الفصل السادس عشر

اجتماع الشمل

وصل علي خادم السيد عبد الرحمن إلى القاهرة، وقد استبدل بملابسه الشامية ملابس مصرية حتى لا يستغشه أحد، وقد وجد الناس فيها بين شامت بعلي بك ومتوجس خيفة من أبي الذهب.

وأخذ طريقه عقب وصوله إلى دار السيد المحروقي رأسًا؛ إذ رأى أنه خير مَن يسأله في شأن سيدته دون أن يكون في ذلك خطر عليه، فلما بلغ الدار وطرق الباب فتح له أحد الخدم وسأله عما يريد، ثم أخبره بأن السيد مسافر إلى خارج القاهرة منذ حين ولن يعود قبل شهرين.

فسقط في يد علي، لكنه لم يجد بدًّا من الانتظار حتى يرجع السيد من سفره، على أن يبحث هنا وهناك خلال ذلك، عسى أن يعلم شيئًا عن مصير سيدته.

ولم يسفر بحثه عن نتيجة، فبقي في حيرة وقلق إلى أن عاد السيد المحروقي فخف إلى مقابلته، وما كاد يكشف له عن حقيقة أمره ومهمته حتى قلَّب السيد كفيه عجبًا وأسفًا وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لقد وقفتُ على المخبأ الذي لجأت إليه سيدتك بعد أن أنقذت الست نفيسة زوجة علي بك حياتها، وكانت مختبئة في بعض الأديار، فلما قامت الثورة بين علي بك وصهره أبي الذهب، انتهزتُ هذه الفرصة وسعيتُ إلى إخراج سيدتك من الدير، وأرسلتُها مع بعض رجالي الأمناء إلى عكا للبحث عن السيد عبد الرحمن زوجها هناك، وقد بشرتُها بأن ابنها قد نجا أيضًا بفضل الست نفيسة، وفر إلى سوريا.»

فعجب علي لهذا الاتفاق، وقال: «جزاكم الله خيرًا يا سيدي على كل حال، وهو القادر جل شأنه على أن يجمع شملهم ويسعدهم بالأمن والطمأنينة بعد كل هذا الذي نالهم من ظلم علي بك الذي نال جزاء ظلمه وخروجه من طاعة السلطان، فأُخرج من مصر مذمومًا مدحورًا.»

فهز السيد المحروقي رأسه أسفًا وقال: «حقًّا، لقد طغى علي بك وتجبر ولم يقف في مطامعه عند حد، ولكنه مع هذا كان خيرًا من أبي الذهب، فهذا وإن تظاهر بإعادة البلاد إلى حوزة الدولة العلية دولة الخلافة، يسعى في الخفاء لكي يأخذها لنفسه، وليس في مصر مَن يحبه؛ لما عُرف عنه من الميل إلى الغدر والخيانة.»

فقال علي: «وماذا يرى السيد في استنجاد علي بك بالشيخ ضاهر حاكم عكا والأسطول الروسي الموجود فيها الآن، وهو يضم ثلاثة آلاف من الجنود الألبانيين (الأرناءوط) للهجوم من البر، عدا مَن فيه من الجنود البحريين؟»

فقال السيد المحروقي: «مهما يكن من أمر، فلا شك في أن الدولة الروسية لا تعاون هؤلاء الجهلة حبًّا في معاونتهم، ولكنها تفعل ذلك، لتحارب بهم الدولة العلية وتشغلها بما يقومون به من فتن ودسائس وثورات داخلية.»

قال: «وهل ترون أن أبقى في القاهرة أم أعود إلى عكا لأخبر سيدي بما كان والبحث عن سيدتي هناك؟»

فقال: «إن سفرك وحدك لا يخلو من الخطر، فانتظر هنا إلى أن تصحب قافلة أو حملة ذاهبة إلى هناك.» ثم أمر بإعداد غرفة خاصة له في منزله يقيم بها، ودعا الله أن يختم مأساة أسرة صديقه السيد عبد الرحمن بما يسعدها وينسيها ما قاسته من شقاء وعذاب.

•••

عاد السيد المحروقي إلى داره بعد أيام، فدعا إليه عليًّا خادم السيد عبد الرحمن وقال له: «لقد جاءت الأنباء بقدوم علي بك إلى الصالحية في جيش كبير من الألبانيين التابعين للأسطول الروسي ومن جنود الشيخ ضاهر حليفه، وقد تغلبوا هناك على جنود أبي الذهب، ودخلوا البلدة فاتحين، وقد جند أبو الذهب جيشًا كبيرًا واعتزم الخروج به إلى الصالحية لصد علي بك. وعلمت أن هذا عاد من عكا مريضًا لا يستطيع الإشراف على المعارك.»

قال: «وكيف أُقدِم على المجيء للحرب وهو مريض؟»

قال: «لم يكن راغبًا في المجيء قبل أن يُشفى، ولكن أبا الذهب احتال لاستقدامه وهو في هذه الحالة من المرض والضعف ليسهل عليه صده، وكانت الحيلة التي استخدمها لذلك أن كتب إليه على لسان المعلم رزق الذي كان كاتبًا لحساباته ومن خاصة مستشاريه، وبقي في مصر بعد خروجه منها، مستمرًّا في الدعاية له ومكاتبته سرًّا. وقال أبو الذهب لعلي بك في هذا الكتاب الموقع عليه بإمضاء المعلم رزق: «عليك أن تعجِّل بالقدوم لمحاربة أبي الذهب، فلا شك في أن أهل القاهرة وجميع أحزابها يودون عودتك وينتظرونك بفارغ الصبر»، إلى غير ذلك مما يحبب إليه القدوم. وقد نجحت الحيلة، وجاء علي بك إلى الصالحية وأخذها، ولكني لا أدري عاقبة الأمر على كل حال؛ فإن أبا الذهب مسافر غدًا في حملة لمحاربة علي بك في الصالحية، فإذا أفقت الحملة إلى قرب الصالحية فيمكنك التحول من هناك إلى حيث تشاء؛ إذ تكون قد وصلت إلى مأمنك، والرأي لك.»

فقال علي: «وكيف يمكنني مرافقة الحملة وأنا لست منها، فقد يستغشونني؟»

قال: «يمكنك مرافقتها بصفتك بائع مأكولات.»

فاستحسن علي الرأي، وأخذ يُعدُّ ما يلزم لسفره، واشترى طبقًا كبيرًا من خشب جعل عليه بعض أنواع المأكولات، وتزيا بزي الباعة وانخرط في سلك الحملة، وساروا يريدون الصالحية.

•••

بقي حسن في ضيافة حارس باب عكا، في انتظار عود الشيخ ضاهر. وفي صبيحة اليوم الثالث وصلت البشائر بقدومه مع علي بك ورجالهما، فخرج الناس بالطبول للاحتفال بملاقاة القادمين، وجلس حسن إلى نافذة مطلة على السهل خارج القلعة لعله يشاهد الاحتفال؛ فإذا بالغبار يتكاثف عن بُعد، ثم انقشع عن خيالة يتقدمهم اثنان عرف أنهما الشيخ ضاهر وعلي بك؛ لما في لباسهما من الزخرف وما أحدق بهما من الحاشية، وكل منهما على جواده كأنه أسد، ثم تذكر أنه محجور عليه بأمر الشيخ ضاهر وربما حُكم عليه بالقتل أو الحبس، فانقبضت نفسه، ولكنه اشتغل بمشاهدة الموكب وهو يدخل القلعة. فدخل أولًا الأميران وحاشيتهما على خيولهم، ثم تقاطر الناس أفواجًا، وفيهم الرجال والنساء والأولاد في الزي المصري، فتذكر والدته وهاجت أشجانه واشتد اشتياقه إليها، وأخذ ينظر إلى النساء لعله يستأنس بمنظرهن لمشابهتهن لها بالزي. وفيما هو يتأملهن وقع نظره على واحدة منهن تشبهها قامة ومشية، فخفق قلبه لها واستأنس بها، وجعل يمعن نظره فيها، وكانت كلما اقتربت من الباب ازداد استئناسه بها حتى ترجح لديه أنها هي بعينها، فازداد خفقان قلبه وطارت عيناه شعاعًا تطلعًا إليها، وود لو أنها ترفع نظرها إليه لعله يتحقق ظنه ويعرفها من وراء الإزار واليشمك، ولكنها كانت مطرقة كئيبة وإلى جانبها رجل عرف أنه من خدم السيد المحروقي، فأخذ يتردد بين الشك واليقين حتى دخلا الباب، فحدثته نفسه أن ينزل لملاقاتهما، وهمَّ بذلك ثم خاف أن يمنعه الحراس، ولكنهم كانوا في شغل بملاقاة القادمين، فنزل حتى أتى الباب وأمعن نظره في المرأة والرجل، أما الرجل فحالما رآه عرفه لكنه لم يتحققه جيدًا لما هو فيه من اللباس المغربي.

فتقدم إليه حسن وأمعن نظره فيه وفي المرأة حتى كاد يتحقق أنها والدته، أما هي فحالما وقع نظرها عليه رمت نفسها عليه وصاحت «ولدي.» وأُغمي عليها، فهمَّ بها وأمسك يدها وأخذ يخفف عنها ويقبِّل يديها ويدعوها باسمها، حتى أفاقت فضمته إليها وجعلت تقبِّله وتشكر الله على مشاهدتها إياه، والناس وقوف قد أدهشهم ذلك المنظر، خصوصًا الحارس لما رأى من بكائهما ولهفتهما، ثم دخل بهما إلى غرفته وهما متعانقان والدموع تتساقط على خديهما، فلما جلسا أخذت سالمة تسأل حسنًا عن أمر أبيه، فذكر لها أنه لا يعلم مقره، وقد جاء للبحث عنه ظنًّا منه أنه في عكا، وأخبرها أنه محجور عليه هناك لسبب لا يعلمه. فسألت الحارس عن سبب ذلك القبض، فقال: «لا أعلم يا سيدتي، ولكني أُمرت من أحد رجال سيدي الشيخ ضاهر أن أقبض عليه.» فتذكر حسن صديقه عماد الدين فقال في نفسه: «لعلي إن وجدته أنتفع به في هذه المسألة.»

وكان حسن لا يعلم عن مكان عماد الدين شيئًا بعد أن غادره في بيروت، فسأل البواب عنه فقال هذا: «ومن أين لك معرفته؟»

قال: «هو صديقي، عرفته منذ أشهر، فهل هو في المدينة؟»

قال: «نعم هو هنا، وقد أوصاني هو أيضًا وشدد الوصية في القبض عليك.»

فانبسط وجه حسن ونهض واقفًا من الفرح وقال: «إذن فالقبض علي لخير والحمد لله؛ لأن الرجل صديق وبيننا عهود وثيقة تقضي بمساعدة أحدنا الآخر.»

ثم التفت إلى البواب قائلًا: «وأين عماد الدين الآن؟»

قال: «لا بد من أنه قدم مع القادمين، وعما قليل أسأل عنه وأستقدمه إليك.»

وبعد قليل، مضى الحارس فغاب قليلًا ثم عاد ومعه عماد الدين، فما وقع نظر هذا على حسن حتى همَّ به وعانقه وأخذ يقبِّله ودموع الفرح تتساقط على خديه، ثم حانت منه التفاتة إلى أم حسن وهي جالسة هناك، فسأله عمن تكون، فقال: «هي والدتي، ولم يبقَ إلا أن يكتب الله لنا الاجتماع بأبي.»

فقبَّل عماد الدين يد السيدة سالمة وهنأها بالسلامة ولقاء حسن، ثم قال لهما: «إني أهنئكما وأهنئ نفسي بأن السيد عبد الرحمن في خير وأمان، بل هو الآن من أكابر المقربين إلى الشيخ ضاهر، وقد خصص له مسكن إلى جواره في هذه القلعة.»

فلم يتمالك حسن ووالدته من البكاء فرحًا بهذه البشرى، ثم أشار عليهما بالذهاب معه إلى منزله والانتظار هناك حتى يأتي إليهما بالسيد عبد الرحمن، بعد أن يمهِّد لديه لهذا اللقاء حتى لا تضره المفاجأة. فنهضا وصحباه إلى منزله بعد أن ودَّع حسن حارس الباب وشكره على حسن ضيافته.

•••

كان السيد عبد الرحمن قد أوى إلى حجرته عقب عودته إلى القلعة، فلما دخل عليه عماد الدين وجده مطرقًا يفكر وعلائم القلق بادية في محياه.

فقال له: «فيم تفكر يا صديقي؟ ألا تحمد الله على ما نلت من حظوة لدى حاكم المدينة؟»

فقال السيد عبد الرحمن: «آه يا عماد الدين! إني لو أُعطيت ملك الدنيا كلها ما أنساني ذلك حزني لفراق حسن ووالدته وانقطاع أخبارهما، وإني لأضرع إلى الله أن يعجل برجوع علي خادمي من مصر عسى أن يكون قد وقف على شيء عنهما هناك؛ فقد كاد اليأس من لقائهما يستولي على قلبي.»

فقال عماد الدين: «ولمَ اليأس يا سيدي؟ أليس الله بقادر على أن يجمعك بهما قبل رجوع علي من مصر؟»

قال: «إن الله قادر على كل شيء، ولكني أخشى أن يذهب عمري وأنا لا أزال أبحث عنهما.» وأخذت عَبراته تتساقط على خديه.

فتأثر عماد الدين لبكائه وقال له: «لقد صبرت طويلًا يا سيدي، والصبر مفتاح الفرج، وقد جئتك الآن مبشرًا بنبأ فيه ما يسرك.»

فهبَّ السيد عبد الرحمن واقفًا وقال له: «ما هو هذا النبأ؟ قل يا ولدي، بشَّرك الله بكل خير.»

قال: «قد علمت الآن من مصدر وثيق الاطلاع أن حسنًا جاء إلى عكا.»

فهمَّ به السيد عبد الرحمن وقبَّله باكيًا وهو يقول: «وأين هو؟ هل عرفه حراس أبواب المدينة فاحتجزوه؟»

قال: «نعم، عرفه أحدهم وهمَّ بإرساله إلى هنا في القلعة تنفيذًا لأمرك، ولكن …»

فقاطعه سائلًا: «ولكن ماذا؟ هل عليه من بأس؟»

فقال: «لا بأس عليه، لكنه شاهد بين القادمين من مصر مع علي بك جماعة من خدم صديق لكم هناك اسمه السيد المحروقي، وعلم منهم أنهم قادمون للبحث عنك وعنه ومعهم سيدة يهمها أمركما.»

فازداد بكاء السيد عبد الرحمن من شدة الفرح وقال: «لعلها سالمة، أليس كذلك؟»

فضحك عماد الدين وهمَّ بالسيد عبد الرحمن فعانقه وقبَّله وقال: «نعم … إنها هي بعينها يا سيدي، فهل أيقنت بأن الله قادر على كل شيء، وأنه لا يضيع أجر الصابرين؟!»

فسجد السيد عبد الرحمن شكرًا لله، ثم نهض وعاد إلى معانقة عماد الدين وتقبيله وهو يقول: «لقد نفد صبري، فاعذرني يا ولدي، فأين هم الآن؟»

فقال له: «هيا بنا نذهب لمقابلتهم.» ثم اصطحبه إلى منزله فإذا بحسن وأمه ينتظران بالباب، وأخذ الجميع يتبادلون العناق والقبلات وهم لا يكادون يصدقون اجتماع شملهم بعد طول الفراق.

•••

اتفق الجميع بعد ذلك على أن يبقى حسن وأمه في منزل عماد الدين، ويعود السيد عبد الرحمن إلى مسكنه في القلعة إلى أن يرجع علي خادمه من القاهرة.

وبعد أيام، قام علي بك بالعودة إلى مصر على رأس ذلك الجيش العرمرم الذي أعده له الشيخ ضاهر من بين رجاله ورجال الأسطول الروسي حليفهما، ثم جاءت الأنباء بهزيمة هذا الجيش على حدود مصر، ثم معاودته الكرة حتى دخل الصالحية فاتحًا، وهناك خف إلى لقائه محمد بك أبو الذهب على رأس جيش عظيم، واستطاع أن يرده مرة أخرى، بعد أن أُصيب علي بك وهو مريض في خيمته بطعنات عدة، فنُقل إلى القاهرة أسيرًا حيث مات متأثرًا بجروحه، وخلا الجو لأبي الذهب.

وكان علي خادم السيد عبد الرحمن قد عاد إليه في عكا، وأنبأه بأن أبا الذهب في طريقه إليها للانتقام من الشيخ ضاهر الزيداني حاكمها، ثم لم تمضِ أيام حتى جاءت الأنباء بموت أبي الذهب فجأة في الطريق، ففرح بموته الجميع. وكان السيد عبد الرحمن قد جمع ثروة طائلة من عمله في خدمة الشيخ ضاهر، فقرر العودة بأسرته إلى مصر، وودَّعهم عماد الدين متعاهدًا وإياهم على التزاور وتبادل المكاتبات.

واستطاع السيد عبد الرحمن بعد أشهر من عودته أن يسترد أملاكه ومكانته التجارية في وكالة الليمون، كما عاد حسن إلى إتمام دراسته الطبية في البيمارستان المنصوري، وعاش الجميع في سعادة واطمئنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤