الفصل الرابع

في مجلس علي بك الكبير

كان أهل القاهرة قد التجئوا جميعًا إلى منازلهم وأحكموا إغلاق أبوابها، بعد أن أغلقوا متاجرهم وتركوا أعمالهم، ريثما يتم سفر الجنود.

ولم يعجب السيد عبد الرحمن لخلو الطريق من المارة حتى الحوذية والمكاريين، لعلمه بخشية الناس اعتداء الجنود، وما تعودوه هؤلاء من اغتصاب كل دابة يصادفونها في طريقهم بدعوى حاجتهم إليها في الجهاد. فمضى في طريقه إلى القلعة وقلبه يخفق بشدة مخافة أن يلقاه بعض الجنود ويسلبونه ثيابه وما معه من المال. وما زال سائرًا وهذا حاله حتى بلغ القلعة، وهمَّ بدخولها من «باب العزب» فإذا به يلمح شيخًا يدخل منه راكبًا جوادًا، وتأمله جيدًا فإذا هو السيد المحروقي نفسه، فعجب لتأخره عن الوصول إلى القلعة حتى تلك الساعة، ولم يدرك سر ركوبه جوادًا بدلًا من البغلة التي رآه ممتطيًا إياها، ولاسيما أن المماليك لم يكونوا يسمحون لغيرهم بركوب الجياد.

فأسرع في مشيته حتى اقترب منه وناداه فالتفت إليه وعرفه، فأوقف جواده حتى لحق به وسأله عما أتى به، فقص عليه ما حدث منذ فارقه. وأخذ ينظر إلى الجواد كأنه يستفهم عما دعا السيد إلى ركوبه بدلًا من بغلته، فأدرك هذا غرضه وقال له: «إن بعض الجنود الأجانب — قبحهم الله — اعترضوا طريقي، وأبوا إلا أخذ البغلة بما عليها، ولم أنجُ منهم إلا بمعجزة، وبعد أن أبلغ الخادم الأمر إلى واحد من المماليك اتفق مروره في ذلك الوقت … وأخبره بذهابي إلى القلعة لمقابلة علي بك بدعوة منه، فجاء المملوك وانتهر مَن وجدهم من الجنود وهددهم بالقتل ففروا هاربين، وكان زملاؤهم قد فروا قبلهم بالبغلة وما عليها، فجاءني المملوك بهذا الجواد وهو من جياد علي بك فركبته وواصلت المضي في طريقي حتى جئت كما ترى.»

فهنأه السيد عبد الرحمن بالسلامة، واعتذر إليه مما لحق به من الإهانة بسبب خروجه في مثل ذلك اليوم لإنجاز المهمة الخاصة به، فقال السيد المحروقي: «هكذا قدر الله. ولا رادَّ لما قدره، ولا ذنب لك في الأمر. فقد كان عليَّ أن أحضر إلى هنا تلبية لدعوة علي بك. وعلى كل حال نحمد الله على اللطف فيما جرت به المقادير. ولعل الخير في هذا التأخير.»

ثم أشار إليه أن يتبعه عسى أن يستطيع الدخول معه إلى مجلس علي بك، ويعرض عليه بنفسه مظلمته، وحينئذٍ يتدخل هو في الأمر، ويلتمس إنصافه. فوافق على ذلك شاكرًا.

ولما وصلا إلى الساحة الداخلية في القلعة، وجداها قد امتلأت بجماعات من الجند، من مختلف الأجناس والأزياء، وقد علت ضوضاؤهم وهم يتأهبون للخروج. فأخذ السيد عبد الرحمن يتفقدهم لعله يرى ولده بينهم. ولكنه لم يستطع الاهتداء إليه بين جموعهم المختلطة بين مماليك وأتراك ومغاربة ومصريين وأروام وشوام وغيرهم، ولكل جماعة منهم عَلَم خاص، وقائد من جنسهم، وأبرزهم المغاربة بطراطيرهم المصنوعة من جلد السمور، وعباءاتهم المزركشة بالذهب، والإنكشارية بطراطيرهم المدلاة أطرافها على ظهورهم. وفي مقدمتها فوق الجبهة ريشة تنتهي عند أعلاها بشعبتين، وقد تمنطق كل منهم فوق قبائه (قفطانه) بحزام عريض. والمماليك في زيهم المعروف، المؤلَّف من القباء المزركش، والمنطقة العريضة يتدلى السيف من جانبها الأيمن، ويبدو الخنجر تحتها من أمام، والعمامة الأنيقة ملفوفة على قاووق طويل.

•••

ما كاد حراس القصر الجدد يلمحون السيد المحروقي قادمًا على جواده حتى خفوا إلى استقباله بتحيات الإجلال والتعظيم، لعلمهم بمكانته الممتازة عند مولاهم علي بك، فضلًا عما عرفوا من علمه وفضله وتقواه. وبعد أن عاونه بعضهم على الترجل، ساروا بين يديه حتى اجتاز الباب وخلفه السيد عبد الرحمن وقد حسبوه تابعًا للسيد المحروقي فتركوه يدخل معه.

ولما وصلا إلى باب القاعة الكبرى حيث مجلس علي بك، أدرك السيد عبد الرحمن أنها القاعة التي قابل فيها الباشا في الصباح، فقال في نفسه: «سبحان محول الأحوال.» ثم رأى الستر المسدل على الباب قد رفعه أحد الحاجبين الواقفين هناك، فدخل السيد المحروقي لا يلوي على شيء وعاد الحاجب فسدل الستر كما كان. فهاب الدخول خيفة أن يمنعه الحاجب، وخشي في الوقت نفسه أن يطيل الوقوف بالباب فيدعو هذا إلى الريبة في أمره وربما أُوذي بسبب ذلك، فكرَّ راجعًا حتى بلغ الباب الأول، ووقف مع خادم السيد المحروقي المنتظر بالجواد هناك. وتشاغل بالحديث معه.

وعلم الخادم من حديثه أنه راغب في حضور مجلس علي بك، وأن السيد المحروقي نفسه هو الذي أشار عليه بذلك، فقال له: «إن هذا أمر ما أسهله يا سيدي، وما عليك إلا أن ترضي الحاجبين ببضعة أرباع من النقود، فتجد الستر مرفوعًا وتدخل بكل اطمئنان.»

وسرعان ما وافق السيد عبد الرحمن على هذه الفكرة فعاد إلى باب القاعة. حيث حيا الحاجبين ووضع في يد كل منهما بعض المال، فردَّا تحيته بأحسن منها، ورفع أحدهما الستر فدخل القاعة بسلام، ثم تمهل في سيره وهو يجيل عينيه في المجلس. فإذا به يرى علي بك جالسًا على متكأ مرتفع في صدر القاعة، مرتديًا الجبة والعمامة ذات القاووق. وقد تمنطق بحزام عريض برز منه على الصدر خنجر مقبضه من الذهب المحلَّى بالجواهر. فهاب منظره لطول شاربيه ولحيته، واتساع صدره وجبهته، ولما يبدو في نظراته من دلائل الجرأة والذكاء وغلظة القلب. وكاد يهم بالرجوع لولا أن رآه مشغولًا بالحديث مع الجالس عن يمينه وفي إحدى يديه سبحة طويلة يقلب حباتها بأصابعه. وفي يده الأخرى مذبة من شعر الخيل.

وأدرك السيد عبد الرحمن أن هذا الجالس عن يمين علي بك هو صهره محمد بك أبو الذهب قائد الحملة الذاهبة إلى الحجاز، وكان في مثل ملابسه. ثم تأمل بقية من في المجلس، فعرف أكثرهم، وبينهم المعلم رزق كاتب علي بك ومدير حسابات حكومته، وكثير من أمراء المماليك، والسادة الأشراف يتوسطهم السيد المحروقي. لكنه لم يعرف شابًّا رآه جالسًا إلى يسار علي بك مرتديًا ملابس فخمة غريبة تشبه ملابس الإفرنج، ثم تذكر ما سمعه من السيد المحروقي عن المستشار الذي اتخذه علي بك لنفسه من أهل البندقية واسمه روزيتي، فقال في نفسه: «لا بد أن يكون هو هذا الشاب.»

وما تقدم السيد عبد الرحمن خطوات وهو يختلس النظر إلى علي بك حتى رفع هذا رأسه فخُيل إليه أنه ينظر إليه ولا يلبث أن يرتاب في أمره فيأمر بقتله أو سجنه، فارتجفت ركبتاه خوفًا، وحدثته نفسه مرة أخرى بالرجوع، ثم تذكَّر ولده الوحيد والخطر الذي هو فيه، فهانت عليه الحياة، وسرعان ما خلع نعليه، ثم نزع عمامته وأمسكها بيده وتقدم مسرعًا حتى جثا بين يدي علي بك وصاح قائلًا: «أمان أفندم أمان. مظلوم وحياة رأس مولانا العادل علي بك.»

فبُهت مَن في المجلس، والتفت إليه علي بك متفرسًا في هيئته وسأله: «ماذا جاء بك إلى هنا؟ ومم تتظلم؟»

قال: «إني يا مولاي تاجر في وكالة الليمون، وليس لي غير ولد واحد تعبت في تربيته حتى أتم تعليمه في الأزهر، والتحق بالبيمارستان المنصوري لدراسة الطب. لكنهم أخذوه وتركوني وأمه في حياة خير منها الممات!»

فقال له علي بك: «مَن هم الذين أخذوه؟ ولماذا؟»

فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وقال بصوت مختنق والدموع تنهمل من عينيه: «لا أدري يا مولاي مَن أخذوه، ولكني علمت أنهم ساقوه إلى القلعة ليسير مع الجند الخارجين للحرب. وهو لا يقوى على القتال والأسفار.»

فالتفت علي بك إلى مَن في المجلس كأنه يستطلع رأيهم، فسارع السيد المحروقي إلى الكلام وقال: «إني أعرف هذا التاجر، وهو رجل طيب مخلص للحكومة، وابنه من طلبة العلم النجباء.»

فقال علي بك: «كيف أخذوه وقد أمرت بألا يُجند أحد من طلبة العلم؟»

فقال السيد المحروقي: «لعل أمره التبس عليهم؛ لأنه بعد أن درس علوم الدين واللغة في الأزهر التحق بالبيمارستان المنصوري لدراسة الطب كما ذكر أبوه الآن.»

ففكر علي بك هنيهة ثم قال: «على أي حال لا وجه للتظلم من تجنيده، فالجهاد في سبيل الحرمين الشريفين واجب على جميع المسلمين. وهم أولى بهذا الأمر من الجنود الغرباء الذين تطوعوا للذهاب في حملة الحجاز.»

فقال السيد المحروقي: «لقد نطق مولانا بالصواب، ولكني أرجو أن تسع رحمته هذا التاجر المسكين؛ إذ ليس له ولد آخر.»

فبدأ الغضب في وجه علي بك وقال محتدًّا: «ما هذا؟! هل كل أهل هذه البلاد مساكين ضعفاء لا يقوون على الجهاد؟ لا. لا. لقد رفضت عشرات من أمثال هذه الدعوى، ولا يمكن أن أستثني أحدًا من القيام بواجب الجهاد للدفاع عن شريف مكة.»

فعاد السيد عبد الرحمن إلى البكاء والتوسل، والتفت السيد المحروقي إلى علي بك وقال: «لا أشك في صواب رأي مولانا، ولكني ألتمس من فضله وحلمه إكرام شيبتي هذه بإطلاق سراح ذلك الغلام، وأنا كفيل بأنه يقوم لمولانا بخدمات نافعة أخرى إن شاء الله.»

فقال علي بك: «قلت لك إنني قررت ألا أستثني أحدًا من أهل هذه البلاد؛ لعلمي بأنهم يتهربون من الجهاد. لكني إكرامًا لك سأطلق سراح ذلك الولد على أن يحل أبوه محله في الحملة ويدفع عشرين كيسًا.»

فخشي السيد المحروقي أن يراجعه في ذلك فيثور غضبه من جديد ويعدل عن هذا الاستبدال، وقد يأمر بأخذ الولد وأبيه معًا إلى الحرب. فالتفتَ إلى السيد عبد الرحمن وهو لا يزال جاثيًا بين يدي علي بك وقال له: «انهض وقبِّل يد الأمير جزاه الله خيرًا، ثم سارعْ إلى إعداد عُدتك للسفر مع الحملة الليلة، وهات معك العشرين كيسًا المطلوبة. لإطلاق سراح ولدك.»

فلم يسعه إلا الطاعة، ونهض فقبَّل يد علي بك، ثم انصرف عائدًا إلى منزله، حيث أخبر زوجته بما كان، ففرحت بنجاة ولدهما، وجزعت لحلول أبيه محله في الحملة، لكن السيد عبد الرحمن هوَّن عليها الأمر، وأسرَّ إليها أنه سيعمل على التخلف عن الحملة حالما تصل إلى الشام، وهناك يقيم بعكا في انتظارها ومعها ولدهما حسن بعد أن يبيعا ما بقي من ممتلكاتهما في مصر، دون أن يُشعِرا بذلك أي إنسان غير خادمه الخاص.

فخفَّ جزعها ووافقته على هذا الرأي، ثم نادى خادمه الخاص وأسرَّ إليه ما تم الاتفاق عليه، موصيًا إياه بأن يبذل جهده في إتمام ذلك ثم يصحب زوجته وولده إلى عكا، فقبَّل الخادم يده باكيًا واعدًا بتنفيذ الوصية. ثم حمل الأكياس المطلوبة وسار خلفه بعد أن ودَّع مَن في المنزل إلى القلعة حيث سلَّم الأكياس، وتسلَّم ولده، ثم ودَّعه وحل محله في الحملة، وعاد حسن مع الخادم إلى المنزل، لتنفيذ وصية أبيه في الخفاء.

•••

لبث حسن مقيمًا مع أمه بالمنزل يومين بعد سفر الحملة وفيها أبوه. ثم أخذ بعد ذلك يتردد إلى متجر أبيه في وكاله الليمون، متظاهرًا بحلوله محله في البيع والشراء، لكنه في الحقيقة كان يبيع كل ما استطاع بيعه، دون أن يشتري شيئًا، حتى كاد أن ينتهي من بيع كل ما في المتجر.

وفي الوقت نفسه أخذت أمه في بيع أمتعة المنزل إلا ما خفَّ حمله وغلا ثمنه من الحلي والملابس وغيرها. كما باعت المنزل نفسه لأحد الجيران. وسافر الخادم إلى الريف ومعه توكيل من السيد عبد الرحمن ببيع كل ممتلكاته هناك، فأخذ في بيعها معتزمًا التعجيل بذلك ليعود بثمنها إلى القاهرة ويصحب حسنًا وسالمة أمه في الفرار إلى عكا للحاق بسيده هناك.

وفيما كان حسن جالسًا في غرفته بالمنزل بعد أيام وهو يطالع بعض الكتب المخطوطة في الطب، وأمه مشغولة بإعداد حليها وبعض الأمتعة الثمينة الخفيفة في صندوق صغير استعدادًا لمغادرة مصر، سُمع طرقٌ عنيفٌ على باب المنزل، ثم توالى الطرق وتعالت الضوضاء في الخارج، وجاء بعض الخدم يهرعون إلى حسن في غرفته وقالوا: «إن الطارقين جماعة من العساكر المماليك وهم يسُبُّون ويلعنون ويهددون بحرق المنزل بمن فيه.»

فبُغت حسن وامتلأ قلبه رعبًا وفزعًا، وكذلك كان شأن أمه، وكل مَن في المنزل من الخدم والجواري. ثم ازداد فزعهم؛ إذ سمعوا صوت مقذوف ناري أطلقه أحد المماليك الهاجمين على المنزل، وأعقبه صوت مطارق تهوي على الباب لتحطيمه واقتحام المنزل بالقوة، فلم يجد حسن بدًّا من فتح الباب واستقبال القادمين لعل في ذلك ما يخفف من حدتهم وشرهم. فما كاد الخدم يفتحون الباب حتى تدفقت منه جموع العساكر شاهرين السيوف والخناجر والعصي والمسدسات، وأخذوا في نهب كل ما فيه، وشد وثاق مَن يصادفهم من الرجال والنساء مع الضرب والإهانة.

ولم تمضِ ساعة حتى كان المنزل قد أقفر وساده الخراب، وساق المماليك حسنًا وأمه ومَن معهما من الخدم والجواري إلى القلعة موثَّقين مهانين، كما حملوا كل ما كان فيه من الأمتعة والآنية وغيرها إلى هناك بعد أن استبقوا لأنفسهم ما وجدوه من المال والحلي وما إليهما من الأشياء الثمينة النادرة.

وهناك في القلعة سيق الجميع إلى مجلس علي بك في القصر الذي اتخذه مقرًّا لمجلسه منذ عزل الباشا، فلما وقعت عينه عليهم وهم يبكون ويستجيرون به مما لحقهم من العدوان، صرخ فيهم غاضبًا وقال: «هكذا يجب أن يكون جزاء الخونة والأنذال، وإذا كان كبيرهم قد فرَّ هاربًا من المعسكر بعد أن رأفنا به وقبلناه في الحملة بدلًا من ولده، فعما قريب يُقبض عليه وينال ما يستحقه من القتل بعد أن نُنزِل به أشد العذاب!»

ثم أمر ببيع الجواري والأمتعة والآنية بالمزاد، وبأخذ الخدم إلى السجن ريثما يَبُت في أمرهم، وأشار إلى حسن وسالمة وقال لأعوانه المحيطين به: «أما هذان فجزاؤهما بعد الضرب والإهانة وبيع ممتلكاتهما على مشهد منهما، أن يُؤخذ هذا الولد الخائن فيوضع في كيس ومعه حجر ثقيل فيه ثم يُلقى في النيل ليهلك غرقًا. وأما أمه هذه فتُؤخذ لتُسند إليها أحقر أنواع الخدمة وأقساها، كي تقضي بقية حياتها في تعب وشقاء!»

وهنا ضجت سالمة والجواري بالندب والعويل، وجثا حسن وأمه بين يدي علي بك، وهمَّا بتقبيل قدميه، وهما يستغيثان به ويتضرعان إليه أن يرثي لحالهما ويشفق عليهما من ذلك المصير الرهيب؛ لأنهما لا ذنب لهما في فرار السيد عبد الرحمن من المعسكر. فلم يكن من علي بك إلا أن نظر إليهما وعلى فمه ابتسامة التشفي والغبطة بالانتقام، ثم أعرض بوجهه المخيف عنهما، وأمر أعوانه بأن ينفِّذوا ما أمر به. فبادروا إلى تنفيذه في الحال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤