الفصل الخامس عشر

أراني منذ بضع سنوات أزداد كل يوم انقباضا عن الناس، وفتورًا عن لقائهم، ومخالطتهم، ونفورًا من الاتصال بهم، وكنت قبل ذلك أحس الضيعة إذا لم أجد من أجالس وأحادث، وكان يسرني أن أسمع صوتى — لا شاديا بل متحدثا — وكانت لذة الحديث لاتعادلها عندى لذة، وكنت في سبيل هذه المتعة البريئة أصنع كل ما يراني الإخوان ذا ولوع به أو طلب له، من برىء، وكانت الوحدة تتلف أعصابي، وتعصف باتزاني، وتكلفنى شططا، ثم ألفيتني — من حيث أشعر، ولا أشعر، أضيّق الدائرة، أو أوسع لنفسي المخرج من محيطها، وأتسلل شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت أتلفّت فلا أجد حولى أحدًا، وصرت إذا احتجت إلى لقاء صديق قديم، أتردد، وبى من التهيب والخجل مثل ما يحس المرء عادة عند لقاء غريب لاعهد له به.

وقلت لنفسي مرة: «ياهذا، إنك لتمشي فى شارع غاص بالخلق مائج بالرائحين والغادين والرائحات والغاديات، وتروح وتجيء مثلهم أو مثلهن ساعة أو بعض ساعة، وتقطع خمسة فراسخ فى الذهاب والإياب فلا يتفق أن تلقى وجها تعرفه. نصف المدينة القارئة تخرج إلى هذا الشارع وتسير فيه. وكل من ترى معه صاحب أو صاحبة، ولا تزال يده ترتفع بالسلام أو رأسه يهتز بالتحية لهذا وذاك، إلا أنت فما يمر بك من تعرفه أو يعرفك. ومع ذلك أنت أشهر مَن يمشى فى هذا الشارع ولعل كثيرين ممن تأخذهم عينك قد قرأوا لك، وأعجبوا بك أو سخطوا عليك فهم يعرفونك إذا كانوا يعرفونك — ورقات مغلفة أو مجلدة ولا يعرفونك فى الأحياء من أمثالهم، ومن يدرى، لعلهم يستغربون، بل يستنكرون أن يروك في الطريق! فكثيرا ما تحصل في نفوس القراء صور للكتاب ليس أغرب منها ولا أعجب. وقد خابت لى أنا آمال كثيرة فى أدباء عرفتهم قبل أن أراهم، لأنى وجدتهم علي خلاف ما كنت أتخيلهم مما أقرأ لهم. والصورة التى يرسمها المرء للمجهول تكون على هواه، وقلما يكون الأصل على حقيقته كذلك. والنفس بعد أن تفرغ من رسم الصورة وتلوينها وإنطاقها بالتعابير المستوحاة من الآثار المنشورة يعز عليها أن تتناولها بالتنقيح والتبديل بل بالتغيير التام فى أحيان كثيرة وهذه الصورة المتخيلة تكون من جهد النفس، والنفس لايطيب لها أن يذهب جهدها عبثًا، وأثقل من ذلك على المرء أن يعترف بأن فراسته لم تكن صادقة، وأن التوفيق أخطأه فيما تعب فيه، وباهي فيما بينه وبين نفسه به، وما أكثر ماسمعت من الناس فى أول لقاء «غريب»! لقد كنا نتخيل المازني شيئًا جسيما له طول وعرض. «أو قولهم» لقد كنا نتصور أنك تكور على رأسك عمامة عظيمة وترسل لحية كثة. «أو قولهم» أأنت المازنى أم اختزاله؟ «ومتى كان هذا هكذا أفلا يكون الأمثل أن أبقي في أذهان الناس كما يشاءون أن يتخيلونى، وأن أظل عندهم كتابًا يقرأونه ويرضون عنه فيما أرجو — أو لا يرضون فقد استوى هذا وذاك عندي؟

وقلت لنفسي أيضًا «إنك لم تعش إلى الآن» كما تحب وتؤثر أن تعيش، ولا سبيل إلى حياة تشتهيها مادمت تخوض العباب مع الخائضين وتضرب فى اللجة مع الضاربين، لأنه لا يسعك إلا أن تنزل فى الأغلب على حكم الجماعة، ولكل جماعة قواعد حياتها، والأمر في جد الحياة مثله فى لعبها ولهوها. وكما أن للعب أصوله ونظامه، كذلك للجد، ولا مفر من التزام هذه الأصول إلى حد كبير والنزول على حكمها؛ وإن كان كل خاضع لها يتسخطها ولا يرتاح إليها، إذ القيد قيد على كل حال فإذا أردت أن تحيا حياتك على النحو الذى هو آثر عندك فلا مهرب من التعزل ليتسنى لك أن تكون على هواك».

وقلت لنفسى أيضًا — على سبيل التشجيع: «واعلم أنك لا تخسر شيئًا تتحسر عليه، وتألم فقدانه إذا أنت انصرفت عن الناس وزهدت فى مخالطتهم، فسيكون عندك خير عوض عما يفوتك، ذلك أنك تكون كالذى يشرب عصارة ولا يمص، فهل من الخسارة أن تعفى نفسك أن تعب التقشير والمص، ومنظر النفاية التى لم يبق فيها خير، وأن تقنع بالعصارة التى هى الخير كله»؟

وصحيح أن بذل الجهد لذة، وأن ما يتعب فيه الإنسان يكون أحلى وأمتع مما يجىء بلا عناء، ولكنى لن أحرم لذة الجهد، حين أستغنى بالكتب عن الناس. وقد صرت آكل ما يريح وينفع، لا ما هو أشهى وأمتع، وأشرب ما يفيدنى لا ما هو أعذب فى فمى أو ما أنا إليه أمْيل وإنى لأردّ نفسى عن كثير مما يتحلب عليه الريق، لأن طاعة النفس فيه يجىء فى أعقابها ما لا يطاق من الآلام والأوجاع وهذا كله رياضة على الحرمان وعلى أن الحرمان لا يكون إلا من الطلب، ولا أعرف لى الآن مطلبا عند الناس، فقد بعد ما بينى وبينهم جدًا، وإنى لأرانى مع الواحد منهم فأحس أنه فى كوكب آخر وعالم غير عالمى. ليس همى همهم، ولا أنا منهم ولا هم منى فى قليل أو كثير، ومتى ذهب الشعور بالمشاركة فماذا يبقى؟ ولست أعنى أنى خير منهم أو أفضل، ولكنى أعنى أنى أرانى مختلفًا، والاختلاف ليس مزية، ولا أفضل فيه ولا رجحان.

وقلت لنفسى أيضًا: «لقد ثار بى صديق مرة لأنى سألته ألا تشتهى أن تتمرغ كالحمار على الأرض؟ وحسب أنى أقول إنه حمار، وأنه لا ينقصه إلا أن يتمرغ وأعترف أنى أسأت العبارة عما أريد ولكنى إنما عنيت أن النفس تنزع إلى الحرية، وما دام لا ضير فيها على أحد فماذا يمنع منها؟ ولماذا نحيط أنفسنا بأسلاك شائكة لا ضرورة لها ولا منفعة منها؟»

وهبنى تمرغت على الترِاب، وتقلبت على الأرض، كما يفعل الحمار، فأين البأس هنا؟ إذا كان ثمَّ بأس فهو علىّ لا على أحد غيرى، وثيابى هى التى ستتسخ، ووجهى هو الذى سيتعفر، وإذا كانت نفسى تنازعنى أن أفعل ذلك، فإنى أنا الذى يؤذيه الإحجام عنه، وأنا الذى ترتاح أعصابه وتسكن نفسه إذا فعل. ولكن صاحبى غضب، وإن كنت لم أقصّر فى الشرح والبيان، وفى الاعتذار من سوء العبارة وقبح الاختيار للمثل. ولا يزال يذكرنى بالسوء كلما عرض ذكرى فى مجلسه، ولاينفك يقول إنى وقح قليل الأدب، ولاشك أنى كما يقول، مادام الأدب هو ما يعرف. وقد يسرّه ويخفف من سخطه على أن يعرف — إذ أمكن أن يحمل نفسه على قراءة شىء لى — أنى أخرج فى بعض الأحيان، إلى الصحراء وأتمرغ كالحمار على رمالها، وأعوى كالكلب وأموء كالقط، وأصرخ وأصيح فى هذا الفضاء الشاسع، ثم أنهض وأنفض عن ثيابى الغبار، وأمسح وجهى ويدى. وأعود إنسانا محتشما ذا سمت ووقار، ولكن بعد أن أكون قد أرضيت نفسى وأشعرتها أنى حر ولى فى هذا الذى لا قيمة له عند الأكثرين، وأن فى وسعى أن أفعل ما أشاء، وأكون على ما أحب. ولا نكران أن هذا لا يتاح لى إلا وأنا منفرد وحدى، ولكنه ليس بالقليل أن تستطيع أن تكون متفردًا وحدك وأن تنعم بذلك، ولا تستوحش نفسك ولا تصبو إلى الناس.

ولعل المتعة مستفادة من القدرة على مغالبة الصبوة إلى المجتمع لا مما عسى أن تفعل وأنت وحدك. ولكن كثيرين يكونون وحدهم، ولا عين عليهم، ولا خوف من أن يراهم أو يسمعهم أحد ومع ذلك لا يجرأون أن يفعلوا ما تحدثهم به نفوسهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤