الفصل السابع والثلاثون

مصطفى فهمي باشا

لعشرين سنة خلت توفي المرحوم مصطفى فهمي باشا.

كان ذلك يوم ١٤ سبتمبر سنة ١٩١٤، ومدافع الحرب العظمى تدوِّي في فرنسا وبلجيكا وبروسيا الشرقية والبوسنة وسواحل الأدرياتيك.

توفي في الإسكندرية، ونقلت جثته إلى العاصمة، واحتُفل بالجنازة في المدينتين احتفالين عظيمين.

كان مصطفى فهمي باشا كريدي الأصل جزائري المولد.

أتى إلى مصر صغيرًا، وكفله خاله زكي باشا، وأدخله مدرسة القلعة فتخرج منها بعد ثلاث سنوات.

ثم دخل المدرسة الحربية.

ولما أتم دروسه فيها عُيِّن ياورًا للخديو إسماعيل.

وتقلب في وظائف الخاصة الخديوية حتى صار ناظرًا لها.

ثم كان محافظًا للقاهرة، فمديرًا للمنوفية، فمديرًا لإنشاء سكة حديد السودان، فمحافظًا للإسكندرية.

ودخل الوزارة ناظرًا للأشغال سنة ١٨٨٠، ثم ناظرًا للحربية والمالية، فرئيسًا للنظار في سنة ١٨٩٠.

وفي ١٥ يناير سنة ١٨٩٣ طلب منه سمو الخديو أن يستقيل فاستقال، وألَّف الخديو وزارة فخري باشا دون استشارة الإنكليز.

وكانت الأزمة السياسية التي انتهت بتأليف وزارة نوبار باشا في ١٥ أبريل سنة ١٨٩٣، وعُيِّن فيها مصطفى باشا ناظرًا للمالية.

ثم تولى رياسة الوزارة في ١١ نوفمبر سنة ١٨٩٥.

ومع أن الخديو السابق والعلماء كانوا مخالفين رأي قاسم أمين، فإن مصطفى فهمي باشا كتب إليه مؤيدًا مبادئه في تعليم المرأة وسفورها.

وفي عهده أوقف العمل بقانون المطبوعات، فأصبحت الصحافة حرة، وأصبح لكل امرئ الحق في إصدار جريدة أو مجلة دون رخصة، ولم يعد هذا القانون إلا في عهد بطرس غالي باشا.

ولما احتُفل بوداع اللورد كرومر يوم السبت ٤ مايو سنة ١٩٠٧ وألقى خطبته المشهورة، أشار فيها إلى مصطفى فهمي باشا بقوله:
وماذا أقول عن صديقي العزيز عليَّ السامي المقام في عيني، عطوفة مصطفى فهمي باشا (تصفيق طويل وطويل جدًّا)؟ فقد قضينا السنين الطوال كلانا على أعظم صداقة شخصية.
  • فأولًا: أقول إنه من أعظم الذين التقيت بهم في حياتي لطفًا وأكرمهم أخلاقًا وأحسنهم مناقب (هتاف شديد، وتصفيق حاد)، امتاز بتمام الإخلاص والاستقامة والحرية والصدق في كل عمل من أعمال حياته (تصفيق).
  • وثانيًا: أقول إنه خدم أهل بلاده أجلَّ الخدم، ولكن بطريقته المعهودة من السكينة والهدوء والابتعاد عن التعرض لغيره والدخول فيما لا يعنيه.

    وأنا أعلم أن هذه الأقوال القليلة لا توفِّي صفاته الجليلة بعض حقها (تصفيق)، ولكنه لا يزال لديَّ قول كثير والوقت يقضي عليَّ أن أقتصر فيما أقول.

وعلق الشيخ علي يوسف في «المؤيد» على هذه العبارة بقوله:

ذكر اللورد كرومر بعد رياض مصطفى فهمي باشا، صديق اللورد العزيز الذي كان ينتظر الناس أن يقول عنه ما قال وأضعافه ذلك الصديق العزيز الذي حلف له يوم عاد إلى رياسة النظار في سنة ١٨٩٥ أن يبقى فيها ما دام حيًّا وما بقي اللورد في مصر. وقد برَّ بيمينه كما برَّ في يمينه عن رياض.

ولكن الناس لا يحكمون لمصطفى باشا حكم اللورد له في كل ما قال عنه.

بل يقولون عنه إنه أنكر نفسه وعرف اللورد، فاستحق أن يكون سامي المقام في عينيه لا في عيني الأمة المصرية.

وقال السير ألدون غورست في تقريره عن مصر والسودان سنة ١٩٠٨:

وفي نوفمبر من السنة الماضية (١٩٠٧) استقال مصفى فهمي باشا من منصب رياسة مجلس النظار، بسبب اعتلال صحته منذ زمنٍ طويل.

وقد أفاد عطوفته في الثلاث عشرة سنة التي تولى الوزارة فيها بلاده وبريطانيا العظمى فائدة دائمة لا تزول، بحسن مساعيه الدائمة الصادرة عن نية خالصة في التوفيق بين العنصرين الإنكليزي والمصري وتعاونهما واتحادهما على خدمة الحكومة.

فإن معظم الفضل في التقدم الذي تم في عهد وزارته ينسب إلى زوال الخلاف والاحتكاك بين هذين العنصرين.

ولم يسعَ أحد قدر سعي عطوفته في توطيد أركان الاتفاق بينهما.

وقد رأت مصر في عهد وزارته من التقدم والنجاح المادي والأدبي، ما لم تره في سالف تاريخها كله.

فيحق لمصطفى فهمي باشا وزملائه بأن يهنئوا بالراحة التي نالوها بعد الجد والاجتهاد، شاعرين بأنهم أحسنوا صنعًا في بلادهم وأهل بلادهم.

ولما استقال مصطفى فهمي باشا، أنعم عليه جلالة ملك الإنكليز بنيشان الحمام من الدرجة الأولى، اعترافًا بخدماته الجليلة.

ولما نعي إلى سمو الخديو السابق، وكان حينذاك في إستامبول، أصدر أمرًا تلغرافيًّا بأن يكون تشييع الجنازة رسميًّا.

وأرسل إلى كل من المرحومين محمود صدقي باشا وسعد زغلول باشا صهري الفقيد تلغرافَي تعزية.

فقال في تلغرافه إلى المرحوم صدقي باشا:

فتفضل بإبلاغ تعزيتي إلى أسرته كلها، وبإبلاغهم اشتراكي معهم في الأسف على الخسارة التي لا تعوَّض في فقد رجل كنت أقدر إخلاصه الصادق وتعلقه المتين بي حق قدره.

وقال في تلغرافه إلى المرحوم سعد زغلول باشا:

سعادة زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية

لقد ساءني جدًّا وفاة رئيس وزارتي السابق مصطفى فهمي باشا.

ولا بد لي في هذه المناسبة أن أظهر لك انعطافي الودي، وأنك محتاج في مثل هذه الأوقات العصيبة أن تحفظ همتك كلها لتخدم بها أميرك وبلادك زمنًا آخر طويلًا.

لم يرزق مصطفى فهمي باشا ذكورًا، بل خلف ثلاث بنات هن قرينات المرحومين الدكتور محمود صدقي باشا (الذي كان مديرًا للصحة فمحافظًا للقاهرة)، وإسماعيل سرهنك باشا (الذي كان ناظرًا للمدرسة الحربية، ومؤلف تاريخ دول البحار)، والسيدة الجليلة صفية هانم أم المصريين حرم المرحوم سعد زغلول باشا.

وفيهن يقول المرحوم شوقي بك راثيًا والدهن:

أأبا البنات رُزْقتهن كرائمًا
ورُزقتَ في أصهارك الكرماءِ
لا تذهبنَّ على الذكور بحسرة
فالذِّكر نعم سلالة العظماء
ولكم تليدي المجد هدم مجدهم
ما خلَّفوا من طالح وغُثاء
إن البناتِ ذخائرٌ من رحمة
وكنوز وُدٍّ طاهر ووفاء
الباكياتك حين ينقطع الرجا
والزائراتك بالعراء النائي
الساهرات لعلة أو كَبْرة
الصابرات لشدةٍ وبلاء
بالأمس عزَّاهن فيك عقائل واليوم
جَامَلهنَّ فيك رثائي
عذرًا لهنَّ إذا ذهبنَ مع البكا
وطلبنَ عند الدمع بعض عزاء
ما كلُّ ذي ولد يسمَّى والدًا
كم من أبٍ كالصخرة الصماءِ

أطال الله حياة السيدة الجليلة أم المصريين خادمة للبلاد وأهلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤