الفصل الثاني والعشرون

المطران جرمانس فرحات

في منتصف الساعة الرابعة بعد ظهر يوم ٢٠ مايو سنة ١٩٣٤، احتُفل بإزاحة الستار عن تمثال المطران جرمانوس فرحات في ساحة الكاتدرائية المارونية بمدينة حلب، تحت رعاية صاحب الغبطة البطريرك الماروني ورياسة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية.

وافتتح الاحتفال واختتم بالنشيد الوطني السوري، وألقيت فيه الخطب والقصائد، ورُتِّل النشيد اللبناني والمارسلييز.

ولد المطران فرحات بمدينة حلب في ٢٦ نوفمبر سنة ١٦٨٠.

سليل بيت فرحات، وهو فرع من بيت مطر الذي يمُتُّ بصلة النسب إلى أسرة المشروقي الكبيرة من أهل لبنان الشمالي.

وتعد أكبر أسرة دينية، نشأ منها أربعة بطاركة و٢٠ مطرانًا و٢٠ أسقفًا ونحو ١٢٠ كاهنًا.

تلقَّى العربية والسريانية صغيرًا في كتَّاب للموارنة بمدينة حلب، ثم قرأ النحو على الشيخ سليمان المشهور بالنحوي، وعُني بدراسة آداب اللغة والمنطق والفلسفة واللاهوت.

ثم أقبل على التاريخ وجدَّ في حفظه حتى كاد — كما قال أحد مؤرخيه — يقال إن ذاكرته نسخة مشروحة لحوادث التوراة وأنساب العرب ووقائعهم وأيامهم وأمثالهم، وكتابًا جامعًا واضحًا لأخبار المماليك وأقاصيص الآباء القديسين وكل ما يتعلق بالكنيسة من حدوث بدع واجتماع مجامع.

ولما بلغ العشرين صغرت الدنيا في عينيه فأعرض عنها، واتفق مع ١٥ شابًّا من أخدانه وأصدقائه على الترهُّب، فقصدوا لبنان وعرضوا أمرهم على البطريرك أسطفان الدويهي الأهدني، فرحب بهم وأذن لهم بإنشاء الرهبنة الحلبية. وسكنوا دير اليشع النبي، ورتبوا فرائض رهبنتهم، ونذورها الثلاثة: الطاعة والعفة والفقر الاختياري.

وسافر إلى روما سنة ١٧١١، فكان موضع إكرام الحبر الأقدس.

ولما عاد إلى لبنان انتُدب لتهذيب كتاب «الدر المنتخب» ليوحنا فم الذهب المترجم عن اللغة اليونانية.

وفي سنة ١٧٢٥ سِيم مطرانًا للموارنة في حلب، فلم ينِ عن الوعظ والتهذيب والبحث والتأليف إلى أن توفي إلى رحمة مولاه في ١٠ يوليو سنة ١٧٢٢.

لم يكن جرمانوس فرحات رجل دين فحسب، بل كان دائرة معارف للعلوم المشهورة في زمانه، وقد امتاز على معاصريه بالشعر والمباحث اللغوية العربية.

أما الشعر فقد جُمع في ديوان باسمه، وعُني بتصحيح الطبعة الثانية له (سنة ١٨٩٤) الشيخ سعيد الخوري الشرتوني صاحب قاموس «أقرب الموارد»، ولم يكتفِ بالتصحيح، بل ذيَّله بتعاليق «تقف عند التفسير لغرائب كَلِمه، ولا تجاوز كشف الحجاب عن مبهمه.»

وقال في المقدمة:

وأما بعض ما في شعره — رحمه الله — من الانحطاط، فله في ذلك أسوة بكل شاعر من فحول الشعراء، إذ ما من شاعر إلا له الغث والثمين، والجيد والرديء. وما وجدنا ناثرًا ولا ناظمًا أحب إثبات كل ما شاءه من منثور ومنظوم، إلا رأيناه مختلف الكلام لا مستويه، واطلعنا على جيده ورديه. وما انفرد أحد بالجيد إلا من احتاط لمقامه واسمه، فأعاد النظر في نثره ونظمه، وأحكم تهذيبه وترصيفه.

وأشعار فرحات كلها في أغراض دينية وتَقَوِيَّة وروحية وأخلاقية.

أما جرمانوس اللغوي النحوي، فترى علمه متجليًا في مؤلفاته، وتبلغ المئة، أذكر منها:
  • الأجوبة الجلية في الأصول النحوية (طبع للمرة الأولى في مالطا سنة ١٨٣٢).

  • الإعراب في لغة الأعراب (وهو معجم لغوي عُني بنشره المرحوم الكونت رشيد الدحداح، وطُبع في مارسليا سنة ١٨٤٩).

  • بحث المطالب في علم العربية (صرف ونحو).

  • الفصل المفقود. وقد حذا به حذو ابن هشام الأنصاري في كتابه «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب».

  • المثلثات الدرية. على مثال مثلثات قُطْرب.

فاحتفال الشهباء بذكراه ليس احتفالًا دينيًّا لطائفة دينية، بل هو تكريم رجال الدين والعلم والأدب لرجل قضى حياته مجاهدًا في سبيل الدين والعلم والأدب واللغة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤