بيت النمل
من وحي المعتقدات الشعبية
(شابٌّ في نحو الثلاثين مضطجع
على فراشه، في حجرة غاصَّة بالكتب … والخرائط …
وهو ينظر باهتمام إلى باب الحجرة، وقد دخلت منه
أمه تبتسم له بحنان.)
الشاب
:
ماذا قال الدكتور؟
الأم
:
كل خير يا بني … اطمئن.
الشاب
:
ألم يلاحظ اضطرابًا في … حالتي
العصبية؟
الأم
:
لم يلاحظ شيئًا سوى أنك تجهد عقلك أكثر
مما ينبغي، في أرقامك وأعمالك الهندسية …
إنه ينصح لك بالراحة التامة … وبالهواء
الطلق …
(يدخل الأب وفي يده
ورقة.)
الأب
:
دواء بالنقط للقلب … تناول منه … أين
«نظارتي»؟
(يبحث عنها.)
الشاب
:
للقلب؟! … أوَجدَ في قلبي
مرضًا؟!
الأم
(بسرعة)
:
الدكتور لم يقُل ذلك … أبوك سمع خطأً …
(للأب وهي تغمزه) قل لابنك إنك سمعت خطأً
… أذنك اليوم ثقيلة السمع.
الأب
:
أين «نظارتي»؟ … (يفتِّش جيبه) … كانت
في جيبي الآن … إني واثق … متأكد.
الأم
:
ومن تظنُّه يستطيع أن يأخذها من
جيبك؟!
الأب
:
أين ذهبت إذن يا ناس؟ … لأول مرة يحدث
لي ذلك … منذ ثلاثين سنة … ما فقدت
«نظارتي» قط!
الأم
(تبحث معه فوق
المكتب)
:
لعلك نسيتها في مكان ما؟
الأب
:
نسيتها؟! … إنها عيني … هل ينسى الإنسان
عينه في مكان ما؟!
(ينقر الطبيب على باب
الحجرة ويدخل.)
الطبيب
:
لا مؤاخذة! … قلمي الحبر … لا شك أني
تركته هنا.
الأب
(يلتفت إليه)
:
قلمك الحبر؟!
الأم
:
ربما نسيته فوق هذا المكتب.
الطبيب
:
متذكر أني وضعته في جيبي بعد أن حرَّرت
به التذكرة.
الأب
:
هل بحثت في كل جيوبك؟
الطبيب
:
كلها … وها أنا ذا أعيد البحث أمامكم …
(يفتش جيوبه فيعثر على شيء يخرجه) … ما
هذا؟ … «نظارة»؟
الأم
:
«نظارتك»!
الطبيب
:
إني لا أضع «نظارة» مطلقًا.
الأب
(ينحني عليها فاحصًا
ويصيح)
:
«نظارتي» أنا … «نظارتي»!
الطبيب
:
«نظارتك» أنت؟ … ومن الذي وضعها في
جيبي؟!
الأب
(يأخذها الأب من يده
ويضعها على أنفه)
:
هي بعينها … أقصد بعيني! … يدهشني كيف
سهوت عن وضعها في جيبي هذه المرة؟!
الطبيب
:
المدهش هو أن تضعها في جيبي أنا!
الأم
:
حصل خير … حصل خير.
الطبيب
(وهو يبحث)
:
ولكن قلمي؟
الأب
:
لا تنتظر يا دكتور أن تحدث أعجوبة أخرى،
فتجده في جيب أحد الحاضرين!
الطبيب
:
بالطبع لا … ما من شكٍّ عندي في أني
وضعته في جيبي منذ لحظة … إني واثق …
متأكد … ومع ذلك ربما سقط مني هنا على
البساط.
الأب
:
معقول أن يسقط منك فوق البساط … (ينفخ
منظاره ويخرج منديله لينظفه به، فيعثر على
شيء يخرجه) … عجبًا … ما هذا؟ …
قلم؟
الطبيب
(صائحًا)
:
قلمي أنا … قلمي.
الأب
:
ومن الذي وضعه في جيبي؟
الطبيب
(يتناوله من
يده)
:
قلمي بهيئته و«ماركته» … شكرًا … ولكن
كيف سقط في جيبك أنت؟!
الأب
:
كما سقطت «نظارتي» في جيبك!
الشاب
(صائحًا من
سريره)
:
أرأيتم؟ … إنها لأشياء غريبة تقع في هذه
الحجرة!
الطبيب
:
بل تقع في عقولنا نحن! … الإجهاد في
العمل — كما ترى — يكاد يُنسي الإنسان ما
تصنع يده … منذ الصباح المبكر حتى هذا
المساء، وأنا في عيادات متصلة …
الأب
:
وما قولك في رجل متقاعد مثلي … لا عمل
له على الإطلاق … لماذا أقع في هذا السهو
والنسيان؟!
الأم
:
سنُّك … في مثل هذه السن تضعف الذاكرة
ويكثر السهو.
الطبيب
:
مسألة بسيطة … تحدث كل يوم … وأخيرًا
أكرِّر كلامي: لا شيء عند مريضنا، سوى
حاجته إلى الراحة ونبذ التفكير … سأمر
غدًا لأراه … إلى اللقاء.
الأب
(وهو يشيع
الطبيب)
:
نُحضر له هذا الدواء الليلة؟
الطبيب
(وهو خارج)
:
طبعًا … طبعًا.
(يخرجان.)
الأم
:
عليك يا بُني بالراحة، كما أشار الدكتور
… سأتركك تنعس قليلًا.
الشاب
:
أماه! … لولا خوفي عليك … أن تنزعجي …
لقُلت لك …
الأم
:
ماذا؟ … تقول لي ماذا؟
الشاب
(يتراجع)
:
لا شيء.
الأم
:
بل تكلَّم … سأتمالك … إني أمُّك التي
تفديك بكل عزيز … ماذا تريد أن تقول
لي؟
الشاب
:
ليس من حقي أن أتكلم … لست أملك ذلك …
الآن على الأقل … لم أستأذن بعدُ في البوح
بالسر.
الأم
:
أي سر؟
الشاب
:
سر … سر ما يحطم جدران هذا الرأس …
ويكاد يذهب بهذا العقل … لا … لا … لن
أقول (يشخص ببصره في فضاء الحجرة، كأنه
يرى أحدًا) ها أنا ذا أصمت كالقبر … ها
أنا ذا أغلق فمي.
الأم
(تنظر إليه
بقلق)
:
ماذا دهاك يا بني؟
الشاب
:
اذهبي الآن يا أمي … اذهبي
واتركيني.
الأب
:
ما هذه النظرات؟ … إلهي! … لكأنك تشخص
ببصرك إلى شيء … أو إلى أحد … في هذه
الحجرة.
الشاب
:
اذهبي بالله يا أمي … دعيني أنم قليلًا
… (يغمض عينيه.)
الأم
:
نعم … يحسن أن تنام الساعة … نم قليلًا
واسترح … لعل النوم يذهب عنك هذه الحال …
اللهم رفقًا به!
(تخرج وهي تنظر إليه قلقةً
والهةً … وتغلق عليه باب الحجرة … وعندئذٍ
يفتح الشاب عينَيه، ويتكلَّم كأنه يخاطب شخصًا
يراه ماثلًا أمامه.)
الشاب
:
لم أقُل شيئًا … كما ترين … لم أقل
شيئًا.
(يُسمع عندئذٍ صوتٌ
نسائيٌّ رقيق في الحجرة من جسم غير
منظور.)
الصوت
:
كنت موشكًا على الكلام!
الشاب
:
بغير إذن منك؟ … مستحيل!
الصوت
:
لماذا ترتعد هكذا؟ … متى يذهب خوفك مني؟
… ألست جميلة؟ … ألست على الصورة التي
تحبها في امرأة؟
(تبدو عندئذٍ فجأة حسناء
ملتصقة بالحائط، وكأنها كانت قد خرجت
منه.)
الشاب
:
أنتِ أيتها الجنية التي وضعت قلم الطبيب
في جيب أبي، و«نظارة» أبي في جيب
الطبيب؟
الجنية
:
نعم … لأضحكك … ولكنك لم تضحك!
الشاب
:
لقد نسبا ما حدث إلى السهو
والنسيان!
الجنية
:
تعلِّلون دائمًا عبثنا الخفي بأسباب
آدمية.
الشاب
:
لا بدَّ لنا من هذا التعليل الآدمي؛ حتى
نستطيع أن نقبل ما يحيط بنا من
ظواهر.
الجنية
:
لهذا جئت بالطبيب؟ … ماذا جاء يصنع هذا
الطبيب هنا؟ … إنك لست مريضًا … ولكنك
ترجو أن تكون مريضًا … أليس كذلك؟ … أنت
تتمنى أن يكون ما ترى نتيجة خلل في أعصابك
… أو هو من صنع خيالك؛ لأن هذا التعليل
يريحك!
الشاب
:
نعم … يريح عقلي ذلك!
الجنية
:
آه … عقلك … عقلك … عقلك هذا هو الحاجز
بيني وبينك!
الشاب
:
ماذا تريدين مني؟
الجنية
:
أحبك … قلت لك أحبك.
(تقترب منه حتى تلمس
الفراش، فيتزحزح الشاب كمن يريد
الابتعاد.)
الشاب
:
أقنعيني بأني لست أهذي … من أنت؟ … ومن
أين تأتين؟ … وإلى أين تذهبين؟ … كيف
تدخلين ها هنا والأبواب مغلقة؟ … وكيف
تنصرفين؟
الجنية
(باسمة)
:
أهذا كل ما يشغل فكرك؟
الشاب
:
نعم!
الجنية
:
من سوء حظي أنك رجل مفكِّر، قلَّما تظهر
جنية لرجل مفكِّر … إنما أكثر ظهورنا
للبسطاء من العامة، الذين يستقبلوننا
بإيمانهم ومعتقداتهم، لا بعقولهم وتفكيرهم
… والإيمان باب يتسع لدخولنا، أمَّا العقل
البشري فمعيار أصغر من أن نوضع فيه … لكن
ما حيلتي وقد أحببتك؟ … وأحببتك أنت
بالذات وخاطرت بالظهور لك؛ لإقناعك بحبي
وأنا لا أجهل صعوبة الأمر معك.
الشاب
:
نعم … أقنعي عقلي أولًا.
الجنية
:
أخبرني أنت أولًا: لو أنك رأيتني على
صورتي هذه في شارع عماد الدين، أما كنت
هويتني من أول نظرة؟
الشاب
:
مؤكد!
الجنية
:
جمالي إذن يعجبك وصوتي وحديثي؟!
الشاب
:
أنت مثال من الجمال طالما حلمت بمثله.
إني لا أسأم أبدًا من متعة النظر إلى حسنك
… وصوتك نغم حلو لا أملُّ سماعه، وحديثك
عذب … كل شيء فيك بديع … بديع!
الجنية
:
لا شيء يمنعك إذن من حبي؟
الشاب
:
كيف تدخلين هذه الحجرة … وهي مغلقة؟ …
كيف تشقِّين جدران حجرتي؟!
الجنية
:
ليس هذا بالشيء العسير عندي … ولكن
العسير هو أن أشقَّ جدران قلبك!
الشاب
:
لا، ليس صعبًا على امرأة جميلة أن تدخل
قلبي … ولكن الصعب هو أن تدخل من هذا
الحائط!
الجنية
:
عندكم أنتم الحيطان والجدران هي التي لا
تُقتحم.
الشاب
:
وعندك؟ … وعندكم؟ … أخبريني عن حياتكم
أنتم … إذا عرفت حقيقتكِ فربما …
الجنية
:
ربما أحببتني؟
الشاب
:
نعم … جهلي بكِ هو الذي يخيفني منكِ …
وخوفي منكِ هو الذي يطردكِ بعيدًا عن قلبي
… اكشفي لعقلي عن حقيقتكِ كلها … إذا أدرك
عقلي كيف تعيشين وتتحركين وتتصرفين، فإن
الطريق إلى قلبي بعدئذٍ سهل ميسور.
الجنية
:
نعم … نعم عقلك؛ هذا الحارس الثقيل الذي
يقف بباب قلبك! … حارس هو عندك مدجَّج
بسلاح العلوم الرياضية والمنطقية … كيف
أستطيع إقناعه؟ … ولكني لن أتراجع …
سأحاول جهد الطاقة … هل تسلم بوجود
مخلوقات أخرى أرقى من الإنسان؟
الشاب
:
أين؟
الجنية
:
في هذا الكون الهائل؟
الشاب
:
مخلوقات أرقى منا نحن بني الإنسان؟ … في
هذا الكون؟
الجنية
:
لا تستطيع تصوُّر هذا؟ … صدقت … إن
النملة التي تسعى هنا في أرض حجرتك لا
تستطيع هي الأخرى أن تتصور وجود مخلوقات
أرقى في هذا البيت … كل ما تعلم هو أن هذا
البيت لها وحدها … فهذه الجدران عندها
هضاب وجبال طبيعية … وهذا الفتات من الخبز
أو السكر الملقى على الأرض، موارد لها
ومناجم، تغرف منها وتنقل إلى بيوتها
ومدنها، بكد وجد لا يكلان … فإذا وطئت
بلادها بنعلك؛ عن وعي أو غير وعي منك
فأهلكت منها جموعًا، كان ذلك في نظرها
كوارث اجتماعية تفسرها بشتى التفسيرات …
ولكنها لن تتصور حدوثها من حذاء مخلوق
أرقى هو أنت! … لأن عيونها الصغيرة لا
يمكن أن تحيط بكل حجمك، ومداركها المحدودة
لا يمكن أن تصل إلى فهمك …
الشاب
:
تشبهينني بالنملة؟
الجنية
:
أنت في هذا الكون أقل من النملة في هذا
البيت … فهذه الأرض التي تسعى فيها ليست
سوى كوكب صغير من جموع الكواكب التي تدور
حول الشمس … وهذه الشمس بكواكبها ليست سوى
مجموعة فقاعات تتحرك في مجرة، فيها نجوم
أضخم من شمسك هذه خمسين مرة … وهذه المجرة
— التي يسافر فيها الضوء ستة آلاف سنة،
والضوء يقطع في سنة ثلاثمائة ألف مليون من
الكيلومترات — هذه المجرة ليست سوى واحدة
من مجرات تسبح في الكون، لا يُعرَف لها
عدد، فيها من الشموس الضخمة التي تدور
حولها الكواكب ما لا يستطيع ذهنك أن يمتد
إليه!
الشاب
:
هذا صحيح … إنهم يعلموننا ذلك في
المدرسة، ولكن هذه الأرقام الهائلة لا
تلبث أن تصبح أمام آدميتنا الطاغية مجرد
أرقام!
الجنية
:
كان يجب مع ذلك أن تستنتج من هذا شيئًا،
أيها المهندس إن هذا الكون الواسع جدًّا،
بالنسبة إلى طبيعتك وإدراكك وقدرتك، لا
يمكن أن يكون قد خُلق لك وحدك، كما أن هذا
البيت بقاعاته الواسعة جدًّا، بالنسبة إلى
طبيعة النملة وإدراكها وقدرتها، لا يمكن
أن يكون قد أُنشئ لها وحدها! … ومع ذلك لو
سمعت «جنس» النمل يتكلم فيما بينه، لعلمت
أنه في غروره يحسب هذا البيت لم ينشأ إلا
له!
الشاب
:
كما نفعل نحن البشر في غرورنا!
الجنية
:
إنكم تنسون أن الله لم يخلق شيئًا عبثًا
… إن المسافات الجنونية بالنسبة إلى النمل
في هذا البيت طبيعية بالنسبة إليك أيها
الإنسان … كذلك المسافات الضوئية التي لا
يتصورها تركيبك هي مسافات طبيعية بالنسبة
إلى كائنات أرقى، لا تراها عينك ولا
يتخيَّلها عقلك.
الشاب
(يفكر قليلًا)
:
معقول … إن الخليقة الإلهية لا يمكن أن
يكون فيها حشو أو لغو … هي هندسة دقيقة
كاملة لا فضول فيها … وما دام في الكون
أبعاد لا يستطيع الإنسان أن يبلغها
بتركيبه أو بإدراكه، فلا بد أن تكون هناك
كائنات خُلقت لهذه الأبعاد!
الجنية
:
تقدم عظيم، لم يبقَ عليَّ الآن إلا أن
أقنعك بما تسميه قدرتي الخارقة على شق
حائطك!
الشاب
:
نعم … أفهميني ذلك.
الجنية
:
إنك تصنع هذه الخوارق كل يوم.
الشاب
:
أنا؟
الجنية
:
مع كائن مثل النملة … إنك تصنع أحيانًا
في نظرها ما هو أغرب من شق الحائط! … إن
في وسعك أن تنقلها بإصبعك من قارةٍ إلى
قارة، دون أن تدريَ المسكينة من أسرار ذلك
شيئًا، وفي مقدورك أن تداعبها فتخطف من
فمها زادًا لتلقي به إلى نملة أخرى، فتوقع
في روعها الدهشة لو كانت تفكر، ولكن
النملة لا تفكر في عِلَّة هذا الأمر
العجيب … أمَّا الإنسان فيفكر فيه … ولكن
ينسبه أحيانًا إلى سهوه ونسيانه، أو ذهوله
ووهمه!
الشاب
:
كل هذا جائز … ولكنه بَقِي ما هو أعجب!
… بقي الأمر الذي يحيرني حقًّا، ولا أجد
له تعليلًا مقبولًا!
الجنية
:
ما هو؟
الشاب
:
حبكِ لي … كيف يمكن أن ينشأ بيننا
حب؟!
الجنية
:
ولِمَ لا؟
الشاب
:
على هذا القياس أستطيع أنا إذن أن أحب
نملة.
الجنية
:
ولِمَ لا؟
الشاب
:
كلا يا سيدتي … أو آنستي … أو … لست
أدري كيف أدعوكِ؟ … هنا ويكاد عقلي يفرُّ
من رأسي! … أنا أقع في غرام …
نملة!
الجنية
:
تستبعد ذلك لأنك لا تعرف غير جنس النمل
جملةً … ولكنك لو استطعت أن تعرف نملةً
واحدة بالذات، وتميِّزها بصفاتها وشخصيتها
وملامحها …
الشاب
:
ملامحها؟!
الجنية
:
وتتبع مجرى حياتها اليومية، وتدخل نطاق
حياتها الخاصَّة، وتراقب بإعجاب ما تنطوي
عليه أعمالها وتصرفاتها، فإن صلةً تُعقد
عندئذٍ بينك وبينها … ولا تلبث هذه الصلة
أن تنمو وتتحوَّل مع العادة إلى اهتمامٍ،
ثم إلى رغبةٍ في إيجاد نوعٍ من التفاهم
بينكما، ثم إلى شعورٍ بالاتفاق والخوف من
الافتراق.
الشاب
:
أنتِ إذن قد فعلتِ ذلك معي؟ … دخلتِ
حياتي وراقبتِ تصرفاتي؟
الجنية
:
وألفتُ تفكيرك، وأُعجبتُ بشخصيتك،
وألممتُ بنواحي ضعفك وقوتك … وبي رغبةٌ
شديدة أن أبقى معك ولا أفترق عنك.
الشاب
:
وماذا تريدين مني بعد ذلك؟
الجنية
:
لا شيء … سوى …
الشاب
:
سوى ماذا؟
الجنية
:
أن تفهمني وتطمئنَّ إليَّ!
الشاب
:
وأن أحبك؟
الجنية
:
عندما تفهمني وتطمئن إليَّ، فإنك
ستحبني.
الشاب
:
وكيف أفهمك وأطمئن إليك؟ … إن ما أرى من
جمالك ليس غير مجرد رداءٍ خارجي … رداءٍ
آدمي استطعتِ بقدرتك المجهولة لي أن
تتشكَّلي فيه، أو أن تأمري بصري أن يراكِ
عليه … ولكنه يخفي وراءه حقيقةً لا
أتبينها … هذا الرداء الجميل قد يطمئن
إليه ويقنع به بعض البسطاء الساذجين من
الآدميين، أما المفكر منهم …
الجنية
:
هنا المشكلة! … ألم أقُل إني معك أقوم
بمغامرةٍ تدعو إلى اليأس … ما الحل؟ … ليس
هنالك غير حلٍّ واحد …
الشاب
:
ما هو؟
الجنية
:
أن تخلع أنت رداءك البشري … وتأتي إلى
عالمي …
الشاب
:
عالمك؟ … أين هو عالمك؟
الجنية
:
ستدهش مما فيه … وستراك ارتفعت فجأةً
إلى مرتبةٍ كمرتبة الإنسان بالنسبة إلى
النمل!
الشاب
:
وأغادر عالمي هذا، وبيتي هذا، ووالدتي
ووالدي ومشروعاتي الهندسية
ومستقبلي؟!
الجنية
:
كل هذا ستراه تافهًا عندما تُشرف عليه
من كيانك الجديد.
الشاب
:
وهل أستطيع أن أعود إلى عالمي هذا عندما
أريد؟
الجنية
:
لا أظن!
الشاب
:
وكيف عدتِ أنت؟
الجنية
:
جنونٌ ابتُليتُ به، وهذا لا يحدث إلا
نادرًا، من حسن حظكم وحظنا … فما من واحدٍ
في عالمنا أراد الاتصال بواحدٍ من عالمكم
إلا صادف من المصاعب ما يزهِّده في
المحاولة … مصاعب كتلك التي يصادفها أحدكم
لو أراد أن يلتقط نملةً ليحادثها … إنها
قبل كل شيء تفرُّ من بين أصابعه مرتاعةً
مذعورة!
الشاب
:
ولكني واثقٌ أن الحنين سيدفعني إلى
المجيء لرؤية أمي وأبي.
الجنية
:
عندما تجد في مقدورك أن تمشي متنزهًا
بين الكواكب البعيدة والمجرات السحيقة،
فإنك ستكفُّ عن الاهتمام بتلك الفقاعة
الضئيلة التي تسمونها الكرة
الأرضية.
الشاب
:
ولماذا اهتممتِ أنتِ بها، فجئتِ تحبينني
… أنا النملة؟!
الجنية
:
قلتُ لك إن هذا حدثٌ شاذ؛ كشذوذ ذلك
الذي يقف عندكم في الحمام يُعنى بفقاعةِ
صابون!
الشاب
:
شكرًا … شكرًا!
الجنية
:
لست أقصد الحطَّ من قدرك … ولكن تعالَ
معي وأنت ترى عالمك كما أراه.
الشاب
:
إني معترف بصغره وضآلته … مقرٌّ بضعفنا
الآدمي وعجزنا … ولكنا سعداء هكذا … سعداء
بحياتنا المحدودة وعمرنا القصير، على ما
فيه من متاعب ومصائب وأشجان. والدتي ستحزن
لفقدي … وهي التي كانت تحدِّثني من أيام
في أمر زواجي؛ لأُنشئ بيتًا وأنجب
أولادًا!
الجنية
:
ماذا أسمع منك؟ … يا لها من لغة!
الشاب
:
لغة النمل؟!
الجنية
:
إذا جئت معي فثق أنك ستسخر من كل ذلك
بسرعة عجيبة!
الشاب
:
أذهب معك؟ … ومن يضمن لي أن عالمكِ
الآخر سيسرُّني؟ … ومن يضمن لي أني لن
أندم على عالمي؟!
الجنية
:
إذا انقلبت نملة إنسانًا فهل تسرُّ أو
تندم؟
الشاب
:
سؤال محيِّر … دعيني أفكر!
الجنية
:
لا تفكر … لا تفكر! … مصيبتكم أيها
البشر هي التفكير … هلمَّ بنا … وأنا أضمن
لك حياة ستملؤك عجبًا! … أصغِ إليَّ …
هلمَّ معي! … هلمَّ معي!
الشاب
:
إلى أين؟ … إلى أين؟
الجنية
:
أمسك بيدي واتبعني وأنت ترى.
الشاب
:
ولكني … مريض.
الجنية
:
لن تكون مريضًا بعد قليل … إذا أمسكت
بيدي، وتبعتني فستجد نفسك بغتةً كائنًا
آخر!
الشاب
:
إني مشوق إلى رؤية هذه الأعجوبة، ولكني
خائف.
الجنية
:
لا تخَف … ضع يدك في يدي … وكل شيء
ينتهي في غمضة عين.
الشاب
(يمد يده
بتردد)
:
أمد يدي! … هكذا … سأغمض عيني كي لا أرى
ما يحدث.
الجنية
:
هات يدك.
الشاب
(يتشجع)
:
أريني كيف تصبح النملة إنسانًا … (يمد
لها يده بقوة) خذي.
الجنية
(تمد يدها إلى قلبه
وتلمسه)
:
لا تنسَ هذا … فهو ينفعك هناك.
الشاب
(يلفظ صيحة
مكتومة)
:
آه … قلبي!
(يسقط جثمانه على الفراش
هامدًا … وتتناول الجنية يده وتجذب روحه
الشفافة، وتمضي بها نحو الحائط وهي تحادثه
…)
الجنية
:
سترى الآن كيف أنك ستشق الحائط
معي.
الشاب
(وهو يمشي بروحه معها
كمن هو في ذهول وهي تقوده)
:
أنا؟! أشق الحائط!
الجنية
:
أنت الآن في ذهول الصدمة، لم تفطن بعد
إلى أنك صرت كائنًا آخر.
الشاب
(يلتفت إلى فراشه ويرى
جثمانه الممدَّد)
:
ومن هذا الذي على الفراش؟ … عجبًا! …
هذا أنا أيضًا!
الجنية
:
نعم! … هو أنت أيضًا، أقصد ذلك الذي كنت
منذ قليل.
الشاب
(ينسلُّ منها ويتجه
إلى فراشه ويرى جثمانه على الفراش)
:
دعيني أنظر إليه.
الجنية
:
تريد أن تتأمل هذا الوجه؟!
الشاب
(وهو ينحني فوق وجه
الجثمان)
:
تقولين إني أعرفه؟!
الجنية
:
أظن ذلك.
الشاب
:
نعم … أعرفه بالتأكيد.
الجنية
:
رداء ملقًى تعرف ولا ريب ماذا كان يخفي
وراءه.
الشاب
(وهو يتأمله)
:
لم أره قط هكذا وهو مغمض العينَين
…
الجنية
:
لو أن إنسانًا استطاع أن يرى وجهه وهو
مغمض العينَين، لما ظل إنسانًا لحظة
واحدة.
الشاب
:
ماذا كان يصنع؟ … ولماذا هو حبيس هذا
المكان الضيق؟ … كيف يطيق أن يعيش بين مثل
هذه الجدران؟ … أيرقد هنا دائمًا؟ … في
هذا الثقب؟
الجنية
:
أترثي له؟
الشاب
(وهو ينصرف عن
الفراش)
:
ماذا يهمني من أمره؟ … هلمي بنا خارج
هذا المكان!
الجنية
:
أتحس الآن الرغبة في الانطلاق؟
الشاب
:
أحس أني أختنق هنا … إلى الفضاء! … هلمي
بنا إلى الفضاء، حيث حياتنا الطبيعية، أي
فكرة طرأت عليكِ فجعلتكِ تحبسينني في هذا
الكوكب؟! … لكأنكِ تحشرينني حشرًا في ثقب
نملة!
الجنية
:
هلم بنا إذن … (تتلفَّت إلى باب الحجرة)
إنهم آتون!
الشاب
:
من هم؟
الجنية
:
أهل هذا الراقد على الفراش.
الشاب
:
نعم … أهله آتون … أسمع أصواتًا
أعرفها.
الجنية
:
ستسمع الآن كيف يعلِّلون ذهابه.
الشاب
:
وما شأننا نحن؟ … إني أشعر نحوك بحب
…
(يفتح باب الحجرة، وتدخل
الأم … وخلفها الأب يحمل قارورة
الدواء.)
الأم
(تسرع إلى
الفراش)
:
ولدي! … ما لرأسه قد انحدر! … إلهي!
إلهي …
الأب
:
ماذا به؟ ربما استغرق في النوم. أيقظيه
… ملعقة من الدواء تنعش قلبه.
الأم
(صائحة وهي تجسُّ
نبضه)
:
قلبه وقف! … مات بالسكتة! … مات!
الأب
:
ماذا تقولين؟ … يا للمصيبة!
الأم
:
مات! … مات بسكتة القلب! … مات ولدي! …
ولدي! … ولدي!
(الشاب يشاهد أمه وأباه
فوق جثمانه.)
الشاب
(للجنية)
:
بكاؤهما هذا لا معنى له!
الجنية
:
عندك أنت الآن!
الشاب
:
لو كانا يدركان …
الجنية
:
كيف يستطيعان أن يدركا؟
الشاب
:
لماذا لا نحاول أن نفهِّمهما؟
الجنية
:
نفهِّمهما ماذا؟ … إنهما لن
يفهما.
الشاب
:
لو قلت لهما إني حي …
الجنية
:
يفرَّان منك ذعرًا!
الشاب
(يهمُّ بالتقدم نحو
أهله)
:
فلأحاول!
الجنية
(تمسك به)
:
لا تقلب الحزن عليك مهزلة.
الشاب
:
ماذا نصنع إذن؟
الجنية
:
لا شيء … قلت لك ما من شيء عسير علينا؛
مثل إفهام البشر ما نريد … إن طبائعهم
الآدمية تقف بيننا وبينهم؛ كأنها حيطان لا
تشق ولا تقتحم.
الشاب
:
فلندعهم إذن وشأنهم … هلمي بنا!
الجنية
:
هلم بنا … إلى كوكب آخر …
أتحبني؟
الشاب
:
أحبك … أحبك.
(يشقَّان الحائط معًا ويخرجان
… بينما الأم والأب يبكيان الجثمان.)
(ستار)