غدر الغواني

ولا بد من ذكر شيء مما تألم له الشعراء في حياة الحب، التي طالما يغدر فيها النساء. وإنا لنجد من بينهم من يحسب الغواني جميعًا غادرات، ويقول:

فلا تحسبن هندًا لها الغدر وحدها
سجية نفس، كلُّ غانيةٍ هندُ

ويقول كثير في السُّخر من عهود النساء:

ألا إنما ليلى عصا خيزرانةٍ
إذا غمزوها بالأكف تلين
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن
عليك شجًا في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها
لآخر من خلانها ستلينُ
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين

وقال الشريف يشكو المطل والتسويف:

يا ظبية البان ترعى في خمائلهِ
لِيَهْنِكَ اليومَ أن القلب مرعاك
الماء عندك مبذولٌ لشاربه
وليس يرويك إلا مدمع الباكي
وعدُ لعينيك عندي ما وفيت به
يا قرب ما كذَّبت عينيَّ عيناك
أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاكِ
عندي رسائل شوقٍ لست أذكرها
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
هامت بك العين لم تتبع سواك هوى
من علم العين أن القلب يهواك

وإني ليشجيني قوله من كلمة ثانية:

تهفو إلى البان من قلبي نوازعه
وما بيَ البانُ بل من داره البانُ
أسدُّ سمعي إذا غنى الحمام به
كيلا يُبيِّن سِر الوجد إعلانُ
ورُبَّ دارٍ أولِّيها مجانبة
وبي إلى الدار أطرابٌ وأشجان
إذا تلفتُّ في إطلالها ابتدرت
للقلب والعين أمواهٌ ونيران
كلمٌ بقلبي أداويه ويَقرفهُ
طول ادِّكاري لمن لي منه نسيان١
لا لِلَّوائم إقصار بلائمة
عن العميد ولا للقلب سلوان
على مواعيدهم خلف إذا وعدوا
وفي ديونهم مَطل وليان
هم عرضوا بوفاء العهد آونة
حتى إذا عذبوني بالمنى خانوا

وابن الرومي يجعل الغدر من طبائع الحسان، إذ يشبههن بالحديقة، تحمل الثمر حينًا وتعرى من الورق حينًا، وإليك قوله من قصيدة طويلة:

يُولينَ ما فيه أغرام وآونة
يُولين ما فيه للمعشوق سلوان
ولا يَدُمنَ على عهدٍ لمعتقدٍ
أنى؟ وهن كما شُبهن بستانُ
يميل طورًا بحملٍ ثم يُعدمُه
ويكتسي ثم يُلفى وهو عُريان
تغدو الفتاة لها خلٌّ فإن غدرتْ
راحت ينافس فيها الخل خُلان
ما للحسان مسيئاتٍ بنا ولنا
إلى المسيئات طول الدهر تحنان
وإن تُبعن بعهد قلن معذرةً
إنا نسينا وفي النسوان نسيان
يكفي مُطالبنا بالذكر ناهية
أن اسمنا الغالب المشهور نسوان
لا نلزم الذكر إنا لم نسمَّ به
ولا مُنِحناه بل للذكر ذكران
فضل الرجال علينا أن شيمتهم
جود وبأس وأحلام وأذهان
وأن فيهم وفاءً لا نقوم به
ولن يكون مع النقصان رجحان
صدقنَ ما شئن لكنا تقنصنا
منهن عِين تلاقينا وأُدمان٢
أنكى وأزكى حريقًا في جوانحنا
خلق من الماء والألوان نيران
إذا ترقرقن والإشراق مضطرم
فيهن لم يملك الأسرار كتمان
ماءُ ونار فقد غادرن كل فتى
لابسنَ وهو غزير الدمع حرَّان
تخضل منهن عين فهي باكية
ويستحر فؤاد وهو هيمان

وقال فتى في ابنة عمه، وقد تجنت عليه وغدرت به:

أأحبابنا لو تعلمون بحالنا
لما كانت اللذات تشغلكم عنا
تشاغلتمُ عنا بصحبة غيرنا
وأبديتم الهجران ما هكذا كنا
وآليتمُ أن لا تخونوا عهودنا
فقد وحياة الحب خُنتم وما خنا
غدرتم ولم نغدر وخنتم ولم نخن
وحُلتم عن العهد القديم وما حلنا
وقلتم ولم توفوا بصدق حديثكم
ونحن على صدق الحديث الذي قلنا

وكان صخر بن عمرو، أخو الخنساء، يحب سلمى بنت عوف ثم تزوجها؟ وتعاهدا على أن لا يتزوج واحد منهما بعد صاحبه، ثم طُعن في أحد الأيام، فمرض سنة كاملة، فقصرت زوجه في السهر عليه، والرفق به. ولا كذلك أمه الرءوم. قالوا: وسمع يومًا امرأة تقول لأمه: كيف حال صخر؟ فقالت: نحن بخير ما دمنا نرى وجهه. وسمع أخرى تقول لامرأته كيف حال صخر؟ فقالت: لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى! وحكي أنه جلس يومًا ليستريح وقد رفع له سجف البيت، فرأى سلمى واقفة تحادث رجلا من بني عمها وقد وضع يده على عجيزتها، فسمعه يقول لها: أيباع هذا الكفَل؟ فقالت: عن قريب! فقال صخر لأمه: علي بسيفي، لأنظر هل صدئ أم لا. فأتته به فجرده، وهم بقتل سلمى، فلما دخلت رفع السيف فلم يستطع حمله، فبكى وقال:

أرى أم صخر لا تملُّ عيادتي
وملت سُليمى مضجعي ومكاني
فأي امرئ ساوى بأمٍّ حليلةً
فلا عاش إلا في شقًا وهوانِ
أهمُّ بأمر الحزم لو أستطيعه
وقد حيل بين العَير والنزوان
وما كنت أخشى أن أكون جنازة
لديك ومن يغترُّ بالحدثان

ويذكرون أن غسان بن جهضم كان مفتونا بابنة عمه، ثم تزوجها، فلما حضره الموت حلفت لا تتزوج من بعده، ثم حنثت في يمينها، فأنشدها في نومها ليلة الزفاف:

غدرتِ ولم ترعَي لبعلك حرمةً
ولم تعرفي حقًّا ولم تحفظي عهدا
ولم تصبري حولًا حِفاظًا لصاحب
حلفْتِ له يومًا ولم تنجزي وعدا
غدرتِ به لما ثوى في ضريحه
كذلك يُنسى كل من سكن اللحدا

ويذكرني هذا الشعر بقول أبي العتاهية:

إذا ما انقضت عني من العيش مدتي
فإن غناء الباكيات قليل
سيُعرَض عن ذكري وتُنسى مودتي
ويحدث من بعد الخليل خليل
وهذه طبيعة العالم يا صاح، فاقض من أوطارك ما أنت قاض، واترك الوهم للمجانين!
figure
١  الكلم: الجرح. وقرف الجرح إصابته من جديد.
٢  عين جمع عيناء، وهي جميلة العين، والأمادن: الظباء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤