عبد الحسين الأزري

figure
عبد الحسين الأزري.

كاتب وناظم، جال جولة في ميدان الصحافة ﺑ «مصباحه» قبل الحرب الكبرى، فظهر كاتبًا فاضلًا، وحام حول الشعر بعد الحرب، فأسمعنا شعرًا مُعجبًا أنسانا أنَّ نَاظِمَه كاتبٌ مُجيد. ونرى لقصائده التي ينظمها وينشدها في محافل العراق اليوم رنة استحسان، لما تضمَّنتْه من العواطف الرقيقة والإحساسات الطيبة، فضلًا عن سلاستها واتساق معانيها.

•••

بيت الأزري بيتُ علم وأدب معروف، اشتُهر منه في القرن الماضي علَمان؛ هما الشيخ كاظم والشيخ محمد رضا أخوه.

وُلد عبد الحسين الأزري في بغداد في ربيع الأول سنة ١٢٩٨ﻫ، ونشأ فيها وقد تخرج في حداثته في المدارس الابتدائية، ثم درس على الشيخ شكر قاضي الجعفرية شيئًا كثيرًا من علوم الأدب والدين، وقال الشعر وعمره أقل من ١٥ سنة.

ودخل حزب الائتلاف بعد إعلان الدستور العُثماني، واشتغل بإنشاء الصحف، وأنشأ سنة ١٩١١ جريدة «المصباح»، ظلت تَصدر نحو ثلاث سنوات ثم قضت عليها الحرب العامة الكبرى؛ إذ نُفي المترجم إلى قيسري في بلاد الأنضول مع من نُفي من الأحرار والمنورين، لاشتغاله في القضية العربية وانضمامه إلى فرع حزب اللامركزية الذي كان مركزه بيروت.

وهو يحسن اللغة الفرنسية.

ويُحب في شعره الخيال الجميل، والأسلوب القصصي. أما في كتابته فأحسن ما يعجبه النقد الأخلاقي. لا ينظم إلا في الخلوات، وأفضل أوقات النظم عنده الليل؛ سمير العشاق والشعراء والمنشدين.

(١) مؤلفاته

اشتغل الأزري بتأليف بضعة مؤلفات لا تزال خطية، منها:
  • (١)

    تاريخ العراق قديمًا وحديثًا: في جزأين كبيرين على أهبة الإكمال.

  • (٢)

    قصرالتاج.

  • (٣)

    بوران: روايتان من رواياته التاريخية الأدبية الغرامية التي ألفها، وبلغ بها الاثنتي عشرة رواية.

  • (٤)

    بطل الحلة: رواية وصف فيها ما أنزل الأتراك بالحلة من الفجائع.

  • (٥)

    مجموعة الأزري: مجموعة مقالاته في السياسة والأخلاق والاجتماع.

  • (٦)

    ديوان الأزري: اجتمع من منظوماته القديمة والحديثة مجموعة صالحة تُمثِّل ديوانه.

وقد انتقينا من شعره الحديث النخبة التالية:

نفس مُعذبة وقلب خافق

صدق الهوى ما كل ودٍّ صادق
فلكَم تذرَّع بالوداد مماذق
ومكابر بالعشق لو كاشفته
لعرفت منهُ سرَّ ما هو عاشق
لا تخدعنَّك يا بليد حشائش
ما كل نبتٍ في الحقول شقائق
وأراك مفتونًا بفجر كاذب
فارجع فليس وراء فجرك شارق
من أين تعرف ما الهزار وشدوه
ما دام يطربك الغراب الناعق
وإذا طلبت من الرجال حقيقة
فتتبع الآثار فهْي حقائق
أو كنت في طلب الحقائق مغرمًا
فمن الحماقة أن يهمك حانق

•••

وغبي قوم راح يحسب أنَّهم
لا ينظرون وراء ما هو ناطق
متظاهر بالسلم وهو مُحارب
وبوحدة الآراء وهو مشاقق
كمنت له خلف الثياب مآرب
فكأنما تلك الثياب خنادق
يصطاد في مزق اللسان ولينه
مُتخيلًا أنَّ العقول غرانق
هو رأس دائهم الخفي وأصله
لو كان يفحصه الطبيب الحاذق
الخدع في نظر الحقيقة واحد
لكنما للمرء فيه طرائق
ومن المصائب أن يُعاب مهذَّب
ظلمًا ويوصف بالخلاق منافق

•••

يا معولًا في جنح ليلٍ حالك
قبض البريء به وفرَّ السَّارق
متطلعًا في الأفق لمحة بارقٍ
يجلو الظلام وما هنالك بارق
هيهات لا تتكلفن طلابه
فاللص مدَّرع وليلك غاسق
إني لتُطربني الصرامة بالهوى
من حيثُ يبعثها الضمير الصادق
أحمامة الوادي سبقتُك بالغنا
لولا فمي بالماء دونك شارق
ولربما سكت الحزين وفي الحشا
نفس مُعَذَّبة وقلب خافق
عشت دهرًا فلم أجد غير ما بتُّ
أُقاسيه من نوائب دهري
غصص لو حسبتها لتلاشت
دون إحصائها دقائق عمري
سلب النوى نومي فأيقن عاذلي
أنْ لا لقاء ولو بطيف منام
لم يدرِ أنك نُصب عيني والهوى
قد صيَّر اليقظات كالأحلام
غنَّى فأطمعه السقا
ة وعجلوا بسباته
كالعود تملأ جوفه
فيكفُّ عن نغماته

الكتاب والحجاب

نظمها الأزري مُعارضًا لقصيدة «المرأة في الشرق» التي أنشدها الأستاذ معروف الرصافي على أحد مسارح بغداد، وقد أثبتناها في مُختاراته من هذا الكتاب، وأثبتنا هذه هنا من باب المناسبة ليس إلا.

أمنازل الخفرات بالزوراء
لا زعزعتك عواصف الأهواء
قَرِّي فإنكِ للفتاة أريكة
ضربت سرادقها على النجباء
لا تحزني مما رماكِ به الهوى
ظلمًا وظنك معقل الإسراء
أين الإسارة في عفافٍ طاهر
أين المعاقل من كناس ظباء

•••

أكريمة الزوراء لا يذهبْ بكِ النَّـ
ـهج المُخالف بيئة الزوراء
أو يخدعنَّك شاعر بخياله
إنَّ الخيال مطية الشعراء
حصروا علاجك بالسفور وما درَوْا
أن الذي حصروه عين الداء
أوَلم يرَوْا أنَّ الفتاة بطبعها
كالماء لم يحفظ بغير إناء
من يكفل الفتيات بعد ظهورها
مما يجيش بخاطر السفهاء
ومن الذي ينهى الفتى بشبابه
عن خدع كل خريدةٍ حسناء
ليس الحجاب بمانعٍ تهذيبها
فالعلم لم يُرفع على الأزياء
أوَلم يسغ تعليمهن بدون أن
يملأن بالأعطاف عين الرائي
ويجُلن ما بين الرجال سوافرًا
بتجاذُب الأرداف والأثداء
فكأنما التهذيب ليس بممكنٍ
إلا إذا برزت بدون غطاء
وكأنما الإصلاح عَزَّ بناؤه
ما لم يُشيد مسرح بنساء
إنَّ المسارح لا تدير شئونها
من كُلِّفَت برعاية الأبناء
مثِّل بها دَور الفضيلة إنها
تغنيك عن تمثيل دور إباء
وانظر إلى شأن المحيط وأهله
كي لا تفوتك حكمة الحكماء

•••

نص الكتابُ على الحجاب ولم يُبحْ
للمسلمين تبرج العذراء
قل لي فماذا يصنع العُلماء لو
نزَّهتهم من سيرة الجهلاء
ماذا يريبك من حجاب ساتر
جيدَ المهاة وطلعة الذلفاء
ماذا يريبك من إزارٍ مانعٍ
وزرَ الفؤاد وضلة الأهواء
ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التَّـ
ـهذيب أن يهتكن ستر حياء
هل من مجالسة الفتاة سوى الهوى
لو أصدقتْك ضمائر الجلساء
شيِّد مدارسهنَّ وارفع مستوى
أخلاقهن لصالح الأبناء
وافحص عن الأخلاق قبل حجابها
أوَما سمعت بطائر العنقاء
هلا اختبرت الأقوياء خلاقهم
لو كنت تأمن عفة الضعفاء
أسفينة الوطن العزيز تبصَّري
بالقعر لا يغررك سطح الماء
وحديقة الثمر الجني ترصدي
عبث اللصوص بليلةٍ ليلاء

يا وطن الرشيد

وطني لأجلك قد عدمت قراري
وسئمت فيك حياة هذي الدار
أُحيي الليالي والعيون هواجع
وهواجسي في جنحها سُمَّاري
أتنفس الصعداء ما بقي الدُّجى
حتى أكدر نسمة الأسحار
أنا لم يُخيرني الزَّمان بصرفه
كلَّا وإن ملك الزمان خياري
فلقد سبرت من الحوادث غورها
وبها درست غوامض الأسرار
وعلمت أن النائبات بمرصدٍ
ممن تغافل عن دبيب النار
فأنا المقصِّرُ والزَّمانُ موكل
بعقاب كل مقصِّر خوار
ومَنِ الأُلى أرجوهمُ لأقلتي؟
إن لم أُقِلْ أنا في الحياة عثاري
ليلي وإن أرخى عليَّ سجوفه
فالقلب ينظر من وراء ستار
كان الخيار بقبضتي فأضعته
وبقيت مُتكلًا على الأعذار

•••

وحمامة غنَّت فقلتُ لها اقصري
فالصمتُ أجدر في فم المهذار
غنيتِ والأوراق ذابلة وقد
ذهب الخريف بنضرة الأشجار
لا تحسبي شَرَعًا أحاديث الهوى
ما كل مورقة بذات ثمار
نوحي على غصن الفضيلة لا الغضا
ومحاسن الأخلاق لا الأزهار
فهي التي هام الكرام بحُبِّها
وبنَوْا عليها لا على الأبكار
تنعين إلْفكِ للظلام وإنني
أنعى لإلفي مُشرق الأنوار
غابت كواكبه كَمَا شاء القضا
ما حِيلة الإنسان في الأقدار
أمعاهد العلم ارفعي فوق الحمى
منك المنار بحيث يهدي الساري
رحماك حار المدلجون وها همُ
ملُّوا من الأنجاد والأغوار
وقف الزَّمان بهم على جرف الردى
والجرفُ لو تدرين رملٌ هار
وإليك يا دار الشقاء تفقدي
مرض البصائر فيك لا الإبصار
فلقد تضاعفت الشجون بمثلها
كتضاعف الأعداد بالأصفار

•••

ناديت أوطاني وما أعني بما
ناديت غير دوارس الآثار
الناثرات فضائلي ومفاخري
والشاهدات بعزتي ونجاري
والناظرات إليَّ نظرة آمل
إحياء مجد دارس وفخار
والباعثات بنفسيَ الشمم الذي
يأبى الحياة بذلة وصغار
أُصْغِى بكل جوارحي لحديثها الـ
ـمقرون بالإعجاب والإكبار
وأحنُّ ما حن الحمام كأنني
عود يردد نغمة الأوتار
من ذاك يا وطني ملكت عواطفي
وشعوريَ المطبوع في أشعاري
مضت القرونُ ولا تزال معانيًا
سقم العقول وضلة الأفكار
وظلام جهل لو تصاعد بالفضا
لن تُدركَ الأبصارُ ضوءَ نهار
إني لأشعر في هواك بنشوةٍ
فتخالني ثملًا بدون عقار
أشدو وأرفع كالهزار عقيرتي
للذَّبِّ عن شرفي وحفظ ذماري
وإذا الفؤاد تحركتْ أوتاره
سهلت عليه مسالك الأوعار
سل عن هوايَ الريم حول كناسها
والطير عاكفة على الأوكار
وضمائر الأغيار نحو ديارهم
لو أصدقتك ضمائر الأغيار
أهلوك هم أهلي وسلمي سلمهم
وشعارهم في النائبات شعاري
مِن عِزهم عِزي ومَن في وردهم
وردي ومِن إصدارهم إصداري
وُلدوا على لغتي وفطرتيَ التي
فُطرت عليها بيئتي ودياري
أنا منهمُ وهمُ على بُعد المدى
مني ورغم تفاوت الأطوار

•••

قد كنتَ أول مَنزلٍ أبصرته
وسكنت من واديك أول دار
والنفس ما زالت تُمثِّل لي الصِّبا
وحديث صحب في حماك صغار
كنا كماء المُزن رقَّ صفاؤه
من قبل أنْ ينصاع للأَكدار
تلك المناظر لم تزل محفوظة
عندي وإن خفيت عن الأنظار
تالله يا وطن الرشيد ونجله
ومعرَّس الطائيِّ والمهبار
لم تلهني عنك الحِسَان ولا الطلى
هيهات تلك سجية الأغرار
أنت الذي غذَّيت غصن شبيبتي
وسَقَتْه دجلة بالمعين الجاري
ومن الوفاء إليك أن أدع الكرى
حتى تفوز بسابق المضمار
قل لي إذا لم أقضِ دون مقاصدي
عمري فما هي قيمة الأعمار؟

العيش نغم

أعد أيها الورق فالليل جَن
وغنِّ فدونك وادٍ أَغَن

•••

ألِفتُك لما اعتزلتُ البشر
وكابدت مثلك طول السهر
أنوح بنوحك فوق الشجر
كعود يردد نغم الوتر
لو العود يدرك مثلي الشجن
حبتْك الغصون بعرشٍ رفيع
وصاغت لك التاج زهر الربيع
فأنت المليك بوادٍ بديع
وما أنا إلا كعبد مطيع
تولى هواك وفيك افتتن
شدوت فأبطلت فن الأساة
وصرت تعالج بالبينات
فما أنت إلا من المُعجزات
ومنك بدا لي سر الحياة
فطورًا سرور وطورًا حزن
ليبتسمِ الصبح للبلبل
ليحتفلِ الجو بالأجدل
لتصفُ الحياة لقلب الخلي
ليحتملِ السهد من يبتلي
ليخف الكئيب وراء الدجن
فما العيش يا ورق إلَّا نغم
بكى منه ذاك وهذا ابتسم
تنافى الشعورُ به فانقسم
سرورًا لقوم وقومٍ ألم
فتطرب روح وأخرى تئن
دعِ الليل يسحبُ ذيل الغسق
علينا ويكحل جفن الشفق
وعد نتعاطى كئوس الأرق
لكيلا يفوتك باقي الرمق
فبعد الحياة يطول الوسن
دعِ الليل يملأ أرجاءها
هدوءًا ويطرد ضوضاءها
ولا تسأل النفس ما ساءها
فلا فم تشكو به داءها
ولا في زمانك من يؤتمن
إذا البدر أشرق فوق الأديم
وصافحَت البان كف النسيم
وريع السكون بصوت رخيم
فنوحك بهجة ذاك النعيم
ونضرة ذاك الجمال الحسن
كشفت بنوحك ستر الخفاء
وطارت به الروح قبل الهواء
كأني الكليم حظي بالنداء
وذو النون منتبذًا بالعراء
ضعيف القوي ونحيف البدن
تذكرت يا ورق عصر الشباب
وكيف انخدعت بلمع السراب
وما كنتُ أعلمُ خلف الحجاب
زمانًا يناقشني بالحساب
وينتابني بضروب المحن
ذكرت رفاقيَ عند الصغر
وتجوالنا تحت ضوء القمر
فما هي نفسي برغم الكبر
أراها تمثل تلك الصور
وإن غيرتها صروف الزمن
أراني أحنُّ لتلك الليالي
وترتاح نفسي بذاك الخيال
هوًى لا لحسن عديم المثال
ولكنَّ للنفس حبل اتصال
شعرت به في رضاع اللبن
تمر البساطة في خاطري
فيَطْمَحُ شزرًا لها ناظري
دعتني أمدُّ يد الخاسر
وأستمنح الرفق من آسري
ولولا البساطة لم أرتهن
عليَّ الهوى سد باب الرَّجاء
ومثل لي الداء نفس الدواء
فمن أين أحظى إذن بالشفاء
وما أسرعَ السيرَ نحو الفناء
إذا أنا ضيعت نهج السنن
تمر الليالي على وحدتي
ولم أَحْظَ بالقُرب من جيرتي
فإن أعدم البرء من علتي
فيا حافر القبر للميت
رويدك حتى نعدَّ الكفن

المجد مكتسب

دُمْ ذاكرًا فيك يا شعبان من وثبوا
فسوف يحفل في تمجيدك العرب
واحفظ لهم عهد صدقٍ عند نهضتهم
بنوده الشرف الموروث والحسب
واسعد بقومٍ على ورد الرَّدى عقدوا
راياتهم أو ينالوا كل ما طلبوا
ولا يصدون عن إظهار ما قصدوا
مهما تكاثفت الأستار والحجب
من الآباء لهم حصن إذا نزلوا
ومن عزائمهم جرد إذا ركبوا
إن أنكر الدَّهر ما من أجله نهضوا
فلن يضيع لهم حق ولا طلب
وإن تلاعب في أقصى رغائبهم
فسوف يجنح مضطرًا لما رغبوا
يا وثبة جدَّد الشعبُ العريق بها
رفيعَ مجدٍ تهاوت دونه الشهب
وراح ينقذ في أرواحه وطنًا
مرت عليه عصور وهو مغتصب
قل للمطامع والأيام صافحة
عن طولها اليوم لا نكر ولا عجب
لنا الخفاء تجلَّى في حوادثه
كما تجلَّى ليعقوب الدم الكذب
سيمنع الشعبُ عنه كل عادية
ويَرجِعُ الحق إن صدوا وإن صخبوا
والحق أبلج لا يخفى سناه وإن
جد الضلال وحالت دونه السحب
يا أيُّها الوطن المرعوب جانبه
مهلًا سيحميك شعب ليس ينشعب
رقى على عرشه من هاشم ملك
بالحق مُنتصب للذود منتخب
لا تذهبنَّ بك الأحلامُ إنَّ لها
معنًى بأسفار قومي غير ما كتبوا
ما للجزيرة لا تُطفَى ضغائنها
كنار فارس لم يخمد لها لهب
يا موقد النَّارِ أخفض من حرارتها
فمَا لها من سوى سكانها الحطب
إن يَخدعنك حلم الساكنين فهم
كالماء إن حلموا والنار إن غضبوا
توارثوا سنن العلياء عن سلف
ضجت بذكرهم الأعصار والكتب
هم الذين إذا نادى الصريخ بهم
سعى يُلبِّيه منهم جحفل لجب
يا أيها القوم إنَّ الدهر مُحتكم
بكل وانٍ وإن المجد مكتسب
لم تقترب نكبات الدَّهر من فئة
لها المَعَارف أمٌّ والوفاق أب

أيها البان

هل مَسَّكَ الوجدُ مثلي أيها البانُ
فآذنت بذبولٍ منك أغصان
وهل روت لك ورقاء حديث هوًى
تسللت منه أشجان وأحزان
عهدي بسرب ظِبَاء عندك اتخذت
لها حمى سوره أثل وكثبان
كانت من البَيْن في واديك آمنة
إذ لم يَرُعْها به إنس ولا جان
لها حمامك أهل والحمى وطن
والعيش نضرته أهل وأوطان
ترعى بظلك والأغصان حانية
من فوقها والنسيم الغض نشوان
وقد عراها اهتزاز من تنفسه
كأنَّما هو روح وهْي أبدان
أو أنَّه فمُ واشٍ من تحذُّره
تعوَّد الهمس والأوراق آذان
مغنًى بدا ليَ من رقص الغصون به
أيدٍ تجسُّ وأوتار وألحان
طوت صحائفه البلوى وكم له في
أكناف دجلة أمثال وأقران

•••

أمسيتِ يا شجرات البان موحشة
لا الأهل أهل ولا الجيران جيران
واسيتني بنوى الأحباب حيثُ خلت
منك الظباء وبانت مثل ما بانوا
لم أنسها حين لاذت بالفرار ضحًى
تؤم بالجزع ظلًّا وهو عريان
فرت على الرَّغم منها بعد إلفتها
من حيثُ لاح لها بالغرور إنسان
حتى إذا بعُدت عن عين قانصها
رَنَّت بطرف كليل وهو حيران
دع لومها أيُّها الوادي فإنَّ لها
عُذرًا وثق أنَّ بعض اللوم بهتان
ولا تَسُمْ طاهرات الذيل إن نفرت
باسم الخيانة إنَّ الدهر خوان
هذا نسيمك سله عن شمائلها
فقلبه من خفايا اللطف ملآن
كأنَّ سيلك دمعٌ كفكفته يد
مِنَ الغُصون لها الأوراق أردان
كأن فيك الفضا زاد وأنت فم
غصصت فيه وصم الصخر أسنان

اليتيم

هدأ الدجى لولا أنين عليلِ
ووداع بائسة به لكفيلِ
طال السقام عليه حتى اضطره
أن يدفع الآلام بالتعليل
وتزيده ألمًا كآبة صبية
قد شابهوه بِرِقَّة ونُحُول
وحليلة كم كابدت في بؤسه
غصصًا وراء حجابها المسدول
تتكلف الصبر الجميل فلم تُطِق
ولرُبَّ صبرٍ لم يكن بجميل
وتدير عينيها فلم ترَ مسعفًا
معها على جسدٍ هناك نحيل
لم يبقَ منه غير طرفٍ فاتر
كبصيص نورٍ في الظلام ضئيل
حتى إذا قرب السرى وبدت لها
منه إشارة مؤذن برحيل
هتفت وللزفرات في أحشائها
صدمات سيفٍ في فؤاد قتيل
ورنت كما ترنو المهاة لخشفها
مرعوبة من قانصٍ أو غول
وكأنها شعرت بسوء مصيرها
ومصاب كوكب سعدها بأفول
وتيقنت فيما سيحدث بعده
بحياة صبيتها من التبديل
فتنهدت جزعًا هنالك والقضا
عما دهاها ليس بالمسئول
أودى بكافلها ولكن أودع الـ
آلام تعبث في حشا المكفول
كحمامة وقعت بقبضة صائد
وفراخها في عشها المجهول
وقفت بجانبه تكفكف دمعها
كوقوف ركبٍ في رسوم طلول
تخفي الشجا وهنًا وتنظر حولها
ما بين معتلٍّ وبين هزيل
يتضوَّرون بمسمعٍ من جارهم
فكأنَّ بينهمُ مسافةَ ميل
يحيي الدجى طربًا وخلف جداره
غرثى تبيت بزفرة وعويل
ودت تشاطره الردى حذر الشقا
لو كان يقنع منهمُ ببديل
وسرى الخيالُ بها لماضي عيشهم
ونعيم ظل في ذراه ظليل
كانوا بحيثُ الخطب يخشى قربهم
فكأنهم أسد الشرى في غيل
حتى أحال الدهر ساحة دارهم
كهف الحطوب ومسرح التمثيل
ولكل شيء في الزَّمان نهاية
وكذا الصعود معقَّب بنزول
ومن المصائب ما يهون إزاءها
ورد الرَّدى بمُهنَّد مصقول
ما للأُلى حملوا سرير فقيدهم
لم يعبئُوا بوديعة المحمول
بقيت تُعالج بؤْسهم في صبرها
سرًّا وظهر الصبر غير ذلول
ولربما أنِفَ العزيزة نفسه
من أن يمد إليك كف ذليل
قلَّ للمعين لها على الزمن الذي
كثرت به عقبات كل نبيل
وترى إذا ما الفقر حل بمنزلٍ
يومًا تباعد عنه كل خليل
ومن البلية أنهم لم يعهدوا الـ
ـبلوى ولا اعتادوا على التطفيل
سئمت على الذلِّ الحياةَ وهكذا
وردت حياض الموت بعد قليل
فدعتهمُ كظعائن في قفرة
راحت مشتتة بغير دليل
لو تنطق الأجداث عن حال الأُلى
ذهبوا ضحايا ذلة وخمول
لبكيتَ من ألم المصيبة رحمة
وكفاك مُجملها عن التفصيل
إني لأشعر في اليتيم إذا بكى
خوف الأسير وذلة المغلول
واللهُ أوصى باليتيم عباده
في مُحكم القرآن والتنزيل
يا ملجأ الأيتام كم لك منة
في جيد كل مضيع موكول
أنقذت من أيدي الخطوب بقية
سلكت بهم لولاك شر سبيل
سيسجل التاريخ برك بعدنا
والبر فيه أحق بالتسجيل
جدد لهم أمل الحياة فرُبَّما
نال المؤمِّل غاية المأمول
وارْجُ المعونة من إلهك والأُلى
بهر الفرات بهم عيون النيل

يا عِلم

نال فيك الغرب يا علم المراما
فعدى لم يرعَ للشرق ذماما
أيها العلم ولولاك لما
أزعج الغازون في الليل النياما
إن تكن غاية ما تطلبه
كل نفس منك بغيًا وانتقاما
فابتعد يا علم واتركنا سدًى
فلقد أصبح مرعاك حراما
أشرقت شمسك في الغرب ولم
نرَ من آثارها إلا ظلاما
رُبَّ شرٍّ سنح الخير به
ودواء أولدوا منه سقاما
لست ممن حبذوا الجهل ولا
بالذي عن شرف العلم تعامى
إنما قد ساورتني ريبة
جعلتني أنظر الماء ضراما
أنتَ إن لم ترضَ فيما فعلوا
فلماذا اخترت في الغرب المقاما
وردوا منهلك العذب ولم
يوردوا غيرهمُ إلا حِماما
مَلَئُوا باسمك أرجاء الثرى
قاذفات تنفث الموت الزؤاما
ودعوها رحمة تحمل في
طيها للناس بردًا وسلاما
عد إلى الشرق لتبدي لهمُ
كرم الأنفس والقوم الكراما
وأْتِ قومًا لك في تاريخهم
ارج طبق يا علم الأناما
وتنصل من دماء أُهرقت
ولها باسمك قد سلوا الحساما

•••

يا بني الشرق خذوا العلم ولا
تجعلوا منه إلى الظلم دعاما
واتقوا عادية الدهر به
فهو العروة لا تخشى انفصاما
واكشفوا فيه القذى عن أعين
لم تكد تُبصر في الصبح الإماما
هذه الشمس تجلت لكمُ
وأماطت عن مُحياها اللثاما
ومضى الليل فسيروا خببًا
كيفما شئتم عراقًا أو شآما
جعل الله لكم أوطانكم
فاحذروا أن يملك الغير الزماما
ودعتكم للعلى آثارها
فأعيروها الْتفاتًا واهتماما
إنَّما العيشُ خصام وبه
يحرز النصر من اسطاع الخصاما
وقضى الدهر بأن يختطف الضَّـ
ـيغمُ العجماءَ والصقرُ الحماما
فاجعلوا الوحدة درعًا لكمُ
إنما الدارع لا يخشى السهاما
وخذوا العِبرة من تاريخكم
كيف آل الأمر بالملك اقتساما
لا يسوس الملكَ شعبٌ لم يكن
من رضاع العلم قد جاز الفطاما

•••

يا نداماي وما قيمة من
ترك اليقظة للدهر وناما
أنا لا أعرف إلا بطلًا
صارع الباطل أو بالحق قاما
حمل العفة في أثوابه
ورأى الإخلاص فرضًا فاستقاما
أبت الحرمة نفسي لامرئ
يحسب العيش شرابًا وطعاما
هيكل ألبسه الدهر من الـ
ـوشى بردًا ومن التبر وساما
فاحرفوا الأقداح عَنَّا فرغًا
واحفلوا بالأكؤس الملأى مُدَاما
نحن في عصرٍ يرى الغرب به
ضعفاءَ الرَّأي في الأرض سواما
دولة الأصنام زالت ومضى
عصر من أحنى لها الرأس احتراما
لا تلوموا الدهر في أعماله
إنما العاجز من أبدى الملاما
أيُّها القطر الذي في مجده
ضارع النجم علوًّا ومقاما
كُلَّما رمتُ أناجيك بما
في فؤادي قطع الدمع الكلاما
لك في عهد حمورابي على
سائر الأقطار فضل لا يُسامى
وعلى آثاره قد شهدوا
أنك المبدع في الأرض النظاما
ودعاك العلم من أشياخه
فلماذا صرت يا شيخ غلاما
هل أعرت الشيب أيام الصبا
أم تراجعت إلى دور اليتامى
بدأ العلم بمغناك فهل
فيه تحظى اليوم بدءًا وختاما

أنا في سورة من الأحلام

خطأ كان … فاذهبي بسلام
واغفري ما اقترفت من آثامي
وتناسي بحرمة العهد ما كنـ
ـتِ تقاسين في سبيل غرامي
من عتاب مرَّ وآلام شكوى
فيهما قد تصرَّمت أيامي
غرني طيفك الملم بجفني
حينما كنتُ غارقًا في منامي
وتخيلت أنني فزت بالقر
ب وأدركتُ منك بعض مرامي

•••

لستُ أدري وليتني كنتُ أدري
أنا في سورةٍ من الأحلام
هكذا يغلب الخيال على النفـ
ـس ويسري الكرى بقوم نيام
ويضل الهوى العقول فتقتا
د سراعًا له بغير زمام
بينما أمزج التحية بالعتـ
ـب كمزج الأرواح بالأجسام
إذ سبقت النجوم في فلق الصبـ
ـح فرد الصدى عليَّ كلامي

•••

ثاب رشدي بعد الضلال فعذرًا
لكِ مني وأنتِ بنت الكرام
وانجلى الليل ضاحكًا من خداعي
حين شقَّ الصباح ستر الظلام
وبدا لي كيف الحقائق تخفى
في مطاوي الأهواء والأوهام
ها أنا واهم على الرغم مني
في عتابي على رفات رمام
وعجيب من أن أبيت بكِ اليو
م طروبًا وأنت رهن الحِمام

•••

في عداد الموتى ولكنَّ شوقي
وحناني قد مثلاك أمامي
أنعمي الطرف في قوامك فالأجـ
ـداث أودت بحسن ذاك القوام
وأطيلي الحديث عن ريقك العذ
ب وقد جفَّ في طباق الرغام
خادعتني بالقرب منك الأماني
مثلما خادع السراب أوامي
هذه قصتي، ورُبَّ بريء
خطأً قد أصابه سهم رامي

•••

أيُّها الليلُ أنت أضللت فكري
وأمرت الخيال باستخدامي
أنتَ صورت لي بساط سليما
ن ووطأ السماك في أقدامي
وجعلتَ الرِّياح تجري بأمري
فوصلت الأنجاد بالإتهام
ونقلتَ الصرح المُعد لبلقيـ
ـس فأنزلته بدار السلام
منزلي إن أتيتَ فرق الثريا
أو أتى الصبح فالحضيض مقامي

•••

فدع الخدع أيها الليل واترك
لعيوني سذاجة النوام
أنا لولاك ما طلبت حراكًا
من رميم أو رشفة من جهام
كم سَمِعْنَا نغمًا ولم نرَ عودًا
ورأينا عودًا بلا أنغام
ضاع عمري ولم أجد فيك إلا
موج بحرٍ من الهواجس طامي
رُبَّ رأسٍ تكلل الشيب فيه
وتراه يقل عقل غلام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤