الفصل السادس عشر

وقلت لنفسى أيضًا: «لا أدرى لم هذا الموت؟ وإنى لأشتهى أن أرى حياة من لا يموتون، وبودى لو يمتد بى الأجل إلى زمان يسع الإنسان فيه أن يغالب هذا الردى العادى. وأحسب أن الموت هو مصدر ما نعده فضائل فى الإنسان، وقد شرحت هذا فيما كتبته عن المتنبى فى «حصاد الهشيم» فلا أعود إليه، ولكنى أحسبه أيضًا علة ما ألفنا أن نسميه الرذائل. غير أنه ما الخير والشر؟ وما الفضيلة والرذيلة؟ أخشى ألا يكون هذا وما إليه أكثر من ضوابط للسلوك، ووسيلة لتنظيم الجماعة والانتفاع بما فى الطباع. وإنا لفى زمن يُعد فيه الخير فى مكان شرًا فى مكان غيره، والفضيلة هنا مرذولة هناك. ولقد أدركت عهدًا كان ذكر الحب فيه عيبًا؛ وكان تقبيل الفتى لأمه التى نجلته، قلة حياء، فالآن نعلّم أولادنا أن الرجل والمرأة ما لم يتحابا لا يجوز أن يتعايشا، ونطلب لغير الشرعى من الأبناء مثل ما لصنوه الشرعى من الحق والكرامة، ونرى الخطيبين أو الزوجين، أو الصاحب والصاحبة يتلاثمان على قارعة الطريق وفى المجلس الحافل، ونحس الرضى والاغتباط من الناظرين، ونشعر أنهم يدعون لهما، ولا نحس أنهم يستهجنون أو ينفرون وليكن هذا كيفما شاء الله أن يكون، فأين العزاء فيه لحى لا يلبث أن يصبح «هالكا وابن هالك، وذا نسب فى الهالكين عريق»؟

وطال تفكيرى فى هذا الموت، وخامرنى خاطره، فهو لا يفارقنى فى يقظة أو منام، وإنى لأحلم به وإن كنت — بلطف الله — أصبح ناسيا ما تراءى لى من الصور والحوادث فى رقادى، وما غمضت عينى ليلة إلا وأكبر ظنى أن أفقد نفسى فلا أعود إلى الشعور بها، وقد أحب أن أهوّن على نفسى الأمر فأتساءل متغابيًا أو مغالطا: «أترى كل ما فى الموت هو هذا الفقدان للشعور بالذات»؟ ولا ينفعنى هذا فأرتد وأقول: «وكيف يُعد حيا من لا يعرف أنه حى ولا يحس بنفسه؟ وماذا تكون إذن جدوى استمرار حياة لايحسها الحى ولا يفطن إليها ولا يدرك بها أنه موجود؟ أطبق الجفن على الجفن وأنا أحدث نفسى أن ما لا حيلة لى فيه لا حيلة لى فيه، فلأقصر عن تدبره، ولكن على واجبا هو ادخار القوة والدفاع بها إلى آخر رمق. ولكن قلبى يظل يخفق ويدق، ويكبر فى وهمى أنى إذا نمت قد تُختلس منى الحياة وأنا ذاهل غافل لا أقدم دفاعا ولا أقوم بكفاح، وأحس دقات قلبى فى رأسى قوية تكاد تفلق العظم، وأسمعها بأذنى مدوية تعصف بسكون النفس واتزان الأعصاب، وأشعر كأن كيانى كله يرتج، بل يزلزل، فاحتال لاستعادة السكون، وأوثر لهذا أن أنام وأنا قاعد فإن القعود، فيما جربت، يعفينى من حدة الشعور بدقات القلب، وأروح أقول لنفسى: يا هذا إن الدقات منظمة وإن كنت أسمعها عالية، وكل إنسان يستطيع أن يسمعها ويستهولها كما نفعل إذا هو جعل باله إليها، فقلبك بخير ولا خوف عليه — على الأرجح — من سكتة مفاجئة، يجمد من جرائها تيار الحياة، وقد قال لى طبيب — استشرته: إن القلب سليم وإن جسمك الضئيل لا يكلفه جهدًا وأن أيسر عمله كاف جدًّا لإدارة الدم فى البدن كله وهذه أعصابك قد أتلفتها بهذا التفكير الدائم فى الموت، فهل تستطيع أن تبين لى على أى شىء تحرص فى الحياة حتى تجزع من الموت هذا الجزع؟ وأشغل نفسى بجواب هذا السؤال، وأروح أعرض على نفسى وجوه حياتى، ولا أبخس الحسن حقه ولا أغالى بالقبيح أو أهوّل به، ويطول بى ذلك فيأخذنى النوم وأستريح من هذا العناء الباطل.

ولكن الخاطر يظل حاضرًا أبدًا، على الرغم مما أحاول أن أدافعه به، فأنا أقعد للطعام وأحس من نفسى الإقبال عليه والرغبة فيه، ولكن كل لقمة أتناولها يصحبها إنذار: «حاذر من الكظة» فأنهض عن المائدة وما شبعت وتقول زوجتى — وهى تقوم معى: «لا أراك تأكل الكفاية» فأقول متمثلا: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع؛ وإذا أكلنا لا نشبع» وأتقى أن أعديها بما ينغص عيشى.

وأكون كما يقول الشاعر القديم:

ولما نزلتا منزلا طلّه الندى
أنيقا، وبستانا من النور حاليا
أجدّ لنا طيبُ المكان وحسنُه
منى، فتمنينا فكنتِ الأمانيا

ولكنى أنظر إلى هذه التى هى منى النفس، وروح الحياة وريحانها فأرى بأول الظن «آخر الأمر من وراء المغيب» فتبدو لى ملفوفًا عليها كفن وقد شاعت الصفرة فى محياها المتوهج، وآضت عينها التى تنفث السحر كقطعة من زجاج، وشاع فيها البلى علوا وسفلا، وصارت غضارتها ونضارتها صديدًا سائلا تسد من نتنه الأنوف.

وأرد نفسى إلى عينى وأترفق بها وأنا أتصور مآلها، فأراها شجرة يذوى نورها، وتذهب زهرتها ويجف ورقها ويسقط عنها، فتتعرى، ثم يجىء الحطّاب ويهوى على أصلها بالفأس.. وكانت هنا شجرة ثم غابت.. هذا كل شىء.

ويحضرنى بيت للخيام مما ترجمته عنه:

وأين، لا أين، بلبل غرد
كان يغنى على الغصون لنا؟

فأديره فى نفسى وأدهوره فى شدقى، بلا صوت، وأظل مع ذلك أتبسم للجالسين وأحادثهم وأمازحهم وأجدّ معهم وهم لا يدرون أنى قبر مظلم، وأنى أستر نفسى وأحجبها عنهم بأزاهير الضحك المتكلف، أى نعم، فما أعرفننى ضحكت ضحكة من القلب.. ضحكة سرور حقيقى عميق.. ولكن مالهم هم أقول لهم ذلك، وأغش به نفوسهم وأفسد نعيمهم وأسود الدنيا فى عيونهم؟

ويلقانى الشبان، ويسألوننى، ويرهفون السمع لما أقول، وفى ظنهم أنى أحكم منهم وأعلم، وإنى لكذاك ولكنها حكمة خير منها الطيش وعلم أفضل منه الجهل، فأقول لنفسى. يا هذا. إنك مسخ كريه، وإن كان هؤلاء الشبان لا يعلمون، فلا تنزع القناع، ولا تكشف لهم عن الخراب والقبح اللذْين فى نفسك، ولا تدع عيونهم تأخذ الديدان التى تمرح فى جوفك وترفق بهم فإن حسبهم ما لابد أن تصدمهم به الحياة عاجلا أو آجلا بل آجلا — كما أرجو لهم وأحب — وإنى لأتمنى لهم السلامة والنجاة، ودوام الاغترار بالعيش، وإن قلبى ليعصره عاصر حين أتخيلهم وقد فتحوا عيونهم على حقائق أخرى غير التى يعرفونها أو يأملونها، وأروح أرسم لهم صورة للحياة الزاهية وأضع نفسى فى موضعهم وأتكلم بمثل لسانهم ويكلفنى هذا شططًا، فليس أقسى من ثنى الأعصاب وإكراهها على حالة غير حالتها ويخيل إلى وأنا أبذل هذا الجهد من نفسى أنى أوقدت نارًا تحت أعصابى لتحمى، وأنى أدقها بمطرقة لتلين وتتخذ الصورة التى أريدها ويؤسفنى أنى لا أجد ما آمرهما به بعد ذلك لتخمد الجذوة وتبترد، ويذهب عنها الحر.

وأسأل نفسى «أتراك تتمنى أن تستأنف حياتك وتبدأها من البداية كرة أخرى؟» ولا أكذب نفسى فأقول (لا) وأحس أنى فى حيرة، فلا أستطيع أن أقول (نعم) وما خير التكرار إذا كانت النهاية واحدة؟ وإذا تسنت العودة من جديد واستئناف الحياة فى الدنيا مرة ثانية، فهل يكون ذلك بهذه النفس التى ألفتها؟ وأرى الجواب كلا على التحقيق، فأزهو فى فراق النفس، ولا أرى هذا الاستئناف للحياة، أو ابتداءها من جديد، إلا ضربا من الموت، فكأنى سأموت ميتتين بدلا من واحدة. وأحيانا هذا الخاطر بالتهكم والسخرية، أركب بهما نفسى والناس والحياة وكل ما فيها، وتستغرقنى العاطفة الفنية فترة، فأذهل، وأهنأ، لأن بالى خلا من التنغيص، ولأن عاطفتى الفنية جعلتنى فيما أحس أقوى من الحياة نفسها؛ لأنها انتزعتنى من اللجة، ووقفت بى على الشاطئ وأتاحت لى أن أتأمل صورة الحياة من ناحيتها المسلية، وأنا بمعزل عنها فكأنى محلق فوقها، غير خاضع لها … ومن يدرى؟ لعلى أدخل السرور على نفس أخرى مظلمة كنفسى، بما أعالج من فكاهة الحياة. وليس قليلا أن أستطيع ذلك وإنه ليسعدنى أن أتوهم أنى استطعت إسعاد غيرى ولو دقائق معدودات وقد أكون واهما ولكنه وهم جميل، بل جليل، وأنه الذى يغرينى بتلمس الجوانب الفكاهية فى الحياة، ولا أنكر أن هذا يسرى على نفسى أيضًا، ولكن ما ينفعنى ويشفينى ساعة ولا يخلو من نفع لغيرى. وما أظن بى إلا أنى أصبحت كذاك الذى شفاه دواء لا يعرفه الأطباء؛ فهو يعد منه ملء زجاجات يهبها للشاكين المتوجعين لوجه الله وشكرًا لله.

وقلت لنفسى أيضًا: «يا هذا، لقد جاوزت الخمسين، فأنت الآن فى المنحدر، كنت على جانب آخر من جهل الحياة، تصعد وتتوقل، ويصرفك ما فى الصعود من مشقات وما يتقاضاك من جهد، وما تأخذه عينك من صور ومناظر — عن التفكير فى الذروة وما بعدها، فالآن أشرفت على الجانب الآخر، ولا مفر لك من النزول. وعبث باطل ليس يجدى أن تخادع نفسك، وتوهمها خلاف ذلك. وقد يتيسر لك أن تقف هنا قليلا، وتتلبث هناك لحظة، ولكن الانحدار مهما طال الوقوف، لا مهرب منه، ثم إنك وأنت لا تستطيع أن تجعل عينك إلى فوق، فهى أبدًا — أو فى الأغلب الأعم — إلى تحت … إلى المصير المحتوم … وهو محتوم … محتوم، ما فى هذا أدنى شك فما قولك فى رياضة النفس عليه؟ تروض نفسك على الموت.. على الاطمئنان إليه.. على السكون إلى ما يهولك منه، والرضى به؟ واعلم أن هذا لا ينفي حرصك على الحياة وضنك بها، وكل ما فيه أن يعدك لما بعدها، فأنت كالذي يذهب إلى مدرسة ليهيئ نفسه لغده المأمول، فهذا غدك الذى لا ريب فيه، فمن أصالة الرأى أن تتهيأ له. وسينفعك هذا، ومواجهة الحقائق أولى وأردّ على المرء من تجاهلها والمكابرة فيها …».

وراقنى هذا، فصح عزمى على رياضة النفس على السكون إلى الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤