الفصل السابع

في العمل وذوي السيادة

قال مركيز منتروز: من لا يعرض نفسه للربح والخسارة فهو جبان أو صعلوك.

وقيل في بشارة لوقا: أنزل الأعزاءَ عن الكراسي ورفع المتضعين.

وقال الأمام الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم سوءًا أعطاهم الجدل ومنعهم العمل.

***

ذكرنا فيما مضى أنَّ كثيرين من عامة الشعب ارتقوا من أدنى الطبقات إلى أعلاها بالعمل والاجتهاد، والآن نقول إنَّ كثيرين من الخاصة وأولي السيادة نحوا هذا النحو؛ لأننا إذا بحثنا عن سبب تقدم أشراف الإنكليز وإحرازهم ما لهم من السيادة جيلًا بعد جيل خلافًا لأشراف بقية الممالك رأينا سبب ذلك أنه قد دخل في سلكهم من وقت إلى وقت أناس من أشد أهالي البلاد اجتهادًا وأكثرهم عملًا.

كل الناس من دم واحد، وإن كان كثيرون لا يقدرون أنْ يمتدوا في انتسابهم إلى أكثر من جد واحد، فالجميع بدون استثناء يقدرون أنْ ينتسبوا إلى آدم وحواء أو كما قال الإمام علي بن أبي طالب: «أبوهم آدم والأم حواء.» والسعادة والشرف لا يدومان لفئة من البشر، فكم من عظيم انحطَّ ووضيعٍ سما، والدهر في الناس قُلَّب إنْ دان يوم لشخص ففي غد يتغلب:

أين الأكاسرة الجبابرة الأُولى
كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا

بل انمحت رسومهم، واختفى اسمهم، واختلط نسلهم بعامة شعبهم، والعباد كالبلاد تشقى وتسعد، والناس بين تصويب وتصعيد، فإذا راجعنا كتاب برك في أدوار العيال رأينا أنَّ بلايا الخاصة أكثر وأشد من بلايا العامة، فقد ذكر مؤلف هذا الكتاب أنه لا يوجد الآن رجل واحد في مجلس الأشراف من الخمسة والعشرين بارونًا، الذين انتُخبوا لإجراء البراءة العظمى؛ لأن الحروب الأهلية والثورات الوطنية أهلكت كثيرًا من الأشراف، وشتت شمل أولادهم، وأكثر من بقي من نسلهم مختلط بالعامة، وعائش بين أدنى الرتب، وقال فُلر: إنَّ كثيرين من نسل بوهن ومُرْتيمر وبلنتجنت اختلطوا بالعامة حتى عفا أثرهم. وقال برك: إنه رأى اثنين من نسل أرل كنت الابن السادس للملك إدوارد الأول أحدهما قصَّاب والآخر جابٍ، وإن حفيد مرغريتا بلنتجنت ابنة ديوك كلارنس انحط إلى أنْ صار إسكافًا. وإن واحدًا من نسل ديوك كستر ابن الملك إدوارد الثالث صار قندلفتًا في كنيسة. ويقال إنَّ واحدًا من نسل سمعان ده منتفُرت رأس أشراف إنكلترا يصنع الآن السروج. ويوجد واحد من عائلة برسي له حق بأن يكون ديوك نُرثمبرلند، وهو الآن يصنع صناديق في دبلن، ومن مدة وجيزة كان واحد يعمل في منجم فحم، ويدَّعي بلقب أرل برث، وقال هيو مللر إنه لما كان يبني بعض البيوت بقرب أدنبرج كان معه ولد يحمل الطين يدَّعي بارلية كروفرد، ولم يكن ينقصه شيء لإثبات دعواه سوى كتاب زيجة فُقِد منه. وكثيرون من الأشراف ماتوا على شجرة عائلتهم بعد أنْ التهموا كل أوراقها، وغيرهم داهمتهم المصائب، فحطتهم إلى حضيض الفقر والهوان. هذه نهاية أمجاد هذه الدنيا الغرور.

إنَّ أكثر أصحاب السيادة الحاليين في البلاد الإنكليزية ارتقوا إلى السيادة حديثًا، وأكثرهم ارتقوا إليها بواسطة جدهم في عملهم، أما في قديم الزمان فكان الغنى مصدر السيادة، فأول من أنشأ أرلية كرنولس هو ثوماس كرنولس التاجر، وأرلية أسكس وليم كابل بائع المنسوجات، وأرلية كرفن وليم كرفن الخياط، وأرلية وروك الحديثة وليم كرفل الصواف، ودوكية نرثمبرلند الحديثة هيو سمثْسَن الصيدلاني، والذي أسس عائلة درتموث جلَّاد وعائلة ردنور حائك وعائلة دوسي خياط وعائلة بمفرت تاجر، والذين أسسوا بيرية تنكرفل ودُرمر وكوفنتري كانوا بائعي أنسجة، وأسلاف أرل رمني ولورد ددلي وورد كانوا صاغة، واللورد داكرس كان بنكيًّا في عهد الملك تشارلس الأول، كما كان اللورد أوفرستون في عهد الملكة فكتوريا، وإدورد أُسبرن مؤسس دوكية ليدس كان صانعًا عند خياط غني، وحدث أن ابنة معلمه سقطت في نهر التمس فخاطر بنفسه، وانتشلها من الماء ثم تزوج بها، ومن جملة الأرليات التي أسسها أرباب الصنائع أرلية فتزوليم ولي وبيتر وكَوْبَر ودَرْنلي وهل وكرنتون، وأصل عائلة فولي ونرمني رجلان شهيران، وفي سيرتهما فائدة جزيلة فنختار شيئًا منهما.

كان أبو رتشرد فولي مؤسس عائلة فولي ساكنًا في جوار ستوربردج في عهد الملك تشارلس الأول، وكان ذلك المكان مركز المعامل الحديدية، فتربى رتشرد في معمل منها، وتعلم صناعة عمل المسامير، وكان يلاحظ مقدار التعب الشديد الذي يقاسيه العاملون في تقطيع الصفائح وعملها مسامير، ثم أخذت المسامير ترد من أسوج، وكانت تباع بأثمان بخسة فكسدت مسامير ستوربردج، وشاع أنَّ الأسوجيين يصنعون المسامير بطريقة سهلة حتى يمكنهم بأن يبيعوها بأرخص الأثمان ويربحوا، فعزم أنْ يمضي إلى أسوج، ويكتشف سر هذه الصناعة، فأضمر ذلك في نفسه، ولم يكاشف به أحدًا مخافة أنْ يخيب مسعاه، ومضى إلى هل، ورأى سفينة ذاهبة إلى أسوج فنزل فيها، وكان يعمل فيها بما يقوم بأجرة سفره، ولم يكن معه شيء سوى عود يغني عليه، ولما وصل إلى أسوج قوَّم خطواته نحو معادن دنمورا، وهو يتسول في طريقه ويلعب على العود، وكان جيد اللعب لطيف المحضر، فأنس به الحدادون، وأكرموا مثواه، فكان يلاحظ أعمالهم والآلات التي كانوا يستعملونها، ويذخر ذلك في ذهنه، ولما ظن أنه قد فهم كل شيء طلبوه فما وجدوه، أما هو فرجع إلى إنكلترا وكاشف مستر نَيْط ورجلًا آخر بما فعله، وطلب منهما بأن يمداه بالمال لبناء معمل وعمل الآلات اللازمة ففعلا، ولكن لما ترتب كل شيء رأى أنَّ الآلات لا تصلح للعمل فاختفى ثانية، وزعم البعض أنه هرب خجلًا ولن يرجع أبدًا، ولكن لم يكن الأمر كذلك بل إنه رجع إلى أسوج لكي يعرف ما هو النقص في الآلات التي عملها، فلما دخل معامل الحديد قابله العمال بكل ترحاب، وكان يلعب على العود كجاري عادته، فنوَّموه بينهم داخل المعامل مخافة أنْ يهرب كما هرب أولًا، ولم يخطر ببالهم أنه أتى ليسرق صناعتهم، فأخذ يمعن نظره في الآلات، فعرف سبب النقص في آلاته، وبقي زمنًا كافيًا لطبع صور الآلات في ذهنه بعد أنْ صور البعض منها حسب طاقته، ثم ترك المعامل على حين غفلة، ورجع إلى بلاده، وعاد إلى مشروعه، وأصلح خلله، ونجح فيه نجاحًا كاملًا، وكسب غنًى وافرًا، وهيَّأ عملًا لكثيرين من الصناع، وكان يساعد في كل الأعمال الخيرية، وأنشأ مدرسة مجانية في ستوربردج على نفقته، وابنه ثوماس صار رئيس وسترشير، وأنشأ مقامًا لتربية الأولاد في أُلدسوِنفورد، وقد أُدخلت هذه العائلة في سلك العيال الشريفة في خلافة الملك تشارلس الثاني.

ووليم فبس مؤسس عائلة نرمنبي، وُلِد سنة ١٦٥١، وكان له عشرون أخًا وخمس أخوات، ولم يكن لهم ميراث من أبيهم إلا صحة أجسادهم، أما وليم هذا فكان يحب سفر البحر، ويفضله على رعاية الغنم التي صرف صباه فيها، وكان يشتهي دائمًا أنْ يصير بحريًّا، ويجول في العالم، وحاول الدخول في مركب فلم يجد، فمضى وصار صانعًا لباني مراكب، وتعلم هذه الصناعة جيدًا، وأتقن القراءة والكتابة في أوقات الفراغ، ثم انتقل إلى بُستُن، وتزوج بأرملة غنية، وأنشأ مبنًى للمراكب، وبنى مركبًا ونزل فيه، وأخذ يتجر بالأخشاب، وبقي على ذلك عشر سنين.

وحدث أنه كان مارًّا ذات يوم في أسواق بستن، فسمع بحريًّا يقول لآخر: قد انكسر مركب إسبانيولي فيه مال كثير عند جزائر بهاما، فلما سمع ذلك جمع فرقة من البحرية، ونزل في مركبه، وقصد السفينة المكسورة، فاهتدى إليها، وخلص كثيرًا من شحنها ويسيرًا من الدراهم، وكل ما خلصه لم يزد على النفقة التي أنفقها إلا أنَّ نجاحه هذا أضرم فيه رغبة شديدة في اقتحام المخاطر، ثم بلغه أنَّ سفينة أخرى انكسرت بقرب بورت ده لابلاتا منذ خمسين سنة، وكانت مشحونة بالذهب والفضة، فعزم أنْ يذهب في طلبها، ويصطادها اصطياد السمك، ولكن هذا العمل يقتضي نفقة وافرة، ولم يكن معه شيء منها فمضى إلى إنكلترا، وكان خبر تخليصه شحن السفينة المكسورة في جزائر بهاما قد سبقه إليها، فلما بلغها طلب مساعدة الدولة، وأقنع رجال السياسة بصحة طلبه حتى إنَّ الملك تشارلس الثاني سلمه قيادة سفينة فيها ثمانية عشر مدفعًا وخمسة وثمانون بحريًّا، فأقلع بهم إلى شاطئ هسينيولا، ولكنه رأى أمامه شاطئًا واسعًا وبحرًا لا نهاية له، فأخذت رجاله تغوص إلى أعماق البحر يومًا بعد يوم وأسبوعًا بعد أسبوع لعلها تجد أثرًا يدل على بقايا تلك السفينة فلم تجد.

وكان فبس غاية في شدة العزم وعلو الهمة وعظم الأمل فدام على هذا الأمر مدة حتى قلق النوتية أيَّ قلق، وأخذوا يتناجون قائلين: إنَّ رئيسهم من أضل الناس سبيلًا، ثم جاهروا بالعصيان، وهجم قوم منهم على القمرة، وطلبوا منه أنْ يرجع بهم، إلَّا أنه لم يخف من وعيدهم، بل قبض على رؤسائهم وقيدهم، وعند ذلك اضطر أنْ يشطط على جزيرة؛ لكي يصلح السفينة فشطط، وأنزل قسمًا من المئونة إلى البر، فاتفق أكثر البحرية على أنْ يقبضوا على السفينة ويقتلوه ويصيروا قرصانًا، ويغزوا المراكب الإسبانيولية في الأبحر الجنوبية، ولكنهم رأوا أنه من اللازم أن يكون معهم رئيس نَجَّاري المركب فكاشفوه بمكيدتهم، فمضى من ساعته وأخبر فبسًا بذلك، فجمع فبس الذين يعلم أنهم مطيعون له، وأمر أنْ تُحْشَى المدافع التي تجاه الجزيرة وأن يرفع سلم السفينة، فلما أقبل البحرية الذين صمموا على العصيان منعهم عن الدخول إليها وهددهم بإطلاق المدافع إذا اقتربوا من المئونة التي كانت لم تزل على البر فتنحوا عنها، فأمر أنْ ترجع إلى المركب تحت حماية المدافع، فلما رأى العصاة ذلك خافوا أنْ يُتْرَكوا على تلك الجزيرة القفراء، فيموتوا جوعًا، فطرحوا سلاحهم، وتوسلوا إليه أنْ يردهم إلى السفينة، ويعفوا عن ذنبهم فعفا عنهم، وردهم إلى وظائفهم، إلَّا أنه أخذ الاحتياطات اللازمة خوفًا من مكيدة أخرى، وحالما أمكنه ترك المتذمرين منهم تركهم، واستخدم غيرهم مكانهم، وحينئذٍ رأى نفسه مضطرًّا أنْ يرجع إلى إنكلترا لكي يصلح السفينة فرجع وعرض كيفية فحصه على وزير البحر، وكانت الدولة وقتئذ في اضطراب فلم تسمح له بمركب آخر، ولكنه لم ينفك عن عزمه بل أخذ يحث الأغنياء والشرفاء على مساعدته في هذا المشروع وتشكيل لجنة لذلك، وما زال يقرع آذانهم مدة أربع سنوات حتى انتظمت لجنة لهذا العمل رئيسها ديوك البمارل ابن الجنرال مُنك وجمعت له الأموال اللازمة، فكان سفره الثاني ناجحًا مثل سفر فولي؛ لأنه وصل بسرعة إلى بورت ده لابلاتا في جوار الصخور التي كان يظن أنَّ السفينة الإسبانيولية انكسرت عليها وبنى قاربًا قويًّا يسع ثمانية مجاذيف أو عشرة وكان يعمل فيه بنفسه.

ويقال إنه اخترع آلة تشبه ناقوس الغواصين، ولم يكن هو أول من اخترعها، ولكنه لم يكن عارفًا بها، والأرجح أنَّ اختراعه إياها من باب توارد الخواطر، واستخدم أيضًا غواصين من الهنود؛ لأنهم أقدر من غيرهم على الغوص، فبقي الغواصون يغوصون، ويبحثون في قاع البحر عدة أسابيع على غير فائدة، وذات يوم كان واحد من الملاحين يتطلع إلى البحر وهو في القارب، فنظر في العمق نوعًا من النبات بديع المنظر ناميًا في شيء كنقر الصخر، فطلب إلى غوَّاص هندي أنْ يغوص ويأتي به فغاص، ولما طلع إلى وجه الماء قال: إنه رأى كثيرًا من المدافع مطروحًا في القعر فلم يصدق أحد قوله، ولكنهم وجدوا لدى الفحص أنه مصيب، ثم وجد واحد من الغواصين سبيكة كبيرة من الفضة، فلما رآها فبس قال: الحمد لله، قد نجحت مساعينا، ثم أنزل الغواصين والنواقيس؛ حيث وُجِدت السبيكة، وفي أيام قلائل استخرج من الفضة والذهب ما قيمته ثلاث مائة ألف ليرة إنكليزية فأقلع راجعًا إلى إنكلترا، ولما بلغها حسَّن قوم للملك أنْ يقبض عليه وعلى المال الذي رجع به زاعمين أنه لما أخبره بهذا المشروع لم يفصله كما ينبغي فلم يَنْقَد الملك إليهم، بل قال: أنا أعلم أنَّ فبسًا أمين صادق؛ ولذلك هو والذين ساعدوه أحق بهذا المال من كل أحد، فاقتسم فبس وأعضاء اللجنة المال، فكان له منه عشرون ألف ليرة، ثم إنَّ الملك لقبه بلقب نيط إظهارًا لأمانته ونشاطه، فخدم الدولة خدمًا كثيرة، ثم صار واليًا على ولاية مستشوستس، وبعد ذلك رجع إلى إنكلترا، ومات فيها سنة ١٦٩٥، ولم يكن يخجل من ذكر أصله الوضيع بل كان يفتخر أنه رُبي نجار مراكب فصار نيطًا ثم واليًا، وحين كانت تشكل عليه المهام السياسية كان يقول إنه يفضل الرجوع إلى قدومه على تولي الولاية، وقد ترك اسمًا مخلدًا في الاستقامة والشجاعة ومحبة الوطن يحق لعائلة نرمنبي أنْ تفتخر به مدى الأجيال.

ووليم بتي أصل بيت لنسدون، ولد سنة ١٦٢٣، وكان مثل فبس في الاجتهاد والمنفعة للجمهور، وكان أبوه خياطًا فقيرًا، فلم يتعلم في صباه إلا بعض المبادئ، ثم انتقل إلى مدرسة كاين الكلية، وكان يبيع شيئًا من البضاعة، فيربح ما يقوم بنفقته، ثم رجع إلى إنكلترا، وخدم ربان سفينة؛ لكي يتعلم سلك البحر، فاحتقره الربان لقبح منظره، فترك البحر، وعزم على درس الطب، فمضى إلى باريس، وأخذ يمارس التشريح العملي، وكان في غضون ذلك يرسم أشكالًا لهبس؛ إذ كان آخذًا في تأليف مقالاته في فن البصريات، وكان ربحه من ذلك يسيرًا جدًّا، فوصل إلى الفاقة الشديدة حتى إنه اقتات ثلاثة أسابيع بالجوز، فعاد إلى البيع والشراء، ولم يمض عليه إلا القليل حتى ربح ما مكنه من العود إلى إنكلترا، فعاد إليها، وأخذ يؤلف في الصنائع والعلوم، ويستعمل الكيمياء والطبيعيات واشتهر أمره فيهما، ثم عرض على البعض من أصحابه العلماء إنشاء جمعية علمية، فوافقوه وأنشئوا الجمعية الملكية، وكانت جلساتها الأولى في بيته، ثم عُيِّن نائبًا لأستاذ التشريح في أكسفُرْد، وسنة ١٦٥٢ عين طبيبًا للجنود في أرلندا، وحين أخذت الدولة تهب الأراضي المضبوطة للعساكر رأى أنَّ تقويمها لم يكن صحيحًا، فأخذ على نفسه أمر تقويمها بالضبط، ولما كثرت أعماله وأجوره اتهمه الحساد بالارتشاء، فعُزِل ثم رد إلى مناصبه بعد حين.

وكان بتي من نوادر الزمان في الاجتهاد والإقدام والاختراع، فقد اخترع اختراعات كثيرة، منها مركب مزدوج القعر، يسير ضد المد والنوء، وألَّف كتبًا في الصباغة والفلسفة البحرية ونسج الصوف والحساب السياسي وفي مواضيع أُخر مختلفة، وأسس معامل حديد، وفتح معادن رصاص، وأنشأ تجارة في الأسماك والأخشاب، ومع كل هذه الأشغال لم يتأخر عن القيام بواجباته في الجمعية الملكية، وترك لأولاده ثروة وافرة، وأكبرهم صار بارون شلبرن، ووصيته في غاية الغرابة، وتظهر منها صفاته بأجلى بيان قال فيها:

أما الفقراء والمساكين الذين يستعطون فلا أوصي لهم شيئًا، وأما المصابون من الله فعلى الأمة أنْ تعتني بهم، وأما الذين لا حرفة لهم ولا مقتنى فيجب أنْ يعتني بهم انسباؤهم …

إلى أنْ قال:

وإني قد ساعدت كل أنسبائي الفقراء، ودربت بعضهم على تحصيل معيشتهم بكدهم، وقد اشتغلت في المصالح الجمهورية، واخترعت اختراعات كثيرة، قاصدًا بها خير البشر، وإني أوصي الذين يرثون تركتي أنْ يفعلوا مثلي دائمًا، ولكني جريًا على العادة المألوفة أهب لأشد المساكين فاقة في قريتي عشرين ليرة.

ثم مات ودفن في كنيسة رُمزي حيث ولد، ولم يزل قبره إلى الآن في تلك الكنيسة، وعليه هذه الكتابة «ضريح السر وليم بتي.»

ومن العيال التي ارتقت إلى منصب الشرف في أيامنا بواسطة الاختراع والصناعة عائلة سترت، وأول من أحرز لها الشرف جديا سترت سنة ١٧٥٨ لما اخترع آلة لاصطناع الجوارب المضلَّعة، فكانت سبب غناه وغنى نسله من بعده، كان أبوه فلاحًا، ولم يُعلِّم أولاده إلا قليلًا، ولكنهم أفلحوا جميعًا، وجديا هذا ثاني أولاده، وكان يساعده في الفلاحة، فأظهر من حداثته ميلًا إلى عمل الآلات، وحسَّن كثيرًا في أدوات الفلاحة التي كانت مستعملة وقتئذٍ، ثم مات عمه، فأخذ حقله، وتزوج بابنة رجل حرفته بيع الجوارب، فأخبره أخوها أنَّ كثيرين قد اجتهدوا في اختراع آلة لعمل الجوارب المضلعة، ولم يقدروا فعزم أنْ يمتحن ذلك، فاستحضر آلة لاصطناع الجوارب، ونظر فيها جيدًا حتى عرف كيفية العمل بها، ثم أخذ يغير تركيب إبرها، ويزيدها حتى صارت تنسج جوارب مضلعة، فعرضها على الدولة، فأجازت له استعمالها، ثم انتقل إلى دربي، وأخذ يعمل الجوارب المضلعة فيها، ثم اشترك مع أركريت المار ذكره، وكان أولاد جديا مثله في الاجتهاد والحذاقة، وإدورد بن وليم اخترع الدولاب المعلق، وصنع ثلاث مركبات دواليبها معلقة، وقد اشتُهرت هذه العائلة شهرة فائقة؛ لأنها استخدمت ثروتها لأعمال حميدة، ولاسيما لأنها لم تترك واسطة لتهذيب أخلاق العاملين في معاملها إلا استخدمتها، وكانت تشترك في كلِّ الأعمال الخيرية بسخاءٍ من ذلك الروض الواسع الذي وهبه يوسف سترت لأهل مدينته، وقال من خطبة وجيزة تلاها عليهم حينما وهبهم إياه:

بما أنَّ السعد قد خدمني مدة حياتي، فلا يليق بي إلا أنْ أخصص قسمًا من ثروتي بالذين رُبِّيت بينهم واعتضدت بهم.

ويمكنا أنْ نقول: إنَّ أكثر الذين أحرزوا الشرف والسيادة برًّا وبحرًا قديمًا وحديثًا أحرزوهما بكدهم واجتهادهم، فمنهم من أحرزها في حومة الوغى كنلسن وسنت وفنسنت وليونس وولنتن وهل وهردن وكليد وغيرهم ممن نالوا شرفهم بذراعهم، ولكن أكثر أشراف الإنكليز ارتقوا إلى سدة الشرف بالعمل والكدح لا بقيادة الجيوش، فإن نحو سبعين شريفًا حصلوا الشرف بواسطة الفقه، وكثيرون من الأشراف كانوا أبناء محامين وبدالين وقسوس وتجار وغيرهم من أهل الكدح، فاللورد لندهرست ابن مصور وسنت ليونردس ابن مزين وإدورد صكدن كان خادمًا، واللورد تنتردن ابن حلاق، وقيل إنه أخذ مرة ابنه تشارلس بيده، وأراه دكانًا صغيرًا، وقال له: انظر إلى هذا الدكان، فإن أبي جدَّك كان يحلق فيه للناس، ويأخذ على الرأس عشرين بارة، وهذا هو فخري العظيم، وارتقاء كنبون والنبرو إلى منصب أمانة ختم الملك ليس أقل غرابة من ارتقاء اللورد تنتردن، وكذا ارتقاء اللورد كمبل وهو ابن مغنٍّ، قيل إنه قبلما ارتقى إلى هذا المنصب كان يجول البلاد ماشيًا لفقره، ولكنه تدرج في مراقي الشرف والاعتبار كشأن كل عامل أمين مجتهد.

وبين كل الذين ارتقوا إلى هذا المنصب ليس مَن ارتقاؤه أغرب من ارتقاء اللورد ألدن، فإنه ابن بائع فحم من نيوكسل، وكان في صغره مشهورًا بسرقة الجنائن، فقصد أبوه أنْ يضعه صانعًا عند بدَّال، ولكنه عدل عن ذلك، وعزم أنْ يعلمه حرفته وهي بيع الفحم، وحينئذٍ أرسل إليه ابنه وليم — وهو الذي دُعِي فيما بعد اللورد ستول — وكان تلميذًا في أكسفرد يقول: ابعث جاكًا إليَّ لعلي أدبر له عملًا مناسبًا. فمضى إلى أكسفرد وتتلمذ فيها، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى هوي فتاة فخطفها، ومضى بها، وقطع الحدود بين إنكلترا واسكتلندا وتزوج بها، ولا بيت له ولا مال، فرُفض من المدرسة ومن الكنيسة؛ «لأنه كان معيَّنًا للقسوسية.» فعزم على درس الفقه، وكتب إلى صاحب له يقول: قد تزوجت جهلًا، ولكني عازم أنْ أبذل جهدي لأقوم باحتياجات المرأة التي أحببتها، ثم أتى لندن، واستأجر بيتًا في زقاق كرسيتور، وأقام فيه يدرس الفقه برغبة شديدة، فكان يقوم الساعة الرابعة صباحًا — قبل الظهر بثماني ساعات — ولا يلقي الكتاب حتى يمضي أكثر الليل، وإذا دهمه النعاس ربط رأسه بمنديل مبلول بالماء حتى لا ينام، ولم يكن قادرًا أنْ يدرس على مشترع، فنسخ بيده ثلاثة مجلدات كبار من كتب الدعاوي، ولما صار أمين الختم قال لكاتم أسراره وهما مارَّان في ذلك الزقاق: ههنا كان مقرِّي الأول، وكثيرًا ما يخطر ببالي، كم كنت أمرُّ بهذه السوق وبيدي ثلاثة غروش لأبتاع بها عشائي، ثم مضى إلى المحكمة؛ لكي يستعمل المحاماة، فانسدت في وجهه كل الأبواب، ولم يربح في السنة الأولى أكثر من تسعة شلنات، وبقي أربع سنوات ملازمًا محاكم لندن وغيرها وهو على مثل ذلك، فعزم أنْ يترك محكمة لندن، ويقيم في بعض المدن الصغيرة محاميًا، ولكنه نجا من ذلك كما نجا من أنْ يكون بدالًا وفحامًا وقسيسًا؛ لأنه صادف فرصة لإظهار كل معارفه الفقهية، وذلك أنه كان يحامي في دعوى فحُكم لخصمه، فاستأنف الدعوى إلى مجلس الأشراف، فنقض اللورد ثرلو الحكم الأول، وحكم له، وهذه أول درجة في سلم ارتقائه، قيل كان من عادة اللورد منسفيلد أن يقول: لا أعرف أنه كانت فترة بين المدة التي كنت فيها بلا عمل والمدة التي صارت فيها أجرتي ثلاثة آلاف ليرة في السنة، وهذا يصح أن يقال في هذا الرجل، فإن نجاحه كان سريعًا جدًّا؛ لأنه عين مشيرًا للملك، وصار رئيس الدائرة الشمالية، وعضوًا في البرلمنت قبل أن ناهز الثانية والثلاثين من عمره، وما زال يرتقي من درجة إلى أخرى بجده واجتهاده حتى صار أمين ختم الملك، وهو أعلى منصب يستطيع الملك أنْ يرقِّي أحدًا إليه، وبقي في هذا المنصب نحو خمس وعشرين سنة.

وهنري بكرستث كان ابن جراح ودرس الطب في أدنبرج، وأظهر في دروسه اجتهادًا عظيمًا، وبعد أنْ أكمل دروسه في المدرسة رجع إلى بيت أبيه، وكان يساعده في الجراحة، إلا أنه كان يكره هذه الصناعة، فألح على أبيه حتى أرسله إلى كمبردج، وكان مراده أن يأخذ ديبلوما تلك المدرسة؛ لكي يسوغ له التطبيب في لندن، إلَّا أنَّ اجتهاده العظيم في الدرس ألقاه في مرض، فعرض عليه أنْ يكون طبيبًا للورد أكسفرد وهو مسافر فارتضى أملًا بإرجاع صحته، وسافر مع ذاك اللورد فدرس وهو في السفر اللغة الإيطالية، وأُغرم بآدابها، ثم رجع إلى كمبردج، وأخذ الديبلوما والرتبة، وكان عازمًا أنْ يدخل العسكرية، فلم يتح له ذلك، فدخل المدرسة الفقهية، وأخذ في درس الشريعة، وكل الذين رأوه تنبَّئوا بنجاحه لما رأوا فيه من الاجتهاد، ولما صار له ثمان وعشرون من العمر أُذن له بالدخول إلى المحكمة ولم يكن معه مال، فاضطر أنْ يعيش من إحسان أصحابه، ومضت عليه سنون عديدة قبل أنْ مسك دعوى، فضاق به الأمر، واشتدت عليه الفاقة، فكتب إلى أصحابه الذين يعولونه أنه قد يئس من النجاح، وعزم أن يرجع إلى كمبردج، فأرسلوا له شيئًا من المال، ونشطوه على التصبر ريثما يفتح الله بابًا للفرج، فلم يلبث طويلًا حتى أقبلت عليه الدعاوي، ونجاحه في الدعاوى الصغيرة أتاه بدعاوى كبيرة فصار يربح ما يكفيه، ثم زاد ربحه، وكان مقتصدًا فوفَّى كل ما استقرضه من أصحابه مع الربا، وما زالت تنقشع الغيوم عن سعده حتى أضاء كالبدر في كبد السماء، وصار عضوًا في مجلس الأشراف باسم البارون لندال، وقد نال ما ناله من الشرف والفخر بصبره وكده ومواظبته.

فهذه أمثلة قليلة من الرجال العظام الذين مهدوا لأنفسهم طريقًا للبلوغ إلى أعلى الرتب باستعمالهم قواهم الطبيعية وتقويتها بالصبر والكد والثبات.

أما أهل المشرق فالصناعة غير مكرمة عندهم غالبًا، ألا ترى ما قاله أبو العتاهية، وهو:

وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصة
إذا صحح التقوى وإن حاكَ أو حَجَم

كأن الحياكة والحجامة من المعايب، ولكنهما لا تقدران على تنقيص الإنسان التقي، وما أبعد هذا عن قول الإمام عمر — رضي الله عنه — قال: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول ألَهُ حرفة؟ فإن قالوا لا، سقط من عيني.» ولكن كان ذلك قبل أن اتسع ملك العرب، واستولوا على أموال القياصرة والأكاسرة، ولذلك قلما تجد من الصناع من حاز مراتب الشرف، هذا إذا استثنينا صناعة الإنشاء، أما أصحاب هذه الصناعة فلم يكن أقرب منهم إلى دست الوزارة، كما ترى في قصة ابن الزيات وابن الأثير وابن مقلة وابن هبيرة وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم، فابن الزيات كان جده يتجر بالزيت في بغداد، وكان هو كاتبًا بديوان الخليفة المعتصم، ويُقال إنه ورد على المعتصم كتاب من بعض العمال، فقرأه وزيره أحمد ابن شاذي البصري، وكان في الكتاب ذكر الكلأ، فقال له المعتصم: ما الكلأ؟ فقال: لا أعلم، فقال المعتصم: خليفة أمي ووزير عامي، ثم قال: أبصروا من بالباب من الكتَّاب، فوجدوا ابن الزيات فأدخلوه إليه، فقال له: ما الكلأ؟ فقال: العشب على الإطلاق، فإن كان رطبًا فهو الخلا، فإذا يبس فهو الحشيش، وشرع في تقسيم أنواع النبات، وكان بليغًا عالمًا بالنحو واللغة، فعلم المعتصم فضله؛ فاستوزره وحكمه وبسط يده، ولما ولي الواثق بعد المعتصم وكان قد سخط على ابن الزيات وحلف يمينًا مغلظة أن ينكبه إذا صار الأمر إليه، أمر الكُتَّابِ أنْ يكتبوا ما يتعلق بأمر البيعة فكتبوا، فلم يرض بما كتبوه، فكتب ابن الزيات نسخة فرضيها وكفَّر عن يمينه، وقال: «عن المال والفدية عوض، وليس عن الملك وابن الزيات عوض.» ولكن لم تدم له النعمة؛ لأنه لما ولي المتوكل بعد الواثق اعتقله وأماته شر ميتة.

وابن الأثير ضياء الدين صاحب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، اتصل بالملك صلاح الدين وخدمه، ثم انتقل إلى خدمة ابنه الملك الأفضل، فاستوزره واستقل عنده بالوزارة، وصار الاعتماد في جميع الأحوال عليه.

وابن مقلة الكاتب المشهور كان في أول أمره يتولى بعض أعمال فارس، ويجبي خراجها، وتقلبت أحواله إلى أن استوزره المقتدر، ثم صار وزيرًا للقاهر بالله والراضي بالله.

وابن هبيرة من قرية ببلاد العراق دخل بغداد في صباه، واشتغل بالعلم، ولازم الكتابة، وحفظ ألفاظ البلغاء، وتعلم صناعة الإنشاء، وتقلب في المناصب الدولية حتى ترقى إلى الوزارة عند الخليفة المقتفي، وتوفرت له أسباب السعادة، ولم تلهه مهام الوزارة عن الدرس والتصنيف، فصنف كتبًا كثيرة، منها: الإفصاح عن شرح معاني الصحاح، وكتاب المقتصد، واختصر كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت.

وقد قام في عصرنا كثيرون من أولاد الصناع والفلاحين، ورقوا أعلى مراتب الشرف بجدهم واجتهادهم، نخص منهم بالذكر العالم الشهير محمود باشا الفلكي، وُلِد هذا الفاضل ببلدة الحصة بمديرية الغربية، وأُرْسِل إلى مدرسة الإسكندرية سنة ١٢٤٠ﻫ، فأقبل على اجتناء ثمار العلوم أيما إقبال، ثم أخذ يتنقل في المدارس العليا حتى تعين أستاذًا للعلوم الرياضية والفلكية بمدرسة المهندسين، ثم بعثته الحكومة المصرية إلى أوروبا سنة ١٨٥١ ليتمم دراسة العلوم الرياضية والفلكية، فمكث بها تسع سنوات مكبًّا على الدرس والتحصيل، ثم عاد إلى مصر وأُنيط به رسم خريطة للقطر المصري، فرسم خريطة للوجه البحري لم يأت أحد بأحسن منها، وألَّف كتبًا ورسائل كثيرة، ذكرنا أكثرها في السنة التاسعة من المقتطف، وناب عن الحكومة المصرية في المجمع الجغرافي بباريس سنة ١٨٧٥ وبفنيسيا سنة ١٨٨١، وتقلب في الوظائف السامية إلى أنْ بلغ مسند الوزارة، فعُهد إليه بنظارة الأشغال، ثم عهد إليه بنظارة المعارف.

هذا، ومراكز الآستانة العلية والقاهرة المحمية غاصة بالرجال العصاميين، الذين شرَّفوا الفقر الذي وُلِدوا فيه، وصناعة الإنشاء التي اتخذوها سلمًا إلى أعلى مراتب الشرف، ويجب أنْ تجمع ترجماتهم في كتاب يُنْشَر على الملأ؛ لكي يكون أنموذجًا لمن يريد الترقي وذكرًا خالدًا لهمتهم وإقدامهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤