الفصل العاشر

محمود خاطر بك

كان الأستاذ محمود خاطر بك، مدير مطبعة مصر، قد اقترح على جمعية المواساة الإسلامية أن تجيز تسمية كل غرفة من غرف الدرجة الثالثة في مستشفاها باسم من يتبرع لها بمبلغ ثلاثمئة جنيه عن الغرفة الواحدة، على أن تتعهد الجمعية بإبقاء أسماء المتبرعين ثابتة على تلك الغرف ما دامت الجمعية ودام مستشفاها.

قال: فإذا راق الجمعية هذا المقترح وعملت به، أرجو أن تعدَّني متبرعًا بمبلغ ستمئة جنيه مصري لغرفتين إحداهما باسمي في قسم الرجال والأخرى باسم زوجتي في قسم السيدات.

فتقبلت الجمعية الاقتراح.

وافتتح خاطر بك وزوجته «المشروع».

ثم تلاه آخرون.

وفي المستشفى الآن ١٨ سريرًا تبرع الخيِّرون بنفقاتها.

وحركة «الأسرة» هي المبرة الثانية التي يقوم بها الأستاذ خاطر بك. أما المبرة الأولى فعمارة أنشأها في عين شمس ووَقَفَها على أن تكون مدرسة مجانية.

•••

ليس خاطر بك نكرة، ولكنه رجل يعمل في هدوٍّ وروية، قليل الأصحاب، بعيد عن الظهور، لا تكاد تراه في المجالس أو في القهاوي.

سمعت اسمه لأربعين سنة تامة.

كان ذلك في سنة ١٨٩٤، وقد بدأت قطارات الترام تدرج في العاصمة، فنشر الطالب محمود خاطر كتيبًا عنوانه «صيحة الترامواي، أو صوت الويل للحمير والخيل»، قال فيه عن لسان الترام يخاطب جماعة الحمير والخيل:

رأينا من سائقيكم قلوبًا غلاظًا لا توقفها رهبة، ولا تصدها عن خشونة طبعها رغبة، ولقد رأينا بأعيننا ما أدركه آباؤنا وحدَّث به تاريخنا، أن أعناقكم وظهوركم كانت ولا تزال مبتلاة بالقروح القتالة، مسلسلة بأغلال الذل والهوان، يمتطيكم رجل أو اثنان أو ثلاثة كأنهم الجبال الرواسي، يجهدونكم فوق الاستطاعة جريًّا وسباقًا … إلخ.

وكان لأستاذنا «شيخ العروبة» فضل التعارف بيني وبين الأستاذ خاطر بك سنة ١٨٩٨، وأهدى إلى شيخنا يومذاك نسخة من كتابه «تاريخ المشرق» الذي ترجمه عن ماسبيرو.

وأقرأني في غلافه البيت الآتي لمحمود خاطر:

تاريخ أسلافنا في الشرق مشرقة
يا حبذا لو عملنا مثلما عملوا

قضى الأستاذ خاطر بك حياته العملية في خدمة الحكومة ووظائفها، مبتدئًا بالأموال غير المقررة، تحت يد سعادة قليني فهمي باشا، ثم مجلس إسكندرية البلدي فوزارة المالية للمرة الثانية، فوزارة المعارف فوزارة الزراعة. وكان مديرًا للتعاون فوضع الأنظمة الإدارية لجمعيات التعاون الحاضرة. ثم نُقل إلى القسم التجاري. وأحيل إلى المعاش فاختاره بنك مصر مديرًا لمطبعة مصر.

شُغف الأستاذ خاطر بك منذ حداثته بالطباعة والكتابة والأدب، فانتُدب مساعدًا لسكرتير لجنة إصلاح وتحسين الحروف العربية في مطبعة بولاق، التي أُلِّفت سنة ١٩٠٤ برياسة المرحوم إبراهيم نجيب باشا وكيل وزارة الداخلية يومئذٍ، وعضوية شيلو بك مدير المطبعة الأميرية، والشيخ حمزة فتح الله، وأمين سامي بك (باشا) ناظر مدرسة المبتديان الناصرية ومدرسة المعلمين، وأحمد زكي بك شيخ العروبة السكرتير الثاني لمجلس النظار. وظل خاطر بك يعمل في هذه اللجنة إلى أن أتمت مهمتها، واستنبطت حروف الطباعة الحاضرة بمطبعة بولاق. وازداد خاطر بك شغفًا بالحروف والطباعة.

وعُني بقاموس «مختار الصحاح»، فهذبه بوضع مواده على أوائل الحروف مع إفراد مشتقاته التي يصعب على الطالب ردها إلى أصلها مثل «اتأد» ومثل «ايم الله»، وأشار إلى أصلها الذي تطلب فيه وهو «وأد» و«أيمن».

وكتاب «مختار الصِّحَاح» هو الكتاب العربي الوحيد الذي ضرب الرقم القياسي في عدد ما طُبع منه، فقد ظهرت منه الطبعة الحادية والعشرون، ومتوسط ما يطبع منه كل مرة حوالي عشرة آلاف نسخة. وكان ينافسه كتاب «الدروس النحوية» لحفني ناصف وطموم وعبد المتعال، ولكن هذا الكتاب كاد يموت، أما مختار الصحاح فلا يزال متداولًا وطبعاته متوالية.

وكان نجاح خاطر بك في «مختار الصحاح» مشجعًا له على وضع «مختار القاموس» الذي استخلصه من قاموس الفيروزبادي، وقرأ ما حرره منه على شيخ اللغويين المرحوم محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي. واطلع المرحوم إسماعيل صبري باشا على شيء من هذا المختار، فقال فيه:

أخي هذا هو القاموس مختصر
ضمت جوانبه في طيها عجبا
يجاور اللفظ فيه اللفظ ينفحه
معنى يكون له أن ينتسب نسبا

ولا يزال الأستاذ خاطر بك مجدًّا في ترتيب هذا المختار وطبعه.

وانتهز فرصة وجوده في وزارة الزراعة وتدريسه الحساب الزراعي في مدرسة الزراعة العليا، فوضع عدة كتب ورسائل، أذكر منها: مسك الدفاتر للزارع والتاجر، كراسات التمرين على مسك الدفاتر، البورصة وبيع القطن، نهضة التعاون الزراعي بمصر، التعاون طبيعة في الخليقة، التعاون الزراعي وحساباته … إلخ إلخ.

وللأستاذ خاطر بك شعر رائق دقيق.

زار صاحب الجلالة الملك فؤاد مدرسة الزراعة العالية، وكان الأستاذ خاطر مدرسًا فيها للحساب، فاستقبل جلالته بقوله:

علم الحساب أطال فيك جهادي
ما بين عدٍّ ومكارم وأيادِ
لم يُحصِ فضلًا حاسبٌ إلا رأى
من بعد فضل الله فضلَ فؤاد

وأنت تزور مطبعة مصر فترى كيف يكون المدير الفني الحازم، الواقف على الصغيرة والكبيرة من شئون عمله العظيم.

وهكذا يكون الرجال العاملون لخدمة بلادهم وإلا فلا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤