الفصل السابع

الشيخ المجذوب

بقي السيد عبد الرحمن أيامًا في دمياط بعد وصوله إليها مع الأسطول الروسي، ثم وجد سفينة نيلية تستعد للسفر منها إلى القاهرة حاملة مقادير كبيرة من الأرز، فاتفق مع أصحابها على أن يأخذوه معهم. وفي الموعد المحدد لإقلاع السفينة كان قد صعد إليها بأمتعته، وبينها طبل صغير وعصا مصبوغة، وعدد من الأجراس الصغيرة، وصرة بها قطع مختلف ألوانها من الملابس القديمة، ثم اختار لنفسه مجلسًا في أحد جوانب السفينة وقبع فيه وبجانبه أمتعته بعد أن خلع عنه الزي المغربي الذي كان متنكرًا فيه، معتزمًا التنكر في زي آخر.

وما أقلعت السفينة حتى انطلقت بها الريح في الاتجاه المطلوب، وسُرَّ بذلك ملاحوها، فاجتمعوا على ظهرها بعمائمهم الكبيرة المرسلة أطرافها على أقفيتهم، وبسراويلهم الفضفاضة المشدودة على القدمين، وأخذ بعضهم في الغناء بمصاحبة المزمار والنقر على الدفوف. كما أخذ بعضهم يتلهون بتسلق سارية الشراع أو حمل الأثقال، بينما التجار يتلهون بمشاهدة هؤلاء وهؤلاء، أو الاستمتاع بمناظر السفن الأخرى وما يحف بالشاطئين من زروع وأشجار وفلاحين يعملون في الحرث والري وغيرهما من أعمال الحقول.

أما السيد عبد الرحمن فكان في شغل عن ذلك كله بالتفكير في أمر ولده وزوجته، فتارة تحدثه نفسه بأنهما أُصيبا بعد سفره بسوء على أيدي المماليك، وتارة يُخيل إليه أنهما ذهبا إلى عكا بعد مغادرته إياها. وأخيرًا نهض ومضى إلى حافة السفينة فتوضأ ثم عاد إلى ركنه المختار فصلى ودعا الله أن يقيه وأسرته الضر ويجمع شملهم في أمان واطمئنان. ثم عكف على إعداد الزي الجديد الذي رأى أن يتنكر فيه بدلًا من زيه المغربي، فرفع جبته بالقطع الملونة الصغيرة، وثبت فيها الأجراس الصغيرة والجلاجل، ثم ارتداها واستعاض عن العمامة بطرطور طويل بعد أن نفش شعر رأسه وأرسله على وجهه فاختلط بلحيته، وعلَّق الطبل الصغير على صدره. ثم نهض فغادر مكانه والعصا الملونة في يده، وأخذ يتجول في أنحاء السفينة وهو يقرع الطبل، والأجراس والجلاجل تصلصل متأثرة بحركته، فلم يبقَ على ظهر السفينة مَن لم يلفته منظره العجيب، وراحوا جميعًا يتسابقون إلى التبرك به والإصغاء إلى الكلمات المبهمة التي يتمتم بها؛ إذ اعتقدوا أنه من المجاذيب المكشوف عنهم الحجاب!

وما أتم السيد عبد الرحمن جولته الأولى حتى كان قد اطمأن إلى إتقان تنكره، ثم استمر يقوم بمثل هذه الجولة على السفينة مرات في اليوم والتجار والبحارة يزدادون تيمنًا به ويتنافسون في العمل على مرضاته، حتى رست السفينة في ميناء بولاق، فغادرها وهو على تلك الهيئة، وانطلق يتجول في الأسواق والأزقة متظاهرًا بالانجذاب، فلم تمضِ ساعة حتى كان يسير وخلفه جمهور كبير من الصبيان والمتعطلين والمارة على اختلافهم، وهم بين ساخر منه، ومتبرك به، وما زال سائرًا حتى بلغ الحارة التي بها منزله، فجلس ببابها متظاهرًا بالرغبة في الاستراحة، وهو إنما يريد صرف الجمهور السائر خلفه؛ ليتفرغ بعد ذلك لتفقد أهل منزله والوقوف على حقيقة حالهم.

ومر به أحد الفقهاء، فرثى لحاله وأمر الناس فانصرفوا عنه، ثم مد يده إليه ببعض الدراهم فلم يقبلها، وقال له متظاهرًا بالبله والانجذاب: «لا حاجة بي إلى دراهم، ولا آخذها حتى لا تغضب أمي وتضربني!»

فابتسم الفقيه واعتقد أنه من أهل الصلاح والتقوى، فطلب إليه أن يرافقه إلى بيته، فهز رأسه إشارة الرفض.

وعرض عليه الفقيه أن يأتيه ببعض الطعام، فرفض أيضًا، لكنه أشار إليه بوضع يده على فمه أنه يريد ماء، فانطلق الفقيه إلى أبواب الحارة، وجاءه من عنده بقلة ملأى بالماء، فاكتفى برشفات منها وأعادها إليه، ثم تظاهر بأنه يريد النوم، ولكنه خشي على طبله أن يخطفه الصبيان، فطلب الفقيه من البواب أن يخلي له مكانًا بجانبه وراء الباب لينام فيه آمنًا، وبادر البواب بإجابة الطلب وهو فرح فخور.

ومضت ساعات والسيد عبد الرحمن متظاهرًا بالنوم خلف باب الحارة، وكلما سمع وقع أقدام خارجة أو داخلة اختلس النظر نحو الباب لعل القادم ابنه أو أحد خدم المنزل، فلما لم يمر به أحد منهم عاوده قلقه، ولم يُطِق صبرًا بعد ذلك، فهبَّ من مرقده فجأة، وأخذ يقفز ويتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم همَّ بطبله فعلَّقه على صدره فوق مرقعته، وأحكم وضع طرطوره الطويل على رأسه، وتناول عصاه الملونة، ومشى في الحارة وهو يقرع الطبل فيختلط دويه بصليل الأجراس والجلاجل التي في مرقعته، وما زال سائرًا بهذه الحالة حتى وصل إلى منزله وقد أوشكت الشمس أن تغرب، فوجد الباب مغلقًا، وسمع أصواتًا منبعثة من الداخل لا عهد له بها، فاشتدت به الوساوس والهواجس، وهمَّ بطرق الباب، لكنه آثر الانتظار بعض الوقت، فجلس بقربه مستمرًّا في قرع طبله والصلصلة بأجراسه، وأهل الحارة يمرون به ضاحكين منه متيمنين بوجوده فيها، وهم يحسبونه من المجاذيب أهل الكشف.

وبعد قليل فُتح الباب وخرج منه شيخ وقور عرف السيد عبد الرحمن أنه زميل قديم له من التجار في وكالة الليمون، وهمَّ بأن يناديه، فإذا بالتاجر يقصده من تلقاء نفسه ويحاول إعطاءه بعض الدراهم، فرفض أخذها متظاهرًا بالغضب، وأفهمه بالإشارة أنه في حاجة إلى الطعام والنوم، فأخذ التاجر بيده وعاد به إلى المنزل حيث أدخله حجرة الجلوس في الطابق الأرضي، وأمر الخادم بأن يأتيه بالطعام ويهيئ له منامة، ثم استأذن في الخروج سائلًا إياه أن يذكره بدعواته الطيبات، وانصرف بعد أن أوصى الخادم بالسهر على خدمة الشيخ المبارك وتلبية كل ما يطلبه.

•••

ما كاد السيد عبد الرحمن يدخل منزله مع زميله التاجر الذي وجده ساكنًا فيه حتى أدرك أن نظام المنزل قد تغير إلى حد كبير، ولم يجد في طريقه إلى حجرة الجلوس أي أثر لأحد من أهله أو خدمه، فتسارعت دقات قلبه، وكاد يجهش بالبكاء، لكنه تجلَّد حتى لا يفتضح أمره، وصبر إلى أن انصرف زميله التاجر، ثم جاءه الخادم بالطعام، فتظاهر بالغضب، وأمر بإعادته، ثم همَّ بحمل طبله وعصاه وطرطوره، ورفع صوته قائلًا وهو يتظاهر بأنه يحدِّث نفسه: «لا. لا. هذا مستحيل.»

فوجم الخادم، وخشي أن يترك المجذوب يغادر المنزل فيغضب سيده، فاقترب من السيد عبد الرحمن وهمَّ بتقبيل يده قائلًا: «ما الذي أغضبك؟ اطلب ما شئت فإني في خدمتك.»

فقال له: «أنا لا آكل طعامًا، ولا أنام في منزل خلا من أصحابه.»

ففهم الخادم أن الشيخ المجذوب عرف بالإلهام قصة الظلم الذي أوقعه المماليك بأصحاب المنزل الأولين، فمال على يده وقبَّلها في خشوع وإجلال وقال: «رحمهم الله يا سيدي، ورحمنا جميعًا من الظلم والاضطهاد.» ثم تضرع إليه ألا يغادر المنزل، وأن يطلب الطعام الذي يريده فيحضره له في الحال؛ حتى لا يغضب سيده ويطرده.

فتكلَّف السيد عبد الرحمن الضحك ساخرًا، وقال للخادم: «كيف يطردك؟ أهو الذي طرد مَن كانوا في المنزل من قبل؟»

فقال الخادم: «كلا يا سيدي، إن علي بك هو الذي طردهم، وجرَّدهم من أملاكهم؛ لأن عميدهم خالف أمره وهرب من الحملة التي أرسله فيها إلى الحجاز.»

قال: «ألم تعلم أين ذهبوا بعد ذلك؟»

فتنهد الخادم أسفًا وحزنًا وقال: «لم يكن للرجل إلا ولد واحد، أخذوه وأغرقوه في النيل!»

فأجفل السيد عبد الرحمن وخارت قواه فجأة، فجلس متهالكًا وقد سقط الطرطور عن رأسه، وانفجر باكيًا، والخادم يعجب من أمره ولا يعلم أنه إنما يبكي ولده الوحيد، ثم اعتدل في جلسته متجلِّدًا وسأل الخادم: «وماذا صنعت المسكينة أم ذلك الغلام؟»

فقال الخادم: «أمر علي بك بأخذها إلى قصره لتعمل فيه مع الجواري الخادمات، وأحسب أنها ما زالت هناك حتى الآن.»

فشعر السيد عبد الرحمن بأن الأرض تدور به، ولم يعد يقوى على الكلام، فتظاهر بأنه رضي المبيت في المنزل وطلب من الخادم ترك الطعام في الحجرة ليأكله متى شاء، فقبَّل الخادم يده وخرج.

وما خلا السيد عبد الرحمن إلى نفسه في الحجرة حتى أطلق لعينيه عنان البكاء، وأخذ يندب ولده وزوجته، وبقي كذلك وقد أغلق باب الحجرة من الداخل حتى سمع أذان الفجر، ففتح باب الحجرة وأيقظ الخادم النائم أمامه، وأخبره بأنه يريد الخروج للصلاة في المسجد، فأوصله حتى الباب الخارجي وفتحه له، ثم قبَّل يديه وودعه راجيًا أن يتفضل بتشريف المنزل بزيارته من حين لآخر؛ لتحل بركته على مَن فيه، فوعده بذلك وانصرف لا يلوي على شيء.

وما زال سائرًا ووجهته قصر علي بك، فبلغه وقد أشرقت الشمس وانعكست أشعتها على بِركة الأزبكية، فبدا منظرها بديعًا يجذب القلوب والأبصار، لكنه كان في شغل عن ذلك بما هو فيه من المصائب والنكبات. وما وقعت عليه أعين حرس القصر وخدمه حتى دعوه إليهم ملتمسين بركته ودعواته، وحاول بعضهم نفحه ببعض المال فرفض أخذه طبقًا للخطة التي اتخذها لنفسه، فجاءوه بالطعام راجين منه أن يأكل منه إكرامًا لخاطرهم، فتناول قليلًا منه، ثم أخذ يتردد إليهم أيامًا فيجد منهم الإكرام والاحترام، وهو يتلطف ويحتال لاستطلاع ما تم في أمر زوجته، حتى علم أخيرًا بأن علي بك أمر بأن تُلحَق بولدها غرقًا في النيل، وأن الجنود ساقوها من القصر إلى مصر العتيقة؛ حيث نفذوا ذلك الأمر، وكان هذا في مساء اليوم الذي أُغرق فيه ولدها هناك!

•••

ضاقت الدنيا كلها في وجه السيد عبد الرحمن، بعد أن فشلت آماله وتحقق مصرع ولده وزوجته، ففكر في الانتحار تخلصًا من حياته الشقية المعذبة، لكن نفسه التقية لم تطاوعه على ارتكاب هذه المعصية، فسلَّم أمره لله، واعتزم أن يقضي ما بقي من عمره هائمًا على وجهه، وهو بملابس المجاذيب، يسد رمقه بما يجود به عليه الناس من الطعام كلما جاع، وينام في المكان الذي يتفق وجوده فيه حين يشعر بحاجة إلى النوم.

وبقي كذلك في القاهرة أسابيع، حتى أصبحت شخصيته الجديدة معروفة في جميع أحيائها، وأهلها كلهم يتيمنون بطلعته ويلتمسون بركته ودعواته، والسعيد منهم مَن يُتاح له أن يقدِّم له طعامًا فيتناول قليلًا منه، أو يحظى بنومه بالقرب من منزله؛ إذ إنهم علموا بالتجربة أنه لا يقبل مالًا من أحد، ولا ينام إلا في الطريق!

وكثيرًا ما كانت قدماه تقودانه إلى شاطئ النيل في مصر العتيقة، فيجلس هناك بالقرب من مينائها الذي ترسو فيه المراكب التجارية كما هو الشأن في ميناء بولاق، فإذا رآه التجار المجتمعون هناك تفاءلوا بوجوده خيرًا، وتسابقوا إلى خدمته التماسًا لبركته، وفيهم كثيرون من زملائه في وكالة الليمون لكنهم كانوا لا يعرفونه؛ لتغير هيئته ولعلمهم بأن زميلهم قد غادر البلاد المصرية كلها فرارًا من ظلم المماليك. أما هو فكان يعرفهم وتذكره رؤيتهم ما كان فيه من نعمة سابقة ومكانة تجارية مرموقة، فتتجدد أحزانه وتهيج أشجانه، ولا يعزيه إلا أن يسرح بصره في النيل الممتد أمامه متخيلًا أن زوجته وولده لا يلبثان أن يخرجا إليه من أعماق النهر؛ حيث ألقى بهما الجنود، ويقضي الساعات الطوال مناجيًا طيفيهما وهو يضحك تارة ويبكي تارة أخرى، ولا يزال كذلك حتى ينال منه التعب فيتمدد على الشاطئ متوسدًا طبله محتضنًا عصاه ويسلِّم عينيه للنوم؛ حيث يستأنف تلك المناجاة فيما يراوده من الأحلام!

وفيما هو هناك ذات يوم وقد أخذته سِنة من النوم، إذا به يستيقظ على صوت رجل يناديه قائلًا: «يا سيدي الشيخ. يا سيدي الشيخ.» فلما تطلع إلى الرجل الذي يناديه وجده مرتديًا جلبابًا مهلهلًا، وعلى رأسه عمامة ملفوفة حول «لبده»، وعلى وجهه آثار الجهد والإعياء، فأدرك أنه من أهل الصعيد الذين يعملون في شحن البضائع ونقلها، وسأله عما يريد، فقال الرجل: «سألتك بالله يا سيدي أن تقرأ الفاتحة وتدعو الله أن يجمعني بمَن فُرِّق بيني وبينهم.»

فتأثر السيد عبد الرحمن بما بدا من اللهفة والأسى في لهجة الرجل، وتذكَّر أنه يشكو مثل شكاته، فجلس وأخذ في قراءة الفاتحة والدموع تنهمل من عينيه، فتشاءم الرجل وانتظر حتى فرغ من القراءة ثم سأله: «هل على الغائبين من بأس يا سيدي الشيخ؟»

وخُيل إلى السيد عبد الرحمن أن صوت الرجل ليس جديدًا عليه، فمسح دموعه بطرف مرقعته وتفرَّس في وجهه؛ فإذا هو علي خادمه الخاص، فعجب من ارتدائه ملابس أهل الصعيد، ومن تغير هيئته إلى حد كبير، وهمَّ بأن يناديه باسمه، لكنه لم يتمالك عواطفه فانفجر باكيًا.

وفهِم علي أن بكاء الشيخ المجذوب دليل على أنه أُلهم ألا أمل في عودة الغائبين الذين خاطبه في شأنهم، فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، وقال له: «لماذا تبكي يا سيدي الشيخ؟ إذا كنت قد تحققت ألا أمل في اجتماعي بمَن فقدتهم فأخبرني.»

فأجابه وهو ما زال يبكي قائلًا: «إن الموتى لا يعودون يا علي.» ثم نهض وهمَّ به يعانقه وقد ازداد نشيجه وعلا نحيبه، ولما وجده ذاهلًا لم يعرفه بعدُ أمسك بيده وأجلسه بجانبه، وقال: «ألم تعرفني بعدُ يا علي؟ إن حسنًا ووالدته قد أُغرقا هنا في هذا النيل.»

وهنا تحقق علي أن الشيخ المجذوب ليس سوى سيده عبد الرحمن نفسه، فارتمى عليه وأخذ في تقبيل يديه وكتفيه باكيًا معولًا وهو يقول: «سيدي عبد الرحمن … سيدي عبد الرحمن.»

فطلب منه ألا يرفع صوته لئلا يفطن أحد إلى أمرهما، ثم نهضا وانطلقا إلى مكان منعزل بعد الميناء، وجلسا يتحادثان، فروى علي أنه سافر إلى الريف بأمر سيده حسن ووالدته؛ حيث باع الأرض التي كانت لسيده عبد الرحمن هناك، واستغرق ذلك أسابيع، وفيما هو في طريق عودته إلى القاهرة للسفر معهما إلى عكا طبقًا لما تعاهدوا عليه، علم بأن المماليك اعتقلوهما واستولوا على المنزل وكل ما فيه، فتنكر في زي أهل الصعيد وجاء إلى القاهرة ليرى ما تم في أمرهما، وفيما هو خارج من الميناء بعد مغادرته السفينة التي جاء فيها، سمع التجار والملاحين يتحدثون عن شيخ مجذوب صاحب كرامات مشهورة، وعلم منهم أن هذا الشيخ موجود بالقرب من الميناء على شاطئ النيل، فوافاه هناك ليتبرك به ويسأله في أمر سيده حسن ووالدته، لعله يكشف له عما انتهى إليه أمرهما.

فأخبره السيد عبد الرحمن بما كان من أخذهما إلى مجلس علي بك في القلعة، ثم إغراقهما بأمره في النيل بعد الإهانة والتعذيب، ثم قال له: «والآن لم يعد يحلو لي العيش بعد أن فقدت أهلي ومالي، هذا إلى أني لا آمن إذا بقيت في القاهرة أن ينكشف أمري، ولو كنت أعلم الغيب لبقيت في حملة الحجاز، أو بقيت في عكا ولم أرجع إلى هذه البلاد التي عاث فيها المماليك الفساد، ولم يتقوا الله في العباد.»

وأمضيا ساعات وهما يتبادلان الحديث ويبكيان، ثم قال علي: «أرى أن نبقى في القاهرة متنكرين كما نحن الآن، وما دام كل منا لم يعرف الآخر أول الأمر، فلن يستطيع أحد من المماليك وأعوانهم كشف حقيقة أمرنا، وهذا هو المال الذي بعت به أرضك التي كانت في الريف، فتصرف فيه كما شئت.» قال هذا وأخرج من ثيابه صرة فيها ذلك المال ومد بها يده إلى سيده، فرفض هذا أخذها وقال: «ما حاجتي إلى المال يا علي؟ إنني لولا خوف الله لألقيت بنفسي في قاع النيل لألحق بحسن ووالدته.»

فقال علي: «معاذ الله يا سيدي أن يرتكب مثلك جريمة الانتحار، وإن قلبي ليحدثني بأن الله — جل شأنه — أكرم وأرحم من أن يجزيك بغير الخير على تقواك وبرك بعياله الفقراء وصبرك على عنت أولئك الحكام الظالمين. ومَن يدري فلعل سيدي حسنًا ووالدته ما زالا على قيد الحياة، فإننا لم نتحقق قتلهما بعد، فلنصبر ونواصل البحث، وإني خادمك المطيع لا يمكن أن أتركك لحظة حيثما تتوجه، سواء أبقيت هنا في القاهرة، أم آثرت الرحيل عنها إلى أي بلد آخر.»

فهمَّ به السيد عبد الرحمن وقبَّله شاكرًا له حسن وفائه وإخلاصه، ثم نهضا وانطلقا إلى المدينة فبلغاها وقد آذنت الشمس بالمغيب، وما زالا سائرين حتى بلغا الجامع الأزهر، فجلسا بالقرب من أحد أبوابه، وتبلَّغا بما تيسر من الطعام، ثم تدثَّر السيد عبد الرحمن بمرقعته وتوسَّد طبله، وتمدَّد علي بالقرب منه على الأرض، وما لبثا قليلًا حتى راحا في النوم، ولم يستيقظا إلا على أذان الفجر تنطلق به أصوات المؤذنين من الجامع الأزهر والمساجد القريبة منه ملعلعة في الفضاء.

•••

مضى السيد عبد الرحمن وعلي خادمه يتجولان في الشوارع المحيطة بالأزهر، وكانت الشمس قد أشرقت منذ ساعة، لكنهما وجدا الشوارع مقفرة من المارة، وجميع المتاجر والمنازل فيها مغلقة الأبواب، فقال السيد عبد الرحمن: «لا يمكن أن تقفر الشوارع من المارة وتُغلق أبواب المتاجر والمنازل حتى هذه الساعة إلا لأمر خطير، وأكبر ظني أن الجنود خارجون من القلعة اليوم لسبب من الأسباب.»

وما أتم جملته حتى رأيا بعض الأهلين قادمين نحوهما مهرولين مذعورين، فلما وقعت أنظارهم على السيد عبد الرحمن وهو في زي الشيخ المجذوب صاحوا به قائلين: «ادعُ الله ينقذنا من هذا الكرب.» ثم مضوا في طريقهم لا يلوون على شيء، ووجهتهم الجامع الأزهر.

فتحقق أنهم ذاهبون إلى الجامع الأزهر للاحتماء فيه من جنود المماليك، ولم يجد مَن يسأله عن سبب خروج الجنود من القلعة، فقال لعلي: «يحسن أن نعود إلى الأزهر نحن أيضًا، لنعلم ممن سبقونا إليه فيم خروج الجنود اليوم.»

فوافقه علي، وما كادا يدخلان الجامع حتى وجداه قد امتلأ بمئات من الناس أكثرهم من أصحاب الحرف والباعة والمكاريين ومعهم حميرهم، وعلما أن الجنود خارجون في حملة جديدة لفتح الشام.

وبعد قليل، أقبل جماعة من الجنود الإنكشاريين، فدخلوا الجامع الأزهر وأخذوا في ضرب اللاجئين إليه وسلبهم ما معهم من الأموال والأمتعة والسلع، ولم يتركوا دابة من دواب المكاريين إلا أخذوها، مدعين أنهم يحتاجون إليها في جهادهم. ولبثوا هناك ساعة يعتدون على أولئك المساكين الآمنين ثم انصرفوا، فأغلق اللاجئون أبواب الأزهر؛ مخافة أن يعودوا أو يجيء غيرهم من الجنود فينالهم على أيديهم اعتداء فظيع آخر. ولبثوا هناك خائفين مترقبين حتى غربت الشمس، وعلموا بأن الجنود غادروا القاهرة في حملتهم الجديدة، ففتحوا أبواب الجامع وخرجوا للاطمئنان على متاجرهم ومنازلهم وأهلهم، وبقي منهم في الجامع كثيرون أغلبهم من العلماء والطلاب ومشايخ الطرق. فقال السيد عبد الرحمن لخادمه: «لا داعي لخروجنا فلنبقَ ليلتنا هنا، وعند الصباح يفعل الله ما يشاء.»

فقال علي: «لقد نطقت الصواب يا سيدي.» ثم انتحيا ناحية في صحن الجامع، وجلسا يتحدثان حتى صُليت العشاء، وجاء جماعة من الفقهاء والطلبة فالتفوا حول السيد عبد الرحمن وراحوا يشكون إليه ظلم المماليك للناس، ويسألونه أن يدعو الله أن يكشف الضر عن عباده ويأخذ الظالمين بذنوبهم، فكان يجيبهم بما يُدخِل الاطمئنان إلى قلوبهم، ويذكِّرهم بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، ولكنه يؤخرهم ليوم يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر.

وفي الصباح همَّ السيد عبد الرحمن وخادمه بالخروج من الأزهر؛ فإذا بالسيد المحروقي يدخله في جماعة كبيرة من العلماء والأشراف، فتذكَّر السيد عبد الرحمن ما كان من أمر توسط صديقه الشريف الكبير لدى علي بك للإفراج عن ولده حسن، فلم يتمالك عواطفه وهطلت الدموع من عينيه فعاد إلى الجلوس في الأزهر، معتزمًا أن يقابل ذلك الصديق على حدة، وأن يكشف له عن حقيقة أمره، ويستشيره فيما ينبغي أن يصنع بعد أن استولى علي بك وجنوده على أمواله وأملاكه وقتلوا ولده وزوجته.

ولم يمضِ إلا قليل، ثم إذا بالسيد المحروقي يرسل في طلبه من تلقاء نفسه، وذلك أن بعض الفقهاء الذين جاءوا معه حدَّثوه حين رأوا الشيخ المجذوب في الجامع بما عرفوا من كراماته وأحواله، فرغب في استطلاع أمره بنفسه.

فنهض السيد عبد الرحمن، ومضى إلى حيث كان السيد المحروقي جالسًا بين أولئك العلماء والأشراف يتشاورون فيما ينبغي اتخاذه لوقف المماليك عن ظلمهم. ولما وصل إلى هناك وقف قريبًا من مجلسهم بحيث يرونه، فدعوه إلى المجيء إليهم، ولكنه هز رأسه إشارة الرفض، ثم أشار بيده إلى السيد المحروقي ليخاطبه على حدة، فنهض هذا من المجلس، وانتحى به ناحية، وأصغى لما سيقوله فإذا به يقول: «إني لست بشيخ مجذوب، ولا شيء لي بالانجذاب، وإنما أنا صديقك القديم عبد الرحمن التاجر السابق في وكالة الليمون، وقد تنكرت في هذا الزي خوف الظلم والعدوان.»

ثم روى له حكايته باختصار والدموع تنهمل من عينيه، فبكى السيد المحروقي تأثرًا، ثم قال: «لا تيأس يا صديقي، فقد علمت أن ولدك لم يُقتل، وأن الله قيَّض له الست نفيسة زوجة علي بك فأنقذته من المصير الرهيب الذي حكم به عليه زوجها، وعاونته على الفرار إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة، أما والدته فعلمت أن علي بك أمر بإغراقها في النيل، ولكنني علمت أيضًا أن الست نفيسة زوجته كانت قد أرسلت في طلبها قبل ذلك وأحسنت استقبالها ومواساتها، ولعلها أن تكون قد عملت على إنقاذها أيضًا.»

فتجدد الأمل في صدر عبد الرحمن، وشكر صديقه السيد المحروقي على هذه المعلومات، ثم حياه وانصرف عائدًا إلى خادمه علي فزف إليه تلك البشرى، وقررا السفر إلى سوريا في أقرب وقت للبحث عن حسن هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤