الفصل الثالث عشر

في الأدب واللطف

قال الشاعر تنسن ما معناه:

ومن ذا الذي ترضي سجاياه دائمًا
سوى الفاضل الندب الأديب المجرب
تراه بماء اللطف طهر ثوبه
وزين حوباه بخلق مهذَّب

وقالت جريدة التيمس: إنَّ ما يرفع البلاد ويقويها ويعظمها ويمد سطوتها المادية والأدبية، ويجعلها معتبرة مطاعة، ويخضع تحتها أممًا وممالك، هو الأدب، آلة الطاعة، وأساس العظمة، وتاج الرئاسة، وعرش السلطنة، وصولجان القوة.

***

الأدب تاج الحياة ومجدها، وأفضل ما يملكه الإنسان، وهو الشرف بالذات والمال بالاعتبار. هو الذي يرقِّي الأمة، ويرفع شأن جميع المناصب، ويغني أكثر من الثروة، ويشرِّف أكثر من الشهرة، وليس هو تحت الخطر مثل الأولى ولا عرضة للحسد مثل الثانية، وهو نتيجة الصدق والاستقامة والثبات، الصفات التي يعتبرها الجميع أكثر من أي صفة كانت. الأدب مظهَر الطبيعة الإنسانية في أفضل معانيها، وأحسن مبانيها وأهله روح الهيئة الاجتماعية ومصدر قوة الدولة الحسنة السياسية؛ لأن الصفات الأدبية هي الحاكمة على الكون، قال نبوليون: إنَّ نسبة فائدة القوى الأدبية في الحرب إلى القوى الجسدية كنسبة عشرة إلى واحد. وقوة الأمم واجتهادهم وتمدنهم تتوقف على أدب أفرادهم، وما الشرائع والأحكام سوى ظواهر الأدب، وميزان الطبيعة العادل لا يُنيل الأفراد والأمم والشعوب إلا ما يستحقونه، فالحسن الأدب يُجَازَى بالحسن والضد بالضد، وتلك نتيجة ضرورية لا مفر منها، الأدب صفة تعصم من قامت به عما يشينه، فإن كان الإنسان قليل العلم والثروة ولكن أديبًا كان له نفوذٌ في كل مكان في المعمل وفي المخزن وفي المكتب وفي الديوان. كتب كَنِن سنة ١٨٢٠ يقول: سبيلي إلى القوَّة إنما هو في الأدب، ولست بسالك سبيلًا آخر، وهو ليس السبيل الأقرب ولكنه الأثبت.

إننا نفتخر بذوي العقول الحاذقة، ولكنَّا لا نتكل عليهم ما لم نرَهم أدباء، ولقد أصاب اللورد يوحنا رسل؛ إذ قال: إنَّ من طبيعة الأحزاب في لندن أنْ يستعينوا بذوي العقول الحاذقة، ويتبعوا إرشاد ذوي الآداب الحسنة. وقد ظهر الأدب ظهورًا جليًّا في حياة فرنسيس هُرْنَر الذي قال فيه سدني سمث: إنَّ الوصايا العشر كانت مطبوعة على جبينه. وتُوفِّي هُرْنَر هذا في الثامنة والثلاثين من عمره، ولكن كان محبوبًا ومؤتمنًا من الجميع، وما من أحد إلا وقد تأسَّف عليه ما عدا الأنذال، ولم يُقِم البرلمنت إكرامًا لعضوٍ وقتَ وفاتِه كما أقام لهذا الرجل، وما هو سبب ذلك؟ أشرفه؟ كلَّا؛ لأن أباه كان تاجرًا متوسط الحال، أغناه؟ كلَّا؛ لأنه لم يُعْرَف عنه ولا عن واحد من أقاربه أنه فاض معهم درهم واحد، أمنصبه؟ كلَّا؛ لأنه لم يكن له إلا منصب واحد، أقام فيه مدة قصيرة، وكانت أجرته طفيفة، أذكاؤه؟ كلَّا؛ لأنه لم يكن ذكيًّا بل حذورًا بطيئًا ولم يطمع إلا بالاستقامة، أفصاحته؟ كلَّا؛ لأنه كان يتكلم بهدوء وسكينة، ولم يكن في كلامه شيء من الفصاحة التي تُذهِل السامعين، أسحر معانيه؟ كلَّا؛ لأنه كان كغيره من الناس، فبماذا إذن؟ باجتهاده وحسن مبادئه وصفاء قلبه، الصفات التي يقدر على كسبها كلُّ إنسان سليم العقل، فلم يرتق إلا بحسن آدابه، ولم تكن آدابه وضعيَّة فيه بل مكتسبة، وهو الذي أكسبها لنفسه، وكان في مجلس العامة أناس كثيرون أسمى منه عقلًا وأكثر فصاحة، ولكن ما من أحد منهم فاقه في الجمع بين مقدار كافٍ من جودة العقل والفصاحة مع الآداب السامية، وقد وُلِد هذا الرجل لكي يظهر مقدار ما تفعله القوى المعتدلة المُعزَّزة بالتهذيب والاستقامة، وفرنكلين الأميركي نسب نجاحه إلى حسن آدابه لا إلى قوى عقله، ولا إلى فصاحة لسانه، وقال عن نفسه: إنني ركيك العبارة متردد في اختيار الكلمات كثير الغلط اللغوي.

الأدب يجعل مَنْ في المناصب العالية أهلًا لأن يُوثَق به، فإنه يقال عن إسكندر الأول إمبراطور روسيا: إنَّ آدابه كانت بمثابة نظام الشرائع، وفي أيام حروب الفرُند لم يبق أحد من أشراف فرنسا فاتحًا أبوابه إلا منتاني، ويقال إنَّ آدابه الشخصية كانت أفضل لحمايته من كتيبة من الفرسان.

والأدب قوة ويصدق عليه هذا الوصف أكثر مما يصدق على المعرفة. والعقل بلا قلب والفهم بلا سلوك والاجتهاد بلا صلاح جميعها قوات، ولكن كثيرًا ما تكون قوات للشر، وقد نستفيد من هذه القوات، ولكنَّ مَن يمدحها إذا كانت كذلك كمن يمدح اللص على حذاقته وقاطع الطريق على فروسته.

والصدق والاستقامة والصلاح هي جوهر الأدب، ومن اجتمعت فيه هذه المناقب واجتمعت معها قوة العزم، كان ذا قوة لا تُقاوَم وقَوِي فيه فعل الخير ومقاومة الشر واحتمال البلايا المختلفة والمصاعب المتنوعة بالصبر الجميل. يُروَى أنه لما وقع إستفانوس الكولوني في يد خصومه سألوه على سبيل التهكم: أين حصنك المنيع؟ فوضع يده على قلبه، وقال: «هنا.» وأفضل فرصة لظهور الآداب أزمنة الضيق والشدائد، فإنها تظهر حينئذٍ بكلِّ بهائها، وتثبِّت الإنسان على كماله واستقامته حينما يخذله كلُّ صاحب، وتفرغ يدُه من كلِّ حيلة، «وفي الخطوب تظهر الجواهر.»

ومما يستحق أنْ يُنقَش على قلب كلِّ شاب قواعد السلوك التي جرى بموجبها اللورد أرسكن المشهور باستقامة السيرة وعلو الهمة. قال هذا الفاضل: إنني اجتهدت منذ نعومة أظفاري في فعل كلِّ ما حثَّني على فعله ضميري تاركًا النتيجة إلى الله تعالى، ولقد جريت بموجب هذا القانون إلى هذه الدقيقة من حياتي ولست بنادم، ولم يلحقني منه أدنى ضرر، بل وجدته طريقًا للنجاح والغنى، وسأدرِّب أولادي فيه أيضًا.

وعلى كلِّ إنسان أنْ يضع نصب عينيه اكتساب أفضل الآداب حاسبًا ذلك أفضل غايات حياته، ومن اجتهد في نوال هذه الغاية بالوسائط الحميدة تمكَّن من نوالها، والأفضل أنْ نطلب الغايات السامية وإن لم نحصل عليها كلها. قال مستر دزرائيلي: إنَّ الشاب الذي لا يلتفت إلى أعلى يلتفت إلى أسفل، والنفس التي لا تطلب العُلى تميل إلى الدنايا، وقال الشاعر جُرْج هنبرت: إنَّ شئت أنْ تُدعَى واطئ الجانب عزيز النفس فكن وضيعًا في السلوك وكن رفيعًا في المقاصد تكن وضيعًا رفيعًا؛ لأن من يسدد سهمه إلى العُلى يرمي فوق من يسدده إلى شجرة، وقال أبو الطيب:

إذا غامرتَ في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم

وقال المثل الأسكتسي: تمسك بحلة موشَّاة بالذهب تنل ردنًا منها. ومن قصد غاية سامية وطلبها باجتهاد فلا بدَّ من أنْ يرتقي من الحالة التي كان فيها ويقترب نحو تلك الغاية، وإن لم ينلها تمامًا فلا بدَّ من أن يستفيد من اجتهاده في طلبها فائدة دائمة.

وكثير من الآداب ليس إلا صورة الآداب الصحيحة، ولكن لا يمكن أنْ يشتبه فيه؛ لأن أصل الآداب الصحيحة الاستقامة في القول والعمل وفرعها التزام بالحق والنزع عن البطل. وأفضل شهادة تقدمت في حق إنسان الشهادة التي شهد بها ديوك ولنتون في السر روبرت بيل في مجلس الأسياد بُعَيد وفاته، قال: لا بدَّ من أنكم تشعرون، أيها السادة، بسموِّ آداب المرحوم السر روبرت بيل، الذي اشتركتُ معه مدة طويلة في مصالح الجمهور، وكنا كلانا في دواوين ملكنا، وقد تمتعت مدة طويلة بصداقته، ولا أعرف إنسانًا أقدر أنْ أثق باستقامته أكثر من هذا الفاضل، كما أني لا أعرف إنسانًا يحب رفع شأن الأمة مثله، ففي كل مدة معاملتي معه لا أعرف حادثة واحدة لم يرِ فيها تمسكه التام بالحق، ولم أرَ أيضًا أنه حكم بشيء لم يعتقده من كلِّ قلبه، ولا شك في أنَّ استقامته هذه كانت سرَّ نجاحه وسطوته.

والصدق في العمل كالصدق في القول وهو ضروري للآداب، ويجب أنْ يكون باطن الإنسان كظاهره، قيل: كتب أحد الأميركيين إلى كرانفيل شَرْب يقول: بناءً على اعتباري الكلي لمناقبك الحميدة سميت ولدًا من أولادي باسم عائلتك. فأجابه شَرْب يقول: «أطلب إليك أنْ تعلِّم ابنك قاعدة تجري بموجبها العائلة التي سميته باسمها، وهي: «اجتهد لكي تكون كما تريد أنْ تظهر.» فقد أخبرني أبي أنَّ أباه جرى بموجب هذه القاعدة، فكان أساس أخلاقه الإخلاص والبساطة والاستقامة.» وكل من يعتبر نفسه ويعتبر غيره يجري بموجب هذا القانون واضعًا شرف نفسه نصب عينيه غير مفتخر بشيء إلا باستقامته ومروءته؛ لأن من خالف عملَه قولُه خسر اعتبار الناس له وأُلغِي كلامه ولو كان حقًّا محضًا، ولله در القائل:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

ومن طابت سيرته وحسنت سريرته لم يحد عن سبيل الاستقامة لا سرًّا ولا علنًا. قيل: سُئل ولد لِمَ لَمْ تأخذ شيئًا من ذلك الكمثرى؟ ولم يكن هناك أحد ليراك؟ فقال: بلى كان. فقيل له: ومَن؟ قال: كنت أنا هناك، وأكره أنْ أراني أرتكب القبيح. هنا ما يُدعَى ضميرًا أو ذمة، وهو يحكم على آداب الإنسان في الحض على المعروف والنهي عن المنكر، وبه تتدرب الأخلاق يومًا فيومًا، وإذا خلا الإنسان منه لم يكن لأخلاقه من مدرب ولا حافظ، بل استولى عليها الضعف، وكانت تحت خطر الخضوع للتجارب، وإذا خضعت لها مرة واحدة صارت عرضة للخضوع لها دائمًا، وآل الأمر إلى انحطاط شأن صاحبها. ولا فرق أُشهِر أمره أم لم يشهر؛ لأنه لا بدَّ من أنْ يشعر بنفسه بالذل واضطراب البال من تلقاء ما ندعوه بالضمير الذي هو أشد معذب للمذنبين.

والآداب متوقفة كثيرًا على العوائد حتى قيل إنَّ الإنسان حزمة من العوائد والعادة طبيعة ثانية. قال ميتستاسيو: كل ما في الإنسان ناتج من العادة حتى الفضيلة نفسها. وقال بطلر: كما أنَّ عوائد الجسد تُكْتَسب بالأعمال الخارجية، كذلك عوائد العقل تُكْتَسب بالمقاصد الداخلية كالطاعة والصدق والعدل والمحبة أي بإخراجها إلى حيز الفعل. وقال اللورد برُوَم: كل شيء موكول إلى العادة بعد الله تعالى، العادة تسهل كل أمر عسير، وتدك الصعوبات ولو كانت جبالًا، فمن تعوَّد الصحو كره السكر، ومن تعود الحكمة والرصانة كره الجهل والطيش، فعلى كل أحد أنْ يسهر كل السهر؛ لكيلا يدع عادة رديئة تغلب عليه لأنه إنْ انغلب مرة واحدة صار عرضة للانغلاب دائمًا، ومن اعتاد أمرًا صار فيه ملكة، وصار يفعله بدون روية وعن غير قصد، ولم يعرف قوة العادة التي فيه حتى يضادها، وما فُعل مرة وثُنِّي صار فعله سهلًا والانقطاع عنه صعبًا، والعادة في أولها ضعيفة أوهن من خيط العنكبوت، ولكن متى تملكت في الإنسان قيدته بسلاسل حديدية.

وإكرام النفس والتعويل عليها والانصباب والاجتهاد والاستقامة جميعها عادات، وما يدعوه البعض مبادئ ليس إلا عوائد، وكلما تقدم الإنسان في السن تملكته العوائد، ونزعت قسمًا كبيرًا من حريته بل قيدته بسلاسل صنعها لنفسه. فمهما أطنبنا في وجوب تربية الأولاد على العوائد الحسنة لا نَفِي الموضوع حقه؛ لأن الصبوة أفضل سن لتربية العوائد، والعوائد الراسخة في الصغر كالحروف المنقوشة على جذع شجرة صغيرة تكبر وتتسع بنموها. قال الحكيم: ربِّ الولد في طريقه، فمتى شاخ لا يحيد عنها، ومن البداية تُعرَف النهاية. وقال اللورد كُلِنُود لشاب: لا تنس أنك قبل أنْ تبلغ الخامسة والعشرين يجب أنْ تربي فيك آدابًا تعتمد عليها كلَّ حياتك. وبما أن العوائد تتمكن بالتقدم في السن فتركها يتصعب شيئًا فشيئًا، والهدم أعسر من البناء غالبًا. يُروَى أنَّ مغنيًا يونانيًّا كان إذا أتاه تلميذ متعلم شيئًا من الغناء على أستاذ غير بارع طلب منه أجرة مضاعفة. ونزْع العوائد المتمكنة أصعب من نزع الأسنة، فمن اعتاد السكر مثلًا أو الكسل أو الإسراف لا يُرجَى إصلاحه؛ لأن العادة تكون قد تمكَّنت منه، وامتزجت فيه كل الامتزاج حتى لا يُرجَى استئصالها. لذلك قال مستر لنتش: إنَّ أفضل العوائد عادة التطبع على العوائد الحسنة، والسرور نفسه قد يصير عادة؛ لأن لكل أمر طرفين سارًّا ومكدرًا، ومن الناس من يعتاد النظر إلى هذا، ومنهم النظر إلى ذاك، قال الدكتور جنصن: إنَّ من اعتاد النظر إلى الطرف السار كان ذلك خيرًا له من كسب ألف ليرة سنويًّا.

وما من شيء ألزم من التطبع على الآداب، فإنه ألزم من التثقف بالعلوم والفنون، ومهما كانت أفعال الإنسان طفيفة فلا بدَّ من أنها تُظهر آدابه كما أنَّ الثقوب الصغيرة تكفي لإظهار شروق الشمس، وما الآداب سوى الأعمال المستقيمة، ولو مهما كانت طفيفة في حدِّ ذاتها، وأفضل طريق لإظهار كونها محمودة أو مذمومة هو السلوك؛ لأن مَن أحسن سلوكه مع المساوين له والأعلى والأدنى تمتع بسرور دائم وسُرَّ غيره معه، قال الشاعر العربي:

فما الناس إلا واحد من ثلاثة
شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله
وأتبع فيه الحقَّ والحقُّ لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن
إجابته نفسي وإن لامَ لائِم
وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هفا
تفضلتُ إن الحلم بالفضل حاكم

وكل إنسان قادر على تحسين سلوكه وإظهار اللطف ورِقَّة الجانب وإن لم يملك فلسًا، واللطف في المعاشرة فاعل خفي كالنور، وهو واسطة لإظهار بهجة الطبيعة وأسرار الإبصار مثله، وهو من أقوى المؤثرات، فلا يقوى شيء على مقاومته، وكم من قلب منكسر قد انتعش بنظرة واحدة من وجه بشوش.

الآداب والأخلاق أهم من الشرائع؛ لأن الشرائع لا تتبعنا دائمًا، وأمَّا الآداب والأخلاق فمعنا كلَّ حين، والأخلاق الحميدة هي السلوك الحسن؛ لأن السلوك لغة تطهير العبد نفسه عن الأخلاق الذميمة مثل حب الدنيا والجاه إلى غير ذلك، واتصافه بالأخلاق الحميدة مثل العلم والحلم واللطف والكرم وما أشبه. قالت السيدة منتاكي: إنَّ رقة الجانب لا تكلِّف شيئًا وتُرْبِح كلَّ شيء، وقال برلي للملكة إليصابات: «امتلكي قلوب رعايك فتمتلكيهم هم وأكياسهم.» ولكن يُشترَط أن لا يكون في ذلك شيء من التصنع وإلا فسد كله. ومن الناس من يفتخر بشكاسة أخلاقه، ولكن الشكس الأخلاق لا يُطاق، ولو كان من ذوي العلم والفضل؛ لأن الإنسان لا يحب من لا يعتبره ولا من يتكلم كلامًا لا يسره، ومنهم من يتنازل كل التنازل، ولكن يكون متصنعًا في تنازله، ولذلك لا يدع فرصة تُظْهِر عظمته إلا ويغتنمها، من ذلك ما يُروَى عن أبرنثي الجراح أنه كان مرة يكتب أسماء الذين يرغبون في أن يكونوا أطباء لمستشفى مار برثلماوس، فأتى رجلًا غنيًّا لكي يكتب اسمه، وحالما وصل إلى حانوته لاقاه ذلك الغني بعجب وافتخار، وقال له: أظنك آتيًا لتكتب اسمي لكي يمكنك أن ترتقي إلى هذا المنصب السامي. وكان أبرنثي يكره التمليق والتمنين، فقال له: «كلَّا، بل مرادي أنْ أبتاع كذا وكذا، هلمَّ أعطني مطلوبي، ودعني أذهب في سبيلي.» وآفة العطاء المن.

والتأدب في السلوك ضروري جدًّا للذين عملهم المعاطاة مع غيرهم على أنه إذا بُولغ فيه صار تصنُّعًا قبيحًا. والبشاشة والاقتراب من الناس ضروريان للنجاح أيضًا، ومن كان فاقدًا هاتين الصفتين لا يُؤمل نجاحه كثيرًا ولو كان مجتهدًا أمينًا؛ لأن أكثر الناس يحكمون على الظواهر أكثر مما يحكمون على البواطن، ومن أوجه اللطف اعتبار آراء الغير وعدم التنديد بها، فإنه ما من خلة أقبح من التصلُّف والاستبداد بالرأي، والادعاء والتنديد بعيوب الناس، ولولا هذه الصفات ما وقع شيء من الجدال والخصام، وطعْن اللسان أشد من وخز السنان، وما أجهل من استعمل لسانه آلة للطعن والتنديد:

فإن لسان المرء ما لم تكن له
حصاة على عوراته لدليل

والأدب لا ينحصر بفئة من البشر، بل يمكن أنْ يتصف به العامل الفقير والأمير الخطير، قيل إنَّ روبرت برنس التقى بفلاح أديب فسلم عليه، وكان برفقة برنس شريف اسكتلندي، فلامه على ذلك، فالتفت إليه برنس، وقال: إني لم أعتبر اللباس بل الرجل الذي فيه، فإن هذا الرجل أثمن مني ومنك ومن عشرة مثلنا، ولله در القائل:

وإن كان في لبس الفتى شرف له
فما السيف إلا غمده والخمائل

كان وليم وتشارلس كرنت ابني فلاح، فطاف الماء على أملاكهما، وسحا كل شيء حتى تراب الأرض التي كانا يعيشان منها، فقاما مع أبيهما، واتجهوا نحو الجنوب في طلب الرزق، وما زالوا في سيرهم حتى وصلوا إلى تلةٍ بالقرب من بري في لنكشير، تشرف على ما حولها من البلاد الفسيحة، ولم يكونوا يعرفون إلى أي جهة يتجهون؛ لأنهم كانوا يجهلون تلك الأرض فأطبق رأيهم على أن يوقفوا عصًا ويتركوها لتسقط من نفسها، فيأخذوا الجهة التي تسقط فيها ففعلوا وأخذوا الجهة التي دلتهم عليها العصا، فوصلوا إلى قرية رمسبوثام ووجدوا عملًا في دار طباعة المنسوجات، واشتُهر ذانك الأخوان بالاجتهاد والنزاهة والاستقامة وسارا خطوة بعد أخرى في سلم النجاح إلى أن صار لهما معامل كبيرة، واستأجرا عملة كثيرين يعملون تحت يدهما، وبعد سنين عديدة صارا باجتهادهما وتدبيرهما وشهامتهما غنيين مكرمين من كلِّ مَن يعرفهما، وصار لهما معامل في القطن والطباعة، فيها عدد وافر من الفعلة، حتى أصبحت النواحي التي نزلا فيها غاية في الخصب، وازدادت ثروة الأهالي، وتحسنت صحتهم، ولم تكن ثروتهما سببًا لتربية البخل فيهما كما يحدث مرارًا كثيرة؛ لأنهما ازدادا سخاءً وكرمًا فأقاما كنائس، وأسسا مدارس، وعملا أعمالًا كثيرة خيرية؛ لرفع شأن الرتبة الدنيا من الناس لأنهما لم ينسيا أصلهما، ثم أقاما برجًا شاهقًا على رأس التلة التي تشرف على ولمسلي؛ حيث أوقفا العصا تذكارًا لتلك الحادثة، وما زالا يزدادان شهرة وكرمًا حتى صار يُضرَب بهما المثل.

ويُروَى أنَّ تاجرًا منشستريًّا كتب رسالة طعن وقذف في حقهما فأُخبر أحدهما (وليم) بذلك، فقال: إنَّ الرجل سيندم على ما فعل، فأُخبر الكاتب بما قاله وليم، فقال لعله يظن أنني سأستدين منه، ولكنني ما كنت لأفعل ذلك، ثم دار دولاب الزمان، وأفلس ذلك الرجل وساءت حاله، ولما أراد أنْ يشرع في العمل ثانية اضطُر أنْ يأخذ شهادة (أو كنكرداتو) فيها ختم بيت كرنت، فظهر له أنْ ذلك ضرب من المحال، ولكن ضيق الحال ألجأه إلى ذلك؛ فمضى إلى محل وليم كرنت الذي هجاه بتلك الرسالة، وعرض له واقعة الحال وأعطاه ورقة الشهادة؛ لكي يضع ختمه عليها فأخذها وليم وقال له: إنك كتبت مرة رسالة في هجائنا ثم ختم الشهادة وقال: إن من قوانينا أن لا نأبى وضع ختمنا على شهادة لتاجر أمين ولا نعرفك إلَّا أمينًا، فعندها اغرورقت عينا الرجل بالدموع، فقال مستر كرنت: ألا ترى أن قولي إنك ستندم على ما فعلت كان صحيحًا، ولم أقل ذلك على سبيل التهديد بل عنيت أنك ستعرفنا يومًا ما كما نحن، وحينئذ تندم على قصدك الإضرار بنا؟ فقال: نعم نعم، قد ندمت، فقال كرنت: إن ذلك لأنك عرفتنا، ولكن كيف أنت الآن؟ فقال: إنَّ لي أصدقاء وعدوني بالمساعدة عندما أحصل على الشهادة، فقال كرنت: وكيف أهلك في الوقت الحاضر؟ فقال: إني بعد أنْ أعطيت جميع أموالي لأصحاب الديون التزمت أنْ أحرم أهل بيتي بعض الأمور الضرورية؛ لكي أنال هذه الشهادة، فقال كرنت: يا صاح، لم تصب لأنه لا يجب أن يتضايق امرأتك وأولادك بسببك، فألتمس إليك أنْ تأخذ هذه العشر الليرات مني إلى امرأتك هدية فكفكف عبراتك، واتَّكل على الله فستفلح. فاجتهد ذلك المسكين؛ لكي يظهر شكره، ولكن انقطع صوته وخنقته العبرات، فغطى وجهه بيديه، وخرج وهو يبكي كالطفل الصغير.

والإنسان الحقيقي منطبع على المحامد والآداب الحقيقية، أو كما وصفه صاحب الزبور بأنه يمشي بالاستقامة ويفعل البر ويتكلم الحق في قلبه ويكرم نفسه ويكرم الآخرين أيضًا، ويكون وضيعًا رءوفًا حليمًا. يُحكى عن اللورد إدورد فتزجرلد أنه بينما كان مسافرًا في كندا مع قوم من هنود أميركا رأى امرأة هندية حاملة حملًا ثقيلًا من الحطب وزوجها ماشٍ فارغًا، فأخذ الحمل عنها، وحمله على ظهره، فهذه هي الإنسانية في أفضل معانيها، والإنسان الحقيقي يقول المنايا ولا الدنايا وخير من ركوب الخنا ركوب الجنازة، فلا يخاتل ولا يحاول ولا يَرُوغ ولا يواري ولا يكابر ولا يماري، ولكنه يسير دائمًا بالإخلاص والاستقامة إنْ قال نعم أو قال لا كان قوله حجة بل سنَّة. الإنسان الحقيقي لا يُرشَى ولا يبيع نفسه بالمال كما يفعل الجهلة الأدنياء. يحكى عن ديوك ولنتون أنه أتاه يومًا وزير بلاد حيدرأباد بعد واقعة أسَّاي؛ لكي يستعلم منه عن المعاهدة التي جرت بين أمراء المهرتَّا والنظام، وقدَّم له مبلغًا من المال يفوق مائة ألف ليرا، فالتفت إليه الديوك ولنتون وقال: أظنك تكتم السر؟ فقال: نعم، فقال: «وأنا كذلك.» وصرفه ولم يقبل منه بارة ولم يخبره حرفًا. هنا الشهامة وعزة النفس، ومع أنْ ولنتون حارب حروبًا كثيرة في الهند، وظفر فيها كلها، رجع إلى إنكلترا وليس معه شيء من المال، ومن قبيل ذلك ما يُحكَى عن نسيبه مركيز ولسلي الذي رفض مائة ألف ليرا قدمها له مديرو شركة الهند الشرقية عند غلبة ميزرو، وقال لا يقتضي أنْ أخبركم عن شيمتي وشهامتي وشرف منصبي الأمور التي تضطرني إلى رفض ما تعرضونه عليَّ، وممن فعل كذلك السر تشرلس نبير؛ لأنه رفض كلَّ الهدايا التي قدمتها له أمراء السند، وكانت تنيف على الثلاثين ألف ليرا.

ولا علاقة للغنى والشرف بالإنسانية؛ لأنها في الفقراء كما في الأغنياء، أوَ لا يمكن أن يكون الفقير أمينًا صادقا مستقيمًا أنيسًا نزهًا شجاعًا معتبرًا لنفسه ومعتمدًا عليها؟ بلى، وهذه هي الإنسانية بعينها، وما الفقير فقير المال ولا الغني من يملك الألوف؛ لأنه قد يكون الإنسان فقيرًا ويملك كل شيء، وقد يملك كل شيء وليس له شيء، والأول يرجو كلَّ شيء ولا يخاف شيئًا، والثاني يخاف كل شيء ولا يرجو شيئًا، ومن خسر كل ماله وبقيت فيه مروءته وأنسه وفضله وأمله وشهامته لم يزل غنيًّا ولسان حاله يقول:

ما الفخر بالمال إن الفخر بالرجل
مالًا جمعنا مضى والفخر لم يزل

وكم من رجل فاضل وثيابه أخلاق واسمه بين الناس مجهول.

حُكِي أنه طغى نهر عظيم في إيطاليا، فهدم قنطرته ما عدا جزءًا منها، عليه بيت صغير يسكنه رجل وأولاده، وكان لا بدَّ من أنْ ينهدم هذا الجزء أيضًا، فيهلك ذلك المسكين مع أولاده، فوقف الكنت سبلفريني، وقال: إنني أعطي مائة دينار لمن يخاطر بنفسه، وينقذ هذه العائلة التعيسة، فتقدم فلاح من الجمهور الحاضر، وأنزل قاربًا إلى النهر، واقتحم الخطر العظيم، وبعد برهة يسيرة رجع ومعه العائلة بأسرها، فقال الكنت: هلمَّ أيها الشاب الشجاع، وخذ الدنانير، فقال الشاب: كلَّا، ما كنت لأبيع حياتي بالمال، أعطِ مالَك لهذه العائلة المسكينة؛ لأنها في احتياج إليه. هنا المروءة وعزة النفس هنا الإنسانية وإن تحت ثوب الفلاح.

أثبت مستر ترنبل في كتابه عن النمسا حادثة عن الإمبراطور فرنسيس السابق، قال فيها: إنه لما فشا الهواء الأصفر في فينا كان الإمبراطور يجول في الأسواق والشوارع، وليس معه سوى رجل واحد، فرأى مرة ميتًا محمولًا إلى القبر، ولم يكن معه أحد من النائحين، فسأل عن سبب ذلك، فوجد أنَّ الميت من الفقراء وقد مات بالوباء، فخاف أهله أن يرافقوه إلى القبر، فقال لنَسِرْ وراءه عوضًا عنهم؛ لأنني أكره أن أرى واحدًا من رعيتي المحببة يُدْفَن بدون أن تصادف جثته العلامة الأخيرة من علامات الإكرام، فذهب معه إلى المدفن، وكان المدفن بعيدًا، ووقف فوق قبره مكشوف الرأس إلى أن تمَّ تجنيزه ودفنه حسب شعائر كنيسته.

ومن دلائل الإنسانية أيضًا الصدق الذي هو أساس نجاح البشر. كتب ديوك ولنتن إلى كلرمن عن الأسرى الإنكليز المستأمنين، يقول: إذا كان شيء يفتخر به القواد الإنكليز غير الشجاعة يكون الصدق فثق بكلامهم؛ لأنهم لا يكذبون ولا يخلفون الوعد.

ومن مقتضيات الإنسانية أيضًا الحلم عند المقدرة. قيل إنَّ جنديًّا فرنساويًّا اخترط سيفه في واقعة البودن في إسبانيا وهمَّ بضرب السر فلتن هرفي، ولكن لما رآه أقطع شفِق عليه وأحنى له سيفه حسبما يفعل الجند عند التسليم وسار في طريقه، ومن قبيل ذلك ما حدث لتشرلس نبير في مدة تلك الحرب، وهو أنه أُخذ أسيرًا في كرونا بعد أنْ جُرح جرحًا بليغًا، وكان أصحابه في إنكلترا لا يعلمون أمات أم بقي حيًّا، فأرسلوا رسولًا خاصًّا في سفينة حربية؛ ليبحث عنه، فوصل الرسول إلى البارون كلوت، فأخبر القائد ناي بذلك، فقال له: دع الأسير يرى أصحابه وأخبرهم أننا نعامله بالحسنى، فتأخر كلوت فقال ناي: ما لك؟ فقال: يقولون إن للأسير أمًّا أرملة عمياء، فقال ناي: إذا كان الأمر كذلك فليذهب بنفسه ويخبرها بسلامته، ولم تكن مبادلة الأسرى جارية في ذلك الوقت، وكان ناي يخاف أنْ يتكدر نبوليون حينما يسمع ذلك لكن نبوليون مدحه على شهامته.

وفي هذه الأزمنة أمثلة كثيرة للمروءة وعزة النفس وكرم الأخلاق كما في الأزمنة القديمة، تشهد بذلك نجود سبستوبول وسهول الهند، فإن زحف نيل إلى كندبور وهفلوك إلى لكنو لإنقاذ النساء والأولاد من أعجب ما جاء التاريخ بذكره، وموت هنري لورنس البطل وقوله حال وفاته: لا تحتفلوا بموتي، وما عاناه السر كولن كمبل وهو جالب النساء من لكنو إلى كونبور، ومن ثَمَّ إلى الله آباد، أمور تضيق الصحف بذكرها، ويحق للأمة الإنكليزية أنْ تباهي بها أمم العالم، ولم يكن آحاد الجند أقل شهامة من قوادهم، كما تشهد الوقائع التي حدثت في تلك البلاد، ومعاملة الجرحى للنساء الممرضات لهم، ومن ذلك أيضًا ما حدث في السابع والعشرين من شباط سنة ١٨٥٢ على شطوط أفريقية عند انكسار السفينة المدعوة بركنهد، فإنه كان في تلك السفينة ٤٧٢ رجلًا و١٦٦ من النساء والأولاد، وكان أكثر الرجال من الجنود الإنكليزية الخادمة في رأس الرجاء الصالح، فبعد نصف الليل بساعتين إذ كان الجميع نيامًا لُطِمَت السفينة بصخر مخفي فانثغر جوفها، وكان لا بدَّ من غرقها، فنُبِّهت الجنود بصوت الطبول، فاصطفوا على ظهر السفينة، وأُمروا بأن يخلصوا النساء والأولاد، فأنزلوا القوارب وأنزلوا إليها النساء والأولاد وأكثرهم بثياب النوم، ثم بعد أنْ سارت القوارب قليلًا أمر مدير السفينة أنَّ كل القادرين على السباحة يرمون بنفوسهم إلى البحر ويصعدون إلى القوارب فاعترضه قائدهم رَيط، قائلًا: إنْ فعلوا هلكوا هم والقوارب، فوقف الرجال في مكانهم، ولم يبدوا حركة ولم يتذمروا قط، بل ثبتوا في أماكنهم إلى أن غرقت بهم السفينة، وقبل أنْ غرقوا أطلقوا سلاحهم طلق الفرح، يا للشجاعة وكرم الأخلاق! فإنه وإن مات هؤلاء الأبطال لا يزال ذكرهم مخلدًا إلى الأبد.

وتوجد أدلة كثيرة يُستدَل بها على الإنسان الحقيقي، ولكن الدليل الأقوى كيفية استعماله سلطته على الذين دونه، أو على المتعلقين عليه مثل معاملته للنساء والأولاد ومعاملة القائد لجنده والرئيس لخدمه والمعلم لتلامذته والمتسلِّط للمتسلَّط عليهم، فالحلم والحنو ورقة الجانب في أحوال مثل هذه من الشروط اللازمة للإنسانية، وأمَّا من طغى وبغى على الذين دونه فهو نذل جبان، ولله در من قال:

وأسعد العالم عند الله
من ساعد الناس بفضل الجاه
ومن أغاث البائس الملهوفا
أغاثه الله إذا أخيفا
وإن من شرائط العلوِّ
العطف في البؤس على العدوِّ
قد قضت العقول أنَّ الشفقة
على الصديق والعدو صدقة
وقد علمت اللبيب يعلم
بالطبع لا يُرحَم من لا يَرحم
والبغي داء ما له دواء
ليس لملك معه بقاء
والبغي فاحذره وخيم المرتع
والعُجْب فاتركه شديد المصرع

رُوِي أنه لما جُرح السر رلف أبركرمبي في حرب أبي قير، وحُمل إلى سفينة ألفدريانت، وُضعت وسادة تحت رأسه لإراحته، فقال: ما تحت رأسي؟ فقيل له: وسادة، فقال: وسادة مَن؟ فقيل له: وسادة واحد من الرجال، فقال: أخبروني باسمه، فقيل له: وسادة دنكن روي من رجال السر رلف، فقال لهم: أعطوه إياها هذه الليلة. فانظر كيف أن هذا الجنرال وهو على حافة القبر أشفق على واحد من رجاله، ولم يرد أن يحرمه وسادته ليلة واحدة، وقد جمع فلر صفات الإنسانية في كلامه عن السر فرنسيس دراك بقوله: إنه كان عفيفًا عادلًا صادقًا شفوقًا على الذين دونه مبغضًا للكسل، لا يعتمد على غيره، ولا يجزع من خطر، ولا يستعفي من عمل يستدعي بسالة وحذاقة واجتهادًا. انتهى.

•••

هذا ومن يطلع على كتب الأدب العربية والفارسية والهندية والصينية يجد فيها منار الآداب مرفوعًا وعلم مكارم الأخلاق منشورًا، ويجد هنالك من الحكم والأمثال والنوادر ما تضيق به بطون الدفاتر ويُضعِف حجة مَن قال كم ترك الأول للآحر، وكأن لسان حال أدباء المشرق، يقول:

لو أنني خُيِّرت كلَّ فضيلة
ما اخترت إلَّا مكارم الأخلاق

وكنا نود أن نحلي جيد هذا الكتاب ببعض هذه الأقوال والنوادر لولا أنه قد بلغ الحد الذي عيَّناه له عند إعادة طبعه، فلم نر بدًّا من ختمه هنا والشروع في المعجم الذي وعدنا أنْ نضيفه إليه، غير أنه لا يحسن بنا أنْ نختم هذا الفصل بدون أنْ نضيف إليه شيئًا من ترجمة إمامٍ تحلَّى بالفضائل والفواضل، وخلَّد لنفسه اسمًا بين الأكارم الأماثل ألا وهو الأستاذ المغفور له السيد محمد القصبي شيخ الجامع الأحمدي والد الإمام الغيور على نشر المعارف والآداب الأستاذ محمد القصبي خليفته في الجامع الأحمدي.

أما المترجَم به فهو ابن السيد حسن طلحة القصبي أحد مدرسي الأزهر الأنور بن محمد طلحة بن مصطفى طلحة بن عيسى طلحة الشريف الحسيني أول مَنْ حضر مصر من طرابلس الغرب، حيث توطن أجداده من عصر السيد الشريف إدريس الأصغر الحسيني، وُلِدَ في قرية بمديرية الغربية اسمها نشا سنة ١٢٣٠ للهجرة، وكان أبوه قد انتقل إليها بدعوة من أهاليها ومن جاورهم لتعليم الشعائر الدينية وتلقين أصول الطرق الصوفية، ولما بلغ من العمر عشر سنوات أرسله والده إلى الجامع الأحمدي لتجويد القرآن وحفظ المتون، فاستمر على تلقي العلوم حتى سنة ١٢٥١، فأُذِن له في التدريس من مشايخه الأعلام كالشيخ محمد الطوخي شيخ المشايخ بالجامع الأحمدي والشيخ محمد أبي النجا المجاهدي وغيرهما، وكان أبوه قد تُوفِّي، فأرسل يطلب والدته وإخوته وأخواته فحضروا إليه إلى طنطا، وفي ذلك يقول مخاطبًا الشريف العلوي السيد محمد البدوي:

كنت ابن تسعٍ وخمسٍ قد فقدتُ أبي
وقد رجوتك لي مولًى فكنت أبًا

وما انفك يفيد ويستفيد، ويزيد ويستزيد حتى اطلع من العلماء شموسًا وأهلَّة وأعلامًا أجلَّة، وشهد بفضله القريب والبعيد، وكان مشهورًا بحبه للعلماء والفضلاء، لا ينفك عن تعليم علم أو إقراء ضيف، أو فصل خصومة، أو إسداء معروف، أو إحسان إلى مسكين، وكان له ثروة عظيمة، ودخل وافر إلا أنه كان ينفقه كله في سبيل المبرَّات، فلا يدخل عليه عامٌ ولديه من دخل سابقه شيء، وقد بلغنا عنه نوادر كثيرة تُظْهِر فضله وكرمه، منها أنَّ رجلًا حُكم عليه بالنفي من القطر المصري، ولم يكن معه مال ليستعين به على أمره، فقصده إلى طنطا، وشكا إليه حاجته، ولم يكن لدى الشيخ شيء من النقود حينئذ، فاستقرض مائتي دينار وأعطاه إياها، وقيل له حينئذ: إنَّ الرجل منفيٌّ من البلاد ولا أمل بإرجاعه للمال فقال: حاشا لنا أنْ نردَّ طالبًا، ثم عُفي عن الرجل قبل أن خرج من ثغر الإسكندرية، فعاد إليه بالمال، فقال له الشيخ: إننا لم نعطك مالًا حتى نسترده، فخذه واستعن به على أمرك فأنت أحوج منا إليه.

وقد قيَّض لنا الله أن زرناه في أثناء زيارتنا للقطر المصري سنة ١٨٨٠، فرأينا منه شيخًا جليل القدر، أنيس المحضر، يرفع أقدار الناس، ويجلُّ المشتغلين في خدمة المعارف، فذكر المقتطف بالخير، وأثنى على المنهج الذي نهجناه فيه، فخرجنا من لدنه وقد ثبت لنا أن سيماء الفضلاء في وجوههم، وأن الناس لا يُجْمِعون على مدح إنسان ما لم يكن حقيقًا بكلِّ مدح.

وتولَّى مشيخة الجامع الأحمدي بالأمر العالي سنة ١٢٨٢، وفي تلك السنة تمَّم بناء مسجده الجامع بطنطا أمام منزله، وأحكم تشييده، ووقف عليه الأوقاف الجمَّة، وسنة ١٢٨٨ بنى مدفنه الذي دُفن فيه أمام منزله بجوار مسجده المذكور، ودام متقلبًا في حُلَل الكمالات حتى استأثرت به رحمة مولاه، وكانت وفاته في السابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ١٢٩٨ فدُفِن بما يليق به من التعظيم والتكريم، وكانت الحضرة الخديوية قد أصدرت أمرها الكريم إلى جميع مأموري الحكومة بمدينة طنطا أنْ يشيِّعوا جنازته بما يليق بها.

وله شعرٌ رقيق لم يعتنِ بجمعه، ومنه قوله:

ولي همةٌ يستوقف البرقَ خطوها
وعند سكوني ربما يثبُ الطودُ

ومن شعره أيضًا القصيدة المشهورة التي مطلعها:

أفؤادي متى المتاب ألمَّا
تصحُ والشيب نحو فودي ألمَّا

ومنها:

أفؤادي متاع دنياك فانٍ
شأْنه نقصه إذا قيل تمَّا

وهي طويلة، وله مؤلف منظوم في علم الفرائض سمَّاه «نتيجة الفارض في علم الفرائض»، شرحه العلامة المرحوم الشيخ أحمد الشرقاوي، وحشاه، وشرحه أيضًا أحد تلامذته العلامة الكبير الشيخ أحمد الحلواني.

أما ولده الإمام محمَّد القصبي الذي تولَّى بعده مشيخة الجامع الأحمدي، فمن أعلام هذه البلاد الذين تُعقَد لهم الخناصر، ويُشار إليهم بالبنان. وقد ظهر هذا الكتاب في حلَّتهِ الشرقية الحاضرة بكرم هذا الشهم الفاضل، فإنه أعاننا على طبعه رغبة في تعميم فوائده، ونشر المبادئ الفاضلة التي ينطوي عليها، أثابه الله عنا، وعن جميع المستفيدين منه جزاء الخير وخير الجزاء، وختم عواقبنا بالخير، وله الحمد أولًا وآخرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤