خاتمة في فوائد شتى تتعلق بالأمثال

(١) الفائدة الأولى

قال بعض علماء البيان: لا ينبغي للأديب أن يُخِلَّ بمعرفة الأمثال؛ لأن الحاجة إليها شديدة، وذلك لأن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يُعرَف بها الشيء، وليس في كلامهم أوجز منها ولا أشد اختصارًا.

ومن أمثلة ذلك هذا المثل، وهو «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر»، وأصله أن اثنين تراهنا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر، فقال أحدهما: تطلع الشمس والقمر يُرى، وقال الآخر: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضيا برجل جعلاه حكمًا بينهما، وكان بحضرتهما قوم مالوا إلى أحدهما، فقال الآخر: إن قومي يبغون عليَّ، فقال الحكم: «إن يبغِ عليك قومك لا يبغ عليك القمر»، فذهبت مثلًا.

ولا يخفى أن قول القائل: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر.» إذا أخذ على ظاهره من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها، لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل، وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عُرِفَتْ وصارت مشهورة بين الناس، وحيث كان الأمر كذلك جاز أن يراد هذه الألفاظ في التعبير عن المعنى المراد.

ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة لما فُهِمَ من قول هذا القائل المعنى الذي قصده.

(٢) الفائدة الثانية

قال بعض علماء البيان: من ضروب الاستعارة التمثيل، وهو أن تمثل شيئًا بشيء فيه إشارة نحو قول امرئ القيس:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي
بسهميك في أعشار قلب مقتل

فمثل عينيها بسهمي الميسِر يعني المعلى وله سبعة أنصباء، والرقيب له ثلاثة أنصباء، فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثَّل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل، ومعنى التمثيل: اختصار قولك مثل كذا وكذا كذا وكذا.

والتمثيل والاستعارة من التشبيه إلا أنهما بغير آلته وعلى غير أسلوبه.

والمثل المضروب في الشعر نحو قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ

راجع إلى ما ذكر لأن معناه ستبدي لك الأيام كما أبدت لغيرك، ويأتيك بالأخبار من لم تزود كما جرت عادة الزمان، وتسمية المثل دالة على ذلك؛ لأن المَثَل والمِثْل الشبيه والنظير، وقيل إنما سمي مثلًا لأنه ماثل لخاطر الإنسان أبدًا، يتأسى به ويَعِظ ويأمر ويزجر، والماثل الشاخص المنتصب من قولهم: طلل ماثل أي: شاخص، فإذا قيل رسم ماثل فهو الدارس، والماثل من الأضداد، وقال قوم: إنما معنى المثل المثال الذي يُحذى عليه كأنه جعله مقياسًا لغيره، وهو راجع إلى ما ذكر. قال بعض العلماء: في المثل ثلاث خلال، إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وقد يكون المثل بمعنى الصفة ومن ذلك قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي صفة الجنة.

والمثل السائر كثير نظمًا ونثرًا، وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقد تأتي الأمثال الطوال محكمة إذا تولاها النصحاء من الناس.

ومن الأمثال القصار في القرآن: كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ.

ومن الأمثال الطوال فيه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بربهم أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا الآية، ثم قال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِيٍ الآية.

والأناشيد في هذا الباب كثيرة، فمنها ما فيه مثل واحد، ومنها ما فيه مثلان، ومنها ما فيه ثلاثة أمثال، ومنها ما فيه أربعة أمثال وهو قليل جدًّا.

فما فيه مثل واحد قول عنترة العبسي:

نُبِّئْتُ عَمْرًا غير شاكرِ نعمتي
والكفر مخبثة لنفس المنعم

فجاء بالمثَل غير محتاج إلى ما قبله، وكذلك قول النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب

ومما فيه مثلان قول امرئ القيس:

الله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرحل

فجاء بمثلين كل واحد منهما قائم بنفسه غير محتاج إلى صاحبه، وكذلك قول الحطيئة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس

وقول عبيد بن الأبرص الأسدي:

الخير يبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد

ومما فيه ثلاثة أمثال قول زهير:

وفي الحلم إذعان وفي العفو دربة
وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق

فأتى بكل مثل في ربع بيت ثم جعل الربع الآخر زيادة في شرح ما قبله، وكذلك قول النابغة الذبياني:

الرفق يمن والأناة سلامة
فاستأن في رفق تُلاقِ نجاحَا

فجاء بثلاثة أمثال إلا أنها مداخلة لم تسلم سلامة ما قبلها من كلام زهير، وقال ابن عبد القدوس:

كل آتٍ لا بد آتٍ وذو الجهـ
ـل معنى والغم والحزن فضل

فجاء بثلاثة أمثال مداخلة الوزن أيضًا.

ومما فيه أربعة أمثال قول الشاعر:

فالهم فضل وطول العيش منقطع
والرزق آتٍ وروح الله منتظر

ومن الأمثال أيضًا كلمات سارت على وجه الدهر كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، يُضرب مثلًا للذي رؤيته دون السماع به وفي كل ما جرى هذا المجرى. وكذلك قولهم: على أهلها جنت براقش، يُضرب مثلًا للرجل يهلك قومه بسببه.

وقد يطلقون المثل ويريدون به التمثيل.

وهذه الأشياء في الشعر إنما هي نبذ تستحسن ونكت تستطرف مع القلة وفي الندرة، فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة، فلا يجب لشعر أن يكون مثلًا كله وحكمة كشعر صالح ابن عبد القدوس، فقد قعد به عن أصحابه وهو يتقدمهم في الصناعة لإكثاره من ذلك، وكذلك لا يجب أن يكون استعارة وبديعًا كشعر أبي تمام، فقد رأيت ما قال فيه المتعقبون له كالجرجاني وأبي القاسم بن بشر الآمدي وغيرهما.

ولا ينبغي للشعر أيضًا أن يكون خاليًا من هذه الحلى فارغًا منها ككثير من شعر أشجع وأشباهه من هؤلاء المطبوعين جملة، مع أنه لا بد لكل شاعر من طريقة تغلب عليه فينقاد إليها طبعه ويسهل عليه تناولها.

(٣) الفائدة الثالثة

قال في الإتقان: في النوع السادس والستين في أمثال القرآن فائدة، عقد جعفر بن شمس الخلافة في كتاب الآداب بابًا في ألفاظ من القرآن جارية مجرى المثل، وهذا هو النوع البديعي المسمى بإرسال المثل، وأورد من ذلك قوله تعالى:
  • لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ.
  • لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
  • الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ.
  • وَضَرَبَ لَنَا مثلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ.
  • ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ.
  • قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.
  • أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
  • وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ.
  • لِكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ.
  • وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
  • قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ.
  • وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.
  • كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.
  • مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ.
  • مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ.
  • هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.
  • كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً.
  • آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ.
  • تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ.
  • وَلَا يُنَبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.
  • كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
  • وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ.
  • وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.
  • لَا يُكَلِفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
  • لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِبُ.
  • ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِ وَالْبَحْرِ.
  • ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
  • لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ.
  • وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ.
  • فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.

في ألفاظ أخر … ا.ﻫ.

(٤) الفائدة الرابعة

وقد وقع ضرب المثل في القرآن كثيرًا، قال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.

وأمثال القرآن قسمان: ظاهر مصرح به، وكامن لا ذكر للمثل فيه.

فمن أمثلة الأول قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

ومن أمثلة الثاني قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.

أخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب النبي : فيمن ترون هذه الآية نزلت: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء. فقال: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضُربت مثلًا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لرجل غني عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى عرف أعماله.

والأمثال المضروبة في القرآن قد تدل على تحقيق أمر أو إبطاله، أو تفخيم أمر أو تحقيره إلى غير ذلك، وكثير منها قد تستنبط منه أحكام.

وقد ألف في أمثال القرآن الإمام أبو الحسن الماوردي.

(٤-١) طرفة

قال الإمام المذكور: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسن بن الفضل فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله «خير الأمور أوساطها»؟ قال: نعم، في أربعة مواضع، قوله تعالى: لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا، وقوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، وقوله تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا.

قلت: تجد في كتاب الله «من جهل شيئًا عاداه»، قال: نعم في موضعين: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ.

قلت: فهل تجد في كتاب الله «احذر شر من أحسنت إليه»؟ قال: نعم، وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.

قلت: فهل تجد في كتاب الله «ليس الخبر كالعيان»، قال: في قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.

قلت: فهل تجد «في الحركات البركات»؟ قال: في قوله تعالى: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً.

قلت: فهل تجد «كما تدين تدان»؟ قال: في قوله تعالى: مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.

قلت: فهل تجد فيه قولهم «حين تقلى تدري»؟ قال: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.

قلت: فهل تجد فيه «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين»؟ قال: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ.

قلت: فهل تجد فيه «من أعان ظالمًا سلط عليه»؟ قال: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ.

قلت: فهل تجد فيه قولهم: «لا تلد الحية إلا حيية؟» قال: قال تعالى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا.

قلت: فهل تجد فيه «للحيطان آذان»؟ قال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.

قلت: فهل تجد «الجاهل مرزوق والعالم محروم»؟ قال: مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا.

قلت: فهل تجد فيه «الحلال لا يأتيك إلا قوتًا والحرام لا يأتيك إلا جزافًا»؟ قال: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ.

(٥) الفائدة الخامسة

من الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات مثل قولهم: «إنما أُكِلْتُ يوم أكل الثور الأبيض.» والأصل فيه ما ذكروا وهو أن اصطحب أسد وثور أحمر وثور أبيض وثور أسود في أجمة، فقال الأسد للأحمر والأسود: هذا الأبيض يفضحنا بلونه ويُطمِع فينا من يقصدنا، فلو تركتماني آكله أمِنَّا فضيحة لونه. فأذِنَا له في ذلك فأكله.

ثم قال للأحمر: هذا الأسود يخالف لوني ولونك، ولو بقيت أنا وأنت ظنك من يراك أسدًا مثلي، فدعني آكله. فسكت عنه فأكله، ثم قال للثور الأحمر: لم يبقَ إلا أنا وأنت وأريد أن آكلك. فقال: إن كنت فاعلًا ولا بد، فدعني أصعد تلك الهضبة وأصيح ثلاثة أصوات. فقال: افعل ما تريد. فصعد وصاح ثلاثة أصوات: ألا إنما أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض. فجرت مثلًا.

(٦) الفائدة السادسة

قال بعض الكتاب: اعلم أن الكاتب يحتاج إلى النظر في الأمثال الواردة عن العرب نثرًا ونظمًا، والنظر في الكتب المصنفة في ذلك كأمثال الميداني والمفضل بن سلمة الضبي وحمزة الأصفهاني وغيرهم، وكذلك أمثال المولَّدين الواردة في أشعارهم كالأمثال الواردة في شعر جرير والفرزدق ونحوهما، وكذلك أمثال المحدَّثين الواردة في أشعارهم كالأمثال الواردة في شعر أبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي، فإن حكم ما ورد من الأمثال في شعر المولَّدين والمحدثين حكم أمثال العرب الشعرية، أما في شعر المولدين فلجريهم على أسلوب العرب وركوب جادتهم، وأما في شعر المحدثين فللطافة مأخذهم واستطراف ما يأتون به من الأمثال.

وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عُرِفَتْ وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم، وهذه الألفاظ الواردة في المثل دالَّة عليها معبرة عن المراد بها بأقصر لفظ وأوجزه.

ولذا نطق بها في كل زمان على كل لسان.

ولم يسر شيء كسيرها ولا عم عمومها حتى قالوا: «أَسْيَرُ من مَثَلٍ.» وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال: ضَرَبَ اللهُ مثلًا كَلِمَةً طَيِبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، وقال تعالى: وَضَرَبَ اللهُ مثلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الآية.

وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، إلى غير ذلك من آي القرآن.

وهو على ضربين: قريب من الفهم لظهور معناه وكثرة دورانه بين الناس، وبعيد من الفهم لخفائه وقلة دورانه بين الناس.

فالأول مثل قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى.

والثاني مثل قولهم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر.

وأما الأمثال الواردة نظمًا، فهي كلمات استُحسِنَت في الشعر وطابقت وقائع عامة جارية بين الناس، فتداولها الناس وأجروها مجرى الأمثال النثرية، وقد روي أن النبي كان يتمثل بقول طرفة:

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وثبت في الصحيح أنه قال: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وقد أجاد بعض الشعراء حيث قال مضمنًا لها:

تأمل سطور الكائنات فإنها
من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

(٦-١) تنبيهان

التنبيه الأول

لا يشترط في المثل أن يكون الممثَّل به متحقق الوجود في الخارج؛ لأن التمثيل يصح مع ذلك ويكون جاريًا على سبيل الفرض والتقدير، وقد أشار إلى ذلك بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.

ومعنى إنبات الحبة سبع سنابل أن تخرج ساقا يتشعب منه سبع شعب لكل واحدة منها سنبلة فيها مائة حبة.

وفي الآية حذف مضاف إذ التقدير، مثل نفقات الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، وحذف لوجود الدليل عليه.

التنبيه الثاني

لا يجوز مخالفة الأمثال الواردة في القرآن؛ ولذلك أُنْكِرَ على الحريري قوله: فأدخلني بيتًا أَحْرَجَ من التابوت، وأوهى من بيت العنكبوت، قال: فيه مخالفة لقوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ.

وليس من هذا القبيل ضرب المثل بجناح البعوضة؛ فإنه ليس فيه مخالفة لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مثلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.

(٧) الفائدة السابعة

اختلف في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مثلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَٰذَا مثلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

فقال بعض المفسرين: إن الله تعالى ضرب في هذه السورة هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، وقوله: أَوْ كَصَيِبٍ مِنَ السَّمَاءِ الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فنزل ذلك.

وقال بعضهم: إن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب في قوله: وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا، وبالعنكبوت في قوله: كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ قال أهل الضلال: ما أراد الله من ذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فنزل ذلك.

قال القفال: وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداء؛ لأن معناه في نفسه مفيد.

ومعنى الآية أن الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها.

وأصل الاستحياء تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يذم به، ولا يجوز ذلك على الله تعالى، لكن الترك لما كان من لوازمه عبَّر به عنه، ويجوز أن يكون وقع في كلام الكفار هذه العبارة، وهي أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلًا بالذباب والعنكبوت، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال، وهو فن من كلامهم بديع.

وضرب المثل صنعه، وهو من ضرب اللبن وضرب الخاتم، تقول: ضرب مثلًا إذا صنعه وبينه، وتقول: ضرب كذا مثلًا إذا جعله مثلًا، وهو هنا يتعدى إلى مفعولين.

وقد اختلف في المراد بقوله: فَمَا فَوْقَهَا، فقيل المراد به ما فوق البعوضة في القدر، كالذباب والعنكبوت.

وقيل المراد به ما فوق البعوضة في المعنى الذي ضُرِبَتْ فيه مثلًا، وهو الحقارة، فيكون المعنى فما دونها، وذلك مثل الذَّرَّة وجناح البعوضة، وهذا كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وفوق ذلك أي فوق الذي وُصِفَ به.

وما في قوله مثلًا ما هي ما الإبهامية، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته عمومًا، كقولك: أعطني كتابًا ما، تريد أي كتاب كان.

وقيل ما هنا زائدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ.

قال في المغني في مبحث ما: وتزاد بعد أداة الشرط، جازمة كانت نحو: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ، وَإِمَّا تَخَافَنَّ، أو غير جازمة نحو: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ، وبين المتبوع وتابعه في نحو: مَثَلًا مَا بَعُوضَةً.

قال الزجاج: ما حرفٌ زائد للتوكيد عند جميع البصريين، ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود، وبعوضة بدل وقيل ما اسم نكرة صفة لمثلًا أو بدل منه، وبعوضة عطف بيان على ما.

(٨) الفائدة الثامنة

قد ذكر في العقد الفريد كثيرًا من الأمثال، وقد أوردها على أسلوب آخر، وقد رأينا أن نلخص ذلك لما فيه من الفوائد المهمة، وقد وقع فيما لخَّصْنَاه شيء ممَّا سبق ذكره، وها هو ذلك ملخصًا.

(٨-١) كتاب الجوهرة في الأمثال

قد مضى قولنا في العلم والأدب، وما يتولد منهما وينسب إليهما من الحكم النادرة والفطن البارعة، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلى المعاني التي تخيرتها العرب وقدمتها العجم، ونطق بها في كل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها، حتى قيل: أَسْيَرُ مِنْ مَثَلٍ.

ما أنت إلا مثل سائر
يعرفه الجاهل والخابر

وقد ضرب الله عز وجل الأمثال في كتابه وضربها رسول الله في كلامه.

قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.

وقال: ضَرَبَ اللهُ مثلًا رَّجُلَيْنِ، ومثل هذا كثير في آي القرآن.

فأول ما نبدأ به أمثال رسول الله ، ثم أمثال العلماء، ثم أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي، وهي التي كان يستعملها جعفر بن يحيى في كلامه، ثم أمثال العرب التي رواها أبو عبيد وما أشبهها من أمثال العامة، ثم الأمثال التي استعملها الشعراء في أشعارهم في الجاهلية والإسلام.

(٨-٢) أمثال رسول الله

قال النبي حين ذكر الدنيا وزينتها: إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم.

وقال حين ذكر الغلو في العبادة: إن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.

وقال: إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء.

وقال: الإيمان قيد الفتك.

وقال: إن من البيان لسحرًا.

وقال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

وقال: الحرب خدعة.

وله أمثال كثيرة غير هذه، ولكنا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه، وإنما ذهبنا إلى أن نكتفي بالبعض ونستدل بالقليل على الكثير، ليكون أسهل مأخذًا للحفظ وأبرأ من الملالة.

تفسيرها

قوله: إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم. فالحبط كما ذكر أبو عبيد عن الأصمعي أن: تأكل الدابة حتى ينتفخ بطنها وتمرض منه، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطًا، وقوله أو يلم معناه: أو يقرب ذلك منه.

وقوله: الإيمان قيد الفتك، أي منع منه كأنه قيد له، وفي حديث آخر لا يفتك مؤمن.

وقوله: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، معناه: إن لُدِغَ مرة تَحَفَّظَ أخرى.

وقوله: الحرب خدعة يريد أنها بالمكر والخدعة.

(٨-٣) أمثال روتها العلماء

داود بن أبي هند عن الشعبي أن رجلًا من بني إسرائيل صاد قُبَّرَةً، فقالت: ما تريد أن تصنع بي، قال: أذبحك فآكلك، قالت: والله ما أشفي من برم ولا أغني من جوع، ولكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلي.

أما الواحدة فأعلمكها وأنا في يدك، والثانية إذا صرت على هذه الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل، فقال: هات، فقالت: لا تلهفن على ما فاتك. فخلى عنها، فلما صارت على الشجرة قال: هات الثانية. قالت: لا تصدقن بما لا يكون أن يكون. ثم طارت فصارت على الجبل، فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درة فيها زنة عشرين مثقالًا. قال: فعض على شفتيه وتلهف، قال: هات الثالثة. فقالت له: أنت نسيت الاثنين فكيف أعلمك الثالثة، ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك، فقد تلهفت علي إذ فُتُّك وقلت لك: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، فصدقت، أنا وعظمي وريشي لا أزن عشرين مثقالا فكيف يكون في حوصلتي ما يزنها؟!

من ضرب به المثل من الناس

قالت العرب: أسخى من حاتم، وأعز من كليب وائل، وأسود من قيس بن عاصم، وأبلغ من سحبان وائل، وأحلم من الأحنف بن قيس، وأصدق من أبي ذر الغفاري.

من يضرب به المثل من النساء

يقال: أشأم من البسوس، وأبصر من زرقاء اليمامة.

ما تمثلوا به من البهائم

قالوا: أشجع من أسد، وأجبن من الصافر، وأحذر من غراب، وأسمع من فرس، وأنوم من فهد، وأضرع من سنور.

ما ضرب به المثل من غير الحيوان

قالوا: أهدى من النجم، وأمضى من السيل، وأوسع من الدهناء، وأثقل من الجبل.

إكثار الكلام وما يُتَّقَى منه

قالوا: من ضاق صدره اتسع لسانه.

من أكثر أهجر، أي خرج إلى الهُجر وهو القبيح من القول، وقالوا: المكثار كحاطب ليل وجالب خيل، ربما نهشته الحية أو لسعته العقرب في احتطابه ليلًا.

في الصمت

قالوا: الصمت حكم، وقليل فاعله.

وقالوا: الندم على السكوت خير من الندم على الكلام.

وقالوا: السكوت سلامة.

القصد في المدح

منه قولهم: من حَفَّنَا أو رَفَّنَا فليقتصد. يقول: إن من مدحنا فلا يَغْلُوَنَّ في ذلك.

وقولهم: لا تهرف بما لا تعرف، الهرف: الإطناب في المدح والثناء.

ومنه قولهم: شاكِهْ أبا يسار، من دون ذا ينفق الحمار. أخبر أبو محمد الأعرابي عن رجل من بني عامر بن صعصعة قال: لقي أبو يسار رجلًا بالمربد يبيع حمارًا ورجل يسومه، فجعل أبو يسار يطري الحمار، فقال المشتري: أعرفت الحمار؟ قال: نعم، قال: كيف سيره؟ قال: يصطاد به النعام معقولًا، فقال له البائع: شاكِهْ أبا يسار من دون أن ينفق الحمار، والمشاكهة: المقاربة والقصد.

صدق الحديث

من قولهم: لا يكذب الرائد أهله. معناه: أن الذي يرتاد لأهله منزلًا لا يكذبهم فيه، ومنه قولهم: القول ما قالت حذام.

من صمت ثم نطق بالفهاهة

قالوا: سكت ألفًا ونطق خلفًا، الخلف من كل شيء الرديء.

انكشاف الأمر بعد اكتتامه

من قولهم: حصحص الحق، وقولهم: صرح المخض عن الزبدة.

العذر للرجل ولا يمكن أن يبديه

منه قولهم: لعل له عذرًا وأنت تلوم. المرء أعلم بشأنه.

خلف الوعد

منه قولهم: ما وعده إلا برق خلب. وهو الذي لا مطر معه، وقولهم: ما وعده إلا وعد عرقوب.

(٨-٤) أمثال الرجال واختلاف نعوتهم

في الرجل المبرز في الفضل

منه قولهم: ما يشق غباره، وأصله: السابق من الخيل.

وقولهم: ليست له همة دون الغاية القصوى.

الصلة والقطعية

من قولهم: لا خير لك فيمن لا يرى لك ما يرى لنفسه، قولهم: إنما يضن بالضنين، وقولهم: حل سبيل من وهى سقاؤه. وقولهم: ألقِ حبله على غاربه.

حَمِيَّة القريب وإن كان مبغضًا

من ذلك قولهم: آكل لحمي ولا أدعه يؤكل. ومنه: لا تعدم من ابن عمك نصرًا. وقولهم: الحفائظ تحلل الأحقاد.

(٨-٥) الأمثال في مكارم الأخلاق

الحِلم

من أمثالهم في الحلم: إذا نزل الشر فاقعد. أي فاحلم ولا تسرع إليه، وقولهم: أخِّر الشر فإن شئت تعجلته. وقولهم في الحلماء: كأنما على رءوسهم الطير. ومنه قولهم: ربما أسمع فأذر.

المساعدة وترك الخلاف

من ذلك قولهم: إذا عز أخوك فهُن. وقولهم: لولا الوئام هلك الأنام. الوئام: المباهاة، يقول: لولا المباهاة لم يفعل الناس خير.

مداراة الناس

قالوا: إذا لم تغلب فاخلب. يقول: إذا لم تغلب فاخدع ودارِ. وألطف منه قول شبيب بن شيبة في خالد بن صفوان: ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية، يريد أن الناس يدارونه لشره وقلوب الناس تبغضه.

اكتساب الحمد واجتناب الذم

قالوا: الحمد مغنم، والذم مغرم. ومنه قولهم: قليل الذم غير قليل.

الصبر على المصائب

من ذلك قولهم: هون عليك ولا تولع بإشفاق. وقولهم: من أراد طول البقاء فليوطن نفسه على المصائب، وقولهم: لا تلهف على ما فات.

الحض على الكرم

منه قولهم: اصطناع المعروف يقي مصارع السوء. وقول الحطيئة:

من يفعل الخير لا يُعدَم جوازيَه
لا يذهب العرف بين الله والناس

الخبير بالأمر البصير به

منه قولهم: على الخبير سقطت. وقولهم: كفى قومًا بصاحبهم خبيرًا. وقولهم: على يدي دار الحديث. وقوله: تعلمني بضب أنا حرشته. يقول: تخبرني بأمر أنا وليته، وقولهم: الخيل أعلم بفرسانها. وقولهم: كل قوم أعلم بصناعتهم.

الاستخبار عن علم الشيء وتيقنه

من ذلك قولهم: ما وراءك يا عصام؟ وأول من تكلم به النابغة الذبياني لعصام صاحب النعمان، وكان مريضًا، فكان إذا لقيه النابغة قال له: ما وراءك يا عصام؟

وقولهم: ويأتيك بالأخبار من لم تزود.

الأخذ في الأمور بالاحتياط

منه قولهم: إن ترد الماء بماء أكيس

وقولهم: عَشِّ ولا تغتر. يقول: عَشِّ إبلك ولا تغتر بما تُقدم عليه، وقولهم: اشتر لنفسك وللسوق. ومنه الحديث المرفوع عن الرجل الذي قال: أرسل ناقتي وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل.

الاستعداد للأمر قبل نزوله

منه قولهم: قبل الرمي يراش السهم. وقولهم: قبل الرماية تملأ الكنائن. وقولهم: خذ الأمر بقوابله. أي باستقباله قبل أن يدبر، وقولهم: المحاجزة قبل المناجزة. وقولهم: يا عاقد اذكر حلًّا. وقولهم: خير الأمور أحمدها مغبة.

توسط الأمور

من ذلك قولهم: لا تكن حلوًا فتسترط ولا مرًّا فتُعفى. أي تُلفَظ، يقال: أعفى الشيء إذا اشتدت مرارته، وتقول العامة: لا تكن حلوًا فتؤكل ولا مرًّا فتلفظ. وتوسُّط الأمور أدنى إلى السلامة، ومنه: خير الأمور أوسطها. ومنه قول علي بن أبي طالب: خير الناس هذا النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي.

حسن التدبير والنهي عن الخرق

الرفيق يمن. الخرق شؤم. رب أكلة تحرم أكلات. وَلِّ حارها من تولى قارها.

التأني في الأمر

من ذلك قولهم: رُبَّ عجلة تعقب ريثًا، وقولهم: المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وقال القطامي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل

سوء الجوار

منه قولهم: لا ينفعك من جار سوء تَوَقٍّ. والجار السوء قطعة من نار. ومنه هذا أحق منزل بترك.

سوء المرافقة

أنت تَئِق وأنا مَئِق فمتى نتفق. التئق: السريع الشر، والمئق: السريع البكاء، والتئق والمئق مهموزان.

المقادير

منه قولهم: المقادير تريك ما لا يخطر ببالك. وإذا أنزل الحين غطى العين. ولا يغني حذر من قدر. من مأمنه يؤتى الحذر.

التنوق في الحاجة

منه قولهم: فعلت فيها فعل من طب لمن حب.

استتمام الحاجة

أتبع الفرس لجامها. يريد أنك قد جُدْتَ بالفرس واللجام أيسر خطبًا، فأتم الحاجة.

الحاجة يحول دونها حائل

منه قولهم: الأمر يحدث بعده الأمر. وقولهم: أخلف رويعيًّا ظنه. وأصله: أن راعيًا اعتاد مكانًا فجاء يرعاه فوجده قد تغير وحال عن عنده.

اليأس والخيبة

منه قولهم: من لي بالسانح بعد البارح؟ أي من لي باليُمن بعد الشؤم؟ ومنه أطال الغيبة وجاء بالخيبة، وقولهم: جاء بخُفَّيْ حنين.

قال الشاعر:

وما زلت أقطع عرض البلاد
من المشرقين إلى المغربين
وأدَّرِعُ الخوف تحت الدجى
واستصحب النسر والفرقدين
وأطوي وأنشر ثوب الهموم
إلى أن رجعت بخفي حنين

الرضا من الحاجة بتركها

منه قولهم: من نجا برأسه فقد ربح. وقولهم: رضيت من الغنيمة بالإياب. وقول العامة: الهزيمة مع السلامة غنيمة. وقال امرؤ القيس:

وقد سافرت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب

وقال آخر:

الليل داجٍ والكباش تنتطح
فمن نجا برأسه فقد ربح

قضاء الحاجة قبل السؤال

منه قولهم: ائت الصارخ وانظر ما له. يريد: لم يأتِك مستصرخًا إلا من ذعر أصابه، فأغثه قبل أن يسألك.

ومنه: كفى برغائها مناديًا.

الانتصار من الظلم

هذه بتلك. والبادي أظلم.

ومنه: من لم يذد عن حوضه يهدم.

(٨-٦) أمثال مستعملة في الشعر

منها قول الحطيئة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس

ومنها قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ومن ذلك قول الآخر:

ما كلف الله نفسًا فوق طاقتها
ولا تجود يد إلا بما تجد

انتهى ما أُخِذَ من العقد الفريد.

(٩) الفائدة التاسعة

فائدة الكاتب من معرفة الأمثال وحفظها، الاستعداد لإدراجها في كلامه في المواضع التي تناسبها.

فإنه لا يقوم مقامها في ذلك شيء.

ومن ثَمَّ أدرج الحريري كثيرًا من الأمثال في كلامه في المقامات، وقد رأينا أن نورد من ذلك هنا ما تيسر.

قال في الخطبة:

واستقلت من هذا المقام الذي فيه يحار الفهم، ويفرط الوهم، ويسبر غور العقل، وتتبين قيمة المرء في الفضل، ويُضْطَرُّ صاحبه إلى أن يكون كحاطب ليل، أو جالب رَجْلٍ وخيل، وقَلَّمَا سلم مكثار أو قيل له عثار.

وقال فيها:

وأرجو أن لا أكون في هذا الهذر الذي أوردته والمورد الذي توردته، كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه.

وقال في المقامة الخامسة الكوفية:

رب آكلة هاضت الآكل، وحرمته مآكل.

وشر الأضياف من سام التكليف، وآذى المضيف. خصوصًا أذى يعتلق بالأجسام، ويفضي إلى الأسقام. وما قيل في المثل الذي سار سائره: خير العشاء سوافره، إلا ليعجل التعشي، ويجتنب أكل الليل الذي يُعشي …

قال الشارح: معنى هاضت ضعفت وأدخلت عليه هيضة، وهي القيء والإسهال. وأصل المثل: رب أكلة تمنع أكلات.

وقال في المقامة التاسعة الإسكندرية:

غشيتني ندامة الفرزدق حين أبان النوار، والكسعي لما استبان النهار.

وقال في المقامة العاشرة الرحبية:

وسلم إلى ساعة الفراق، رقعة محكمة الإلصاق، وقال: ادفعها إلى الوالي إذا سلب القرار، وتحقق منَّا الفرار، فعل المتلمس، من مثل صحيفة الملتمس.

وقال في المقامة الرابعة عشرة المكية:

قلت للشيخ: هل ضاهت عدتنا عدة عرقوب؟ أو هل بقيت حاجة في نفس يعقوب؟ فقال: حاشَ لله وكلا، بل جل معروفكم وجلى.

وقال في المقامة الحادية والعشرين الرازية:

فلما حللت بالري، وقد حللت حبي الغي، وعرفت الحي من اللي، رأيت بها ذات بكرة، زمرة في أثر زمرة.

العرب تقول: ما يُعرف الحي من اللي والحو من اللو، تقوله لمن تستجهله وتنفي عنه الفطنة.

وهذا من جملة الأمثال التي تعرف فيها الحريري وقد انتقد عليه ذلك.

وقال في المقامة الثانية والعشرين الفراتية:

فجالست منهم أضراب قعقعاع بن شور، ووصلت بهم إلى الكور بعد الحور.

قال الشريشي: كلام العرب: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة، فقلب اللفظ على مراده.

وقال في المقامة الرابعة والعشرين القطيعية:

فبرزنا ونحن كالشهور عدة، وكندماني جذيمة مودة، إلى حديقة أخذت زخرفها وازَّينت وتنوعت أزاهيرها وتلونت.

وجذيمة: هو الأبرش ملك الحيرة.

وندماناه أي: نديماه مالك وعقيل ابنا فالج، نادَمَاه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثًا.

وقد ضُرب بهما المثل في الوفاق.

ولنختم الكلام هنا؛ فإن فيما ذكر كفاية.

وكان الفراغ من تأليف هذا الكتاب في أواخر ذي الحجة سنة ألف وثلاثمائة وسبع وثلاثين من الهجرة، وذلك بمدينة مصر في الدار التي نسكنها في جهة عابدين.

والحمد لله على نعمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤