فقد العزاء

وقد يعنف الهوى ويقسو، حتى يذهب بجميل الصبر، وحميد العزاء، فمن العشاق من يفقد اصطباره عند الوداع. كقول ابن نُباتة السعدي:

كيف العزاء وأين بابهْ
والحيُّ قد خفت ركابهْ
بأغر منتقبٍ ينم
على محاسنِه نقابُه
متأودٌ حلو الشمائلِ
من أساوره حِقابُه١
زعم المخبر أنه
ضُربت على سلع قبابه
فطلبتهُ كالأيم أو
كالسيل في الليل انسيابه
فإذا أحم المقلتيـ
ـن يشين أنمله خِضابه
يهتز مثل السمهريِّ
تدافعت فيه كِعابُه
وقف الولائد دونه
كالقلب يستره حجابُه
أقبلت أسأله وأعـ
ـلم أن حرماني جوابه
ويلي على متلوِّن الـ
أخلاق يعجبُه شبابه
لا رسُلهُ تَترى إليـ
ـنا بالسلام ولا كتابه

وأحب أن يتأمل القارئ هذه القصيدة البديعة، وأن يتنبه إلى دقة الوصف في جميع ما عرض الشاعر له، وعلى الأخص تلون الأخلاق، والزهو بالشباب في أرباب الجمال، وقال الشريف:

ورامين وهنًا بالجمار وإنما
رمَوا بين أحشاء المحبين بالجمر
رمَوا لا يبالون الحشا وترَوحوا
خليين والرامي يصيبُ ولا يدري
وقالوا غدًا ميعادنا النفر عن مِنى
وما سرني أن اللقاء مع النفرِ
ويا بؤس للقرب الذي لا نذُوقه
سوى ساعةٍ ثم البعاد مدى الدهر
فيا صاحبي إن تُعطَ صبرًا فإنني
نزعتُ يدي اليوم من طاعة الصبر
وإن كنت لم تدر البكا قبل هذه
فميعاد دمع العين مُنقلبُ السفرِ

وقد يستولي الحزن على القلب، ويتغلغل في سويدائه، حتى ييأس المحب عن صلاحية فؤاده للسرور، لو رجعت أسبابه، كما قال بعض الشعراء:

كم استراح إلى صبر فلم يُرَحِ
صب إليكم من الأشواق في تَرحِ
تركتمُ قلبهُ من حزن فرقتكم
لو يرزق الوصل لم يقدر على الفرَح

وقال خالد الكاتب يفضل اللوعة على العزاء:

عاتبت نفسي في هوا
كَ فلم أجدها تقبل
وأطعت داعيهَا إليـ
ـكَ فلم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو
ه لحسن وجهك تمثلُ
لا قلتُ إن الصبر عنـ
ـك من التصابي أجمل

وقال إسحاق الموصلي في ذهاب الوداع بالصبر الجميل:

تقضتْ لباناتٌ وجد رحيلُ
ولم يُشفَ من أهل الصفاء غليل
ومُدت أكف للوداع فصافحت
وفاضت عيوٌن للفراق تسيل
ولا بد للألَّاف من فيض عَبرَةٍ
إذا ما خليلٌ بان عنهُ خليلُ
فكم من دمٍ قد طل يوم تحملت
أوانسُ لا يودَى لهن قتيلُ
غداة جعلت الصبر شيئًا نسيتهُ
وأعولتُ لو أجدى علي عويلُ
ولم أنس منها نظرةً هاج لي بها
هوى منه بادٍ ظاهرٌ ودخيل
كما نظرت حوراءُ في ظل سدرةٍ
دعاها إلى ظل الكِناس مقيل

وابن زيدون يجعل صبره عن حبيبه كصبر الظماء عن الماء، فيقول:

إليك من الأنام غدا ارتياحي
وأنت من الزمان مدى اقتراحي
وما اعترضت هموم النفس إلا
ومن ذكراك ريحاني وراحي
فديتك إن صبري عنك صبري
لدى عَطشي عن الماء القَراحِ
ولي أملٌ لو الواشون كفوا
لأطلع غرسُهُ ثمر النجاح
وأعجبُ كيف يغلبني عدو
رضاك عليه من أمضى سلاحي
فؤادي من أسى بك غير خالٍ
وقلبي من هوى لك غير صاحي
فلو أسْطيع طرت إليك شوقًا
وكيف يطير مقصوص الجناح

ويأسى ابن الدمينة على أن لم يغنه القرب، ولم يسله البعد، فيقول:

وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يملُّ وأن النأي يشفي من الوجدِ
بكلٍ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على ذاك قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافعٍ
إذا كان من تهواه ليس بذي عهدِ

وأوجع الشعر في فقد العزاء قول بعض الأعراب:

فيا رب إن أهلكْ ولم تُرْوَ هامتي
بليلى أمُتْ لا قبرَ أعطشُ من قبري
وإن أكُ عن ليلى سلوت فإنما
تسليت عن يأس ولم أسْلُ عن صبر
وإن يكُ عن ليلى غنى وتجلد
فرب غنى نفس قريب من الفقر
figure
١  الحقاب: ما تشده المرأة في وسطها وتعلق به الحلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤