الفصل الثاني عشر

إسماعيل شيرين

مات إسماعيل شيرين، فانهار صرح من صروح المجد والكرامة والأدب والنبل والإحسان.

كان إسماعيل كريم المحتد، أبوه حسين رمزي باشا قومندان الركايب الخديوية.

وجده لأمه شيرين باشا ناظر البحرية في عهد الخديو إسماعيل.

قبل أن تنشأ الأندية الأدبية ورابطات الأدب كان سلاملك دار المرحوم إسماعيل شيرين بك وإخوته في أول حارة الزير المعلق؛ مجمع أدباء العصر من كتاب وشعراء وصحافيين، يأكلون ويشربون ويتحادثون في شئون الأدب القديم والحديث.

لم يكن إسماعيل شيرين يكتفي بضيافة هؤلاء الأدباء، بل كان يملأ أيديهم وجيوبهم ذهبًا عشرات ومئات، وينفق بسخاء على ما يريدون طبعه من مؤلفاتهم ومترجماتهم.

كان إسماعيل شيرين يقدر الأدباء ويُعنى بأمرهم ويصادقهم لأنه كان أديبًا، ولكن قلَّ من كان يدرك مكانته الأدبية.

ثم كانت رسائله «الإخوانيات» التي نشرها بعضهم في مجلة سركيس خير برهان على علو كعبه في الأدب.

أما أدبه الخلقي فقد تجلى وأشرقت شمسه عندما كان سكرتيرًا خاصًّا للمرحوم محمد سعيد باشا وزير الداخلية ورئيس الوزراء لاثنتين وعشرين سنة.

كان مثالًا كاملًا للجنتلة والظُّرف والقدرة على تصريف الأمور واستقبال الزائرين وتحيتهم.

يحدث هذا بما يرضيه، ويصرف ذلك بما لا يغضبه.

دخل عليه المرحوم السيد علي يوسف صاحب المؤيد، وطلب منه الاستئذان له بمقابلة سعيد باشا. فقال له: انتظر شوية لما يخرج المستشار الداخلي.

وشرب السيد علي يوسف فنجانًا ثم آخر من القهوة، وملَّ الانتظار فقال: يا شيرين بيه مش قادر تزحلق لنا المستشار ده.

أجاب شيرين بك على الفور: ده انتم ألف محرر بقى لكم تلاتين سنة قاعدين تهاتوا وتنادوا مش قادرين تخرجوا عسكري إنكليزي واحد، أقوم أنا أخرج المستشار، قوم يا عم قشش على ميتك تسخن، الوقت راح والبياعين عايزين يسرحوا بالجورنال.

وحدث في أيام الجنايات السياسية أن وجد جندي إنكليزي قتيلًا في شارع المبدولي على مقربة من دار شيرين بك، فوُجِّهت التهمة إليه، وقُبض عليه، وفُتِّش بيته. وكان ما بدا للضباط الإنكليز المحققين من أدب شيرين بك ودماثة أخلاقه أقوى الأسباب على إبعاد الجريمة عنه، فأُطلق سراحه مع الاعتذار له.

لم ينل إسماعيل شيرين حقه في وظائف الحكومة.

وكانت أخلاقه الطيبة هي الجانية عليه، فإنه لم يكن من طبائعه الملق أو التزلف أو التلون السياسي أو النفاق، وغيرها من صفات أصبحت في هذه الأيام من أقوى الوسائل للوصول إلى أكثر المناصب العالية في الدولة.

فأقران إسماعيل شيرين أصبحوا وزراء ووكلاء وزارات ومديرين ومحافظين.

أما إسماعيل شيرين فأُبعد عن خدمة الحكومة، ولزم بيته، ثم أُعيد إلى الخدمة وكيلًا لمحافظة مصر، ثم مديرًا لإدارة المطبوعات.

وكان وجوده في إدارة المطبوعات نعمة وبركة لكتاب الجرائد عامة والضعفاء منهم خاصة، يلاطفهم ويعطف عليهم ويبعد الشر عنهم جهرة وخفية.

وكان في سَرَّائه وضرائه موئل أهل الحاجة والمتعطلين من العمل، فيفك ضيقتهم بماله، ويسعى بنفسه لتفريج أزماتهم وفتح أبواب العمل لهم.

وينفق في وجوه البر مستترًا عن سعة غير طالب أجرًا ولا شُكورًا، وغير مبال بمال يذهب في سبيل الله.

قابلته في الصيف الماضي بإستامبول في فندق «يكي كوي بالاس» على شاطئ البوسفور، وكان يشكو المرض، ولكنه نزل إلى الصالون لاستقبال الأستاذ السيد أبو الوفا الشرقاوي وهارون سليم أبو سحلي باشا، وجاء بولده وهو لا يبلغ الثامنة فتلا من محفوظه ما تيسر من آي الذكر الحكيم.

وقال شيرين بك موجهًا كلامه إلى السيد: إن القرآن الشريف هو خير ما أعلمه لأولادي ذكورًا وإناثًا.

وسأل السيد أن يبارك الصبي، فقبله وباركه ودعا له بالخير.

ولم ينفع هواء إستامبول في رد الصحة والعافية إلى شيرين بك، فعاد إلى مصر عليلًا سقيمًا. ولكنه لم يكن يحس بتحسن صحته حتى يأتي سراعًا إلى إدارة المطبوعات لمزاولة عمله والإحسان إلى طالبي رِفده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤