا، وفي نفسه أنه أرضاهم جميعًا وتخلص من شرهم، ولا يلبثون قليلًا حتى ينصرفوا فيعود إلى أداء صلاة العصر قبل أن يفوت وقتها.

وشد ما كان عجبه وجزعه حين رأى الجابي يشير إلى الكاتب الذي معه، ويأمره بمراجعة الدفتر لعل هناك ضرائب أخرى لم تُسدد بعدُ. فنظر الكاتب في الدفتر قليلًا ثم التفت إلى الجابي وقال: «إن له أرضًا في الشرقية يدفع عنها كيسين كل سنة عشورًا. والمطلوب أن يدفع الآن عشور ثلاث سنوات سلفًا؛ لأن الديوان محتاج إلى نفقات كثيرة.»

فوجم السيد عبد الرحمن ثم تمالك نفسه وقال للجابي: «عفوًا يا سيدي. إن هذه الأرض لم تعد ملكًا لي؛ إذ إنني بعتها منذ سنة.»

وظن أن الجابي سيقتنع بهذه الحجة ويعفيه من العشور المطلوبة. ولكن هذا بدلًا من الاقتناع وضع يده على مقبض سيفه ورد عليه بقوله: «أتريد اختلاس أموال الديوان بالكذب والبهتان؟ أم تريد أن نكذب دفتر الحكومة ونصدق دعواك … لا بد من دفع العشور المطلوبة الآن وإلا كنت الجاني على نفسك.»

فتلعثم التاجر ولم يستطع جوابًا؛ لعلمه أن ليس أسهل على الجابي من قتله ونهب كل ما في متجره. ثم نادى كاتب المتجر وسأله أمامهم: «هات ستة أكياس.» فقال الكاتب: «ليس في الخزانة الآن إلا كيسان اثنان، فهل آتي بهما؟»

وعبثًا حاول السيد عبد الرحمن أن يستعطف الجابي ليمهله إلى اليوم التالي ريثما يدبر بقية المال المطلوب، فاستأذنه في الخروج لاقتراضه من أحد التجار، فلما أذن له خرج يطوف بمتاجر زملائه في الوكالة، حتى وفِّق إلى مَن أقرضه الأكياس الأربعة الباقية، فعاد بها إلى متجره يتنازعه عامل الأسف على ما تجشم من خسائر مالية فادحة، وعامل الشكر لله على أن نجاه من القتل بيد الجابي المتكبر الجبار.

وما بلغ المتجر حتى وجد كاتبه جالسًا يبكي وينتحب بالباب، والدم يسيل من جرح في رأسه. فسأله: «ما هذا، وأين الجابي ومَن معه؟»

قال: «لم تكد تخرج حتى نادوني وأخذوا الكيسين طالبين أن أحضر لهم الأكياس الباقية في الحال؛ لأنهم لا يستطيعون الانتظار أكثر مما انتظروا. فلما كررت لهم الاعتذار بخلو خزانة المتجر، اعتدوا عليَّ بالضرب ونهبوا ما استطاعوا نهبه من السلع المعروضة في المتجر، ثم انصرفوا حانقين متوعدين!»

فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من ذلك الظلم المبين، وراح يندب سوء حظ مصر ونكبة أهلها بحكم المماليك المستبدين، وجلس في المتجر مطرقًا مفكرًا، ثم رفع رأسه بعد قليل، ومسح دمعة انحدرت من عينه على خده، وعزَّى نفسه قائلًا: «الحمد لله على أن الخسارة لم تتعدَّ الأموال، ولو أنهم قتلوني ما طالبهم بدمي أحد.»

ثم نهض ومشى إلى الدكة التي فُرشت عليها السجادة للصلاة، فصلَّى في خشوع وإيمان، ودعا الله أن يقيه شر أولئك اللصوص الطغاة غلاظ القلوب والأكباد.

•••

جلس السيد عبد الرحمن في متجره بعد أن أدى صلاة العصر، يفكر في الظلم الذي حاق به من الجابي وصاحبيه. وفيما هو في ذلك، دخل عليه رجلان في زي كتبة الديوان وفي يد كل منهما دفتر، فوقع الرعب في قلبه وعاد إليه اضطرابه أشد مما كان. على أنه جاهد نفسه حتى لا يظهر عليه شيء من ذلك، وخف إلى استقبالهما والترحيب بهما ودعاهما إلى الجلوس بجانبه. ثم أمر لهما بالقهوة والغليون، وأخذ يلاطفهما معربًا عن اغتباطه بتشريفهما إياه بالزيارة.

ومع أنهما كانا أقل خشونة من الجابي وصاحبيه، وكان هو على يقين من أنه دفع أكثر من قيمة الضرائب التي يحصلانها باسم عوائد الوالي والأغا (رئيس الشرطة)، والمحتسب (ملاحظ المكاييل والموازين والأسعار). بقي خائفًا يترقب شرًّا من وراء زيارتهما؛ لعلمه في الوقت نفسه بأنهما وأمثالهما ليس لهم رواتب من الحكومة، بل هم يفرضون لأنفسهم ضرائب شهرية على التجار وأصحاب الحرف، يقدرونها حسبما يتراءى لهم، وربما أخذوها مرتين أو ثلاثًا في الشهر، بغير رحمة ولا شفقة.

ولم يطُل به الانتظار حتى وقع ما كان يحذره، فنظر أحد الكاتبين في الدفتر الذي يحمله والتفت إليه قائلًا: «مطلوب منذ الآن مائة نصف من عوائد الحسبة، ومثلها من عوائد الوالي والأغا.»

فقال: «إنني أذكر أني دفعت هاتين الضريبتين منذ بضعة أيام فقط.»

وهنا صاح الكاتب الآخر في وجهه قائلًا: «كيف تقول مثل هذا الكلام وأنت تاجر كبير تربح الكثير؟ وهل جئنا إذن لنختلس أموالك؟ … ها هو الدفتر أمامك، وقد سُجل فيه ما دفعت وما يجب أن تدفعه. وهو مال الحكومة كما تعلم، ولا سبيل إلى التهرب من دفعه!»

فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر ذلك اليوم، وقال: «العفو سيدي. إني لم أقصد شيئًا من ذلك، وإنما ذكرت ما اعتقدت أنه الحقيقة، ولعلي واهم. وجنابك أصدق على كل حال. فمعذرة.»

ثم نهض وقدم لهما المال المطلوب، وفوقه «حق الطريق» لكل منهما، وقال: «أرجو قبول معذرتي مع خالص احترامي وشكري على أن شرفتموني بهذه الزيارة الكريمة.»

فضحك الكاتب الأول متطرفًا وقال له: «أنت رجل لطيف يا سيد عبد الرحمن.» ثم نظر إلى قطعة من الحرير الثمين كانت بين السلع المعروضة في المتجر وقال: «بكم تبيع هذه القطعة؟ … إنها تصلح قباء (قفطانًا) لي.»

فقال: «هي لك يا سيدي وقد وصل ثمنها.» ثم أمر بعض عمال المتجر بإحضار قطعة مماثلة، وقدم القطعتين للكاتبين متأدبًا وهو يقول: «إنه لشرف عظيم أن تحوز بضاعتي إعجاب رجال الحكومة.» فأخذا القطعتين وانصرفا مشيعين بكل احترام.

وكانت الشمس قد أوشكت أن تغرب، فعجَّل السيد عبد الرحمن بإنجاز ما لديه من أعمال ضرورية مثل كتابة الخطابات للعملاء ومراجعة حساب البيع والشراء في ذلك اليوم. كما أعاد ترتيب السلع في المتجر. ثم همَّ بإغلاق المتجر والعودة إلى منزله قبل أن يسود الظلام، ويتعرض لأخطار الطريق؛ إذ كانت الطرقات والأسواق في ذلك الحين لا تضيئها سوى بعض المصابيح الضعيفة الخافتة الضوء، معلقة على أبواب الحارات وبعض المنازل.

وفيما هو يغلق المتجر، جاءه بواب الوكالة مهرولًا يقول: «لقد عاد الجابي يا سيدي!»

فأجفل واستعاذ بالله من شر هذه العودة، وأخذ يلعن سوء الحظ الذي جعله يحترف التجارة وأطمع فيه أولئك الحكام الذين لا يرحمون.

وبعد قليل وصل الجابي، فإذا به يترنح من فرط سكره، وقد أمسك خنجره بيده. ومن خلفه رفيقاه في مثل حاله. فهمَّ السيد عبد الرحمن بالفرار من وجوههم، لكنه خشي أن يدركوه ويقتلوه، فآثر البقاء وترامى على يد الجابي يهم بتقبيلها متذللًا متضرعًا، فدفعه هذا بقوة وانتهره قائلًا: «أهكذا تهرب من دفع مال الميري يا خائن؟» وأخذ يكيل له أفحش ألفاظ الشتم والسباب، ويهدده بالخنجر الذي في يده.

فجثا السيد عبد الرحمن بين يديه، وهمَّ بتقبيل قدميه وقال: «إني عبدكم يا سيدي، وهذا هو حانوتي بين أيديكم فخذوا منه كل ما تريدون، فأنا رهن إشارتكم.»

فقال الجابي وهو ما زال يترنح: «حسنًا، إذن هيا ادفع المطلوب منك، وإياك أن تعود إلى مثل ذلك التهرب.»

فسارع إلى إحضار الأكياس الأربعة التي اقترضها، ودفعها له ومعها «حق الطريق» لكل منهم. وهو يدعو لهم بطول العز والبقاء.

فقهقه الجابي الثمل مغتبطًا وقال: «حسنًا. حسنًا. يلوح لي أنك رجل عاقل حسن التصرف.» ثم أغمد الخنجر وأعاده إلى موضعه في مَنطِقته، وهمَّ بالانصراف.

وفيما كان التاجر يشيعه بكلمات الشكر والدعاء، دنا منه الجندي حامل الدفتر، وهمس في أذنه قائلًا: «إن الديوان أمر بتجنيد ولدك وأخذه إلى الحرب في الحجاز مع الحملة الذاهبة إلى هناك بعد أيام؛ وذلك لأن جنود المماليك لا يكفون لهذا الغرض، ولا بد من إمدادهم بجنود آخرين من سكان البلاد المصريين والأتراك والمغاربة والشوام.»

فبُغت السيد عبد الرحمن، وكاد قلبه يقف لهول هذا النبأ المرعب، وشعر بأن كل ما لحقه من الظلم والإهانة والخسائر المالية الجسام لا يُعد شيئًا يستحق الذكر بجانب أخذ ولده الوحيد إلى الحرب.

وأدرك الجندي ذلك منه، فاقترب منه وهمس إليه مرة أخرى قائلًا: «اطمئن يا سيدي. واشكر الله على أن هيأ لك ولولدك مخرجًا من هذا المأزق، فإن جناب الجابي — جزاه الله خيرًا — قد رثي لحالكما، وأعمل نفوذه وحيلته لإعفاء ولدك من ذلك التجنيد. وأظن أنه استحق بذلك أن تشكره وتكافئه على معروفه هذا ببعض المال!»

فتنهد التاجر، وذهب عنه الروع، وشعر بأنه مدين بسعادته لمعروف ذلك الجابي المستبد السكران، فهمَّ بيديه يقبلهما والدموع تطفر من عينيه. ثم نادى خادمه وأرسله إلى التاجر الذي اقترض منه الأكياس الأربعة في العصر، ليقترض له مثلها على أن يردها كلها في الغد. ثم جلس مع الجابي وصاحبيه في انتظار عودة الخادم، ولسانه يلهج بشكرهم والثناء على أريحيتهم ومروءتهم.

وانتهز ثلاثتهم هذه الفرصة، فأخذوا في انتقاء ما خف حمله وغلا ثمنه من السلع الموجودة في المتجر وأخذها لأنفسهم وهو لا يستطيع أن يمنعهم، بل كان يعرب لهم عن اغتباطه بذلك. فلما عاد خادمه بالأكياس الأربعة المقترَضة، تناولها منه، وأعطى الجابي كيسين، وكلًّا من الجندي وكاتب الجابي كيسًا. فأخذوها وانصرفوا بها وبما انتقوه من السلع.

وما كادوا يخرجون من الوكالة حتى سارع السيد عبد الرحمن إلى إغلاق المتجر، وغادرها هو الآخر عائدًا إلى منزله، وقد سدل الليل نقابه. وفي يده مصباح من الورق يستعين به على تبين الطريق.

•••

كان من عادة السيد عبد الرحمن أن يمر في طريق عودته إلى المنزل كل مساء بالبيمارستان المنصوري الذي يدرس فيه ابنه حسن، فيصطحبه من هناك إلى المنزل.

ولما وصل إلى البيمارستان، وجد أبوابه مغلقة، فأدرك أنه تأخر عن الموعد الذي تعوَّد المرور به فيه لاصطحاب ابنه. وتذكر ما وقع له في متجره ذلك اليوم من الإهانات والخسائر. ولكنه حمد الله على أن نجَّى ولده الوحيد من خطر التجنيد. وواصل سيره حتى وصل إلى شارع النحاسين، فسمع وقع أقدام خلفه من بعيد، فأوجس في نفسه خيفة، وانزوى في منعطف هناك، حتى مر القادمون، وتبين من كلامهم أنهم جماعة من الجند، بينهم الجابي وصاحباه. فبالغ في الانزواء حتى بعدوا، وأمن شرهم، ثم عاد بمصباحه إلى الشارع، وواصل سيره، وهو لا يكاد يرى ما أمامه لضعف الضوء، وشدة قلقه واضطرابه.

ولما بلغ شارع الكعكيين، واقترب من الحارة التي بها منزله، لاحظ أن باب الحارة مفتوح على غير العادة؛ إذ كانت أبواب الحارات تُغلق كلها عقب الغروب. فاشتدت وساوسه وأسرع في مشيته ليقف على سبب إبقاء الباب مفتوحًا، وأخذ يدعو الله بقلبه ألا يكون السبب ما يسوء.

وقبل أن يبلغ الباب، سمع شخيرًا عميقًا بالقرب منه، ولمح على ضوء مصباحه الخافت جسم إنسان ممددًا على الأرض، فدنا منه وقرَّب المصباح من وجهه فتبين أنه البواب، وأنه جريح يسيل الدم من رأسه ووجهه، وبجانبه الخشبة الغليظة التي توضع خلف باب الحارة من الداخل ويدخل بعضها في الحائط لتكون بمثابة المزلاج. وكانوا يطلقون عليها اسم «الدقر». وقد لُوثت بالدم السائل من جرح المسكين.

وأخذ السيد عبد الرحمن ينادي البواب باسمه، فلم يستطع هذا جوابًا، واستمر في شخيره وهو يئن أنينًا خافتًا متقطعًا. فأدرك أنه في غيبوبة الموت، واشتد خفقان قلبه وارتعدت فرائصه لهول ذلك المنظر المروع. وحدثته نفسه بأن يبلغ الأمر إلى رجال الشرطة في مقرهم الخاص بالمنطقة. ثم خشي ما قد يجره عليه هذا من الظلم والإهانة. كما رأى أن بقاءه بجانب البواب الصريع قد يوقعه في تهمة قتله وهو بريء منها. فغادر المكان مسرعًا ودخل الحارة ملتمسًا الطريق إلى منزله فيها. وما كاد يخطو بضع خطوات حتى سمع وقع أقدام كثيرة خلفه، فالتفت فإذا برجلين كأنهما ماردان، يرتديان ملابس قصيرة وفي يد كل منهما عصا غليظة طويلة، وصاح به أحدهما قائلًا: «قف مكانك يا مجرم، أتظن أن التخلص من جريمة القتل سهل إلى هذا الحد؟!»

فوقف السيد عبد الرحمن، وقد امتلأ قلبه رعبًا، ولم تعد ساقاه المتخاذلتان المرتعدتان تقويان على حمله، ولاسيما بعد أن رأى أحد الرجلين رفع عصاه وهمَّ بأن يهوي بها على رأسه. على أنه تحامل على نفسه متجلدًا، وقال للرجلين في صوت متهدج: «لست والله مجرمًا، ولا أنا ممن يستطيعون قتل هرة.»

وكان جوابهما أن انقض عليه أحدهما وقبض على عنقه بيد من حديد حتى كاد يزهق روحه خنقًا، بينما أطفأ الآخر المصباح، وراح يجرِّد التاجر من كل ما يحمله من نقود وثياب وأوراق وحلي وغيرها. ثم ألقياه بقوة على الأرض وتركاه ذاهلًا يئن من فرط الألم ولاذا بالفرار، بعد أن هدداه بالقضاء على حياته إن هو فتح فمه بكلمة واحدة!

ولم يسعه إلا الامتثال، فبقي صامتًا ساكنًا حتى ابتعدا، ثم نهض ومشى إلى منزله بما بقي عليه من الملابس الداخلية، وهو عاري الرأس حافي القدمين. فلما اقترب من المنزل سمع فيه صراخًا وعويلًا فازداد اضطرابه. وطرق الباب طرقًا شديدًا، فأطل بعض الخدم من نافذة تشرف على الباب ولم يستطيعوا معرفته لتغير هيئته وملابسه ولضعف ضوء المصباح المعلق بالباب، وحسبوه لصًّا أو محتالًا فانهالوا عليه بالشتائم والحجارة. لكنه صاح بهم مهددًا متوعدًا، وأخذ يدعوهم بأسمائهم حتى عرفوه ففتحوا له الباب واستقبلوه معتذرين باكين. ورأى الجواري محلولات الشعر يلطمن وجوههن نادبات معولات. وعلم منهن أن زوجته وحدها في غرفتها، وأنها تكاد تكون غائبة الوعي كأنما أُصيبت بالذهول أو الجنون؛ وذلك لأن عساكر المماليك جاءوا إلى المنزل منذ قليل وهم سكارى، وقبضوا على ولدهما حسن وساقوه إلى الديوان تمهيدًا لتجنيده وإرساله إلى الحرب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤