الفصل السابع

العُرس

مضت على خِطبةِ المأمون لِبُوران خديجة بنت الحسن بن سهل سبعُ سنوات، وكانت سنة ٢١٠ﻫ فبلغَتِ الثامنةَ عشرةَ من عُمرِها، واكتملَت أنوثتُها، وتجلَّت غَضارتها تجلِّيَ الأزهار في نَضارتها، وتَهادَت في مَوكِبٍ من الفِتنة والشباب، واختالت بها أيامُه الساحرة، وأعراسُه الراقِصة الباهِرة.

وكان الحسن بن سهل قد بلَغَ عند المأمون من المكانة والكرامة وعلوِّ الشأن وسَعةِ الجاه ما لم يَبلُغه أحدٌ من وزرائه وخاصَّةِ رجالِه وذوي سُلطانه.

وكان الحُسين بن الضحَّاك الشاعر ما زال منبوذًا من المأمون طريدًا من مَجالسه، فلما رأى الدنيا تُقبِل ضاحكةً على الحسن بن سهل، جعَل يتزلَّف إليه، فيُزجِي إليه المَديح بعدَ المديح في القَصيد تِلوَ القصيد، ويقول له فيما يقول:

أرى الآمال غير مُعرِّجاتٍ
على أحدٍ سوى الحسن بن سهل
يُباري يومُه غدَهُ سماحًا
كِلا اليومين بان بكلِّ فَضلِ
أرى حَسنًا تقدَّم مُستبِدًّا
ببَعدٍ من رياسته وقَبلِ
سليلُ مَزاربٍ برعوا حُلومًا
وراح صغيرُهم بسداد كَهلِ
لِيهنَكَ أنَّ ما أرجأتَ رشدٌ
وما أمضيتَ من قولٍ وفعلِ

فقرَّبه الحسَن ودعاه ووَصَله، ووَعَده بإصلاح ما بينه وبين المأمون. وصار ابنُ الضحَّاك أنيسَ مجالِسِه وأخا أدَبِه وفراغِه ولذائذه.

وجالسَه الحَسَن يومًا فقال له: يا حُسين ماذا عَنَيتَ بقولك:

يا خلِيَّ الذَّرْع١ من شَجَني
إنما أشكو لتَرحَمَنِي

فقال ابن الضحاك: قد بيَّنتُه فقلت:

مَنعُك المَيْسور يُؤنِسُني
وقليلُ اليأس يَقتُلُني

فقال الحسن: إنك لتُضَيِّعُ بالخَلاعة ما أعطيتَه من البَراعة!

فسكت ابن الضحَّاك ولم يتكلَّم، قال الحسن: ما لك يا حُسيْن!

ابن الضحَّاك: لا شيءَ يا سيِّدي، وإنما أُفكِّر في براعَةٍ أضاعَتْها الخلاعة، رَحِمها الله.

فضحِك الحسن. وكان اليوم من أيام الخريف وقد أقبلَ وَسْمِيٌّ من المَطر فَرشَّ رشًّا خفيفًا، وكان الحسَن مُتفائلًا فجلَسَ في إيوان قصره، وحوله الوَصِيفات يَقُمنَ على خِدمته، ووقف وراءَه غُلامٌ حسنٌ نضير، فنظَر ابن الضحَّاك إلى ذلك وأنشأ يقول:

ألستَ ترى دِيمةً تَهطِلُ
وهذا صباحُك مُستقبلُ

فقال الحسن بن سهل: بلى.

قال ابن الضحاك:

وتلك المُدام وقد شاقَنا
بِطلعَته الشادِن الأكحَل

فقال الحسن: صدَقت!

ابن الضحاك:

وقد أشكَلَ العيشُ في يومِنا
فيا حبَّذا عَيشُنا المُشكِلُ

فقال الحسن: «العيش مُشكِل.» فما ترى؟

قال ابن الضحاك: مُبادَرة القَصف، وتَقريب الإلف.

قال الحسن: على أن تُقيم مَعنا وتَبيت عِندنا!

فقال ابن الضحاك: لك الوفاء، وعليك مِثلُه من الشرط.

قال: ما هو؟

فقال ابن الضحاك: أن يَسقِيني هذا الغلام الواقف على رأسك.

فضحك الحسن وقال: ذلك لك.

ودعا بالطَّعام فأكَلا وبالشراب فشرِبا أقداحًا، فلما ثَمِل ابن الضحَّاك قال:

وا بِأبي أبيضُ في صُفرةٍ
كأنَّه تِبرٌ مِن الفضَّة
صِفاته فاتِنةٌ كلُّها
فبَعضُه يُذَكِّرني بعضَه
يا ليتَه زوَّدَني قُبلةً
أو لا، فمِن وجنَتِه عضَّة

فقال الحسن: قد عَمِل فيك النبيذ يا ابن الضحَّاك!

ابن الضحاك: لا وحياتك.

الحسن: هذا شرٌّ من ذلك، قد وهبتُ لك الغُلام خُذْه لا بارك الله لك فيه.

وأقام الحُسين بن الضحَّاك على ولائه للحسن بن سهل، وقد حاوَل أن يُصلِح أمره عند المأمون فلم يستطِع لسُوء رأيه فيه وانصِراف هواه عنه.

•••

وكان المأمون قد أقام الحسَن على مدينة «فم الصلح»٢ وما يليها من فارس الأهواز، فلما أراد البناء ببُوران سنة ٢١٠ﻫ بارَح بغداد إلى هذه المدينة.

وكان العبَّاس بن المأمون قد تقدَّم أباه، فوَصَل ظُهرًا برَكبِه إلى «فم الصلح» فتلقَّاه الحسن خارج عَسكره في موضعٍ على شاطئ دِجلة قد بنى فيه جَوسَقًا. فلما رآه العباس ثنَى رِجلَه لينزِل، فحلَف الحسن ألا يفعَل وقال: بحقِّ أمير المؤمنين لا تَنزِل.

واعتَنَقَه وهو راكِب، وأنزله وجلس في الجَوسَق ساعةً هو ومن معه، وقدَّم له غِلمانُ الحسن شراب الفاكهة، ثم قدَّم له الحَسَن بن سهلٍ دابَّته فركِبها وركِب خلفَه حتى وصلَ الرَّكبُ إلى القصر.

وفي وقتِ الغروب خرج الحسن وحوله حاشِيته وفرسانه وجنوده ليستقبلوا أمير المؤمنين. وكان قد خرج من بغداد في مَوكِبٍ فخمٍ تتقدَّمه الطبول والموسيقى، وحوله الفرسان بسيوفهم المشروعة وملابسهم الحريرية المزركشة وخيلهم المُحلَّى بالدِّيباج، وأعلامهم العباسية السوداء المُوشَّاة، وخلفه الجنود يحملون الحراب. وقد اصطحَب معه أخاه أبو إسحاق المُعتصِم، وعمَّه إبراهيم بن المهدي، وأم جعفر زُبيدة زوجة الرشيد، وعمَّته عُليَّة بنت المهدي، وأخته حمدونة بنت الرشيد، وطائفةٌ من الأميرات والأُمراء والوزراء وكِبار رجال الدولة. وكان الحسَن قد أقام مَضارِب فاخرةً خارِج العسكر بها أنوار تتلألأ وزِينات باهرة. ووصل المَوكِب فركع الحسَن بن سهل ورجاله بين يدَي الخليفة ثم تقدَّموا فحملوه إلى أن أجلسوه في الجَوسَق، وتوافد كبراء المدينة وأعيانها يُحيُّون أمير المؤمنين ويؤكِّدون له الطاعة والولاء.

ثم سار الموكب إلى قصرٍ فخم من قصور الحسن أعدَّه لضيافة المأمون فنزلَه، فرأى فيه ما شاء الله أن يرى من الأثاث والرِّياش والمَتاع ما لا يُباريه في فخامته وأُبَّهته ما كان في إيوان كسرى أنوشروان من عظمةٍ وجمال، وألوان من زخارف النبات والحيوان.

•••

وقد حوى القصر مئاتٍ من الوجوه الحِسان، والحُور والوِلدان، وجلستْ إحداهنَّ وتُدعى «جنان» مع زميلاتٍ لها في إحدى المقصورات وقد تَحجَّبنَ عن الأنظار، فقالت: طوبى لبوران هذا الحظُّ المَيمون، ما أسعدَها تتزوَّج أمير المؤمنين المأمون!

فقالت الثانية وتُدعى «جوهرة»: وهل لسيِّدتي بوران كُفءٌ غير أمير المؤمنين يا جنان، فهي أجمل فتيات خُراسان.

ليس فيها ما يُقال له
كمُلت لو أنَّ ذا كَمُلا
كلُّ جُزءٍ من مَلاحَتِها
كائنٌ من حُسنِها مَثَلا

قالت الثالثة وتُدعى «خلوب»: أصبتِ يا جوهرة، فالجمال يَسبي القلوب.

فقالت الرابعة وهي «خالصة»: وهل في ذلك شكٌّ يا خلوب.

جنان : على رسلك يا خالصة، إن بوران جميلة ولكنها ناقِصة. فهي غادةٌ من غادات الأعاجِم، وليست من كرائم بني هاشم.
جوهرة : وهل يَعيبُها ذلك يا جنان، إن لم تكن لهاشمٍ فهي لكِسرى أنوشروان.
جنان : ما أجهَلَكِ يا جوهرة، إن في الجواري غفلةٌ مُستنكَرة، فوالله ما هذا الزَّواج إلا أمرًا مُدبَّرًا وثمنًا مُقدَّرًا.
جوهرة : كفى كفى. لماذا يا تُرى؟
جنان : لرأس الفضلِ بن سهل.
خالصة : صه، صه، إن غِلمان أمير المؤمنين عن كثَب!

•••

وهنا مرَّ إبراهيم بن المهدي، وكان وافِدًا لمُقابلة أمير المؤمنين في القصر استجابةً لدعوته، فأجفَلَتِ الجواري وهنَّ يَظننَّه أمير المؤمنين، فلمَحتهُ جنان وعرفته، فعادت ونادت زميلاتها، فأقبلنَ عليه وهنَّ يقُلن: حيَّاك الله يا أبا إسحاق، ماذا أتى بك إلينا كأنَّنا على ميعاد!

فقال إبراهيم: حيَّاكن الله وبيَّاكن أيتها الجواري الحسان، ماذا تفعَلْن؟

وأخذ يُداعِبهن وأخذْنَ يداعِبْنَه، فقال لجنان: كأني بأبي نُواس يقول فيك ما قاله يوم كنتِ جاريةً لآل الثقفي ورآك في عُرسٍ فقال:

شهدَتْ جلوةَ العروس جنان
فاستمالَت بحُسنِها النَّظارَة
حسِبوها العروس حين رأوْها
ما دَهانا بها سِواك عِمارة٣

فقالت جنان: رحِم الله أبا نُواس، كان لي مُحِبًّا وكنتُ عليه قاسِية. لقد بعثَ إليَّ رسوله فقلتُ له: «لا برَح الهُجران ربعَك ولا بلغتَ أمَلك ممن أحببت.»

فضحِك إبراهيم وقال: ولقد استجاب الله دُعاءك.

ثم التفت إلى خالِصة، وكان معها ثلاثةُ نرجساتٍ قد زيَّنت بها صدرَها، فداعَبها بيدِه وقال:

ثلاثُ عيونٍ من النرجس
على قائمٍ أخضر أملس
تُذَكِّرني طِيب ريَّا الحبيب
فتَمنعني لذَّة المَجلِس

وضحِك إبراهيم وتضاحَك الجواري، ثم بارَحَهُنَّ إلى داخل القصر، وبَقِين في مكانهن صامِتات، فقالت جوهرة: ما أجملَ إبراهيم، له عينان خلَّابتان وقامةٌ كغُصن البان. ما أحلاه يا جنان.

جنان: اسكُتي يا أُلعُبان يا صنيعةَ الشيطان.

وبينما هنَّ كذلك إذ سمِعنَ أصوات الغِلمان يقولون: أمير المؤمنين المأمون.

وكان المأمون يمرُّ بالقصر، فأجفَلْن، ودخلْنَ إلى الغُرَف مُسرعات!

الزفاف

وكانت ليلة الزفاف ليلةً عامِرة باهِرة «كأنَّ كلَّ سرورٍ حاضرٌ فيها.» فازدانت مدينة فم الصلح زينةً لم تر الدنيا مثلها، وزهَت قصور الحسن بن سهل بأنواع المَسرَّات والزخارف والأنوار. وقام على خدمة هذا العرس ثلاثةُ آلافٍ وستمائة خادمٍ وملَّاح. وبدا القصر الذي نزَلَه المأمون في لألائه وبهائه، كأنه الثُّريَّا في سمائها، والنجوم نزلَتْ من عليائها، وقد فرشت بالبُسط المُوشَّاة بالذهب والجواهر النفيسة، وأُضيئت في جوانب الدار شُموع من العنبر والندِّ والمِسك المَعجون، ووُضعت في قاعةِ الزفاف شمعة من العنبر وزنها ٢٨٠ مِثقالًا (أي اثنتان وأربعون أُقَّة).

وفُرشت هذه القاعة ببساطٍ ذهبيٍّ بَديع ونُثِرت عليه الدُّرر، ودخل المأمون مع عروسه، وحولهما بنو هاشم وبنو الحسن بن سهل والأعيان والقوَّاد وكرائم الفتَيات والنساء. ولما رأى المأمون هذا البساط وما عليه من دُرَرٍ مَنثورة قال: رحِم الله أبا نُواس كأنه قد رأى هذا حيث يقول:

كأن صُغرى وكُبرى من فقَاقِعِها
حصباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذهب

وقد نثَر الحسنُ بن سهل في ذلك العُرس من الأموال ما لم يَنثره ملك في جاهليَّةٍ ولا إسلام، كما نثر على الحاضِرات والحاضِرين بنادِق مسكٍ فيها رِقاعٌ بأسماء ضِياع وأسماءِ جوارٍ وصِفاتِ جِياد وغير ذلك، فكانت البُندُقَة إذا وقعَتْ في يدِ أحدِهم فتَحَها فقرأ ما فيها فيجِدُ على قدْرِ حظِّه، فيمضي إلى الوكيل الذي نُصِّب لذلك فيقول له: «ضيعة يُقال لها كذا.» أو «جارِيةٌ يُقال لها فُلانة.» أو «جَواد يُقال له كذا.» ثم نثَر على سائر طبقات الناس آلاف الدراهم والدنانير ونوافِج المِسك وبيض العنبر، عدا ما أنفقَه المأمون على القوَّاد والأجناد، وسائر أهل المدينة. وقد بلغت نفقَات هذا العُرس خمسةَ ملايين درهم (أي نحو مائة ألف جُنيه مصري).

•••

وجلس المأمون مع عروسه على عرشٍ مَنصوبٍ في صدر القاعة صُنع من الأبنوس والدِّيباج والحرير المُوشَّى وحُلِّي بالجواهر النفيسة. ثم أقبل إبراهيم بن المهديِّ ووراءه عدَدٌ من العازِفين والعازِفات من الغِلمان والجواري الحِسان، وجلس على منصَّةٍ في وسط القاعة وأخذ يُغنِّي:

يا خير من ذَمَلتْ يَمانيةٌ به
بعد الرسول لآيِسٍ أو طامِعِ
وأبَرَّ من عبد الإله على الهُدى
نفسًا وأحكمَهُ بحقٍّ صارِع
أحيَاك من ولَّاك أطول مُدَّةٍ
ورمى عدُوَّك في الوتين بقاطِعِ
إن الذي قَسَم الفضائل حازَها
في صُلب آدم للإمام السابِع٤

فقال المأمون: أحسنتَ يا عم، وأحييتَ لي طرَبًا، وزِدْتَني هناءً، بارك الله لك.

ثم وقفَ الشاعر إبراهيم بن العباس الصَّولي وهنأ الحسن بن سهل بما حاز من شرَفٍ لمُصاهَرَة الخليفة المأمون فقال:

ليَهنَك أصهار أذلَّتْ بِعزِّها
خدودًا وجدَّعتِ الأنوف الرواغِما
جمعْتَ بها الشَّملين من آل هاشمٍ
وحُزتَ بها للأكرَمين المَكارِما
بَنوك غَدَوا آل النبيٍّ ووارثو الـ
ـخِلافة والحاوون كِسرى وهاشِمَا

فقال الحسن: أحسَنَ الله جزاءَك أبا إسحاق، فما الكثير من فِعلِنا بجزاءٍ لليسير من حقِّك!

ثم قام محمد بن حازِم الباهِليِّ فقال:

بارك الله للحسن
ولِبوران في الخَتن
يا بن هارون قد ظفَرْ
ـتَ ولكن بِبِنتِ مَنْ

فقال المأمون: والله ما ندري خيرًا أراد أم شرًّا.

ثم قامت الرَّاقِصات فرقَصنَ على عزفِ الموسيقى وهنَّ يُنشِدنَ من شعر بشار:

يا ليلتي تزداد بشرًا
من حبِّ من أحببت بكرًا
حوراء إن نظرَتْ إلـ
ـيك سَقتكَ بالعَينَين خمرًا
وكأن رَجْع حديثها
قِطَع الرِّياض كُسينَ زَهرًا
وكأنَّ تحت لِسانها
هاروت ينفُث فيه سحرًا
وتخال ما جمعت علـ
ـيه ثيابها ذهبًا وعِطرًا

وبعد أن انتهتِ الراقِصات عاد إبراهيم بن المهدي فغنَّى لمروان بن أبي حَفصةَ هذه الأبيات:

طَرَقَتْكَ زائِرةٌ فحيِّ خَيالَها
بيضاء تَخلِط بالجَمال دَلالَها
قادَتْ فؤادَك فاستقَادَ ومِثلُها
قادَ القلوبَ إلى الصِّبا فأمَالَها
هل تَطمِسون من السماء نجومَها
بأكُفِّكم أو تَسترُون هِلالَها
أو تجْحَدون مقالةً من ربِّكم
جبريل بلَّغَها النبيَّ فقالَها
شهدَتْ مِن الأنفال آخرُ آيةٍ٥
بِتُراثِهم فأرَدْتُمُ إبطالَها

فأجاد إبراهيم الغناء، وكان المأمون يُحبُّ إنشادَها وغِناءَها فقال له: أحسنتَ يا عم ما لم يُحسِنه سِواك.

وبقِي العُرس عامِرًا بألوان الزِّينة والطرَب ولذائذ الحياة التي لم ترَ الدنيا مثلها، حتى انتهى، وترك وراءه ذِكرًا خالدًا لأروع عرس في هذا العصر الذهبيِّ العجيب!

استمرَّ إبراهيم مُخلصًا للخليفة المأمون مُواليًا له، وكان يحبُّه ويُنزِله عنده مَنزِلًا رفيعًا، وكانت أيام إبراهيم في ذلك الحين أعراسًا للفنِّ والأُنس والإبداع.

•••

ومرِض المأمون وتُوفِّي سنة ٢١٨ﻫ فحزِن عليه إبراهيم حُزنًا شديدًا، ولم يُعمَّر بعدَه طويلًا إذ مرِض بعد سبعِ سنين من وفاته بمدينة «سر من رأى» فلما تدَاعتْ حياته وأشرَفت على النهاية جعل يَتندَّم ويذكُر ما سلَف من شرابه ولذَّاته وغِنائه ولهوِه، فقِيل له: تُب يا إبراهيم وأحرِقْ دفاتِر الغِناء!

فحرَّك رأسَه وهو على فِراشِه وقال: يا مَجانين، هَبُوا أني أحرقتُ دفاتِر الغناء كلَّها، رِيق إيش أعمل بها، هل أقتُلها وهي تحفَظ لي كلَّ شيءٍ في دفاتِر الغِناء؟!

وقد مات٦ إبراهيم، فحسِب الناس أنه لم يمُت لمكانته في نفوسهم، ولِمَا أحدَثَ في أذهانهم وآذانهم من ثورةٍ غنائيَّة لا تفنَى ولا يُمحى صداها حتى كانوا يقولون: «إن إبراهيم لم يمُت، وإنما دُعِيَ إلى الجنَّة لأنَّ بالجنَّة عُرسًا.»

لقد بدأ إبراهيم أميرًا وفنَّانًا، وانتهى أميرًا وفنَّانًا، وكان بين ذلك فنَّانًا ثائرًا، ومُحارِبًا ثائرًا: ثار على الفنِّ وللفن، وثار على الخلافة وللخلافة، وتزعَّم ثورةَ التجديد في الغِناء والموسيقى، وقاد ثورة العِراق على المأمون، وارتدى بُردَة الخِلافة وتبوَّأ عرش المُلك، وقُدِّر له أن يجلِس فترةً من الزمان على أريكة هارون الرشيد. ولكن هذا العرش لم يدُم له طويلًا؛ لأنه عرشٌ صنَعَته السياسة، وصنَعَته الأحداث، ولعِبتْ به الأهواء.

أما عرش الفن، فهو أقوى مكانًا، وأرسخُ بُنيانًا، وأثبَتُ على الأيام أساسًا، تبوَّأه إبراهيم، فلم تُزعزِعه سخائم الخصوم، ولم يعمل فيه حسد الحاسدين، بل بقي له وبقي هو سيدًا عليه طول الزمان. وكان كما قال يُغنِّي كما يشاء، ويُبدِع ما يشاء، فاعتزَّت به دولة الموسيقى والغِناء. وخلَد ذِكره بين الخالدين من أهل الفنِّ والأدب، وأعلام الأُنس والطرَب. وعاش حياته أميرًا في فنِّه، أميرًا في نَسبِه، أميرًا في مَتاعِه، أميرًا في ترفُّعه وعِزَّة نفسه، حتى فارَق هذه الحياة وأطفأ الموتُ نورَه، وكأنما أطفأ أنوار عُرسٍ من الأعراس.

١  يُقالُ خَلِيُّ الذَّرْع وخالي الذَّرْع أي قلبه خالٍ من الهموم.
٢  فم الصلح على نهر دِجلة بالقُرب من واسط.
٣  عمارة هي زوجة عبد الرحمن الثَّقَفيِّ ومولاتها.
٤  المأمون هو سابِع خليفةٍ من خُلفاء بني العباس.
٥  يريد قوله تعالى: وأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ. وهذه الأبيات من قصيدةٍ لمروان بن أبي حفصة مَدَح بها الخليفة المَهدي، فكان لفرط إعجابه يزحَف حين إنشادِها من منصَّته كلما سمع بيتًا حتى صار على البساط، وكانت مائةَ بيتٍ فأجازه المَهدي بمائةِ ألفِ دِرهم، فكانت أول مائة ألفٍ أُعطِيَها شاعر في أيام بني العباس، وقد لحَّنها إبراهيم بن المهدي.
٦  مات إبراهيم بن المهدي سنة ٢٢٤ وقيل سنة ٢٢٥ في عهد المُعتصِم وعمرُه نحو ٦٢ سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤