الفصل الثامن
بعد وفاة جدى أدخلنى أبى المدرسة القربية — لقربها من حيِّنا، وإمكان الوصول إليها بلا حاجة إلى قطع الشوارع التى يجرى فيها الترام «الجديد» والتعرض لأخطاره، فقد كانت ضحاياه كثيرة فى تلك الأيام.
وكانت للمدرسة بوابتان — واحدة على شارع القربية — أى صانعى الخيام. وكانت رحيبة ولكنها عتيقة جدًا. وقد بقيتُ بها أربع سنوات. ولا أذكر أن أحدًا خطر له أن يجعل لأبوِاب الحجرات فيها مشابك، فكان المعلم إذا أراد أن يترك الباب مفتوحًا، يجىء بحجر يسند به الباب. ولكنِ كان للحجر منافع أخرى لبعض المعلمين وأخص بالذكر منهم شيخًا أعور كان يعلمنا «الخط» فإذا أساء أحدنا الكتابة أو تشاغل عنها بالكلام أو ضحك أو لعب، أو فعل غير ذلك مما يفعل الصبيان، ناداه الشيخ ودق له أصابعه بهذا الحجر.
ويكفى للتعريف بالمدرسة أن أقول إن ناظرها كان «وقفًا» عليها وكان الكبار منا يروون عنه أنه كان يقول عن نفسه إنه «جاهل جاهل، لكن أدارجى» — أي إداري. وأنصفه فأقول إنه كان رجلا طيبًا، وإنه لم يسئ قط إلى معلم أو تلميذ أو عامل — أى خادم — وقد أنعم عليه فى السنة التى دخلت فيها مدرسته، برتبة بك من الدرجة الثالثة وهى لا تخول لصاحبها لقب البك ولكنه فرح بها وانتحل اللقب وصار يغضب، إذا لم يطلقه عليه مخاطبه.
وقد جمعونا يومئذ صفوفا فى ساحة المدرسة، وأبلغونا خبر الإنعام على «سعادة البك» وهتفوا فهتفنا وراءهم «أفندى مزشوك يشا» وهى عبارة تركية معناها الحرفى «يعيش أفندينا كثيرًا أو طويلا».
وكان الناظر جارنا فهو يعرف أبى، ولهذا كان يسمينى «ابن عبد القادر» ولكنه كان أخنف فكان ينطق الباء ميما فيما يخيل إلينا. وكنت على صغري قد فطنت إلى مواطن الضعف فى نفسه.
وأدركت أن «سعادة البك» مفتاح كل باب مغلق، فلا يكاد يسمعنى أقول «يا سعادة البك» حتى يهش لى ويهز لى رأسه راضيًا ويعفو عن ذنبى أو يجيبنى إلى ما أطلب. وكنت دقيق الجسم صغير جدًا — ومازلت كذلك إلى اليوم — ولكنى كنت حركة دائمة فكنت لهذا لا أطيق الجلوس ساعة كاملة على تلك المقاعد الخشبية الناشفة. وكان قلقى واضطرابى يثقلان على المعلمين فيضربوننى أو يشكوننى إلى الناظر فتنجينى «سعادة البك» من العقاب.
وكان معلمنا فى السنة الأولى شيخًا قصيرًا عظيم الوجه مغضنه جاحظ العينين واسعهما — وكان وجهه الضخم — فيما يبدو لى — فى حجم صدره. وكان يعلمنا القراءة والكتابة والخط والحساب ويحفظنا القرآن. وكانت لنا ألواح من الخشب نكتب عليها الاَيات الكريمة بالحبر، ثم نعود بعد حفظها فنمحوها بالإسفنجة ونكتب غيرها. وهكذا. فجمع الشيخ منا ملاليم اشترى بها «ماجورا» أخضرا كان يملؤه ماء لنغمس فيه الأسفنج ونمسح الألواح. وكانت أدراجنا دكة كبيرة تسع ستة من الصبيان تتصل بها أدراج بعددهم. وكانت قديمة مفككة وقوائمها متخاذلة ولم يكن من النادر أن تقع بنا فنتصايح ونضوضئ، فيخف إلينا الشيخ ويرى أن الدكة قد تفككت فيخرج ثم يعود بالمسامير يدقها فيثبت القوائم والأرجل فى مكانها من مقعد الدكة أو لوحها.
وكانت حجرتنا هذه تطل على حجرة المعلمين وكان كثيرًا ما يتفق أن يكون الشيخ قد خرج من بيته على ريق النفس فينادى الفرّاش ويناوله قرشًا فيشترى فولا مدمسًا وزيتًا ورغيفًا ومخللا. ويضع له ذلك كله على النافذة التى بين الحجرتين ويظل الشيخ مترددًا بين طعامه ودرسه حتى يفرغ من الأكل. وكان ربما نطق وفمه محشو. فنضحك. فلا يبالى. فقد كان حليما رحيما لا يقسو علينا ولا يعنف بنا، وأحيانا يلمح الناظر مقبلا من بعيد فيشير إلى أحدنا وهو يحاول أن يبلع اللقمة العظيمة ويتكلم فى آن معا، ويدرك الصبى مراده فيتخطى النافذة إلى حجرة المعلمين وينقل إليها ما بقى من طعام الشيخ ثم يرتد — وثبا من النافذة — إلى مقعده ويمر الناظر بسلام، فيقول الشيخ لأحدنا، وهو يشير إلى النافذة «هات. هات».
وكانت ساحة المدرسة واسعة جدًا، فكنا فى أوقات الفراغ نتبعثر فيها ونلعب ما بدا لنا أن نلعب — الكرة أو سواها — وكنا نتخذ الكرة من الجوارب القديمة أو من بذور «ثمر الدوم» وهو ثمر ليفى قليل الحلاوة ولكن نواته عظيمة تصلح أن تكون كرة صغيرة نتقاذفها أو نضربها بأرجلنا.
أما فريق كرة القدم، فكان شيئًا رهيبًا. ذلك أن أعضاءه جميعًا رجال كبار. وكان بعضهم لا يعد تلميذًا بالمدرسة إلا على المجاز. وأذكر أن الناظر جمع من تلاميذ المدرسة نفقات التعليم لأحدهم، وكان لاعبا مشهورًا، وكان اسمه «سليمان» ولكنا كنا ندعوه «سللى مان» لأن وجهه كان أبيض مشربًا بالحمرة كوجوه الإنجليز. وكان يدخن «البيبة» فما كنا نراه إلا وهى بين شفتيه ولا أدرى ماذا كان مبلغ علمه بالإنجليزية، فقد كنت صغيرًا. ولكنى أدرى أنه كان يتكلف رطانة كرطانة الإنجليز. وكان له زميل فى فريق الكرة اسمه «أبو تيفه» — أى توفيق — وكنا نحن الصغار نسمع أنهما لا يلعبان إلا إذا شربا خمرًا. فأما «سيللى مان» فلا يبعد أن يكون هذا شأنه ولكنى لا أصدق أن «أبا تيفه» كان يفعل ذلك أى يسكر قبل اللعب، فقد كان وديعًا كريم الشيم، وهادئا رزينا. ولا نكران أن هذا لا ينفى الولوع بالشراب، ولكنى لم أر الرجل قط — فقد كان رجلا لا صبيًا مثلنا خارجا عن طوره، لا فى ساحة اللعب ولا فى المدرسة. وبعيد — فيما أرى — أن يكون مثله سكيرًا.
وكانت للمدرسة عناية خاصة بطعام فريق الكرة، فكانت مائدتهم حافلة مثقلة، بل كانت المدرسة تشترى لهم «المخلل» فى سلطانيات صغيرة لتشحذ رغبتهم فى الطعام وكان عملها هذا يستدعى منها التساهل مع بقية التلاميذ، فكان كل من معه قرش منا يقف عند حاجز البوابة قبيل وقت الطعام وفى يده القرش أو الملاليم ويصيح بعم أحمد «الطرشجى» هكذا «هات شوية بنكلة» أو بأكثر أو أقل، فيناوله سلطانية فيها ما طلب فيرتد بها، ويظل يحملها حتى يدق الجرس فيدخل بها حجرة الطعام، ولم أر مثل هذا فى مدرسة أخرى من مدارس الحكومة.