الفصل التاسع

مرض أبى بعد شهور قليلة من دخولى مدرسة القربية الحكومية، وصار كل من فى البيت يلغط بأن زوجته التركية سمته، أو هى لم تسمه، وإنما دأبت على إطعامه لحم الأرنب بعد أن يعالجه رجل مشعوذ، بما لا يعرف أحد، ليحبب أبى فى هذه الزوجة، ويبغّض إليه أمى، وكان أبى يعتقد أن هذه خرافات وأباطيل، وأنها مما يلفقه الخيال بتأثير الغيرة ولكن أمى كان قد أصابها سقم شديد واضطراب عصبى عنيف فعُنى أخى الأكبر بما أشيع من أن هذا بعض ما جره سحر المشعوذ عليها، فراقب بيت هذه الزوجة التركية فرأى يوما شيخًا يدخل، فتبعه من حيث لا يشعر فصعد الشيخ إلى غرفة فوق السطح، وأوقد نارًا، وذبح أرنبا، وكتب على لحمه كلاما وعلقه فى الهواء، ورمى فى الموقد بخورًا فأطلقه وراح يقرأ ويعزم، وأخى يرقبه، ثم خطر له أن يطلع أبى على ذلك فأغلق عليه الغرفة وأوصد باب البيت أيضًا وحمل مفتاحه معه وذهب فجاء بأبى وأراه ما رأى فشق الأمر على أبى فطلق المرأة.

ولكنه مرض بعد ذلك لا أدرى بماذا؟ ولزم البيت بضعة شهور كان الطبيب يعوده فيها كل بضعة أيام مرة، ولكنه كان فيما يبدو لى صحيحًا معافى، لا سَقَم به، فقد كان يشرب القهوة علي عادته، ولا ينفك يدخن سجائره المألوفة ويأكل طعامه المعهود — السمك المسلوق والأرز والفاكهة — وكل ما تغير من أمره واختلف من حاله أنه كف عن النزول إلى المكتب. وأن الكاتب وأخى كانا يصعدان إليه بالأوراق فيطلع عليها ويشير بما يرى.

وعدت من المدرسة عصر يوم، فلقينى الكاتب على الباب وسألنى «أين عم محمد» فقلت لم أره، فأخبرنى أنه ذهب ليجىء بى من المدرسة لأن أبى يريد أن يرانى فيظهر أنه ذهب من طريق وعدت أنا من طريق.

ودخلت البيت فألفيت فى فنائه نفرًا من أقاربنا جلوسا على الكراسى فسلمت فقال أحدهم «اصعد. اصعد. أبوك يطلبك.»

فلم أفهم، وصعدت على مهل، ودخلت على أبي، وأنا أنتظر أن أراه قاعدًا على «الكنبة» فإذا به راقد على مرتبة مفروشة له فى وسط الغرفة، وعند رأسه مصحف، فأدرت عينى فى الغرفة، فألفيت النساء من أهلى قاعدات حول المرتبة، مطرقات، وفى أيديهن مناديل، يرفعنها إلى عيونهن ويكفكفن بها الدموع، فنطرت إلى أبى، فأشار إلى بعينيه فانحنيت عليه فقبلنى، ونهضت، وأنا غير فاهم وهممت بأن أدور وأخلع ثيابى، وإذا النساء يصحن ويولولن، وإذا بأُمى تتناولنى وتميل على رأسى وهي تقول «أبوك مات».

أبى مات!

لم أفهم هذا، ولم يحُدث الخبر فى ذهنى صورة ما، فقد رأيت أبى، كما اعتدت أن أراه، لم يتغير وجهه، ولا نظرته، ولا ابتسامته، ولم يختلف شىء سوى أنه راقد على مرتبة، بدلا من السرير حتى بعد أن ولولت النساء، رددت عينى إليه، فرأيت ابتسامته مرتسمة على شفتيه وفى عينيه، فثنيت طرفى إلى الباكيات النائحات، ثم عدت أنظر إلى أبى فراعنى أن الابتسامة ثابتة، كأنها متحجرة، وأن العين لا بريق فيها ولا ضوء، وأنها كالزجاجة، وأن المعنى الذى لمحته لما انحنيت عليه ليقبلنى قد خبا وانطفأ فبهت ولكن منظرًا جديدًا شغلنى وصرفنى عما وقع فى نفسى من هذا الموت العجيب فقد تشددت جدتى وتحاملت على نفسها، وركعت إلى جانب ابنها وأدنت أصابعها برفق من عينيه فأطبقت عليهما الجفون ولثمت جبينه ونهضت تشهق وتكاد تختنق.

ولم يبق لى مقام بين هؤلاء الباكيات، فانحدرت إلى فناء البيت حيث الرجال وكانوا يبكون ولكن في صمت، ففى الوسع احتمالهم، وضمنى أخى الأكبر وأجلسنى إلى جانبه ويده على كتفى والدموع تنهمر من عينيه، وأنا كالصنم وأذكر أنى خجلت، وحاولت أن أبكى ودعكت عينى بأصابعى ولكن العَبْرة لم تسعفنى ولم تنجدني وكنت لا أزال غير فاهم هذا الموت الذى أثار هذه الضجة الشديدة فى بيتنا — فوق وتحت — وترك النساء يلطمن والرجال يبكين مثل النساء.

ولا أطيل: أقيم المأتم واقتصر فيه على يوم واحد، وكان مأتما ككل المآتم فلا حاجة إلى كلام فيه ولكن أخى بعد انقضاء الأيام الثلاثة صعد إلى حيث كانت أمى جالسة، وأنبأها أن المأتم تكّلف خمسمائة جنيه فدهشت ولم تصدق وقالت إن هذه ثروة ففى أى شىء أنفقها بل بددها فى يوم واحد..

فنادانى وكنت قريبًا منهما أسمع وأرى ودفع إلى ورقة فيها أرقام وقال «هذا ابنك يذهب إلى المدرسة ويعرف الحساب فليقل لك جملة الأرقام ماذا تبلغ.. فجمعت الأرقام فإذا هى كما قال خمسمائة جنيه لا تنقص مليما واحدًا».

ولم يتغير شىء من حالنا فى الشهرين التاليين سوى اختفاء أبى فقد كان المال الذى تركه كثيرًا ولكن أخى بعد ذلك طلق زوجتيه وسرحهما وتزوج جارة لنا كانت عينه عليها — ولا شك — واتخذ لها بيتًا مستقلا فاحتجنا أن ننتقل إلى بيت صغير بعد انتفاء الحاجة إلى البيت الكبير الذى كنا فيه فبدأت متاعبنا من ذلك اليوم فقد أهملنا أخى وبخل علينا بالمال وصار يقتر علينا ويغدق على زوجته الجديدة حتى بدد كل ما ترك أبى فى نحو ثمانية شهور.

وكان لجدي أرض وكانت أمى هى الوصية علينا فزور أخى توكيلا منها له وباع الأرض وبعثر ثمنها فيما كان يلهو به ونحن لا نعلم فلما علمت أمى لم تصنع شيئًا وقالت إنها لاتستفيد شيئًا من أن تنزل به ما يستحق.

وجاء يوم خلا فيه البيت من الطعام واللبن والسكر والسمن فلو جاءنا ضيف لكانت فضيحة وكنت واقفًا على عتبة الباب أنظر إلى صبيان الحارة وهم يلعبون فرحين مسرورين لا يكربهم شىء ولا يفكرون في بن أو سكر ينقصهم، وإذا بشيخ فاضل من زملاء أبى فى الأزهر مقبل على ففزعت وهممت بأن أتوارى عنه عسى أن لايرانى فيمضى فى سبيله ولكنه لمحنى فنادانى، وقبلنى وقال «ستك الحاجة: كيف حالها»؟ قلت «بخير ولك الشكر». قال: «اصعد إليها وقبل لى يدها وقل لها إنى أريد أن أقابلها».

ولم يكن فى هذا غرابة، فقد كان أيام الدراسة ملازما لجدى، وكان ربما أقام فى بيتنا — مع أبى — الأسبوع والأسبوعين. وكانت جدتى تعده كابنها، ولكنى أشفقت من زيارته، فما فى البيت شىء يقدم لضيف كريم مثله، فماذا نقول له. وبأى شىء نعتذر.

ولم أر لى حيلة فأنبأت أمى وجدتى، ثم انحدرت إليه وصعدت به فجلس يحدث جدتى وأنا واقف وظهرى إلى الحائط، وعقلى شارد وإذا بى أسمعه يقول إنه كان قد خطف من أبي مبلغًا آخر، فثالثا فرابعًا ليشترى بذلك أرضًا لنا، ولكن الأجل وافى أبى. فبقى المبلغ معه، ولا علم لغير الله بذلك وقد خاف الشيخ أن ينزل به قضاء الله فيضيع مالنا، فهو يريد أن يبرئ ذمته ويرده إلينا.

وقد كانت هذه بداية الفرج، فقد وسعنا بعد ذلك أن نعيش بهذا المبلغ وتيسر الإنفاق على تعليمنا، والفضل لله ثم لهذا الشيخ الكريم، وإنصافا له، واعترافًا بفضله، أقول: إنه المرحوم الشيخ إبراهيم بصيلة من كبار العلماء — رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء — فما وسع أحدا منا فى حياته أن يرد له ذرة من هذا الجميل الذى لن ننساه ولا نجحده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤