أرسطاطاليس

figure

شهد سقراط في شبابه مجد الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة، وشهد في شيخوخته هذه الجهود العنيفة التي كانت تبذلها هذه الأمة اليونانية نفسها لتقضي على ما كان لها من قوة وسلطان، شهد تلك الحرب التي لم يعرف العالم القديم مثلها، والتي أثرت في الحياة اليونانية تأثيرين مختلفين: فرقت الحياة العقلية، وحطت الحياة السياسية؛ وكانت فلسفة سقراط ممثلة لهذين التأثيرين: كان فيها انصراف عن السياسة، وكانت فيها من ناحية أخرى عناية بالحياة العقلية، وحرص على تقويتها وترقيتها وتهذيبها. وشهد أفلاطون في شبابه ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوربا. وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطني فيها.

وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلًا صحيحًا؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم. وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضًا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة، وتتخذها موضوعًا للعبث والسخرية. ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنًا أم سيئًا، معقولًا أم غير معقول، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولةً للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد، ودليلًا واضحًا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه.

وقد عرفت في الفصول السابقة فلسفة سقراط وأفلاطون، وتأثيرها في الرأي العام أثناء حياة هذين الفيلسوفين وبعد موتهما. أما الفيلسوف الذي أريد أن أحدثك عنه في هذا الفصل فمتصل بهذين الرجلين العظيمين من جهة، ومنفصل عنهما من جهة أخرى.

هو سقراطيٌّ، وهو أفلاطونيٌّ؛ لأنه كان كسقراط وكأفلاطون: يقيم فلسفته على أن الحقائق ثابتة، وعلى أن الشك سخيف، وعلى أن هذه الحقائق الثابتة تنتهي كلها آخر الأمر إلى حقيقة عليا. عنها صدرت وإليها تعود. وهي حقيقة الإله، الذي صدر العالم عنه والذي يعود العالم إليه، ولكنه يخالف سقراط، ويخالف أفلاطون في طريقة البحث والتفكير، والنتائج الفلسفية التفصيلة التي انتهى إليها. وربما كان من الحق أن نقول: إنه يخالف سقراط وأفلاطون مخالفةً شديدة في تكوين عقله، وتوجيه هذا العقل إلى حقائق العلم وظواهر الحياة.

كما أن فلسفة سقراط وفلسفة أفلاطون تمثلان الحياة اليونانية في عصريهما، فإن فلسفة أرسطاطاليس تمثل هذه الحياة أيضًا تمثيلًا قويًّا صادقًا، فهي الدليل الناطق بأن الفلسفة السقراطية قد نجحت فيما كانت تحاول من إضعاف النظم السياسية القائمة، وهي الدليل الناطق بأن الفلاسفة كانوا مصيبين في فهم الحياة السياسية والاقتناع بأنها سيئة، وبأنها منتهية للكوارث من غير شك.

كان عصر أرسطاطاليس عصر تطور غريب لم يشهد العالم القديم مثله، وقد بدأ هذا التطور ضئيلًا ضيقًا لم يجاوز شبه جزيرة البلقان حيث أخذ سلطان المقدونيين يعظم ويقوى ويجاوز حدود مقدونيا في عصر فيليب، وبينما كان سلطان المقدونيين يشتد داخل مقدونيا وينبسط خارجها كان الفساد يعظم، ويشيع في المدن اليونانية على اختلاف قوتها ونظمها السياسية؛ فلم يكن بدٌّ من أن تطمح هذه الدولة الناشئة إلى السيطرة على هذه المدن المشرفة على الفناء. ثم لم تكد تخطر هذه الفكرة لزعيم المقدونيين وملكهم فيليب حتى أخذ في تنفيذها، وكان كل شيء يسهل عليه هذا التنفيذ، وكان للفلسفة حظ عظيم في تسهيله، فهي قد عملت في هدم النظم السياسية القديمة، وأسرفت في ازدرائها حتى شككت الناس فيها وصرفتهم عنها. ثم لم تكتف بذلك بل أخذت تدعو إلى تغيير هذه النظم وإلى القضاء على هذه الحياة التي تضطر اليونانيين إلى الخصومة والعنف، وتورطهم في الحرب المتصلة المهلكة للنفوس والأموال. وظهر في البلاد اليونانية قوم يدعون سرًّا وجهرًا إلى وجوب أن يقوم سلطان قوي قاهر يبسط قوته على هذه الأمة اليونانية، فيضبط أمورها ويكرهها على احترام السلم فيما بينها من جهة، ويوجه قوتها الحربية إلى الشرق وإلى الفرس من جهة أخرى. وليس من شك في أن هؤلاء الدعاة من الكتَّاب والأدباء والفلاسفة كانوا متصلين أشد الاتصال بقصر فيليب، وفي أن فيليب كان يمد أكثرهم بالمال والمعونة ويتخذهم قوة معنوية يمهد بها لقوته المادية الضخمة. وقد وفق فيليب في هذا، فظهرت في المدن اليونانية كلها أو أكثرها أحزاب سياسية تميل إلى مقدونيا، وترغب في محالفتها ومناصرتها، وكانت هذه الأحزاب بطبيعتها مخاصمة للديمقراطية أو للديمقراطية المتطرفة على أقل تقدير، وقد تم النصر لفيليب فقهر الأمة اليونانية واضطرها إلى أن تذعن لسلطانه، وتنتخبه قائدًا عامًّا لجيوشها، وتكلفه حرب ملك الفرس، فلما مات فيليب نهض ابنه الإسكندر لتنفيذ خطته، فنفذها كما تعلم، وكما سنعرض لذلك في فصل غير هذا الفصل.

وكان أرسطاطاليس يوناني الأصل، ولكنه مقدوني النشأة، ولد في مستعمرة يونانية قريبة من مقدونيا يقال لها «ستاجيرا»، ولكنه نشأ في مقدونيا؛ لأن أباه نيكوماخوس كان طبيبًا لملك من ملوكها، وقد تأثر من غير شك بحياة القصر المقدوني وعادات الأشراف المقدونيين، وظهرت نتائج ذلك واضحة جلية في حياته وفلسفته معًا. فلم يكن أرسطاطاليس سقراطي السير ولا أفلاطونيًّا في حياته، وإنما كان رجلًا عمليًّا يعيش كما يعيش غيره من الناس، مستمتعًا بلذات الحياة كما يستمتع بها غيره من الناس، لا يضيق على نفسه ولا يتكلف زهدًا ولا تورعًا ولا حرمانًا. وكان، كما سترى: عمليًّا في فهمه وتصوره وحكمه على الأشياء. وليس من شك في أنه كان مقدوني النزعة السياسية، يقدر فساد الحياة اليونانية العامة، كما يقدر قوة مقدونيا وقدرتها على ضبط الأمور. وقد رحل إلى أثينا حين بلغ العشرين، فاختلف إلى أساتذة البيان والفلسفة فيها، ولكنه لازم أفلاطون ملازمة خاصة.

فتن بأفلاطون وفتن به أفلاطون أيضًا، حتى لقد يقال إن أفلاطون كان يؤثره وكان يسميه القَرَّاء، وكان يسميه العقل أيضًا. وقد ظل ملازمًا لأفلاطون أعوامًا طوالًا، فقد كان يختلف إلى الأكاديمية ويشترك في محاورتها الفلسفية المختلفة. فلما مات أفلاطون سنة ٣٤٧ قبل المسيح وتفرق نفر من تلاميذه عن أثينا، ساح أرسطاطاليس في الأرض حينًا، فزار آسيا اليونانية التي كانت خاضعة حينئذ لسلطان الفرس. وكما أن حياته في مقدونيا وفي البلاد اليونانية أقنعته بضعف السلطان اليوناني وفساد أمر اليونان، فإن حياته في آسيا أقنعته بضعف الفرس وفساد أمرهم. ولا شك في أن رجلًا ذكي القلب رشيدًا كأرسطاطاليس كان يقدر هذا الفساد العام في الشرق والغرب، ويرى كما كان يرى غيره من المفكرين أن الخير كل الخير هو أن تقوم دولة قوية، فتجمع كل هذه القوى المتفرقة الضائعة، وتوجهها إلى ضبط الأمر في العالم المتحضر. ولكن حياة أرسطاطاليس لم تكن في ظاهر الأمر سياسية، وإنما كان الرجل منصرفًا إلى التفكير وإلى البحث الفلسفي. وقد عاد إلى أوربا، ودعاه فيليب إلى تربية ابنه الإسكندر وتأديبه، فعاش في القصر المقدوني أعوامًا. ومهما يكن من شيء، ومهما تسكت النصوص التاريخية فقد كانت لحياة أرسطاطاليس في قصر فيليب آثار سياسية مزدوجة: كان يشير على فيليب، وكان يكوِّن الإسكندر تكوينًا ملائمًا لأطوار العصر الذي يعيش فيه، ولآمال فيليب وآمال مقدونيا أيضًا.

ثم مات فيليب، وأخذ الإسكندر في تنفيذ خطة أبيه — فعاد أرسطاطاليس إلى أثينا وأنشأ فيها مدرسته المعروفة باسم «لوكايون Lycée»، واتصلت الرسائل بينه وبين تلميذه الملك؛ وكان الملك يرسل إليه الأموال والطرائف من آسيا معونةً له على بحثه العلمي. على أن الصلة فسدت آخر الأمر بين الأستاذ وتلميذه؛ لأن ابن أخت الفيلسوف الذي كان مرافقًا للملك اتهم بالائتمار بالملك، فقتله الإسكندر، ونتج عن ذلك فساد الأمر بينه وبين أستاذه.

مات الإسكندر، وانتفض اليونان على السلطان المقدوني، ورفعت الديمقراطية اليونانية برأسها، وأخذت في تتبع المقدونيين وأنصارهم؛ فخرج أرسطاطاليس من أثينا هاربًا، ولكنه لم يلبث أن مات بعد سنة أو نحو السنة في جزيرة «أبوا» سنة ٣٢٣ قبل المسيح.

المؤرخون القدماء والمحدثون مجمعون على أن أرسطاطاليس ترك من الآثار الفلسفية شيئًا ضخمًا لم يسبق إلى مثله، ولا إلى ما يشبهه، ولكنهم يختلفون في مقدار هذه الآثار اختلافًا عظيمًا جدًّا. وقد لا يكون من الخير أن نعرض لهذا الاختلاف ولا لتفصيل البحث عن كتب أرسطاطاليس وما بقي منها؛ فإنك تجد ذلك مفصلًا في مقدمة كتاب «الأخلاق» الذي ترجمه إلى العربية أحمد لطفي السيد (باشا)، وفي مقدمة «نظام الأثينيين» الذي ترجمته أنا إلى العربية. وإنما نكتفي هنا بالإشارة إلى أن أرسطاطاليس كان ينهج في مدرسته منهجين مختلفين: منهج التعليم الخاص الذي لا يحضره ولا يشترك فيه إلا تلاميذ المدرسة وأعضاؤها، ومنهج التعليم العام الذي كان مباحًا للكافة.

وكما أن تعليمه قد انقسم إلى هذين القسمين، فإنه كتبه وكتب تلاميذه انقسمت إليهما أيضًا؛ فكانت منها الكتب المدرسية الخالصة التي أنشئت للمدرسة ولبحوثها، والتي لم يكن يحسن فهمها ولا التصرف فيها إلا الذين تعودوا لغة المدرسة وأساليبها ومناهجها الفلسفية، وكانت منها كتب أخرى سهلة يسيرة توضع لعامة الناس وتذاع فيهم، وهذه الكتب هي التي ذهبت كلها أو أكثرها أحداث الزمان. أما الأخرى، فقد بقيت المدرسة ثم انتقلت منها، وعبثت بها الحوادث حينًا، حتى استولى «سولا» الروماني على مدينة أثينا فنقلها إلى روما وقد أصابها فساد شديد. ومن ذلك الوقت أخذ الفلاسفة في درسها وتصحيحها وإذاعتها؛ وقد بقي لنا أكثر هذه الكتب، وهو يزيد على الأربعين. وإذا نظرنا في جملة ما بقي لنا من آثار أرسطاطاليس استطعنا أن نتصور بوجه ما عمل مدرسته وعمله أيضًا. فقد يظهر أن أرسطاطاليس لم يكن يقصر عمله، كما كان يفعل أفلاطون، على البحث الفلسفي ووضع الكتب الفلسفية المختلفة، وإنما كان يقصد إلى شيء آخر أجل خطرًا وأبعد أثرًا في الحياة العقلية العامة من هذا كله. كان يريد أن تكون فلسفته وكتبه خلاصة صادقة لكل ما وصل إليه العقل الإنساني من نتائج البحث عن كل شيء: كان يريد أن تكون كتبه أشبه شيء بما نسميه نحن دائرة المعارف الآن. ويظهر أنه كان يقسم العمل بين أصحابه، فيختص كل واحد منهم بنوع من أنواع البحث وفن من فنون الفلسفة يدرسه ويستقصيه، ويقدم نتيجة دروسه إلى المدرسة؛ ومن هذه النتائج المختلفة كان يتكون البحث الفلسفي العام الذي يختصرها ويلخصها، ويظهر هذا ظهورًا قويًّا في كتاب «السياسة» — فنحن نعلم أن أرسطاطاليس جد في الاستعداد لهذا الكتاب، فاستقصى النظم الدستورية لطائفة ضخمة من المدن اليونانية وغير اليونانية، واستطاع بعد هذا الاستقصاء أن يضع كتاب «السياسة» الذي هو الخلاصة العامة لكل هذا البحث الطويل الدقيق. ولدينا نموذج لهذا البحث المفصل، وهو كتاب «نظام الأثينيين» الذي استكشف في مصر آخر القرن الماضي، والذي يمثل لنا دقة في البحث ومهارة في الاستقراء لم يكن للعلم بهما عهد من قبله.

على أن أرسطاطاليس يخالف أفلاطون وسقراط من جهة أخرى، في نهجه التعليمي الخالص؛ فلم يكن يعتمد في هذا المنهج كما كان يعتمد سقراط وأفلاطون على الحوار، ولم يكن يعنى كما كان يعنى أفلاطون بالإجادة الفنية البيانية، وإنما كان عالمًا قبل كل شيء، يهجم على موضوعه هجومًا دون أن يدور حوله بالحوار والمناقشة، ويعنى بالفكرة قبل أن يعنى باللفظ الذي يصوغها فيه. ومن هنا لم تكن كتب أرسطاطاليس ككتب أفلاطون نموذجًا فنيًّا للإجادة البيانية، وإنما هي نموذج خالد لإجادة البحث العقلي وإنفاذه. على أن هناك وجهًا آخر ظهر فيه الخلاف بين أرسطاطاليس وبين أفلاطون وسقراط: فقد كان سقراط ينتقل بفلسفته في شوارع أثينا من حانوت إلى حانوت، ومن ميدان إلى ميدان؛ ثم جاء أفلاطون فأقر تعليمه الفلسفي في مدرسة اختارها لهذا التعليم هي «الأكاديمية»، كان يعيش فيها ويختلف إليه تلاميذه فيدرسون ويتحاورون. أما أرسطاطاليس فقد تخير المدرسة واستقر فيها مع تلاميذه كما فعل أفلاطون، ولكنه لم يكن يعلم ولا يحاور جالسًا مستقرًّا، وإنما كان يمشي في حديقة مدرسته ومن حوله أصحابه وتلاميذه، فيدرسون ويحللون ويستنبطون؛ فكان وسطًا في ذلك بين سقراط المتنقل وأفلاطون المستقر، ومن هذا المشي مع أصحابه سميت مدرسته مدرسة المشائين، وأطلق اسم المشائين على الذين ينتمون إلى مذهب أرسطاطاليس في الفلسفة. وربما كان من الحق أن نقرر أن أرسطاطاليس قد نهض بالفلسفة نهوضًا عظيمًا، ورقاها ترقية بعيدة الأثر، حين عدل عن أسلوب الحوار إلى أسلوب البحث المباشر المتصل؛ فقد يصلح الحوار في ألوان من الفلسفة وضروب من التفكير، ولكنه من غير شك بعيد كل البعد عن أن يلائم البحث الفلسفي العميق عن الطبيعة وما بعد الطبيعة وعن المنطق، وما يتصل به من فنون الأدب، فهو إذا صح أسلوبًا للبحث السياسي والخلقي لا يصلح لغيرهما، ومن هنا كانت فلسفة أرسطاطاليس في الطبيعة وما بعد الطبيعة أشد استقرارًا وأقدر على البقاء من فلسفة أفلاطون.

ولقد أَشُقُّ ولقد أُسرف في الإطالة لو أني حاولت أن أختصر لك صورة ما من فلسفة أرسطاطاليس. وكيف السبيل إلى ذلك في صحف معدودة ولم يترك أرسطاطاليس فنًّا من فنون الفلسفة ولا لونًا من ألوان البحث الإنساني إلا عرض له وقال كلمته فيه — إنما الذي يعنيك من فلسفة أرسطاطاليس هو أن تعلم أن الفيلسوف الوحيد الذي حاول في العصر القديم أن ينظم العلم الإنساني من جهة، ويستقصي قوانين التفكير والتعبير والسيرة العامة والخاصة من جهة أخرى؛ ففلسفته تدور على هذين الأمرين.

تريد أن تعلم إلى أي حد وصل العقل الإنساني في القرن الرابع قبل المسيح في دروس مسألة بعينها من مسائل الطبيعة أو ما بعد الطبيعة؟ فمرجعك في ذلك إنما هو أرسطاطاليس، تجد فيه نتائج البحث الذي سبقه. وتجد فيه نقد هذه النتائج، وتجد فيه رأيه الخاص في هذه النتائج، ومن هنا انقسمت فلسفة أرسطاطاليس إلى قسمين أساسيين: أحدهما القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة، ثم أصبح شيئًا تاريخيًّا يرجع إليه الذين يدرسون تاريخ الفلسفة وتاريخ الحياة العقلية عامة؛ ليستعينوا على فهم هذا التاريخ، وهذا القسم هو المباحث التي تتصل بالطبيعة وما بعد الطبيعة؛ فهو يدرس الآن ويدرس درسًا دقيقًا لا ينتفع به انتفاعًا مباشرًا في الحياة العملية، بل ليستعان به على فهم العقل الإنساني وما ناله من التطور على اختلاف العصور؛ وليس هذا بالشيء القليل. والآخر هو القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة، وما زال يحدثها، وسيحدثها أبدًا دون أن يناله في ذلك ضعف أو قصور، أي هو القسم الذي بقي وسيظل صالحًا للبقاء، والذي لم يستطع العقل الإنساني على رقيه ونضوجه أن يمحوه أو يغير منه قليلًا، وهو كل ما تركه أرسطاطاليس في المنطق والأدب والأخلاق والسياسة. فقد استقصى أرسطاطاليس في المنطق قوانين العقل الإنساني في البحث والتفكير على اختلاف درجاتهما وأطوارهما؛ وهذه القوانين ثابتة لا تتغير، ملائمة للإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث إنه شرقي أو غربي، ولا من حيث إنه قديم أو حديث.

وقد يتطور العقل الإنساني فيشتد تأثره بناحية من أنحاء البحث دون ناحية أخرى. ولكن هذا لا يستتبع إلغاء قانون من القوانين التي استكشفها أرسطاطاليس وإنما يستتبع تقديم بعض هذه القوانين على بعض، فقد كان القدماء وأهل القرون من العرب والأوربيين يعنون عناية خاصة بالقياس، ويعتمدون عليه في بحثهم الفلسفي؛ ثم تطور العقل وأصبحت الفلسفة الحديثة تعتمد على الاستقراء أكثر مما تعتمد على القياس.

ونحن نعلم أن أرسطاطاليس قد استكشف قوانين القياس وقوانين الاستقراء جميعًا، وأن الفلسفة الحديثة إن عنيت عناية خاصة بالاستقراء فهي لا تلغي القياس، ولا تستطيع أن تلغيه؛ لأنه صورة طبيعية من صور التفكير الإنساني.

وكما أن منطق أرسطاطاليس خالد فأدبه خالد أيضًا. ونريد بهذا الأدب قوانين البيان التي استكشفها أرسطاطاليس في العبارة والشعر والخطابة، فهذه القوانين باقية خالدة؛ لأنها الصور الطبيعية لتعبير الإنسان عن آرائه، كما أن قوانين المنطق هي الصور الطبيعية لتكوين هذه الآراء. ومن غريب الأمر أن أهل الأدب الأوربي في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث، كانوا يزعمون أن أرسطاطاليس يقيد القصص التمثيلية المحزنة بقيود يقال هي الوحدات الثلاث: وحدة الزمان، والمكان، والعمل، فلما وضع «كرنيل» قصة «السيد» اشتدت حملة النقاد عليه؛ لأنه شذَّ عن هذه الوحدات؛ ونشأ من هذا خلاف بين الأدب القديم والأحرار من الأدب الحديث كثر فيه القول كثرة فاحشة، ثم استكشف أدب أرسطاطاليس وما كتبه عن الشعر وعن القصص التمثلية المحزنة، فإذا هو لم يذكر هذه الوحدات ولم يشر إليها، وإذا آراء الأوربيين الذين كانوا يضيفون إليه هذه الوحدات لم تكن قائمة إلا على الجهل والوهم، وإذا القوانين الأدبية التي استكشفها أرسطاطاليس لا تزال باقية صالحة للبقاء كقوانين المنطق. وقل شيئًا يشبه هذا بالقياس إلى القوانين السياسية والخلقية التي استكشفها أرسطاطاليس؛ فقد تطورت النظم السياسية وقواعد الأخلاق، ولا شك في أنها ستتطور، ولكن القواعد الأساسية لأرسطاطاليس ستظل قائمة باقية؛ لأنها تتبع هذا التطور وتسيطر عليه؛ فمهما تتغير الجماعات ونظمها فستظل القاعدة السياسية الأساسية هي هذا القانون الذي وضعه أرسطاطاليس، وهو أن حسن الحكومة وقبحها شيئان إضافيَّان؛ فالحكومة الحسنة ليست هي الملكية ولا الجمهورية أرستقراطية كانت أو ديمقراطية، وإنما هي الحكومة الملائمة للشعب، وإذًا فكل حكومة مهما تكن صورتها خير إذا لاءمت روح الشعب ومنافعه، فأي تطور اجتماعي أو سياسي يستطيع أن يغير هذه القاعدة الخالدة؛ كذلك قد يتغير شعور الإنسان وحكمه على الأشياء ومذهبه في قياس الخير والشر، ولكن القانون الخلقي الذي وضعه أرسطاطاليس سيظل خالدًا؛ لأنه فوق التطور يدبره ويسيطر عليه. فأي تطور يستطيع أن يغير هذا القانون قانون الأوساط، الذي يقضي بأن الإسراف شر، وبأن التقصير شر، وبأن الخير حقًّا إنما هو التوسط في الأمر! وأي تطور يستطيع أن يغير هذا القانون الآخر الذي استكشفه أرسطاطاليس، وانتهى إليه العلم الحديث، وهو أن الأمر في الأخلاق كالأمر في السياسة، يجب أن يقوم على الإضافية! فليس هناك خير مطلق أو شر مطلق لا ينالهما تغير أو تبدل، وإنما الخير والشر إضافيان يتأثران بكل ما تتأثر به الحياة العامة والخاصة من الظروف.

وإذًا فليس من الحق أن أرسطاطاليس فيلسوف قديم، وإنما الحق أنه فيلسوف خالد ملائم لكل زمان ولكل مكان، وهو — كما سمَّاه الغرب حقًّا — «المعلم الأول».

وهو بحكم هذا الاسم قائد من قادة الفكر، أو قُلْ: أكبر قائد من قادة الفكر، وكيف تريد أن أثبت لك أنه أكبر قائد من قادة الفكر وأنت تعلم معي أن فلسفة أرسطاطاليس سيطرت منذ ظهورها على العقل الإنساني القديم، وأنها هي التي كانت لها الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي الإسلامي، وفي وجود فلسفة العرب وعلم الكلام عندهم، وهي التي تغلغلت في الحياة العربية حتى أثرت في البيان العربي تأثيرًا قويًّا، وهي التي كونت العقل الأوربي في القرون الوسطى، وهي التي اتخذها العقل الأوربي مصدرًا وأساسًا لعلمه وفلسفته في العصر الحديث. بل هناك ميزة يختص بها أرسطاطاليس دون غيره من الفلاسفة القدماء والمحدثين، وهي أن خصومه والمنتمين إلى المذاهب الفلسفية والدينية المناقضة لفلسفته يتخذون فلسفته نفسها وسيلة إلى محاربته، فالأفلاطونيون ينقضون فلسفة أرسطاطاليس بنفس القواعد التي كشفها أرسطاطاليس للبحث والنقض والاستدلال؛ وكذلك قل عن المسيحيين والمسلمين والمحدثين من الفلاسفة، كل أولئك استخدم وما زال يستخدم منطق أرسطاطاليس لمخاصمة أرسطاطاليس. إذًا فهذا الاسم من الأسماء الخالدة التي قد تكون أشد من الدهر قدرة على البقاء، إن صح مثل هذا التعبير. ومن أراد أن يبحث عن قادة الفكر فلن يستطيع أن يوفق لإجادة البحث وإحسانه إلا إذا عُنِيَ بأسطاطاليس وفلسفته، وأنزلهما منزلتهما الحقيقية، وهي المنزلة الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤