دموع الغانيات

لا نريد هنا الدمع يسفحه الندم، بل الدمع يرسله الوفاء؛ لأن عبرة النادم رفق بنفسه التي أفسدها الإسراف. أما عبرة المودِّع فهي رفق بمحبه الذي أشجاه الفراق!

قال جرير في بكاء الحسان عند الوداع:

إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلًا بعينك ما يزال مَعيِنا
غيَّضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا

وهو كلام فطري لا كلفة فيه. وما أبدع قول الظاعنات:

ماذا لقيت من الهوى ولقينا!

ومثله قول ابن التعاويذي:

لما وقفنا للودا
ع وقد دعا داعي الرحيل
وتخاذلت أنصار دمعـ
ـي في هوى الظبي الخذول
قالت وأدمعها تسيـ
ـل أسًى على الخد الأسيل
يا بين كم أجليت يو
م نوى الأحبة عن قتيل

وهذا شعر خفيف الروح، لطيف النسيم، ويشبه قول بعض الأعراب:

ومما شجاني أنها ودَّعت
توَّلت وماء العين في الجفن حائرُ
فلما أعادت من بعيد بنظرة
إلي التفاتًا أسلمته المحاجر

وقد أنصف الأبيوردي معشوقته إذ يقول:

وما أنس لا أنس الوداع وقد بدت
تُغيض دمعًا فاض وابله سكبا
مهفهفة لم ترض أترابها لها
ببدر الدجى شبهًا وشمس الضحى تربا
تنفسُ حتى يُسلم العقدَ سلكهُ
وأكظم وجدًا كاد ينتزع القلبا
وتذري شآبيب الدموع كأنما
أذابت بعينيها النوى لؤلؤًا رطبًا

ولو سلمت هذه الأبيات من مثل هذا الغزل الطريف لكان أنسب بموقف التوديع. ومثلها في ذلك قول السري الرفاء:

تنادوا لتفريق الفريق فأصبحت
مدامعنا تندى لفرقتهم دما
سلام على من سار قلب محبه
إليه فلم يرجع صحيحًا مسلما
يحل عقود الدر دمعًا ومنطقا
وينظمها حليا عليه ومبسما
أماط عن العذب اللثاة لثامه
فعاد بديباج الحياء ملثما
وكلمني جفناه بالدمع خفية
فهمَّ غليل الشوق أن يتكلما

ومن العشاق من ينسب إلى حبيبته التباكي، وإلى نفسه مر البكاء، ثم يفرق بين العبرتين، ويميز بين الزفرتين، كالأرجاني إذ يقول:

سفرت كي تزود الحب منها
نظرة حين آذنت بالتنائي
ورأت أنها من الوجد مثلي
ولها للفراق مثل بكائي
فتباكت ودمعها كسقيط الطل
في الجلنارة الحمراء
فترى الدمعتين في حمرة اللو
نِ سواء وما هما بسواء
خدها يصبغ الدموع دمعي
يصبغ الخد قانيًا بالدماء
خضب الدمع خدها باحمرار
كاختضاب الزجاج بالصهباء

وما أدرى بأي قلب يلح هذا الشاعر ليحوِّل دموع محبوبته إلى دماء! وما أرفق المتنبي إذ يقول:

وجلا الوداع من الحبيب محاسنًا
حُسنُ العزاءِ وقد جُلين قبيحُ
فيدٌ مسلمة وطرف شاخص
وحشًا يذوب ومدمع مسفوح

ألم تر إليه وقد انخلع قلبه، حين رأى حبيبته باكية، فلم يذكر إلا أنها جميلة، وأن الصبر على فراقها أعز منالًا من نجوم السماء!

وتعجبني هذه النجوى في قول ابن الرومي يصف عتاب حسناء:

زارت على غفلة من الحرسِ
تهدي إلي السلام في الغلسِ
أنى تجشمت نحو أرحُلنا الهو
ل ولم ترهبي أذى العسس
قالت ترامى بنا إليك من الشو
ق مُغِصٌّ بالبارد السلس
كم زفرة لي تبيت تنهض أحشا
ئي ودمع عليك منبجس
وأنت لاهٍ بغيرنا ولنا
منك هوى ممسك على النفس
عجبت من ذلتي ومن قلبك القا
سي علينا وخلقك الشكسِ
لا تأمنن الهوى وسطوته
واخش رداه ومنه فاحترسِ

وهذا الشعر جميل في معناه، ولكن يظهر أن أسلوبه لا يمثل الرقة في نجوى الحسناء، وقد مسها الحب بناره، وأحرقها بجواه! ولو تناول ابن أبي ربيعة أو ابن الأحنف هذا المعنى لرأيت له ثيابًا أرق من هذه الثياب، وأسلوبًا غير هذا الأسلوب.

ومن بارع الشعر في دموع الحسان قول جميل:

لما دنا البين بين الحي واقتسموا
حبل النوى فهو في أيديهم قِطع
جادت بأدمعها ليلى وأعجلني
وشك الفراق فما أبقي وما أدعُ
يا قلب ويحك ما عيشي بذي سلم
ولا الزمان الذي قد مر مرتجع
أكلما بأن حي لا تلائمهم
ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علقتني بهوى عنهم فقد جعلت
من الفراق حصاة القلب تنصدع

وهذا الشعر يمثل الطبيعة في مواقف الوداع، فالشاعر هنا شائق ومشوق، ولا كذلك أبيات الرومي التي حصر دمعها في عيون زائرته الحسناء، ومن هذه الناحية يعجبني ما أنشده صاحب الأمالي:

ولما رأت أن النوى أجنبية
وأن خليلًا من غد سيبين
بكت فبكى من لاعج الشوق والأسى
وكل بكل إن يبين ضنين
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
على الخد مني فالدموع هتون
لقد كنت أبكي قبل أن تشحط النوى
فكيف إذا ما غبت عنك أكون

وانظر كيف يصف العرجي خوف محبوبته من فراقه:

وما أنس مِلأشياء لا أنس موقفًا
لنا ولها بالسفح دون ثبير
ولا قولها وهنًا وقد بل جيبها
سوابق دمع لا يجف غزير
أأنت الذي خبرت أنك باكر
غداة غد أو راحل بهجير
فقلت يسيرٌ بعد شهر أغيبه
وما بعض يوم غبته بيسير
وقلت لها قول امرئ شفه الهوى
إليها ولو طال الزمان فقير
فما أنا إن شطت بك الدار أو نأت
بي الدار عنكم فاعلمي بصبور

وكنا نحب أن نعلم بقية العتاب في قوله:

أحين عصيت العاذلين إليكم
ونازعت حبلي في هواك أميري
وباعدني فيك الأقارب كلهم
وباح بما يخفي اللسان ضميري

ولكن الرواة لم يذكروا هذه القصيدة كاملة.

والشعر الذي تقدم لا يمثل عواطف النساء تمام التمثيل؛ لأنه من أحاديث الرجال، ولو أن المرأة تكلمت لعرفنا منها كيف تشعر بلوعة الفراق. وإليك ما قالته امرأة من بني أسد في حبيب ينقض العهود:

بنفسي من أهوى وأرعى وصاله
وتنقض مني بالمغيب وثائقه
حبيب أبى إلا اطراحي وبغضتي
وفضَّله عندي على الناس خالقه

وانظر قول ابنة الحباب:

محا حب يحيى حب يعلى فأصبحت
ليحيى توالي حبنا وأوائله
ألا بأبي يحيى ومثنى ردائه
وحيث التقت من متن يحيى حمائله

فإن هذا الشعر يمثل إحساس النساء بجمال الرجال. وما أوجع الشوق في قول هذه الشاعرة:

أأُضرب في يحيى وبيني وبينه
تنائف لو تسري بها الريح كلتِ
ألا ليت يحيى يوم عيهم زارنا
وإن نهلت مني السياط وعلَّت
figure

وفي الآداب العربية قطع منثورة تمثل ما تشتهي المرأة من الرجل، ولكنها من القلة بحيث لا تصور تمامًا نفوس النساء، ولا تزال لغزًا من الألغاز، ولو أنها تحدثت عن عواطفها كما تحدث الرجل عن عواطفه، لعرفنا بعض ما ستره هذا الصمت البليغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤