الفصل الثاني

لم يطل مكثى فى «الكُتُّاب» لأن أمى أصرت على المدرسة. وكان أبى مشغولا عنا بزوجة جديدة وكان عمله يضطره إلى السفر إلى «استنبول» فكان يقضى هناك ماشاء الله أن يقضى — شهورًا أو عاما أو قرابة ذلك — ثم يعود ومعه زوجة. وأحسبه كان يضطر إلى الزواج اتقاء من الإثم. ولكن الغريب أنه كان إذا احتاح إلى السفر مرة أخرى، يحمل معه الزوجة ويسرحها هناك ويجىء بغيرها وأظنه كان يحب التركيات ويؤثرهن على سواهن، وعسى أن يكون قد راقه منهن بياضهن وحسن التدبير والنظافة والطاعة والأدب فإن يكن ذاك فما ورثت عنه إلا نقيضه ولست أعنى — كما لا أحتاج أن أتول — إنى احب الوساخة وسوء التدبير وقلة الأدب والعياذ بالله، وإنما أعنى أن اللون الأسمر آثر عندى وأحب إلى، وأنه إذا اجتمعت اثنتان واحدة بيضاء والأخرى سمراء، وكانتا من الحسن فى منزلة واحدة، فالسمراء عندى أجمل وأندى على القلب، وعسى أن يكون هذا من التعصب لأمى ولنفسى، فإنى أسمر — أو إلى السمرة أقرب — ولعلى أكره أن تزهى علىّ واحدة ببياض جلدها، ولكن هذا شطط فلأرجع إلى ما كنت فيه.

ولم تكن الزوجة الجديدة من استنبول وإن كانت تركية، وكان لها ولد من زوج سابق ترك على أرنبة أنفها آثار أسنانه، ذلك أنه عض أنفها فى ساعة من ساعات الغضب أو الجنون، وكانت أسنانه نضيدة فتركت حزًا واضحًا. ولبعض الناس ولع بالأنوف فى ساعة الغضب، فقد كان لى قريب يتناول أنف زوجته إذا ساءه منها فعل أو قول ويهزه يمنة ويسرة فيدور رأس المسكينة، وتتساقط دموعها.

ولم يهجر أبى (البيت الكبير) فى سبيل هذه الزوجة الجميلة — فقد كانت جميلة — والشهادة لله — وكان الرجل معذورًا — ولكنه كان يقضى عندنا ليلة، وعند هذه الزوجة ليلة، فأما ليلته فى البيت الكبير فكان يقضيها مطرقا يسمع التقريع والتأنيب من جدى تارة، ومن أمى تارة أخرى، وكان عظيم الحلم، طويل البال قليل الكلام، فكان لا يزيد على الابتسام، وهذا ما خالفته فيه أيضًا، فإنى أحمق طياش سريع الغضب حاد الطبع وثرثار لا يفرغ الناس من هذره، ومن الإنصاف لأبى أن أقول: إنه ما بين شغله بزوجته الجميلة وما يكابده فى البيت الكبير فضلا عن عمله المضنى، لم يبق له وقت يُعنى فيه بنا نحن — بنيه الصغار — وكان لنا أخ كبير غير شقيق أذاق أبانا الأمرين وأراه النجوم فى الشهر الأحمر، ومن حوادثه التى تروى أنه كان يصلى الفجر فى مسجد الحسين، فخرج مرة إلىِ صلاة الفجر على عادته فألفى باب المئذنة مفتوحا، وكان المؤذن شيخًا هرمًا ضخم الجسم، كالفيل الصغير، وكان أعمى، فخطر لأخى أن يعابثه فصعد على أطراف أصابعه ووقف وراء المؤذن المسكين الذى لا يدرى أن وراءه هذا الشيطان، وأنه ليرفع الصوت بالأذان ويصيح فى سكون الليل (حى على الصلاة) وإذا بصوت من ورائه يرتفع فجأة ويصيح متمما (حى على الفلاح) فريع الرجل وله العذر، وكان ضخما كما قلت، وعلي صدره قنطار من الشحم، وكانت صدمة المفاجأة عنيفة فسقط مغشيا عليه وميتًا على قول، ولم يضطرب الأخ المحترم بل أتم الآذان وانحدر إلى المسجد للصلاة ثم احتال فأغرى خدم المسجد بالبحث عن المؤذن المسكين وانصرف هو إلى بيته قرير العين راضيأ عن نفسه ونام نوم الصالحين.

وكان أبى فى وقت من الأوقات مدرسًا للغة العربية فى المدرسة الخديوية فألحق بها ابنه ليكون تحت عينيه، فكان هذا الابن البار هو الذى زهّد أبى فى التعليم فنفض يده منه واشتغل بغيره، ولم يطل بقاء أخى فى هذه المدرسة فقد طردوه فأدخله أبوه مدرسة صناعية، أو زراعية لا أذكر وكان يبيت فيها. فصار يغرى الطلبة زملاءه بالخروج فى فحمة الليل، وكان يربط البطاطين بعضها ببعض، ويدليها من النافذة ويتخذ منها هو وزملاؤه حبلا يتعلقون به، ويتدلون وبه يصعدون أيضًا حين يعودون مع «الديكة» وظهر الأمر فاشتجر أخى مع ضابط المدرسة، وتماسكا وتضاربا فانكسرت رجل الضابط ولا آخر لحوادث هذا الأخ وقد ظل إلى آخر لحظة من حياته مولعا بالعبث.

وكنت فى السادسة أو حوالى ذلك لما أخرجتنى أمى من «الكتاب» وبعثت بى إلى مدرسة عجيبة الحال، تمهيدا لإدخالى مدرسة حكومية، ذلك أنها كانت مدرسة بنات، ولكن فيها «فصلا» واحدًا للصبيان، وكانت صاحبة المدرسة «خياطة» ومن هنا كانت معرفة أمى بها، وإرسالى إليها وكان يساعد هذه السيدة رجل قصير نحيف ولكنه غليظ الكبد، وكل ما أذكره أننا لم نكن نرى البنات أو نختلط بهن، بل كنا نوضع فى حجرة ضيقة، توصد علينا بالمفتاح؛ فكانت هذه الحجرة هى المكان الذى نتلقى فيه الدروس وهى الساحة التى نلعب فيها، وإليها يجيئنا طعامنا ظهرًا وكنا إذا تركنا المعلم نزحزح الأدراج عن موضعها. لنفسح مكانا لنا ونحن نتقاذف الكرة أو نجرى «البلى» على البلاط، وما أكثر ما كسرنا زجاج النوافذ وغُرّم آباؤنا ثمنه.

وكان مساعد المديرة رجلا فظًا — كما قلت — إذا أخطأنا أو قصرنا يأمر الواحد منا أن يخلع الطربوش ثم يضربه على رأسه العارى بالخيزرانة. وكنا فى الفصل سبعة أو ثمانية، فحدث يوما أن أوسعنا ضربًا على رءوسنا فثرنا به من فرط الألم، وتمردنا عليه وأشبعناه لكما وركلا، ومزقنا له سترته الطويلة — الاستانبولين — وخطفنا العصا من يده وأذقناه وقعها على أصابع يديه وعلى ركبتيه ولا أحتاج أن أذكر أننا طُردنا وأن المدرسة استغنت بالبنات الوديعات عن الصبيان الملاعين.

وكان ابن زوجة أبى معى فى هذه المدرسة، فلما طرد كما طردت، وكان الوقت قبل الظهر خاف أن يذهب إلى أمه بالخبر، فأشرت بأن لا يفعل، واقترحت أن نبحث بقية يومنا عن مدرسة أخرى ندخلها، فنخرج من هذا المأزق، فوافق ففعلنا، واهتدينا إلى مدرسة فى شارع «تحت الربع» أو «درب سعادة» لا أذكر، وكان من الغريب أن صاحبها قبلنا بلا كلام أو سؤال أو مراجعة.

وبعد نحو أسبوع عرف أبى ما كان، فلم يقل شيئًا ولكنه أخرجنا من هذه المدرسة وألحقنا بمدرسة أخرى فى شارع محمد على، على مقربة من القلعة وتسمى مدرسة «القرشوللى» وأظن أن زوجته هى التى هدته إليها وأشارت بها، فقد كان صاحبها تركيا، وفى هذه المدرسة كان الضابط — وهو تركى أيضًا — يجلدنا بالسوط، ولا نكران أنه كان يترفق بالصغار أحيانًا ولكن السوط كان فى يده، وكان يكفى أن يلمسنا بطرفه وقد بقيت بهذه المدرسة إلى آخر العام واجتزت امتحانها، ولكن صاحبها أَبىَ أن ينقلنى إلى «فصل» أرقى، لأنى صغير السن، فبقيت فى السنة الأولى عامًا آخر بلا موجب سوى حذلقة هذا المدير أو الناظر الذى استضأل جسمى واستصغر سنى، واستكثر على السنة الثانية من أجل ذلك.

وكنت أعود عصر كل يوم فأرمى كتبى وكراساتى، وأخرج إلى الشارع لألعب مع أقرانى، فأُزجر عن اللعب فأصعد وأطل على اللاعبين من الشرفة، وبى حسرة ولهفة. وأسمعهم يصفوننى، «بالعقل» و«الهدوء» فألعن «العقل» وأذم «الهدوء» فقد كنت مكرها على ذلك لا مدفوعا إليه بطباعى وميولى، ومتى رأيت طفلا ساكنًا قليل الحركة، فاعلم أنه مريض أو ضعيف أو ممسوخ ومتى يلعب الواحد ويجرى وينط إذا لم يفعل ذلك فى طفولته؟

ويدخل الليل فأجلس قريبًا من المصباح وأفتح الكتاب وأقرأ خوفًا من السوط لا رغبة فى التعليم، ويرانى أبى فيشفق على عينى أن تؤذيهما القراءة فى الليل، فينهانى عنها، فأطوى الكتاب وأسكت، وأضيق ذرعا بهذا الصمت، فأفتح فمى وأهم بكلام فينهانى أبى وينهرنى، ويقول لى: «لا تقاطع الكبار، ولا تحشر نفسك معهم» فأقول: إنه ليس هنا صغار أحشر نفسى معهم فمع من أتكلم؟ فيعبس ويضع أصبعه على فمه، فأسكت ثم ينفد صبرى فأعود إلى الكلام فيقول لى: ألم أقل لك إن هذا الكلام لا يليق؟ فأعترض بأبى أراه يتكلم وأرى أمى تتكلم فلماذا يليق بهما مالا يليق بى؟ فيبتسم ولا أدرى لماذا؟ ويربت لى على كتفى وخدى، وقد يقبلنى ويمسح لى شعرى، فأتململ وأقول له إنى أريد أن أتكلم وألعب فمع من؟ بنت الخادمة لا يليق أن ألاعبها لأنها بنت، وأخى أصغر منى بأربع سنوات وهو على كلٍّ نائم.

فتحملنى أمى إلى الخادمة، وتوصيها بى، وتتركنى معها، فتسرى عنى بحكاياتها وأحاديثها حتى يغلبنى النعاس.

وكنت أرى أبى يدخن وهو متكئ بكوعه على مخدة فيتلوى الدخان فى جو الغرفة ويتلوى خياله على الحائط، فأتتبعه بعينى تارة، وبأصبعى تارة أخرى. واشتهيت مرة أن أقلد أبى: فجئت بورقة ولففتها على صورة سيجارة وجعلت أضعها فى فمى وأنا متوكئ على الوسادة وأنفخ كما يفعل أبى، ولكنه لم يكن هناك دخان يتصاعد ويتلوى، فأشعلت عود كبريت وأضرمت النار فى اللفافة واتفق أنى وضعتها على الوسادة فاتصلت بها النار وامتدت إلى حشوها من القطن تحت الكسوة ففزعت وخرجت أعدو، واختبأت وبعد قليل كانت النار مندلعة فى البيت، وكان كل من فى البيت يجرى بالطشوت والأباريق والقلل لإطفاء الحريق فلم يُجد ذلك شيئًا وامتدت النار إلى غرفة أخرى ولم تكن شركة الماء قد مدت أنابيبها إلى البيوت. وكان السقا يمر بنا كل يوم فيملأ لنا الأزيار والطشوت وما إلى ذلك من الأوعية وكانت وسائل الاتصال بطيئة، ولا سيما فى الأحياء الوطنية، فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شىء إلا الدواب ومركبات الخيل، وكانت إدارة المطافئ تتقاضى خمسة جنيهات إذا دعيت لإطفاء حريق. على أنى لا أدرى بماذا كانت تطفئ الحرائق ولا ماء هناك يجرى فى الأنابيب. فإذا قلت إن البيت احترق، وأن الحارة كلها شبت فيها النار فلا يصدقنى القراء، والمثل يقول «يعملها الصغار ويقع فيها الكبار» أى والله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤