الفصل العاشر

في جبل لبنان

أُعجب حسن حين أشرفت السفينة على بيروت بسلسلة جبال لبنان الشامخة المكسوة بالثلوج والأشجار، ولاحظ أن مدينة بيروت تحيط بها تلال مرتفعة عنها، فقال لعماد الدين: «إن هذه التلال المرتفعة خطر على المدينة؛ إذ يستفيد بها العدو الذي يغزوها برًّا ويتسلط عليها بسهولة.»

فقال عماد الدين: «صدقت يا أخي، ولكن المدينة بها — عدا القلاع البحرية، كقلعة الميناء الداخلة في البحر، وقلعة الخارجية، وقلعة شويخ — برج هائل شرقيها، هو الذي يبدو أعلى أبراجها جميعًا، ويُقال له «برج الكشاف»، وهو يشرف على كل الجهات، وبجانبه برج آخر صغير ليست له أهمية كبيرة، كما أن بها من الغرب برجين كبيرين هما: برج أم دبوس، وبرج طاقة القصر. وكان للمدينة فيما مضى سور تهدَّم بمضي الزمن، لكن أبوابه ما زالت سليمة وفيها مراكز دفاعية لا بأس بها.»

ولمح حسن غربي المدينة تلًّا مرتفعًا داخلًا في البحر وعليه الأشجار والزروع، ووراءه سهل ممتد من الرمال، فلما سأل عنه عماد الدين أجابه هذا بقوله: «هذا رأس بيروت، وهو يمتد إلى مدينة صيدا.» ثم أشار إلى تل في الجهة الشرقية وقال له: «هذا تل الأشرفية، وهو أكثر أغراسًا، وليس وراءه إلا الجبل كما ترى.»

فأشار حسن إلى أبراج متفرقة بين البساتين والغياض على رأس بيروت وتل الأشرفية وقال: «أليست هذه الأبراج للدفاع أيضًا؟»

فقال عماد الدين: «إنها أبراج، لكنها للسكنى وليست للدفاع، وقد بناها بعض الأمراء والأعيان في عهود متفرقة ليسكنوها في فصل الشتاء، وقلما يسكنها غير القادرين لوقوعها خارج المدينة وتعرضها للغزو وسطو اللصوص وقاطعي الطريق.»

وكانت السفينة قد ألقت مراسيها، فغادراها إلى المدينة حيث طافا ببعض أسواقها الضيقة، وأُعجب حسن برصف شوارعها ونظافتها. وبعد أن وضعا أمتعتهما في فندق قرب سوق الحدادين، أخذ عماد الدين حسنًا وأراه قيسارية الأمير حاكم لبنان السابق وغيرها من القيساريات.

فقال حسن: «هل الشيخ ضاهر هو حاكم بيروت الآن؟»

فقال عماد الدين: «لا، بل هي تابعة للأمير يوسف شهاب الدين، ومثلها طرابلس وصيدا وصور، على أن الأمير يوسف والشيخ ضاهر متفقان في الخفاء على محالفة الروسيين. ومما يُذكر أن والي المدينة الذي يحكمها باسم الأمير يوسف الآن هو أحمد بك الجزار الذي كان فيما مضى من أمراء علي بك في مصر، ثم وقع بينهما نفور، ففرَّ إلى الآستانة خوفًا على حياته من علي بك، ثم جاء إلى هذه البلاد فرتَّب له الأمير منصور نفقة من جمرك بيروت، وبقي كذلك حتى جاء الأسطول الروسي الذي رأيناه في الإسكندرية فخرَّب المدينة وهدم أسوارها، ونهب جنوده متاجرها ومنازلها بتحريض من الشيخ ضاهر؛ طمعًا في إخضاع الأمراء الشهابيين لسلطانه أيضًا، وظلوا يحاصرونها حتى بعث الأمير منصور إلى الشيخ ضاهر يوسِّطه لدى الروسيين في فك الحصار عنها في مقابل أن يدفع لهم مبلغًا كبيرًا من المال، فتم الصلح بينهم على ذلك، ثم جاء الأمير يوسف فولَّى الجزار على بيروت، وأحسب أن هذا لا يلبث قليلًا حتى يخرج عليه؛ فقد تركته حين سافرت من عكا والأمير متغير عليه؛ لما بلغه من أنه يبني الحصون ويُعِدُّ معدات الدفاع في المدينة، ويسخِّر الناس في تلك الأعمال.»

فقال حسن: «أسأل الله ألا تنشب الحرب بينهما ونحن هنا، ويا حبذا لو نعجل بالرحيل إلى عكا؛ لتفادي الأخطار؛ ولكي أبحث عن أبي هناك.»

فوافقه عماد الدين على ذلك، ثم انطلقا عائدين إلى الفندق. وفي الطريق تفرَّج حسن على الغياض المحدقة بالمدينة من الجنوب، وفيها أغراس التين والمشمش واللوز وغيرها، وعلى باب الدركاه، وبرج الكشاف، وباب المصلَّى المؤدي إلى قصر الحكومة؛ حيث يقيم أحمد بك الجزار. فلما اقتربا من القصر قال عماد الدين: «يحسن أن نعجل بالابتعاد عن هذه المنطقة؛ فإن الجزار قد يأمر بقتلنا لأدنى شبهة تخالجه في أمرنا، وقد أسرف في سفك الدماء حتى صار له من اسمه أكبر نصيب، وتُروى عنه في ذلك أحاديث تقشعر لها جلود الأسود، أذكر منها أنه داعب إحدى سراريه مرة بقطع أذنها بخنجره! وما أحسبه إن علم بأني من رجال الشيخ ضاهر إلا معجلًا بالفتك بي.»

ثم جدَّا في السير حتى وصلا إلى الخان ودخلا غرفتهما؛ حيث أخذا يُعدَّان أمتعتهما للرحيل، وبعد أن استراحا قليلًا قال عماد الدين: «سأذهب إلى صاحب الفندق لأخبره باعتزامنا السفر، وأستعين به على اكتراء جملين نركبهما إلى عكا.»

فقال حسن: «حسنًا تفعل، وأسأل الله التوفيق.»

وطال انتظار حسن رجوع عماد الدين من هذه المهمة، فقلق وغادر الغرفة قاصدًا إلى غرفة صاحب الفندق ليبحث عن عماد الدين هناك، فوجدهما جالسين على دكة فيها يتهامسان، وما وقع نظر عماد الدين عليه حتى ناداه وأشركه معهما في الحديث، فإذا بصاحب الفندق يقول: «ما أظن أن الخروج من المدينة ممكن في هذه الأيام، فالأحوال مضطربة، والأمير يوسف في طريقه إلينا على رأس حملة قوية من جنوده لتأديب أحمد بك الجزار، وقد أمر هذا بإغلاق أبواب المدينة ومنع الدخول إليها والخروج منها.»

فبُغت حسن، وانقبضت نفسه، وبدت على محياه علائم التذمر والاستياء، فقال له صاحب الفندق: «لا تتذمر يا بني، واحمد الله على أنكما لم تحاولا الخروج من المدينة قبل علمكما بهذا النبأ الخطير.» ثم ناوله غليونه وفيه تبغ مشتعل، وقال له: «إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وهذه الدنيا لا يدوم فيها حال، وقد مضى عليَّ أربعون سنة أعمل في هذا الفندق، ومر عليَّ كثير من الأهوال التي يشيب لها الولدان، فكم غزا اللبنانيون وأهل البلاد المجاورة هذه المدينة من البَر! وكم سطا عليها القرصان والجنود الأجانب من البحر! وما أكثر الحكام الذين استبدوا في حكم أهلها من مسلمين ونصارى! وقد تولى حكمها مرة رجل نصراني يُقال له «أبو عسكر الجبيلي»، فعاث فيها الفساد وأسرف في القتل والتعذيب والإرهاب، وغرَّه شيطان الظلم والقوة، فظن أن لن يقدر عليه أحد، وأمعن في طغيانه وتجبره، فقاسينا منه الأمرين، وأصابني من اضطهاده وعنته بلاء كثير، ثم ذهب كما ذهب قبله وبعده كثيرون من أمثاله، وسبحان من له الدوام!»

فقال حسن: «وما ظنك بمسألة الجزار هذه؟ هل يطول أمرها؟»

قال: «إن نبأ قدوم الأمير يوسف وجيشه لم يصل إلى المدينة إلا منذ ساعات، وقد علمت به قبل أن يعلم به الجزار نفسه؛ إذ سمعته من الرسول الذي حمله عند مروره بالفندق في طريقه إلى قصر الحكومة، وعما قريب نرى ما يكون من شأن الفريقين.»

•••

في صباح اليوم التالي، استيقظ حسن وعماد الدين على ضجة كبيرة في الفندق وخارجه، فنهضا مذعورَين وهما يحسبان أن الحرب نشبت بين الأمير يوسف والجزار، ولكنهما ما لبثا قليلًا حتى تبيَّنا من أصوات المنادين في الطرقات أن الأمر انتهى بالمصالحة، وأن الجزار خارج في موكبه لمقابلة الأمير يوسف في السهل الرملي المعروف باسم «المصطبة» وكتابة عهد الصلح، فقال حسن: «الحمد لله الذي كشف عنا الضر.» ثم التفت إلى عماد الدين وقال: «ألا ترى أن نخرج لمشاهدة مجلس الصلح؟»

فقال عماد الدين: «إنني طوع إرادتك، ولكننا تأخرنا عن الوصول إلى عكا كثيرًا، فلنذهب إلى صاحب الفندق لعله يستطيع أن يكتري لنا جوادين نركبهما في رحلتنا، ثم نعجِّل بالرحيل، فأبوك لا بد قد سئم طول الانتظار في عكا، كما أني لا آمن أن يغضب عليَّ الشيخ ضاهر.»

فقال حسن: «لقد نطقت الصواب، فهيا بنا إلى صاحب الفندق.»

ولما بحثا عن صاحب الفندق علما أنه ذهب إلى المصطبة لمشاهدة الصلح، فاستقر رأيهما على اللحاق به ومباحثته في أمر اكتراء الجوادين هناك.

وفيما هما سائران بالقرب من قصر الحكومة، سمعا ضجة صادرة من جهته، وشهدا كثيرين من الأهلين يَعدُون في طريقهم إليه، فأدركا أن الجزار خارج في موكبه، ووقفا حتى مر الموكب بجماعة من الجنود المغاربة يتقدمونه لإفساح الطريق، ويعقبهم كوكبة من الفرسان، يتوسطهم الجزار على جواد أصيل سرجه من الديباج المذهب، وهو يلبس سراويل فضفاضة من الجوخ السميك، وعلى كتفيه الجبة، وعلى رأسه القاووق المملوكي الطويل تحت العمامة، وفي مَنطِقته خنجر، وإلى جانبه سيف معقوف، وفي يده مذبة من شعر الخيل مقبضها من العاج، ومن خلف هؤلاء الفرسان فرقة صغيرة من الجنود الأتراك المشاة، ومعهم الطبول والأبواق.

فلما مر الموكب تبعه عماد الدين وحسن حتى جاوز المدينة وساحة السور ووصل إلى المصطبة، وهي أرض رملية بها بعض الأشجار من الصنوبر والصبير، وفيها أُقيمت خيمة الأمير يوسف تحيط بها خيام الحاشية والجنود.

وترجل الجزار حينما اقترب من خيمة الأمير، ومشى مسرعًا حتى دخلها، وحيا الأمير في أدب واحترام، ثم همَّ بيده فقبَّلها، وكان هذا جالسًا على وسادة في صدر الخيمة، وهو يرتدي الجبة والقباء وعلى رأسه العمامة، فلما رأى الجزار جاءه معظِّمًا مستعطفًا، خفَّت حدة غضبه عليه وقال له: «لماذا لم تكفَّ عن ترميم الحصون؟»

فقال: «حاش لله أن أخالف أمر الأمير، ولكن البنائين كانوا قد أوشكوا أن ينتهوا من ذلك قبل وصول الأوامر.»

فقال الأمير يوسف: «على كل حال، أريد أن يقف كل عمل من هذا القبيل، وأن تخلي المدينة.»

فقال الجزار: «سمعًا وطاعة، وأرجو أن يتفضل الأمير بإمهالنا بضعة أيام للقيام بما يريد.»

قال: «إننا نمهلك أربعين يومًا، على أن تتم خلالها إخلاء المدينة والخروج منها.»

فحنى الجزار رأسه موافقًا، ثم مال على يد الأمير فقبَّلها، وغادر الخيمة متأدبًا، ثم عاد بموكبه إلى القصر.

ولما عاد عماد الدين وحسن إلى الفندق، اجتمعا بصاحبه، وطلبا إليه أن يعاونهما على اكتراء دابتين تحملانهما إلى عكا، فوعدهما بذلك، لكنه لم يستطع تحقيق مطلبهما إلا بعد يومين؛ إذ وجد مكاريًا لديه جوادان، واستطاع أن يقنعه بحمل حسن وعماد الدين عليهما إلى عكا لقاء أجر كبير.

•••

ودَّع حسن وعماد الدين صاحبَ الفندق، وسارا يقصدان الخروج من باب الدركاه، والمكاري خلفهما ومعه الجوادان يحملان أمتعتهما، فلما اقتربا من الباب وجداه مغلقًا، وسألا البواب عما دعا إلى إغلاقه فقال لهما: «لا أدري، ولكن الأمر صدر بذلك من مولانا الوالي.»

فوقفا مبهوتَين، ثم سألا البواب: «هل أبواب المدينة كلها أُغلقت؟» فقال: «نعم.» ثم حانت من عماد الدين التفاتة إلى يمين الباب فوجد العمال عاكفين على ترميم السور، فقال لحسن: «إن الجزار يستعد للدفاع، وما أحسبه إلا قد اعتزم البقاء في المدينة.»

فقال حسن: «علينا إذن أن نحتال للخروج منها قبل أن تنشب الحرب بينه وبين الأمير، فكيف نستطيع ذلك؟»

فأخذ عماد الدين بيد حسن، وانتحى به ناحية وأسرَّ إليه قائلًا: «لا حيلة لنا في الخروج بالجوادين والأمتعة، والرأي عندي أن نكتفي بما خفَّ حمله، ومتى صرنا خارج المدينة دبَّرنا وسيلة للركوب.»

فقال: «لكن كيف نخرج من المدينة؟»

فأشار إلى بناء كبير بالقرب من باب يعقوب وقال له: «إن هذا البناء دير لجماعة من القسس يُقال لهم المرسلون الكبوشيون، والسور وراء الدير مباشرة، فإذا نحن دخلنا الدير وقصصنا على رئيسه قصتنا فقد يسمح لنا باجتياز السور من هناك.»

قال: «افعل ما تريد، فإني لا أخالفك في شيء.»

فعادا إلى المكاري، وطلبا إليه أن يعود بالأمتعة إلى الفندق ويسلمها لصاحبه، ونفحاه ببعض المال فعاد لتحقيق طلبهما شاكرًا، ومضيا هما إلى الدير عبر الزقاق الضيق الذي يؤدي إليه، فلما بلغا بابه طرقاه، فأطل أحد الرهبان برأسه من فتحة فوق الباب وسأل: «مَن الطارق؟» فقال عماد الدين: «غريبان من المساكين يريدان الالتجاء إليكم.»

فغاب الراهب قليلًا ريثما استأذن رئيس الدير، ثم عاد وفتح الباب ودعاهما إلى الدخول، ثم أغلقه كما كان وقادهما إلى حجرة وجدا فيها قسيسًا يرتدي قباء من الجوخ شُد وسطه فوقه بحبل، وعلى رأسه «طاقية» صغيرة سوداء مستديرة، وفي قدميه نعل شُدت أصابعهما إليها بسيور من الجلد.

فهمَّ عماد الدين بيد القس فقبَّلها بأدب واحترام وهو يقول: «أسعد الله صباحك يا حضرة البادري.» وكان هذا هو اللقب الذي يُطلق على رهبان تلك الطائفة.

فرد البادري تحيته بمثلها، بلغة عربية سقيمة، وأشار إليهما بالجلوس على وسادتين في الحجرة فجلسا وهو يفحصهما بنظراته؛ مخافة أن يكونا قد جاءا بدسيسة من الجزار.

وقبل أن يسألهما عما دعاهما إلى الالتجاء إلى الدير، قال عماد الدين: «جئنا لنتضرع إليك؛ كي تنقذنا من هلاك محقق، فنحن غريبان جئنا من عكا، وأردنا الرجوع إليها فوجدنا أبواب المدينة مغلقة بأمر واليها، وفي تأخرنا عن العودة إلى بلدتنا خطر كبير علينا وعلى أهلنا فيها، فضلًا عن خطر بقائنا في هذه المدينة.»

فقال البادري: «وماذا نستطيع أن نصنع، والوالي لا يمكن أن يقبل فتح الأبواب ما دام قد أمر بإغلاقها؟»

فأخذ عماد الدين يشرح له المساعدة التي يطلبانها محاولًا اجتذاب قلبه بما عُهد فيه من اللباقة والإجلال والتعظيم، فتأثَّر البادري بتوسلاته وقال له: «لا بأس، سأدخلكما إحدى الغرف المطلة على خارج السور، لتنجوا من نافذتها حينما ينتصف الليل ويسود الظلام.»

فقبَّلا يده شاكرين، وظلا يسامرانه بالأحاديث بعض الوقت، ثم مضيا إلى الغرفة التي اختارها لهما فدخلا وأغلقا عليهما الباب بعد أن زودهما البادري ببعض الطعام والشراب، ولبثا ينتظران حتى ينقضي النهار ويسود الظلام؛ ليفرا إلى خارج السور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤