تمهيد

في قصة جوزفين تاي البوليسية الكلاسيكية «ابنة الزمن»، يرقد آلان جرانت — شرطي في جهاز سكوتلاند يارد — في المستشفى بعد سقوطه عبر باب خفي. وفي غمرة إحباطه ومَلَلِه، يأخذ على عاتقه حلَّ لغزِ قضيةٍ قديمة عمرها خمسمائة عام؛ قضية اغتيال «أميرَي البرج».

كان المُشتبَهُ فيه الأساسي في القضية — بل النموذجُ الأساسي لتجسيد الشر، حسبما يتراءى لك من مسرحية شكسبير، ومن قبله تاريخ توماس مور — هو الملكَ ريتشارد الثالث. اتُّهم هذا الرجل باغتيال ملكَين، والزواج من أرملةِ أحد ضحاياه «ثم تسميمها»، وإغراق أخيه في حوض من النبيذ. ومن ثَمَّ بدا قتل ابنَيْ أخيه الصغيرين — اللذين كان كلٌّ منهما يقف حائلًا بينه وبين العرش — مُتَّسقًا تمامًا مع شخصيته.

غير أن جرانت لديه شكوكه. وأثناء استلقائه على فراشه عاجزًا عن الحركة، ظل محملقًا في لوحةٍ لريتشارد يظهر فيها أرقَّ بكثيرٍ من أن يكون قد ارتكب أيَّ شيء بهذه الشناعة. فجنَّد زائريه للتقصي والتحقيق، ليكتشف أن مور كان مَصدرًا غير موثوق به بالمرة؛ ما يسبب له الصدمة ويثير استياءه؛ فعلى الرغم من أن السير توماس مور كان قد أصبح قدِّيسًا بمعنى الكلمة بعد تَطْويبه في عام ١٩٣٥، فقد نشأ في منزل الكاردينال جون مورتون، الذي كان عدوًّا لَدودًا لريتشارد. بعبارة أخرى، كان مور متربِّصًا بريتشارد ويقصد إيذاءه.

ويخْلُص جرانت إلى أن الأشرار الحقيقيين هم: مور الذي لفَّق له هذا الاتهام، والمؤرخون الذين اتبعوه في ظنه، وكانوا أكسل من أن يلاحظوا الحقيقة.

ما الدرس المستفاد هنا؟ أن المخبرِين الخياليين محققون أفضل من المؤرخين المحترفين؟

إطلاقًا.

وكما يعترف جرانت على مضض، فإن معظم «اكتشافاته» بشأن ريتشارد كانت قد اكتُشفت قبل ذلك بسنوات — بل وقرون في بعض الحالات — على أيدي أفراد من نفس المهنة التي يُكِنُّ لها هذا الاحتقار. فقد كان المؤرخون هم من حلَّلوا مصادر مور ودوافعَه، وكشفوا النقاب عن روايةٍ حول مَوت الأميرين كُتِبَت قبل رواية مور، وضغطوا على دير ويستمينستر لفتح المقبرة المفترض أن يكون رُفات الأميرين قد دُفِن فيها.

لم يكن بمقدور أيٍّ من مخبري سكوتلاند يارد طلبُ تحقيقٍ أقوى من ذلك.

إن ما توضحه قصة تاي أن أفضل الكتابات البوليسية تشترك في سمات كثيرة مع أفضل الكتابات التاريخية. فالأحداث في كلٍّ منهما لا تكون دائمًا كما تبدو في البداية؛ وفي كليهما، تكتظ رحلة البحث عن حلٍّ للألغاز بالمفاجآت والتحدِّيات والإثارة.

لذا، إليك الافتراضَ المنطقي الذي يقوم عليه هذا الكتاب: المؤرخون يصلُحون مخبرين رائعين، والتاريخ مليء بالقصص البوليسية العظيمة.

أما بالنسبة إلى الأميرين، فقد فُتحت مقبرة الدير التي دُفِن فيها رفاتهما عام ١٩٣٣، وفحصَ الجمجمتين موظفُ أرشيف ويستمينستر ورئيس جمعية بريطانيا العظمى للتشريح. وأظهرت الأدلة الجنائية أن …

من قواعد القصص البوليسية الرائعة: لا تُفْشِ النهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤