الفصل العشرون

كانت حياة الشباب، حياة كبت، وحرمان وحيرة ولم أكن أعرف لى يومئذ مُعادًا غير الإكباب على القراءة والإكباب على قرض الشعر وكنت أقول — ولا يخفى علىّ عبث ما أحاول:

وما نظمى من الأشعار إلا علالة
لو أن سَلْوًا بالقريض يكون!

وكنت أقول لمن يذكرون شعرى:

فلا تنفسوا شعرا، علىّ، مفوّفا
له — لوعلمتم — جانب متخوف
كما نظمت هذه الرياح غمائما
لها من غروب الشمس وشى مطرف
يهددها مما يضم، ممزق،
ومما يوشيها، مذيب ومتلف
لنا الله من قوم تذوب نفوسنا
ويجنى سوانا ما نشور ونقطف
ويصدر عنا الناس ريا قلوبهم
ونحن عطاش، بينهم نتلهف
نذوق شقاء العيش دون نعيمه
على أننا بالعيش أدرى وأعرف

وأحب أن أتعزى بالوهم فأردف ذلك بقولى:

ولكنه ما أخطأتنا لذاذة
إذا بلغ السؤل القريض المثقف
إذا هو سرّى عن لهيف مفجع
وآنس قلبًا موحشًا يتشوّف
فما تحفل الدنيا إذا جلّ ظلمها
ونحن من الأيام والعيش ننصف

ولم يكن زعمى أنى أحد الذين ينصفون نفوس الناس من الأيام وظلمها، بعزاء صادق أو دائم، فكانت وطأة الحرمان والكبت تثقل على كاهل صبرى فأصيح:

«لبست رداء العيش عشرين حجة
وثنتين، ياشوقى إلى خلع ذا البرد!
عزوفا عن الدنيا، ومن لم يجد بها
مرادًا لآمال تعلل بالزهد»

فيوم كان فيض الحياة زاخرا، كنت أقول يا ليتنى ما كنت، ولم يكن هذا طبيعيا، ولكنه كان ثمرة الكبت، وجنى الحرمان، وقطاف الحيرة، والآن، وأنا أدلف إلى الخمسين، لشد ما أتمنى أن يثقل الزمان رجله، ليطول التلبث، وتقضى النفس وطرها من التزود قبل أن يستأنف الركب مسيره إلى «فجر لا شىء» كما يقول الخيام فى إحدى رباعياته. وقد صار ما كان يشق على أن أراه، باعثا على التسلية ومجلبة للسرور، ولم يصدق ظنى حين توهمت فى أيام الشباب الكاذب، أنى سأقضى حياتى ثائر النفس، هائجا، أنه ليس لى عن ذاك معدى أو مهرب فقد قلت:

سكنت، فما أدرى الفتى كيف يغتدى
تجدّ به الأشجان طورا وتلعب

كما قلت على لسان غيرى.

بل لم أسكن، ولكنى نظرت إلى الحياة من ناحية أخرى، فقد تغيرت الدنيا، واختلفت أحوال الحياة، فراجعت نفسى، ورضتها على غير ما ألفت وانعطفت بها إلى سبل أخرى. فقد عرفت أن شعورى القديم بالمقت للحياة كان غير صادق، وأنه لم يكن سوي مظهر لحالة عارضة أعانيها، وأن حب الحياة والتعلق بها أعمق من ذلك، لكن حب الحياة كان يصطدم أحيانا بالجزع من الموت، فكان يرجّني هذا ويخرجنى عن طورى، ويعصف باتّزانى فأرانى أثور وأحاول فى مثل هذه الحالة الوقتية أن أنغّص على الناس كأنّ لهم ذنبا، أو كأنهم ليسوا مثلى سواء بسواء، فأروح أقلد «هينى» الشاعر الألمانى، وأكتب وصية ليس أكشف منها عن جنون الثورة، أقول مثلا:

ستُرخَى على هذى الحياة الستائر
وتُطفأ أنوار، ويقفِر سامر
فهل راق هذا الناس قصة عيشتى؟
وماذا يبالى مَن طوته المقابر؟
تركت لهم من قبل موتى وصية
نظير التي وصّت بها لى المقادر
وهبت لأعدائى — إذا كان لى عدى —
همومى وما منه، أنا الدهر، ثائر
وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى
وبالدمع لا يرقا، ولا هو هامر
وبالجدرى فى وجهه ليزينه
وبالعرج المشنوء، والله قادر
وبالضعف، والإملاق، والبأس، والجوى
وبالقَسْم حتى تتقيه النواظر
وللشيب بالأوجاع فى كل مفصل
وبالثكل فى الأبناء والجَدّ عاثر
وكل سَقام قد تركت لذى الصّبا
وما كنت منه فى الحياة أحاذر
وللناس ألوان الشقاء، وإننى
إذا مت: لا آسى على مَن يخامر

ولم يكن لى فى ذلك الحين بنون ومن أجل هذا فاتنى أن أوصي لهذه الطبقة بشىء من تلك الثروة البغيضة!

وكان عقلى يثوب، فأطوى هذا الهراء، ولا أنشره فيما كنت أنشر من شعرى.. على أنى كنت هادئا ساكنا، لما عثرت — وأنا أحاول عبثًا أن أتعلم الألمانية وحدى — على بيتين فيهما غير قليل من خبث المكايدة ففرحت بهما وترجمتهما فيما يلى — والمفروض أنهما يكتبان على قبر صاحبهما:

أيها الزائر قبرى:
اتل ما خُطّ أمامك
ههنا، فاعلم، عظامى
ليتها كانت عظامك!

وترجمتى هذين البيتين، وأنا هادئ، دليل على أن الثورة كامنة في النفس وإن كانت لا تبدو في العادة.

ثم صرت لا يعزينى علمى أن غيرى لا محالة ذاهب، إلى حيث أذهب وإن المآل واحد، ولا يقنعنى إلا أن أصور لنفسي فَناء العالم كله، بل العوالم أجمع، حتى هذا لم يكن فيه مقنع، فكنت أشتهى أن أكون آخر من في الدنيا لأشهد مصرعها بعينى، وأطمئن. وربما غالطت نفسى فزعمت لها أن هذه شهوة فنية، ولكنى لا أصدق! كلا، لا أصدق.

وكان مظهر هذا قصيدة تصورت فيها ثلاثة نساجين (ولا أدرى لماذا لم أجعلهم أربعة أو عشرين!) يصنعون كفنًا للعالم.

تعاقب أيديهم على النوْل، دهرهم،
ولست أراه غير أنى عالم
وما بى، إلى أن تبصر العين، حاجة
أليس سوي ما أنت بالعين شائم؟
هنالك، لو تدري، تُسَدِّى أكفهم
وتُلحِم ثوبا عهده متقادم
وفى مسمعى منهم وإن كنت لا أرى
وجوههم — أصواتهم والزمازم
يحوكون ثوبا ناصعا فيه تنطوي
— متى عريت — هذى الدنا والعوالم
من البُرُد الخزّى بيض خيوطه
ومن بلورات القر فيه نمانم
ومن نفس الريح المديد خطوطه
ومن قطع السحب الثقال مراقم
ألا ليتنى فى الأرض آخر أهلها
فأشهد هذا النحب يقضيه عالم!

وقد خلفت ورائى هذه المرحلة أيضا، فلست ألتمس عزاء، أو أنشد ما أغالط به نفسى فى الحقائق. وسيان عندى اليوم أن يذهب الناس أو لا يذهبون، فما أحفل شيئًا من هذا، وإنه لآثر عندى أن يبقوا — لو كان إلى هذا سبيل — على أنى لا أعنىّ نفسى بأمرهم، وحسبى أمر نفسى، وهمى في هذه الآونة أن أروضها رياضة جديدة على سكون لا يفسده اضطراب، لا على الركود فإن هذا شر من الموت؟ بل طعمه يذاق في الحياة، والسكون قوة لأنه ابن الإدراك الصحيح والإرادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤