بخل الحسان

نذكر هنا طرفًا مما قال الشعراء في بُخل الحِسان، وكل حسناء بخيلة، وكل جميل ضنين، وأشهر الشعراء في هذا المعنى قول مهيار:

يا لُواة الدَّيْن عن ميسرةٍ
والبخيلاتُ ما كنَّ لئاما
حَمِّلوا ريح الصبا نشركم
قبل أن تحمل شيحًا وخزامى
وابعثوا لي في الكرى طيفكم
إن أذِنتم لجفوني أن تناما

ويجمل بنا أن نذكر قصيدة كثيِّر التائية، ففيها صورة شعرية لصدق اللوعة، عند بخل الحبيب، وهو فوق ذلك غُرة من غرر الآداب العربية. قال:

خليليَّ هذا ربع عَزَّة فاعقلا
قَلوصيكما ثم ابكيا حيث حلتِ
وما كنتُ أدري قبل عَزَّةَ ما البُكا
ولا مُوجِعاتِ القلبِ حتى تَوَّلَتِ
فقد حلفت جهْدًا بما نحرت له
قُريشٌ غداة المأزمَين وصلتِ
أناديك ما حج الحجيجُ وكبرت
بفيفا غزال رُفقةٌ وأهلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها
كناذرة نذرًا فأوفت وحلت
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وُطِّنت يومًا لها النفس ذلت١
ولم يلق إنسانٌ من الحب ميعةً
تعم ولا غمَّاءَ إلا تجلت٢
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت٣
صفوحًا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت٤
أباحتْ حمًى لم يَرعه الناس قبلها
وحلت تلاعًا لم تكن قبل حُلت٥
فليت قلوصي عند عزة قُيدت
بحبل ضعيف غُر منها فضلت
وغودر في الحي المقيمين رحلها
وكان لها باغٍ سواي فبلت٦
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وكنت كذات الظلع لما تحاملت
على ظلعها بعد العثار استقلت٧
أريد الثواءَ عندها وأظنها
إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فما أنصفت، أما النساء فبغضت
إليَّ، وأما بالنوال فضنَّتِ
يكلفها الغيران شتمي وما بها
هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئًا مريئًا غير داءٍ مُخامرٍ
لعزة من أعراضنا ما استحلت
فوالله ما قاربتُ إلا تباعدت
بصرمٍ ولا أكثرتُ إلا أقلت
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبًا
وحقت لها العتبى لدينا وقلت٨
وإن تكن الأخرى فإن وراءَنا
منادح لو سارت بها العبس كلت٩
فلا يبعدنْ وصلٌ لعزة أصبحتْ
بعافية أسبابه قد تولت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً
لدينا ولا مقليَّة إن تقلتِ١٠
ولكن أنيلي واذكري من مودةٍ
لنا خُلة كانت لديكم فطلت
فإني وإن صدَّت لَمُثْنٍ وصادقٌ
عليها بما كانت إلينا أزلت١١
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى
ولا شامتٌ إن نعلُ عزة زلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي
بعزة كانت غمرة فتجلت
فأصبحت قد أبللت من دنفٍ بها
كما أدنفت هيماءُ ثم استبلت١٢
فوالله ثم الله ما حلَّ قبلها
ولا بعدها من خُلة حيث حلت
وما مر من يوم عليَّ كيومها
وإن عظمت أيام أخرى وجلت
وأضحت بأعلى شاهق من فؤاده
فلا القلب يسلوها ولا العين ملت
فيا عجبًا للقلب كيف اعترافه
وللنفس لما وطنت كيف ذلت١٣
وإني وتَهْيامي بعزة بعدما
تَخلَّيْتُ مما بيننا وتَخَلَّتِ
لَكالمُرتجي ظِلَّ الغَمامة كلما
تَبَوَّأَ منها للمَقِيلِ اضْمَحَلَّتِ
كأني وإياها سحابة ممحل
رجاها فلما جاوزته استهلت١٤
فإن سأل الواشون فيمَ هجرتها
فقل نفسُ حر سلِّيت فتسلت١٥

ومن الشعراء من ينص على أن شح الحسان سماحة، كالتهامي حين يقول:

ماتت لفقد الظاعنين ديارهم
فكأنهم كانوا بها أرواحا
ولقد عهدت بها فهل أرينه
مغدًى لمنتجع الصبى ومراحا
بالنافثات النافذات نواظرًا
والنافذين أسنَّة وصِفاحا
وأرى العيون ولا كأعين عامرٍ
قدرًا مع القدر المتاح مُتاحا
متوارثي مرض الجفون وإنما
مرض الجفون بأن يكن صحاحا
من كان يكلف بالأهلة فليزر
ولدي هلال رغبة وبراحا
لا عيب فيهم غير شح نسائهم
ومن السماحة أن يكن شحاحا
طرقته في أترابها فجلت له
وهنًا من الغرر الصِّباح صباحا
أبرزن من تلك العيون أسنةً
وهززن من تلك القدود رماحا
يا حبذا ذاك السلاح وحبذا
وقت يكون الحسن فيه سلاحا

ويأسى ابن التعاويذي على أن يرجو عطف البخيلة، وهو جواد الكف. وذلك قوله:

نأيت فحرمت الجفون على الكرى
وأغريت دمع العين بالهملان
وأعهد قبل البين قلبي يطيعني
ولكنه يوم الوداع عصاني
وما زال مطبوعًا على الصبر قُلبًا
سواءٌ بعادٌ عنده وتداني
فما باله يوم النوى سار منجدًا
مع الركب في أسر الصبابة عان
فليت طبيبًا أمرضتني جفونه
وفي يده منها الشفاء شفاني
وليت غريمي في الهوى وهو واجد
تحرج من ليانه فقضاني١٦
ولولا الهوى يا آل خنساءَ لم يكن
ليملكني منكم خضيب بنان
ولا بت في أبياتكم سائلا قِرًى
بغير قنا أو طالبًا لأمان
أرجِّي جواد الكف عطف بخيلة
وأخشى حديد القلب فتك جبان
وقبلك ما أنهضت عزمي لحاجةٍ
فأدركتها إلا بحد سِنان
وأولى بمثلي أن يكون مهادهُ
سرير حِصان لا سرير حَصان
وبي أنفٌ أن أقتضي بسوى الظبى
ديوني إذا غير الحبيب لواني
figure
١  ذلت: هانت.
٢  الميعة والغماء: الشدة. وتجلت: انصرفت.
٣  العصم: جمع أعصم وهو من الظباء والوعول ما في ذراعيه أو أحدهما بياض وسائره أسود أو أحمر. وزلت: زلقت.
٤  صفوح: معرضة.
٥  التلاع: جمع تلعة وهي ما ارتفع من الأرض.
٦  بلت المطية: ضلت.
٧  ظلع البعير: غمز في مشيه. واستقل: نهض من عثرته.
٨  العتبي والإعتاب: الترضية.
٩  المنادح: جمع مندوحة وهي ما اتسع من الأرض.
١٠  تقلت: ظهرت بالقلى وهو البغض. ومقلية: مبغوضة.
١١  أزلت: أسدت.
١٢  أبل من مرضه برئ منه، والدنف المرض، والهيماء: المريضة بالهيام، وهو داء يصيب الإبل فلا تصبر على الماء.
١٣  الاعتراف: الاصطبار. وذلت: رضيت.
١٤  ممحل: أصابه المحل وهو القحط.
١٥  تلك هي نائبة كثير، ولقد كان بها جد مفتون، حتى إنه سئل أنت أشعر أم جميل؟ فقال: بل أنا. فقيل له: أتقول هذا وأنت راويته؟ فقال: جميل يقول:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى
وفي الغر من أنيابها بالقوادح
وأنا أقول:
هنيئًا مريئًا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
١٦  الليان: مصدر لوى. يقال: لوى غريمه إذا مطله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤