عقيدته التوحيدية

مذهب الحلَّاج في التوحيد أن الذات الإلهية وراء الإدراك، وفوق التصور، لا ينالها البصر، ولا يدركها الفكر، وكل ما يصف به الناس ربهم، فإنما يصفون به أنفسهم.

والعقل الإنساني لا يدرك الله سبحانه، فالوجد وحده هو الذي يدرك الله تعالى، وجذبة الوجد، وحرقة الحب، هما طريق الوصول.

والوجود الحقيقي لله سبحانه، وهو سبحانه غير محدودٍ، فلا يوجد وجودًا حقيقيًّا سواه.

وهذا الوجود الظاهر للعالم، متصلٌ بالله اتصالًا يجعل إدراكه بغير إدراك الله متعذرًا! يقول الحلَّاج: «ما انفصلت البشرية عنه، ولا اتصلت به.»

والوحدة التي تأتي في كلمات الحلَّاج ليست من الحلول، ولا من الاتحاد، ولا من وحدة الوجود.

فالحلَّاج يفرق بين الله والعالم، ولكنه يرى، كما يرى الصوفية جميعًا أن هذا العالم الظاهر لا جود له حقًّا، وإنما الوجود الحق لله، فليس هو العالم ولا العالم هو؛ لأن العالم لا وجود له.

فالله سبحانه ليس في العالم، ولا العالم خلوٌّ منه، ليس محدودًا فيه، وليس خارجه، فما العالم إلا تجليه، فهو في كل مكانٍ، وليس في كلِّ مكانٍ، في كلِّ جهةٍ وليس له جهةٌ، أو كما يقول الحلَّاج في مواجيده: «أين أنت؟ وأين مكانٌ لست فيه؟»

ويقول الحلَّاج وهو من أبلغ الكلم في جلاء مذهبه التوحيدي:١ «الحق تعالى أوجد هذه الهياكل على رسم العلل، منوطةً بالآفات، فانيةً في الحقيقة، وإنما الأرواح فيها إلى أجلٍ معدودٍ، وقهرها بالموت، وربطها في وقت إتمامها بالعجز.

وصفاته تعالى باينةٌ عن هذه الأوصاف من كلِّ الوجوه، فكيف يجوز أن يظهر الحق فيما أوجده بهذا النقص والعلة؟ كلا وحاشا، وثبت أن الحق سبحانه وتعالى ألزم في كتابه وصف العبودية للخلق أجمع، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وقال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا فكيف يجوز أن يحل فيما ألزمه وصف النقص، وهو العبودية، فيكون مستعبدًا معبودًا؟!» أيُتَّهم الحلَّاج بعد ذلك بالحلول؟!

قال المزني: «دخل الحسين بن منصور — رحمه الله — مكة، فسُئل عن شهادة الذر للحق بالوحدانية وعن التوحيد، فتكلم فيه حتى نسينا التوحيد، فقلنا: هذا يليق بالحق؟ فقال: هذا يليق به، من حيث رضي به نعتًا، ولا يليق به وصفًا ولا حقيقةً، كما رضي بشكرنا لنعمه، وأنَّى يليق شكرنا بنعمه؟!»

ويقول السلمي في حقائق التفسير: «سُئل الحسين بن منصور هل ذكره أحدٌ على الحقيقة، فقال: ليس له إدراكٌ، ولا لغيبه هتاكٌ، له من الأسماء معناها، والحروف مجراها؛ إذ الحروف مبدوعةٌ، والأنفاس مصنوعةٌ، والحروف قول القائل.

رجع الوصف إلى الوصف، وعمي العقل عن الفهم، والفهم عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق إلى مثله.»

ويقول مسعود الواسطي:٢ «سمعت الحسين بن منصور يقول لإبراهيم بن فاتك، وأنا أسمع: يا إبراهيم إن الله تعالى لا تحيط به القلوب، ولا تدركه الأبصار، ولا تمسكه الأماكن، ولا تحويه الجهات، ولا يُتصور في الأوهام، ولا يتخايل للفكر، ولا يدخل تحت كيف، ولا يُنعت بالشرح والوصف، ولا تتحرك، ولا تسكن، ولا تتنفس إلا وهو معك، فانظر كيف تعيش.»
ويروي الكلاباذي عن الحلَّاج قوله:٣ «البادي من المكونات معروفٌ بنفسه بهجوم العقل عليه، والحق أعز من أن تهجم العقول عليه، وأنه عرَّفنا نفسه أنه ربنا، فقال: «ألست بربكم»، ولم يقل من أنا، فتهجم العقول عليه حين بدا مُعَرفًا، فلذلك انفرد عن العقول، وتنزه عن التحصيل غير الإثبات.»

ومن وراء أستار الغيب يقول الحلَّاج:

هذا وجودي وتصريحي ومعتقدي
هذا توحيد توحيدي وإيماني
هذا عبارة أهل الانفراد به
ذوي المعاني في سرٍّ وإعلان
هذا وجود وجود الواجدين له
بني التجانس أصحابي وخلَّاني
١  أصول الملامتية وغلطات الصوفية، للسلمي، ص٩.
٢  أخبار الحلَّاج، ص٣٢.
٣  التعرف لمذهب أهل التصوف، ص٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤