التقرب بالدموع

خير ما تقرَّب به المحب إلى حبيبه دمع مسفوح، وقلب مجروح، ووجد مشبوب، وصبر مغلوب. والتقرب بالدمع نوع من الاستعطاف تغزى به قلوب الحسان، ومن طريفه قول الأبيوردي:

أشكو الهوى لترقي يا أميمةُ لي
فطالما رفقَ المشكوُّ بالشاكي
يشقى بعضي ببعضيَ في هواك فما
للعين باكية والقلب يهواك

وهذا المعنى غير معروف عند العرب؛ فهم يرون بكاء العين من فضل حزن الفؤاد، حتى ليقولون: نعمت العين، وشقي القلب، ولكن الأبيوردي عكس المعنى، فجعل نعيم القلب في الهوى، وعذاب العين في البكاء، ثم قال:

إن يحك ثغرك دمعي حين أسفحهُ
فإنني جدت للمحكيِّ بالحاكي
ما كنت أحسب أن الدُّرَّ مسكنه
يكون جيدَك أو عينيَّ أو فاكِ

وأوضح من هذا وأجمل قول الشريف:

أهوِن بما حمَّلتنيه من الضنى
لو أن طيفك كان من عُوَّادي
ولقلما زار الخيال بمقلةٍ
روعاءَ نافرةٍ بغير رقُادِ
ما تلتقي الأجفان منها ساعةً
وإذا التقت فلغضِّ دمع بادِ
لا يَبعدنْ قلبي الذي خلفتهُ
وقفًا على الإتهام والإنجاد
إن الذي غمر الرقاد وسادَهُ
لم يدرِ كيف نبا عليَّ وسادي
ولقد بعثت من الدموع إليكم
بركائبٍ ومن الزفير بحادي
لولا هواك لما ذللت وإنما
عزِّي يعيرني بذل فؤادي

وهكذا يجمع الشريف الرضي بين العزة القرشية، والذلة العذرية؛ فهو عزيز ذليل! وللبحتري حوار لطيف في هذا الباب، فمن ذلك قوله:

صِلي مغرمًا قد واترَ الشوق دمعَهُ
سجامًا على الخدَّين بعد سجامِ
فليس الذي حللتهِ بمحللٍ
وليس الذي حرَّمتهِ بحرام

وقد ردد هذا المعنى في موطن آخر فقال:

أُلامُ على هواكِ وليس عدلًا
إذا أحببتُ مثلك أن أُلاما
فقد حرَّمت من وصلي حلالًا
وقد حللت من هجري حراما

ولا يسعني وقد أسرف البحتري في ذكر الحرام والحلال، إلا الرجاء في أن ينصف هذا المظلوم يوم يقوم الحساب. وقد رق شعر العباس بن الأحنف حين يقول:

أما استوجبت عيني فديتك نظرة
إليك وقد أبكيتها حِجَجًا عشرا
لعمري لئن أقررتِ عيني بنظرةٍ
إليك لقد عذبتِها بالبكا دهرا

ويقرب من هذا قوله من كلمة ثانية:

جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى
وفاضت له من مقلتيَّ غروبُ
وما ذاك إلا حين أيقنت أنهُ
يمر بوادٍ أنت منه قريب
يكون أُجاجًا دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
أيا ساكني أكناف دجلة كلكم
إلى القلب من أجل الحبيب حبيبُ

وقد تلطف ابن التعاويذي في شكوى حاله إلى من يهوى بقوله:

يا موحش العين التي
أنست بطول بكائها
غادرت بين جوانحي
نفسًا تموت بدائها
تشتاق عيني أن ترا
ك وأنت في سودائها
فإذا بخلت بنظرةٍ
سمَحَت بجمَّة مائها

ومن مبتدعات المتأخرين في هذا المعنى قول بعض الشعراء:

وقلتُ شهودي في هواك كثيرةٌ
وأصدَقها قلبي ودمعيَ مسفوحُ
فقال شهودٌ ليس يقبل قولها
فدمعك مقذوف وقلبك مجروح

وهو كلام قد يطمئن له الفقهاء والمحدِّثون، لطول ما يبحثون في القذف والتجريح، وما أغنى الشعر عن تفسير أولئك وتأويل هؤلاء!

•••

وقد يتوسل المحب بفنائه في الوجد، ومن شعراء العصر من أجاد هذا المعنى، كصاحب البدائع حين يقول:

يا أهل أسيوطَ لا زلتم بعافيةٍ
وإن تمرَّدَ في وجدي بكم دائي
أسلمتموني لدهري بعد ما بَلِيَتْ
من قسوة الصدِّ والتبريح أحشائي
فلو أتت ظبيةُ الحمراء غازيةً
قلبي لَما وجدَتْه غير أشلاءِ١
يا ويحَ نفسي، أتنسَوني وأذكركم
مُقرَّح الجفن في صبح وإمساءِ

•••

إن الذين بأمر الحب قد ملكوا
لم يتقوا الحب في ضُرِّي وإيذائي
لم يُدنني الشوقُ يومًا من منازلهمْ
إلا تولوا مع الأيام إقصائي
كم رُحتُ أحمل آمالي لحيِّهمُ
وعدتُ أحمل آلامي وأرزائي
يا لوعة القلب لا شكوايَ نافعةٌ
ولا بكايَ بشافٍ مسَّ ضرَّائي
أبيتُ أندب عهدًا مرَّ طيِّبهُ
كلمحة البرق في أعطاف ظلماء
وأُرسل الزفرة الحرَّاء لافحةً
كوقدة الجمر في أجسامِ قَصْباءِ

•••

يا من يعزُ علينا أن نجازَيهم
صدًّا بصد وإغضاءً بإغضاءِ
لو ترحمون وَصَلتم شيِّقا كَلِفًا
ألقى جفاكم عليه ألفَ بأساءِ
١  الحمراء: حي جميل من أحياء أسيوط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤