السلطان العاشر

السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم

وُلِدَ عام ٩٠٠ للهجرة، وتولى زمام السلطنة عام ٩٢٦، فقام بحق الخلافة، ورفع شأن السلطنة إلى أوج العظمة والأبهة، ووضع لها عدة قوانين تتعلق بالإدارة؛ ولذلك لُقِّب بالقانوني، ثم افتتح عدة فتوحات، وباشر الحرب بذاته ١٣ دفعة، وشاد الأبنية الشاهقة، والأسوار الشامخة، وترأف بحال الناس، فأطلق سراح ٦٠٠ مسجون من مأسوري مصر، وردع الظالمين عن المظالم. وفي أيامه ثار أهل المجر على المباشر الذي كان يجمع الخراج من قِبَلِ الدولة وقتلوه، فركب السلطان سليمان بجنوده المظفرة متوليًا قيادة الجند، فقاتل المجر حتى استظهر عليهم وامتلك بلادهم وأخذ قلعة بلغراد، ثم عاد إلى إسلامبول، وبعد عودته بعشرة أيام مات له ثلاثة أولاد.

وحدث في تلك الأثناء اختلاف ونزاع بين شرلمان، ملك إسبانيا، ولويس الأول، ملك فرنسا، على دوقية ميلان، وكان البابا ليون العاشر مبلبل البال من جراء تعاليم لوثر المخالفة للعقيدة الكاثوليكية، فاغتنم السلطان سليمان خان تلك الفرصة للهجوم على الدول النصرانية، وابتدأ في اختضاع جزيرة رودس التي كان يملكها من نحو ١٥٠ سنة شفاليرية ماريوحنا الأورشليمي، وكانت مانعًا قويًّا يحول دون العثمانيين عن مهاجمة أوروبا، فساق إليها عام ١٥٢٢م مائتي ألف جندي تحت قيادة صهره مصطفى باشا، وثلاثمائة مركب تحمل عشرة آلاف بحري تحت قيادة بيري باشا، فضربوا الجزيرة وحاصروها مدة طويلة بدون نتيجة، وحينئذ حضر السلطان بذاته وتولى إدارة القتال، فأمر بالهجوم على القلعة، وبعد عدة ساعات ارتدت عساكره خاسرة، وقد اشتدت مقاومة المحاصرين نحو ٣ شهور اشتدادًا فائق الحد حتى تضايقت العساكر الشاهانية، وفقد منها نحو ثمانين ألفًا، وإذ ذاك أمر السلطان الجنود بإطلاق المدافع على المدينة إطلاقًا دائمًا، فأطلقوا عليها ٢٢٠ ألف مدفع دمرتها وأحرقتها حتى صارت تلًّا من الرماد، ولم يبق مع المحاصرين شيئًا من الذخيرة والمؤنة، فاضطروا للتسليم تحت شرط أن تُصَانَ الكنائس النصرانية، ويرخص بإقامة شعائر الدين المسيحي، ولا يضرب على الأهالي ضرائب مدة خمس سنوات. وكان رئيس تلك الجزيرة رجلًا فرنساويًّا يُدْعَى ليل آدم، فقابله السلطان ومدحه على شهامته، وبعد مدة، أبحر ليل آدم مع أربعة آلاف من أتباعه وذهبوا إلى إيطاليا، ومنها إلى مالطة. أما الجزائر القريبة من رودس، فلما علم سكانها بما كان وحدث خضعوا للسلطان بدون قتال. وفي تلك الأثناء، عزل الصدر الأعظم بيري باشا، وعين بدلًا عنه إبراهيم باشا، وكان رجلًا عاقلًا شجاعًا فتح جملة بلدان في نواحي بلغراد، وقتل من عساكر المجر ٢٥ ألفًا، وسبى نحو مائة ألف من السراري والمماليك، واغتنم الخزينة الملوكية.

وفي سنة ٩٣٤، تمرد أهالي حلب وثاروا على الملا والقاضي فقتلوهما في وسط الجامع، فأنفذ السلطان أوامره بتأديب المذنبين، ثم سار بتجريدة مؤلَّفة من ١٥٠ ألف مقاتل حتى اقترب من مدينة فيلبي، فنصب خيامه في سهل واسع هناك، ثم سار بالجنود حتى بلغ مدينة موهكز من أعمال المجر، فقدم له حاكمها الطاعة والخضوع، وحينئذٍ خلع عليه وأعطاه ثلاثة أفراس من جياد الخيل عليها سروج مُرَصَّعَةٌ، وبعد ذلك ساق جنوده، وافتتح مدينة بودا كرسي بلاد المجر، وعند أواخر تلك السنة تقدمت العساكر السلطانية حتى وصلت إلى تحت أسوار مدينة ويانه، حيث نصب السلطان خيامه، وكان حول صيوانه الملوكي ١٢ ألف أليكشاري، و١٢٠ ألف مقاتل، و٤٠٠ مدفع، و٢٠ ألف جمل تنقل المهمات، وكانت العمارة البحرية الراسية في نهر الطونة مؤلفة من ثلاثمائة قطعة تحت قيادة قاسم باشا. وبعد أن هدم جملة قلاع، واستولى على حدود بلاد النمسا، وهجم جملة دفعات على ويانه، عاد إلى القسطنطينية، وأمر بتطهير أولاده الثلاثة: مصطفى ومحمد وسليم، وأعد لذلك حفلة شائقة دعا إليها كبار رجال المملكة ورئيس مشيخة البندقية.

وفي عام ٩٣٢، وصله كتاب من الملك فرنسيس الأول، ملك فرنسا، يتضمن الشكوى من تغلُّب الأعداء على مملكته، والاستغاثة به، فأرسل إليه الجواب بهذه الصورة.

الله

بنعمة الله الذي تجل قدرته، وتتعظم كلمته، وببركة شمس سموات النبوة، وكوكب برج الأولياء، رئيس طغمة الأبرار سيدنا محمد الطاهر ، وبظل أنفس صحابته الأربعة الطاهرين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم صلوات الله.

شاه سلطان خان ابن السلطان سليم خان الغازي، أنا سلطان السلاطين، وملك الملوك، وواهب تيجان الملك، ظل الله على الأرض، بادشاه، وسلطان البحر الأبيض والأسود، وبلاد الروم إيلي والأناضول وقرمان وارز روم وديار بكر وكردستان وإذربيجان والعجم ودمشق وحلب ومصر ومكة والمدينة والقدس الشريف وسائر بلاد العرب واليمن وإيالات شتى، افتتحها ابن السلطان بايزيد شاه، السلطان سليمان خان، أكتب إليك يا فرنسيس آغا، ملك مملكة فرنسا:

إن الكتاب الذي أعرضته إلى سدتي الملوكية، ملجأ الملوك، مع تابعك فرنكيبان المستحق أمانتك، والألفاظ الشفاهية التي نقلها إلى مسامعي الشريفة، أعلمتني أن العدو حاكم في مملكتك، وأنك الآن قد صرت أسيرًا، وتطلب من لدني خلاصك. فجميع ما قلته جرى عرضه على أقدام كرسي عظمتي ملجأ العالم، وقد فهمت الشروح كافة، ولا عجب إذا انكسر الملوك وصارت أسارى، فليتشدد قلبك ولا تخمد نفسك، وفي مثل هذه الأحوال قد رأينا سلفاءنا الممجدين، وأجدادنا المعظمين ما تأخروا عن الدخول في قتال الأعداء، ومثابرة الفتوحات، وأنا أيضًا اقتفاء لآثارهم، وقد أخضعت في كل الأيام ولايات كثيرة، وفتحت حصونًا قوية يتعذر الدنو منها، ولا أنام ليلًا ولا نهارًا، وسيفي لا يفارق جانبي. فليسهل علينا العدل الإلهي إتمام عمل الخير، وفضلًا عن ذلك اسأل رسولك عن جميع الأحوال والحوادث التي شاهدها بأم عينه، واقْنَع بما يقول لك.

تحريرًا في العشر الأول من هلال ربيع الثاني سنة ٩٣٢ﻫ، من السدة الملوكية في محروسة الآستانة العلية.

وأنجد السلطان ملك الفرنسيس بعمارة بحرية تحت قيادة بربروس، ولما وصلت إلى مرسيليا انضمت إلى عمارة الملك فرنسيس، وبعد الفوز والظفر عادت إلى القسطنطينية.

وفي عام ٩٣٥ﻫ، جاء كتاب من الملك فرنسيس إلى السلطان يطلب إليه إرجاع كنيسة في القدس الشريف، فأجابه هكذا:

إلى فرنسيس آغا، ملك بلاد فرنسا:

أرسلت إلى سدتي الملوكية مقر السلاطين العظام، ومشرق حسن الإدارة والسعادة، ومحل اجتماع الملوك، تحريرًا تخبرني به أنه يوجد في أورشليم المحروسة، التي هي في مملكتي السعيدة، كنيسة كانت قديمًا في أيدي أمة عيسى عليه السلام، ثم تغيرت أخيرًا فصارت جامعًا، وبالنظر للصداقة التي بين عظمتنا الملوكية وبينك، نحن نجيب سؤالك الذي أمام حضرتنا الملوكية، مصدر توزيع المواهب والسعادة. غير أن سؤالك لا يعد من جملة السؤالات المتعلقة بالأموال والعقارات، ولكن بمتعلقات الأديان؛ لأنه بموجب أمر الله الطاهر، وتطبيقًا لسنن نبينا شمس الكونين، أن هذه الكنيسة من زمان غير معلوم قد صارت جامعًا لإقامة صلاة المسلمين، ومن ثَمَّ يكون تغيير حالة موضع قد تسمَّى جامعًا وأقيمت فيه الصلوات مغايرًا لدين المسلمين. وبالاختصار أقول لك: إنه لا يُمكنِّي إجابة سؤالك، ولكن ما عدا الأماكن المعدة لإقامة شعائر الدين، فكل مكان يكون في أيدي النصارى يبقى لهم، ولا أسمح لأحد في مدة حكمي العادل أن يشوش راحتهم، وما داموا تحت ظل حمايتي، فأرخص لهم أن يمارسوا أمور دينهم وطقوسهم في معابدهم بدون معارضة.

تحريرًا في العشرة الأولى من هلال محرم الحرام سنة ٩٣٥.

وفي اليوم التاسع عشر من شهر رمضان من السنة ذاتها، خرج السلطان من القسطنطينية بمائة ألف مقاتل لمحاربة بلاد السرب، فافتتح في طريقه عدة قلاع، واستولى على جملة بلاد، ثم عاد إلى القسطنطينية وعقد الصلح مع ملوك أوروبا، ثم وجَّه عساكره لمحاربة العجم، ولما ساق الجنود إلى فتح بغداد علم بذلك حاكمها ذو الفقار خان، فسلم مفاتيحها إلى السلطان، فقتلته جماعته على خيانته، ثم سار إلى تبريز فدخلها، ثم رجع إلى القسطنطينية، وهناك أوشوا له على وزيره إبراهيم باشا، فقتله وقلَّد خير الدين باشا، المعروف بالبربوس، رئاسة العمارة البحرية، فاستولى بها على عدة جزر واقعة عند حدود إيطاليا. وفي سنة ١٤٣٥ ميلادية، تقدم خير الدين المذكور إلى تحت أسوار مدينة تونس وافتتحها، غير أن هذا الفتح لم يطل أمره إلا مدة قليلة؛ لأن حاكم تونس التجأ إلى ملك إسبانيا، كارلوس الخامس، فركب إليها واسترجعها إليه.

وفي شهر مايو من سنة ١٥٣٤، ركب السلطان ومعه ولداه مصطفى وسليم على مدينة وان من أعمال البندقية فامتلكها بعد حصار تسعة أيام، وفي عام ١٥٤٧ جاء القسطنطينية رسول من عند علاء الدين، سلطان الهند، يستنجد الدولة العثمانية على البرتغال والكاسب ميرزا الذي عصى على ابن شاه العجم، فأنجده السلطان. وفي عام ١٥٥٦، جاءه كتاب من شاه العجم هذا نصه:

أيها الملك المحبوب من الله، الذي غمرك الباري تعالى بمواهبه، والذي سقيت من ندى الخالق المحيي، سلطان البرين، وخاقان البحرين، أنت الذي اسمك نظير اسم نبي الإنس والجان، وأنت مركز الفلكين، وخادم الحرمين الشريفين، أنت الذي جمعت في شخصك القوة والمجد والفخر والقدرة والخلافة والفطنة والعدل والشرف والإنصاف والاستقامة، السلطان سليمان خان، فلترفع سناجقك فوق السموات، وتنقش أسماء سلطنتك على ألواح الأبدية.

فأجابه السلطان بقوله:

يا من بيدك العظمة السامية مثل السماء، واللامعة مثل الشمس، والمحاطة بشعاع المنظر المهيب، والمشتملة على حذاقة دارا، ونجابة خسرو، وسعادة المشتري، وإكليل كوكباد، وقضيب فريدون، وشاه كرسي العظمة، وقمر سماء القدرة، أنت مشرق نجوم السجايا البديعة، ومغرس الفضائل الجسيمة، الجامع في شخصك المناقب الحميدة، واللامع بأشعة العواطف الشريفة، والذي عندك نظر المحامي الصادق، والمالك محبة مَنْ بنعمته يفرق السعادة، أنت مطلع السعود، تامصب شاه، فلْتحطْ بك النعم الإلهية، وتُضئْ لك الأنوار السماوية.

وفي عام ٩٦٧ﻫ، توجه القبطان شابيالي بعمارة عظيمة إلى جزيرة جربا وتملكها بعد حصار ثلاثة شهور، وقبض على حاكمها وأحضره إلى إسلامبول، فلما بلغ ذلك ملك إسبانيا ركب على بلاد الجزائر وأخذ بعض قلاع ومراكب تخص الدولة، فغضب السلطان من ذلك، وعزم على فتح مالطة، فساق إليها القبطان شابيالي بعمارة مؤلفة من مائة وواحد وثمانين مركبًا. وفي اليوم العشرين من شهر مايو من عام ١٥٦٥، وصلت المراكب إلى تلك الجزيرة، ورمتها بنيران مدافعها حتى دمرت حصونها، واستلمتها بعد سبعة أيام، ثم سار السلطان إلى بغداد وهو مريض، ومنها إلى سملين فتسلمها وافتتح جملة قلاع وبلدان. وتوفي عام ٩٧٤، فأخفى محمد باشا الصقلي، قائد الجيوش، خبر وفاته مدة ثلاثة أسابيع حتى وصل إسلامبول ودفنه بتربته المنيفة. عاش أربعًا وسبعين سنة، قضى منها على تخت السلطنة ٤٨ سنة. رحمه الله رحمة واسعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤