مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى … أما بعد، فهذا كتابٌ أوردت فيه من الأمثال ما لا يسع الأديبَ جهلُه، وقد رتبته على حروف المعجم.

مقدمة في ذكر أمور ينبغي أن تُعرف أولًا

  • الأمر الأول: قال الميداني في مجمع الأمثال وهو من أعظم الكتب المؤلَّفة فيها: قال المبرد: المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبَّه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه.

    قال زهير:

    كانت مواعيدُ عرقوب لها مثلًا
    وما مواعيدُها إلَّا الأباطيل

    وقال ابن السكيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه معنى ذلك، شبهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره.

    وقال بعض العلماء: المثل جملة من القول تشتهر فتنقل عمَّا وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها، والمثل أحد قسمي الاستعارة التمثيلية؛ ولذا تَعَرَّضَ له علماء البيان، قال في المفتاح في مبحث التشبيه: إن التشبيه التمثيلي متى فشا استعمالُه على سبيل الاستعارة لا غير؛ سُمي مثلًا، ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير. وقال في مبحث الاستعارة: ومن الأمثلة استعارة وصف إحدى صورتين منتَزَعَتين من أمور لوصف الأخرى، مثل أن تجد إنسانًا استُفْتِيَ في مسألة فيَهُمُّ تارة بإطلاق اللسان ليجيب ولا يهم أخرى، فتأخذ صورة تردُّده هذا، فتشبهها بصورة تردد إنسان قام ليذهب في أمر، فتارة يريد الذهاب فيُقدِّم رجلًا وتارة لا يريد فيؤخر أخرى، ثم تدخل صورة المشبه في صورة المشبه به، وما للمبالغة في التشبيه فتكسوها وصف المشبه به من غير تغيير فيه بوجه من الوجوه، على سبيل الاستعارة قائلًا: أراك أيها المفتي تقدم رجلًا وتؤخر أخرى. وهذا نسميه التمثيل على سبيل الاستعارة. ولكون الأمثال كلها تمثيلات على سبيل الاستعارة لا يجد التغيير إليها سبيلًا. ا.ﻫ.

    هذا هو المثل في عُرف أهل البيان. وقد يُطلق المثل على ما هو أعم من ذلك، فيدخل فيه مثل: الرفق يمن، والمرء عدو لما جهل، والحر حر وإن مسه الضُّرُّ، إلى غير ذلك مما اشتمل على حكمة باهرة. ومثل فلان أجود من حاتم وأحلم من الأحنف وأزكى من إياس، إلى غير ذلك مما يشبهها.

    وقال في لسان العرب: المثل الشيء الذي يُضرب بشيء مثلًا فيجعل مثله. وفي الصحاح: ما يضرب به من الأمثال. قال الجوهريُّ: ومثل الشيء أيضًا صفته، قال ابن سِيدَه: وقوله عزَّ مِن قائل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، قال الليث: مثلها هو الخبر عنها. وقال أبو إسحاق: معناه صفة الجنة. وردَّ ذلك أبو علي قال: لأن المثل الصفة غير معروف في كلام العرب، إنما معناه التمثيل. قال عمر بن أبي خليفة: سمعت مقاتلًا صاحب التفسير يسأل أبا عمرو بن العلاء عن قول الله عزَّ وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ ما مثلها؟ فقال: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ. قال: ما مثلها؟ فسكت أبو عمرو. قال: فسألت يونس عنها، فقال: مثلها صفتها. قال محمد بن سلام: ومثل ذلك قوله: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ أي صفتهم. قال أبو منصور: ونحو ذلك روي عن ابن عباس. وأما جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله: ما مَثَلُهَا؟ فقال: أنهار من ماء غير آسن، ثم تكريره السؤال: ما مثلها؟ وسكوت أبي عمرو عنه؛ فإنَّ أبا عمرو أجابه جوابًا مقنعًا. ولما رأى نَبْوَةَ فهم مقاتل سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه؛ وذلك أن قوله: مَّثَلُ الْجَنَّةِ تفسير لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وصف تلك الجنات فقال: مثل الجنة التي وصفتها … وذلك مثل قوله: ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ، أي صفة محمد وأصحابه في التوراة، ثم أعلمهم أن صفتهم في الإنجيل كزرع، قال أبو منصور: وللنحويين في قوله: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ قول آخر قاله محمد بن يزيد الثمالي في كتاب المقتضب، قال: التقدير فيما يُتلى عليكم مثلُ الجنة، ثم فيها وفيها … قال: ومن قال إن معناه صفة الجنة فقد أخطأ؛ لأن مَثَل لا يوضع في موضع صفة إنما يقال: صفة زيد أنه ظريف وأنه عاقل، ويقال: مثل زيد مثل فلان. إنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعت. ويقال: تَمَثَّلَ فلان ضرَب مثلًا، وتمثل بالشيء ضربه مثلًا، وفي التنزيل العزيز يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، وذلك أنهم عبدوا من دون الله ما لا يسمع ولا يُبصِر وما لم ينزل به حجة، فأعلم الله الجواب مما جعلوه له مثلًا وندًّا، فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا، يقول: كيف تكون هذه الأصنام أندادًا وأمثالًا لله وهي لا تخلق أضعف شيء ممَّا خلق الله ولو اجتمعوا كلهم له، وإن يسلبهم الذباب الضعيف شيئًا لم يخلِّصوا المسلوب منه، ثم قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. وقد يكون المثل بمعنى العِبرة، ومنه قوله عز وجل: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ، فمعنى السلف: أنَّا جعلناهم متقدمين يتعظ بهم الغابرون. ومعنى قوله: ومثلًا؛ أي عِبرة يعتبر بها المتأخرون. ويكون المثل بمعنى الآية، قال الله — عز وجل — في صفة عيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وَجَعَلْنَاهُ مثلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أي آية تدل على نُبُوَّتِهِ. وأما قوله عز وجل: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مثلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، جاء في التفسير أنَّ كفار قريش خاصمت النبيَّ ، فلما قيل لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، قالوا: قد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى والملائكة الذين عُبِدُوا من دون الله، فهذا معنى ضرب المثل بعيسى. ا.ﻫ.

    والمراد بضرب المثل هو اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به، وهو من ضرب الدراهم، وقد وقع ذلك كثيرًا في كتاب الله تعالى وفي كلام النبيِّ ؛ لأنه يؤثِّر في القلوب أكثر مما يؤثر وصف الشيء في نفسه، وممَّا وقع منه في كلام النبيِّ ، ما أخرجه البخاريُّ في صحيحه عن أبي موسى عن النبي أنه قال: مَثَلُ الذي يقرأ القرآن كالأُترجَّةَ طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآنَ كالتمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآنَ كمثل الحنظلة طعمُها مر ولا ريح لها.

  • الأمر الثاني: الأمثال تجري على ما جاءت عليه ولا تُغيَّر. قال المرزوقي: من شرط المثل أن لا يُغَيَّرَ عمَّا يقع في الأصل عليه. ألا ترى أن قولهم: أعط القوس باريها، تسكن ياؤه وأن التحريك الأصل؛ لوقوع المثل في الأصل على ذلك؟ وكذلك قولهم: الصيفَ ضيعتِ اللبن؛ لما وقع في الأصل للمؤنث لم يغير من بعدُ وإن ضُرِبَ للمذكر.

    وقال التبريزي في تهذيبه: تقول الصيفَ ضيعتِ اللبَن مكسورة التاء إذا خوطب بها المذكر والمؤنث والاثنان والجمع؛ لأن أصل المثل خوطبت به امرأة، وكذا قولهم: أطرِّي فإنك ناعلة، يُضرب للمذكر والمؤنث والاثنين والجمع على لفظ التأنيث.

  • الأمر الثالث: الأمثال من أَجَلِّ الكلام لما اشتملت عليه من إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه؛ ولذا عني العلماء بها وشرحوها وبينوا ما تومئ إليه من المقاصد والأغراض، وحَثُّوا على معرفتها والوقوف عليها، وعَدُّوا من لم يُعْنَ بها وإن عني بغيرها ناقصًا في الأدب غير تام الأدوات فيه، ومما يُحْمَلُ على الرغبة فيها أن المشتغل بفن الأدب إذا حفظ جُلَّ المشهور منها وبحث فيه، حصلت له فوائد مهمة، منها الوقوف على كثير من غريب اللغة على وجهٍ لا يبرح من الذهن، ومنها تمرين لسانه على أساليب العرب في كلامهم، حتى إنه ربما تحصل له مَلَكَة في اللغة العربية وإن لم يُعْنَ بمعرفة قواعدها المقررة في الكتب، وهذه الطريقة من أهم الطرق في تحصيل اللغة العربية والناس في غفلة عنها، وقد انتبه إليها بعض أهل المغرب فأقدموا عليها فنجحوا في ذلك في أقرب مدَّة. ومن الغريب أنه يندر أن يوجد أسلوب من أساليب اللغة العربية وليس له مثال في الأمثال، ومنها الوقوف على كثير من الأمور المهمة المتعلقة بعلم الأخلاق وتدبير المنزل وفن السياسة؛ فإن في كثير من الأمثال ما له مدخل في ذلك، بل إنه يندر شيء لم تدخل فيه الأمثال، إلَّا أنَّ هذا لا يظهر إلَّا لمن أقبل عليها وسدَّد النظر إليها.

وهذا أوان الشروع في المقصود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤