الفصل التاسع عشر

قلت إن من الخطأ أن يتصور أحد أن الشباب أشد إقبالا على الحياة، وطلبًا لها ورغبة فيها، أو أن الكهل أقل تشبثا بالحياة أو أكثر فضيلة أو آثر لها وللعفة والزهادة في سيرته. وقد أثار هذا القول اعتراض بعض الإخوان، فأنشأوا يجادلوننى فيه، فكان مما قلته لهم إنكم لا تواجهون الحقائق بل تهربون منها، وتشيحون بوجوهكم عنها، لأنكم ترون هذا أكرم لكم وأبعث على توقيركم، أو أنتم تجهلون نفوسكم، أو تغالطونها أو لا أدرى ماذا غير هذا وقد كنت شابا كما كنتم؟ ولعل الفرق بينى وبينكم أنى كنت — وما زلت — مغرى بإدارة عينى فى نفسى، والغوص فى لجتها على ما عسى أن يكون فيها من طيب وخبيث، وأنى لا أحب أن أسمّى الأشياء أحسن أسمائها بل أسماءها الحقيقية، وأنى قد أغالط الناس، وأخدعهم ولكنى أصدُق نفسى. وليس أحلى عندى وأمتع ولا أوقع وأروع، من أن أتناول نفسى، كله، تيسرت لى الخلوة بها، وأحطها على كرسى أمامى، وأتدبرها، وأجيل فيها عينى، وأفحصها وأجسها، وأسبر أغوارها، وأمتحن نزعاتها وبواعثها، وألتمس المصادر الأولى لأهوائها فى أعماقها، وإصلاحها بحقيقة ما أرى وأعتقد، بلا تلعثم، أو مصانعة، أو مغالطة، وعسى أن يكون هذا مدعاة للإسراف والشطط ولعله يحمل على التجنى، ولكنه خير عندى من المغالطة على كل حال.

والقول بأن الإنسان يركب الحياة بشبابه غلط، والصواب أنها هى التى تركبه فى شبابه تركض به من غير أن يكون له رأى أو إرادة، ومن غير أن تدع له فرصة للراحة والاستمتاع، وما يركب الحياة بالرأى والإرادة إلا الكهل على خلاف المظنون والشائع. أو هذا — على الأقل — ما بلوته من نفسي، وعرفته وأيقنت أنه الصحيح.

كنت شابًا. فكيف كانت حياتى؟ وكيف كان الشعور بها؟ أرد عينى إلى هذا الماضى وأحدق، وأستشف، وأستجلى، وأستوضح.

ثم أهز رأسى ولا يسعنى إلا أن أقول: لا أدرى! كل ما أدريه أنى كنت محمولا على متن تيار قوى، وكنت أقرأ، وأعمل، وأجد وألعب، وأشتهى وأطلب أو أقصّر ولكن بغير فهم صحيح، أو إدراك تام لما أنا فيه، أو لبواعثه أو لمصائر الأمور، كانت الكتب تعدينى وتسحرنى، فأنظر إلى الدنيا بعيون أصحابها لا بعينى، وأحسها بقلوبهم لا بقلبى، وأتصور حياتى وأقيسها على ما يروقنى من صور الحياة فى هذه الكتب، وأنتحل آمال أصحابها ومخاوفهم، وهماتهم وعزماتهم، ومثلهم العليا، وصور الكمال عندهم، وأوحى ذلك كله إلى نفسى، ثم أزعمنى ندهم وقريعهم فأُزهى وأتكبر، وأغتر، لأنى أرى نفسى كما رسمها خيالى الذى استمد من هذه الكتب لا كما هى فى الواقع، وكنت أفعل الشىء أو أتركه بوحى هذه الكتب.

وأضرب مثلا: عشقت مرارًا، وقال فىّ صديقى الأستاذ العقاد قصيدة بعث بها إلىّ، فى ذلك الزمان:

أنت فى مصر دائم التمهيد
بين حب عَفَى، وحُب جديد

وأذكر أنه بعث إلى يومئذ برقعة كتب فيها أسماء المعشوقات وإلى جانبها أرقامها، وكان الرقم الأخير ١٧ وسلسل الأرقام تحتها ووضع أمامها أصفارًا لا أسماء، إشارة إلى أن معاشقى لا تنتهى، وأنه ينتظر أن يعرف الأسماء ليقيدها قبالة أرقامها.

وإذا قلت عشقت، فإنما أعنى الآن أنى اشتهيت، وأنى عانيت هذا الضرب من الجوع الذى يسميه الناس الحب، ولكنى لم أكن أدرك هذا يومئذ، أو أنظر إلى حقيقة الأمر فيه، وإنما كان ما أقرأ من الشعر يغرينى بنشدان الحال، ويطلقنى كالنحلة بين أزاهير الحسن، ويدفعنى إلى إيحاء الشعور بالحب إلى نفسى، فأتوهم أنى محب، وأنى عاشق، فأقضى الليل مسهد الجفن مؤرق النفس، أنظم الشعر وأقول فى هذا المحبوب أو ذاك.

وألقى المحبوب، فماذا كنت أصنع؟ لا شىء أكون معه كما أكون مع أى واحد من خلق الله، ولا يخطر لى حتى أن أتملى بهذا الحسن وأسعد بنضارته ورونقه، أكلمه كما أكلم غيره، وأجدّ أو أمزح، على نحو ما أفعل مع إخوانى بلا أدنى فرق وأرجع إلى بيتى، وأقعد بين كتبى، فأروح أتصور هذه الجلسة العادية على نحو آخر، وأخلع عليها من الخيال حللا ذات ألوان شتى، وأستبعد ما دار من الحديث وما كان من إشارات أو نظرات لم أعبأ بها فى حينها، وأحملها المعانى التى أريدها، فأُسرّ بهذا، وأتألم لذاك، وأرى فى هذه الكلمة والإشارة أو النظرة، معنى الرضى أو التشجيع، وفى تلك معنى التدلل أو الملل، أو القصد إلى الإيلام ولا أزال هكذا حتى تجتمع مادة كافية من ضروب الإحساسات لنظم قصيد!

لا، لم أكن أعيش، أو أشعر بالحياة، وإنما كنت أنظم شعرًا، وكنت وأنا أنظمه أتمثل الإحساس الذى أريد العبارة عنه، والعاطفة التى أتخيل الصدور عنها، وأُوحى لنفسى هذا كله، وأنتهى بأن أعتقد بأن هذا هو الذى شعرت به حقيقة لا توهما، وأنه هو الذى خامر نفسى لا الذى أنشأته أنا لها بقوة الايحاء.

ولا يخلو من فائدة فى بيان هذه الحقيقة، وأن أقول إن قرض الشعر هو الذى كان المقصود والذى اتجهت إليه الرغبة وتعلقت به الإرادة وإن ما كان من حب متوهم وإنما كان ثمرة هذه الرغبة فى قرض الشعر، أى أن قول الشعر كان يبعث على التماس المادة له، كما يريد النجار أن يصنع كرسيا فيطلب الخشب وما إليه، والدليل على أن هذا كله كان بفعل الإيحاء، أن من أعرف الآن من نفسى أنى صغوت بقلبى إليها لم تكن قط موضوعًا لشعرى، فإذا كنت قد نقلت قلبى مرات وطرت عن زهرة إلى زهرة فى بستان الحسن، فذاك لأن العاطفة لم تنشأ نشوءًا طبيعيًا، بل بإيحائها إلى النفس.

وفى وسع القارئ أن يقيس على هذا. فأنا لم أكن فى شبابى أتلقى وقع الحياة مباشرة، بل عن طريق الكتب، وكنت لهذا كالذى نوّمه غيره تنويما مغنطيسيا، فرأيه، وشعوره، وعاطفته، وهواه، وأمله وخوفه، وحبه وبغضه، هو ما يحدثه فى نفسه إيحاء منِّومة.

وقد شببت عن هذا الطوق. وما زال ولوعى بالكتب كما كان، ولكنه لم يبق لها شىء من ذلك السحر القديم، فقد استطعت بفضل معاناتى للحياة أن أقى نفسى وأجنبها تلك الفتنة، فأنا أنظر فى الكتب، وفى الحياة، بعينى، لا بعين الكاتب أو الشاعر، وأحس بقلبى لا بقلب سواى وأتلقى وقع الحياة منها لا من إيحاء الكتب، وأطلب الشىء لأنى أريده وأراه جديرًا بالطلب، وأقيس قدرتى إلى رغبتى، وأوازن جهد السعى وثمرته المرجوة وأقدم أو أحجم بعد القياس المضبوط، والموازنة الدقيقة.

وأحاول أن لا أغالى بقيمة شيء، أو أن أبخسه حقه، ولا يستخفنى هوى، أو يغرنى حال، أو يخرجنى عن طورى أمر، أو يفقدنى اتزانى فرح أو حزن، ورضى أو غضب، ولا تجمح بى شهوة، ولا تركض بى صبوة، لأنى أصبحت أعرف القيم الحقيقة للأشياء، ولا أعدو بها مكانها. ولا أخلط بها الأوهام، ولأنى أسير فى الحياة بالإرادة الصارمة لا طوع الجواذب، فإذا سألتنى لماذا أفعل الشىء، فإنى أعرف الجواب الصحيح، إذ كنت لم أفعله إلا بعد الروية والحساب والوزن، وكذلك ما أترك أعرف علة تركه.

ويمكن أن أقول — ويمكن أن يصدق القارئ: أنى كنت فى شبابى أواقع الحياة مواقعة الهواء، أما الآن، فإنى أواقعها مواقعة المحترف، وقد صارت الحياة عندى حرفة، تعلمتها، وحذفت منها الجانب الذى طلبته ورأيته أوفق لى، والفرق بين الهاوى والمحترف لا يحتاج إلى بيان.

وكل عواطفى وأهواء نفسى، طوع إرادتى، وإرادتى لا تخضع إلا لتقديرى لما ينبغى — ويحق لى فى رأيى — أن أفوز به من الحياة. والعمد فى سيرتى محقق، إلى الحد الذى يتيسر للمخلوق الخاضع لسنن الخلق. وهذا العمد من بواعث السعادة لنفسى. لأنه يكسبنى حظًا من الاستقلال ويجعل لى فيما أشعر نصيبًا من الحرية فى الحياة، ولا شك أنه يجعل شعورى بالتبعات أقوى وأثقل، ولكن هذا هو الأكرم، إذ أى قيمة لإنسان لا يشعر أنه مسئول عما يصنع؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤