خيري الهنداوي

figure
خيري الهنداوي.

شاعر في شعره أثر البداوة ورِقَّة الحضارة، ترى الطبيعة بادية على نظمه، يُضمِّن قصائدَه على الأكثر وصفَ نفسه، ونزعته إلى الحُرِّية والانعتاق، وكم في صدور أحرار الديار نفوس مُعذَّبة في أقفاصٍ من التقليد ضيقة قد حان وقت تحطيمها.

•••

وُلد خيري الهنداوي من أبٍ عربيٍّ علوي، وأمٍّ تركيةٍ مستعربةٍ سنة ١٣٠٣هجرية، في قرية باصيدا من أعمال ديالي، وهي تبعد عن بغداد ٣٦ ميلًا.

قرأ قليلًا من كتاب التنزيل على مُعلِّم خاص حتى بلغ الخامسة من عمره، فانتقل أبوه وأخوه وأهله كلهم إلى بغداد، فدرس القرآن وتعلَّم قليلًا من الكتابة العربية في بعض كتاتيبها الخاصة؛ إذ لم يكن ثَمَّةَ في بغداد مدرسة حكومية شهيرة غير المدارس العسكرية، ولم يشأ أبو خيري أن يُدخل ابنه فيها رغبةً منه في تعليمه الشعر، ونفورًا من الجندية. وقد انتقل أهله بعد ثلاثة أعوام إلى العمارة لتوظُّف أبيه بوظيفة فيها، فدخل مع أخيه المدرسة الإعدادية هناك، فكان من مُقدمي التلامذة وأنجحهم، ولم تنقضِ عليه سنة وبعض السنة حتى انتقل أهله كذلك إلى «شطرة العمارة»، أو «قلعة صالح»، فدرس هناك في كُتَّابها ثم عاد مع أهله إلى العمارة، وبعد شهور انتقلوا إلى باصيدا، وكان والد المُترجم لا يفتر عن تلقين ابنه الشعر، وقد مرض في مسقط رأسه مرضًا اضطره إلى ترك الدرس، وارتحلت الأسرة بعد مُدَّة إلى الديوانية لأنَّ كبيرها توظَّف مديرًا لناحية عفك، فشرع المترجم يقرأ النحو على المرحوم مصطفى أفندي الواعظ، ولما انتقل مع أهله إلى عفك حيث وظيفة أبيه استمرَّ يدرس الدروس العربية على السيد حسين المُلَقَّب بالشرع، ولما عادوا إلى الديوانية بعد سنة ونصف أخذ يدرس على العلَّامة الحاج علاء الدين الآلوسي قاضي اللواء حينذاك.

ويقول صاحب التَّرجمة في مُذكراته: «إنني في كل هذه المدة التي درست فيها النحو والدروس العربية لم أكُن أفقه شيئًا منه لاعتلاق نفسي بحب الشعر والأدب؛ لذلك لم تجد هذه القواعدُ لها مَحلًّا في دماغي، وأظن أنَّ السبب الجوهري في الأمر طُرُق التدريس القديمة العقيمة.»

ولما جاء الشنافية واجتمع ببعض رجال الأدب من النَّجفيين المستطرقين إلى البصرة ونواحيها شعر بحاجته إلى القواعد، فدرس على الشيخ جعفر نصَّار واستفاد منه كثيرًا، ومن أستاذه الشيخ علي الطريحي، وتعرف هنا بالشيخ محمد السماوي (اطلب ترجمته ورسمه ونخبة من شعره في غير هذا المكان من الكتاب)، فشجَّعه على النظْم فشرع فيه، غير أنه لم يكن راضيًا عما ينظمه حتى استقام نظمه، فطفق ينظم القصائد في رثاء آل البيت وينشرها في تلك الأطراف؛ فيكون لها وقْع خطير بالنظر إلى جلال موضوعها، وظل مستمرًّا في طريقه الأدبية إلى أن عاد إلى بغداد، وقد اشتدَّ ساعده وملك زمام نفسه، فتعرف بالأستاذين الكبيرين جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، وعاشرهما مُدَّة طويلة فاتسعت مداركه، وانتبه إلى أمورٍ في الشعر والأدب، وفي السياسة والاجتماع كذلك، مما لم يكن له به سابق عهد، فأكثر من مُلازمة الأستاذين المُشار إليهما، واستفاد منهما فوائد جُلَّى.

ولما تألفت «جمعية الاتحاد والترقي» في البلاد العُثمانية، أوقف الأديب الشاب قلمه في نظم القصائد وكتابة الفصول في تحبيذ خطتها والدَّعوة بمبدئها حتى إذا ما انشقت على نفسها، وأُسس حزب الحرية والائتلاف، ظلَّ هو ثابتًا على مبدئه مُدافعًا عن جمعية الاتحاد مُنددًا بخصومها إلى أن تجلى له خطؤه بانكشاف ضمائر الاتحاديين في أعمالهم وإرادتهم بالعَرب شرًّا، فرجع عن فكره، وانضم إلى المُجاهدين العرب في سبيل التحرُّر والخلاص.

وقد سجنت الأتراك المُترجم مرارًا لجهاده القومي، وضَيَّقوا عليه في سجنه أخيرًا لما سقطت الفلاحية بيد الجيش البريطاني في الحرب العظمى، وأحَسَّ من الاتحاديين في آخر ساعةٍ أنهم يريدون هدر دَمِهِ، فَدَبَّر له في الحال حيلة وفَرَّ من السجن، ثم اختفى في دار أحد معارفه في بغداد إلى حين الاحتلال.

ودخل بعد الاحتلال في خدمة الحكومة فعُين عام ١٩١٧ مُساعدًا ماليًّا في الجزيرة والعزيزية، ثم مُساعدًا ماليًّا وسياسيًّا في الحلة، ونُفِي بعد ظهور الثورة الأهلية هناك مع من نُفِي من زعماء الحلة إلى هنجام، وعاد منها بعد تسعة أشهر، فعُيِّن في نيسان سنة ١٩٢١ مديرًا لناحية الجربوعية وظلَّ يشتغل في هذا المنصب، ثم نُدِبَ قائممقامًا لقضاء الشامية سنة ١٩٢٢، وحول منه بعد ذلك.

وإليك مختارات من شعره:

(١) نزعة النفس

إذا قلت فانصت أيُّها الشعبُ واسمعِ
فلستُ امرَأً يُلقي الكلام ولا يعي
أراك جهلت الحزم فاختلت أعزلًا
وأنت بوادٍ لو تعقَّلت مُسْبع
إذا رجَّع الأقوامُ في الغرب خدعة
رقصت على الصوت البعيد المرجَّع
وإنْ لمحت عيناك أصغر حادثٍ
تنكَّرت لي حتى كأن لم تكن معي
يمرُّ عليَّ الآن صوتٌ سمعته
بأيامك الأولى فأودى بمسمعي
تعقَّلْ وسِرْ إن كنت تطلب غاية
ودعْ عنك تلفيق الكلام المُصنَّع
حنانيك لا تذهب بحلمك نغمة
ولحن كثير اللحن غير موقع
تَبصَّرْ هَدَاكَ اللهُ فيما تريده
من الأمر واحذر عثرة المتسرع
وُقيتَ العمى ما كل بيضاء شحمة
ولا كل وادٍ في الغوير بممرع

•••

سئمت ببغداد المُقام لأنني
أرى ليَ فيها موقعًا غير موقعي
بكيت على عزي وما أنا والبكا
لدى الخطب لو لم يعصر الذل أدمعي
سأنأى ولم أترك لدى القلب من هوًى
إلى الدار إلا لفتة المتوجِّع
أقابل حرَّ الهاجرات بمهجة
أبتْ والدنايا أن تقيم بموضع
لعمرك لم يقنع بقوتٍ معممٌ
ولا اقتنعتْ بالظلِّ ذات تقنُّع
يُريد زماني أن يُجرِّب طاعتي
لأحكامه لكنني غير طَيِّع
ويخلق لي بعضَ الأقاويل معشر
ليقنعني لكنه غير مقنعي

•••

إذا في قصور المُلك لم ترغُ ناقتي
فيا شدَّ ما أرغت ببيداء بلقع
وإن قصرت فيها أكفِّي عن المنى
فما قصَّرتْ في ساحة الروع أذرُعي
وإن أنكرت دار السلام مواقفي
ستشهدُ أقلامي عليها وأدرُعي
سَقاني زلالَ المجد أكرمُ والدٍ
وزقتنيَ العلياء أنجب مرضع
إذا كان لي عَقلٌ ورَأيٌ وحكمةٌ
فلستُ بمجهولٍ ولا بمُضيع

•••

ألا قف معي يا ابن العراق سُوَيْعة
ودع جانبًا ما تدَّعيه وأدَّعي
وطِرْ في سماء الكائنات لعلَّنا
نرى في زواياها فتًى غير موجَع
أودُّ لوَ اني أستطيع تكَلُّمًا
فأبدي لك السرَّ الذي تحت أضلعي
أحاول كشف الستر عما تُكنُّه
ضلوعي ولكن أين لا أين مفزَعي
وما جزعي أني أموت وإِنَّما
تراني جزوعًا حيث يُجهل مصرعي
ولي أي طفل بعد موتي مضيع
مهان إلى أيدي الورى متطلع
ضعيف القوى لا يستطيع تزاحمًا
مع الناس يمشي مشية المتكسع
صرفت على تثقيفه ماء شرتي
وإنيَ عن تدريبه غير مقلع
تُبشرني الآمال إن عشتُ برهة
له سوف يحيى تبَّعا وابن تبَّع
أشح بنفسي لا لنفسي وإنما
أشح بها حبًّا لقومي وأربعي
سئمتُ حياتي حيثُ أصبحتُ موثقًا
على الرغم من طبعي بقيد تطبُّعي
متى نجد الإنسان ينطق صَادِقًا
ويَترك ألغاز الكلام المسجع
متى نجد الإنسان للناس نافعًا
يُعين ذوي الحاجات من غير مطمع
تقاربت الآراء في كنه بدئنا
وفي المُنتهى كلَّت طلاع التتبُّع
ظنون وأوهامٌ بعيدٌ يَقينها
وإني على تصديقها غير مزمع

(٢) أيها الشرق

أيها الشرق هل فقدت الشروقا
فأضلَّ الأقوامُ فيك الطريقا
لا مجال للعين مهما أطالت
في دجاك الإمعانَ والتحديقا
ظلماتٌ من فوقها ظلماتٌ
طبَّقت كل بقعةٍ تطبيقا
لا أرى إنْ أصبحت إلا فتوقًا
وإذا ما أمسيت إلا خروقا
موقف يدهش الشجاع من الهو
ل ويُبكي دمًا عليك الشفيقا

•••

يا مقر اللطف الإلهيِّ قلْ لي
كيف أصبحت للبلاء مطيقا
أنت أذنبت أم بنوك أم الظُّلَّـ
امُ شاءوا أن يغصبوك الحقوقا
بيَّتوا أمرهم بليلٍ وجاءو
ك جميعًا يتلو فريق فريقا
شتتوا الشمل منك وهْو جميع
وأقاموا مقامه التفريقا
حاولوا لا أبًا لهمُ أن يكون الشَّـ
ـرق كالعبد مستضامًا رقيقا
فنهضنا كالأُسد في أوجه القو
م لنجتثَّ بغيهم والفسوقا
نمتطي غارب العزائم أحرا
رًا زكوا منبتًا وطابوا عروقا
وخشينا على السلام فلا رُمـ
ـحًا حملنا ولا حُسامًا ذليقا
أعجزتْهم آراؤنا صائبات
ورأَوْا نبلهم يطيش مروقا
أيقنوا أننا سنجتاح ما قد
لفقوه بمكرهم تلفيقا
شاوروا ظلمهم ومدوا من البغْـ
ـي يدًا أحرزوا بها التوفيقا
قذفونا خلف البحار بأرضٍ
عندها يلعن الصبوح الغبوقا
قيعة في جزيرة لا ترى فيـ
ـها أنيسًا إلا الصدى والنعيقا
لم تطأها الخيلُ العِتَاق ولم يُعـ
ـمل إليها الرَّكب المجدُّ النوقا

ومنها:

أيها الضفدع الكبير خلا الجوُّ
فأكثر كما تشاء نقيقا
غاب عنك الشجاع لكن خذ الحذ
ر عسى فيك أن يمرَّ طروقا

ومنها:

بتُّ ليلي وللهموم بجنبيَّ
عراك نفى الرقاد سحيقا
خطرت لي خواطر بعد هدءٍ
أيبست مِنِّيَ الحشا والريقا
مرحبًا بالخُطوب إن هي كانت
سببًا موصلًا إلينا الحقوقا
وأحَبُّ الخطوب عنديَ حبسٌ
فيه نسطيعُ بالكرام اللحوقا
إنَّ في الحبس للفتى في سبيل الـ
ـحق مجدًا يعلو به العيوقا
لا أبالي إذا خدمت بلادي
أأسيرًا رأيتني أم طليقا
وإذا كان في اغترابي نجاح
لا عدمت التغريب والتشريقا

ومنها:

أنا إن لم أفْدِ العراق بنفسي
لا دعتني ابنها الكريم العريقا
وإذا لم أصن حماها بسيفي
ذقت من قبل أن أعق العقوقا
أخذت موثقًا عليَّ ومثلي
حين يعطي عهدًا يكون وثيقا
وسقاني ساقٍ من الذكر حتى
كدت بالدمع أن أكون شَروقا
أين «هنجام» من مرابع أنسٍ
رنَّق القوم صفوها ترنيقا
فوق شط الفرات حيثُ يرف الـ
ـماء عذبًا والظل رطبًا صفيقا
أو على دِجلة بحيثُ تفض الرِّ
يح مِسكًا بين الرِّياض فتيقا
أربعٌ قد خلعتُ جدة لهوي
في رباها وما خلعت خليقا
ليت شعري هل مبصر أنا يومًا
علَم «ابن الحسين» فيها خفوقا
تلك أمنيَّتي فلا عيش إلا
أن أراها تهتز غصنًا وريقا

•••

أيها العين إن ذكرت بلادي
فأمطري لؤلؤًا وسيلي عقيقا
واستثيري يا نفس أنت زفيرًا
وأضرميه بين الضلوع حريقا
إنَّ أرضا قد أنبتت مثل قومي
هي أرضٌ أَجدِرْ بها أن تشوقا
إن قومي همُ الألى أوسعوا الأر
ض فتوقا وأحكموها رتوقا
وطأت خيل «طارق» هضبات الـ
ـغرب و«العبشمي» جاس «فروقا»
تاجروا بالنفوس وهي غوالٍ
وأقاموا من المفاخر سوقا

ومنها:

ويك لا أرتضي الحياة بذل
قم فمزقْ إهابها تمزيقا
وأدر لي في «الرَّافدين» حميا الـ
ـحرب صرفًا وكسر الإبريقا
إن موتًا يكون في ساحة العزِّ
لموت أَجدِرْ به أن يروقا
يا لَقومي لقد دهتها الدواهي
وهْي تأبى من نومها أن تُفيقا
أسبات والقوم تطمع أن تبـ
ـتز منها عراقها الموموقا
صاح عَرِّج إذا دنوت عليها
واجتذبها إليك كمًّا وزيقا
وقل القوم أخلفوا الوعد والعهـ
ـد فهبِّي وحلقي تحليقا
وامطريهم عزمًا وبأسًا شديدًا
واقذفيهم رأيًا وفكرًا دقيقا
واعلميهم أنَّ العراق عريقٌ
ليس يرضى بأن يكون لصيقا
قبِّلي قبلة الوداد أخا هو
دٍ جهارًا وصافحي البطريقا

ومنها:

أيها الحق لُحْ كما شئت شمسًا
واملأ الأرض والسماء شروقا
أنت شيء فيه انطوى كل شيء
أنت سِرٌّ قد أعجز المخلوقا
أنت كل القوى فليس عجيبًا
أن تدك الأطواد نيقًا فنيقا
قد أرادوا أن يُطفئوا منك نورًا
شعَّ منه السنا إلى أمريقا
وتجلى على مرابع «واشنـ
ـطون» يوحي فرقانه المفروقا
فوعى «ولسن» الرئيس من القو
ل نصوصًا قد نُمِّقت تنميقا
وتلا ملقيًا على القوم آيًا
قبلوها وأظهروا التصديقا
صدقوها لغايةٍ حين تمت
كذبوها وخالفوا الصديقا

ومنها:

أيها الحق أنت سؤلي من الدنـ
ـيا فكن لي مدى الحياة رفيقا
أنت أُنسي إذا ادلهمَّ دجى الخطـ
ـب وملَّ الصديقُ فيه الصديقا
فكأني والناسُ حولي صفوف
يُكثرون الهتاف والتَّصفيقا
صارخ باسمك الكريم جهارًا
لا كفورًا أخشى ولا زنديقا
فهناك الوجوه تُشرق بشرًا
وترى وجه من عرفت صفيقا
تجد الناس في حديثٍ ولهوٍ
وهو صمتًا تخاله مخنوقا
ذاق ما ذاق من حلاوة قوم
ومن العَدل مرَّها أن يذوقا
بُؤْ بما اخترت من قبيح صنيعٍ
قد عرفت المحروم والمرزوقا

(٣) إلى طالب

إلى المجد قُدها فهي للمجد تنزع
فقد طال ما ترجو وما تتوقع
لقد سمعت صوت النهوض إلى العلى
فقامت على أقدامها تتطلع
فظلت وصوت المجد يملأ سمعها
مُسهدة أجفانها ليس تهجع
بحق العلى قُدها فإما حياتَها
تنالُ وإِمَّا موتَها فهو أنفع
إلى مجدها فامدد ذراعك إنها
ذراع بها تمتد للمجد أذرع
تقدم ولا تخشَ السواد الذي ترى
فما كل مفتول السبال سميذع
لقد رضيت عدنان في كل ما ترى
من الأمر وانقادت لعلياك أجمع
وقحطان قد ألقت إليك قيادها
فألقى لك التاجَ الملوكي تبع
ولم تتخلف عنك بكر بن وائل
ولا شَطَّ منها عن مزارك مربع
لقد أفلتت شمس العُلى من سمائها
وليس لتلك الشمس غيرك يوشع

•••

أَطالبُ إن لم تطلب الحق بالقنا
سيبقى برغم المجد وهْو مضيع
تُطالبني نفسي بزورة طالب
فأعزم لكنَّ الحوادث تمنع
أرى الأرض قد ضاقت عليَّ برحبها
فهل أنت يا ابن الأكرمين موسع
وهل أنت لا عاش التفرُّق مقدمي
إليك فعيش دون لقياك أجدع
مناي وقوف بين مشتجر القنا
أُحرِّض قومي للعلى وأُشجِّع
ولست أبالي إن قضيت لبانتي
دنا أم نأى عني الحِمام المروع
فلست امرَءًا يبغي حياة طويلة
يذل بها للشانئين ويضرع
ولكنني أبغي حياة شريفة
بما عشت في أفيائها أتمتع

(٤) فتاة سلانيك

أُمَّ البلاد أضاعك الأقوامُ
فبكا مرابع مجدك الإسلام
قد ضيعتْكِ بنوكِ في أضغانها
بل أسلمتْكِ إلى العدى الأوهام
إن البلاد إذا تخاصم أهلها
فالأبعدون بها هم الحكام
وإذا النفوس تغايرت أهواؤها
لا غَرْوَ أن تتغير الأحكام

•••

ذهبت سلانيك الغداة مضاعة
فتنكست لذهابها الأعلامُ
قد أظلمت ساحات وتنكرت
عرصاتها وبكت بها الآكام
ضاقت مرابع أنسها من بعد ما
رحبت وأوحش ثغرها البسام
نبأ تلعثمت الرواة بنقله
وتعثرت بطروسها الأقلام
أمَّ البلادِ عليكِ من متوجع
قطن العراق تحية وسلام
يا ملجأ الأحرار جاوزكِ البلى
خانتكِ بعد عهودها الأيام
لو كان يومك منه في أبنائنا
خبر لطاشت للعدو سهامُ

•••

كم روعت في ساحتيك لدى الوغى
خِود وكم لفظَ الحياة غلام
عاشا زمانًا في بلهنية الصبا
غِرَّيْنِ لم يزعجهما النَّمام
لم يسمعا غير المدافع ضحوة
فتسارعا فإذا هناك زحامُ
وإذا البوارج في الخضم كأنَّها الـ
أعلام تمخر والدخان قتام
والنار تبعثها المدافع ألسنًا
توحي ولكن وحيُهنَّ حِمام
تتطاير الأرواح من أصواتها
رُعبًا كما تتطاير الأجسام
علمًا بأنَّ الأمر ليس بهيِّنٍ
بل إنه أمر ألمَّ جُسام
رجعا وقد أخذ العدوُّ عليهما
سُبل الرُّجوع وليس ثَمَّ مقام
فتعانقا من بعد أن علم الفتى
أن ليس يغني عنهما الإحجام

•••

«أسماء» ها أنا ميِّت فتأملي
هل تذكريني والعظام رمام
قالت وقد منع البُكاء كلامها
إن حل موتك فالحياة حرام
وبكت فبدَّلت الدموع بخدها
دررًا لها الحسن البديع نظام
ظلت تودِّعه وتلثم ثغره
والموتُ نحوهما له إرزام
فمضى «نجيب» غير موجس خيفة
في كفه البأس الشديد حُسام
مُتلفتًا ليُصيب آخر نظرة
منها فلم تسمح له الأقسام
بل فاجأته من الفضاء رصاصة
لا الخوف يَدْفَعُها ولا الإقدام
فهوى يجود بنفسه مُتعفرًا
يعلوه مِن مرِّ الرياح رغام
فأتته صارخة تشق جيوبها
حسرى تجيش بقلبها الآلام

•••

أمُجرِّعي الثكل الممضَّ أنائم
أم قد أتاك عن الوشاة كلام
فصددت عني معرضًا متجهِّما
لا كان ما همست به اللوَّام
إن كنت تحسبني جنيت جناية
فالصفح عند الأكرمين يُشام
ظلت تُخاطبه ولا من سامع
وتذود دمع العين وهو سجام
حتى إذا علمت بأنْ لا يُرتجى
ﻟ «نجيبها» حتى القيامِ قيام
صكَّت براحتها منير جبينها
فاسودَّ ذاك البدر وهو تمام
صرخت بأعلى صوتها مرعوبة
فالتفَّ حول صراخها الأقوام
أخذوا الفتاة أسيرة لأميرهم
تدعو الكرام وما هناك كرام
يا هذه كفي الدعاء فقومنا
لو تعلمين عن الدعاء نيام
ما القوم إلا سحب صيف أرعدت
ثم انجلت بالريح وهي جهام
لا تستغيثي ليس «معتصمٌ» بنا
كلا ولا فينا يعدُّ همام
ماتت عواطفنا بموت رجالنا
فجميعنا بمماتها أيتام

•••

يا أيُّها الشرق الذي قد عمَّه
للغرب من بعد الشروق ظلام
ما الغربُ أوَّل ظالم لك بالذي
يأتيه، بل أبناؤك الظُّلَّام
قد أهملوك وأنت معقل عزِّهم
فاسْتهْوَنتك بوطئها الأقدام

•••

يا واطئًا ذاك التراب ترفقًا
فلقد شكا من وطئك الإسلام
رفقًا بوطئك إنما تحت الثرى
قومٌ وإن هانوا لديك عظام

ومنها:

لو أنَّ قومي شاهدوا اليوم الذي
كثر الصراخ به وطار الهامُ
لأرَوْا بني البلقان كيف ضرابهم
بل كيف يثبت في الوغى المقدام
قومي إذا اشتدَّ الضراب تخالها
نشوى وما غير الضراب مُدام
فالحربُ مجلسها وساقيها القنا
والنقع نقلٌ والمدافع جامُ
لم تخشَ بادرة الطعان لدى الوغى
بل لا تهاب الموت وهو زؤام
أملي بقومي سوف تنهض نهضة
للمجد يقصُر دونها الصمصام
يستبعد الرجل الخبير وقوعها
بل لا تجيء بمثلها الأحلام
تبقى وإن خلق الزمان جديدة
لم ينتقض لجديدها إبرام

(٥) زينب وخالد، أو فتاة بغداد وفتاها، في سنة ١٩٠٨–١٩٢٠

الدهر

هو الدهر في أهليه ما شاء يلعبُ
فسيان عندي بِشرُه والتقطُّبُ
يريني على عدِّ الليالي عجائبًا
فلم أَدرِ من أي العجائب أعجب
فلا خير إلا وهْو بالشرِّ مُقرَن
ولا يُسر إلا وهو بالعُسر مُصحَب
ولا نعمٌ إلا الزوال عقيبها
ولا كُرب إلا وما بعدُ أكربُ
حياة وموت وابتسام ودمعة
يُبعِّد ما يختاره ويُقرِّب

زينب

قضى أن يعيش الظلم شيخًا منعمًا
وتقضيَ بؤسًا في الحداثة زينب
فتاة أبوها السعد والجد أمها
وخالتها العلياء والعمُّ يعرُب
تربت بمسدول الستار مصونة
يُهذبها من نفسها ما يهذب
تلقت دروس الفضل عن مجد أهلها
وفي الأهل للإنسان نِعْم المؤدب
فجاءت كغصن البان يورق ناضرًا
وكالشمس إلا أنها ليس تغرب
تَعشَّقها الأترابُ خُلقًا وخلقة
فكلٌّ لها أم تُعوِّذ أو أب
مخدَّمة ما إن تقوم لحاجة
ولم يتعنتْها من الأمر متعب
تُفدَّى إذا مرت وإن هي أقبلت
فملء الرُّبى أهل هناك ومرحب
إذا حضرت في البيت فالبيت مشرق
وإن هي غابت عنه فالبيت مغرب
بباب أبيها السعد يخدم ربه
يشد عرى عليائه ويطنب

النزهة

مضت هي والأتراب يومًا لنُزهة
تُروِّح فيها نفسها وتُطَيِّب
فأفضت لمُلتفٍّ من النبت يانع
تفضِّضُه شمس الضحى وتُذهِّب
تراه على وجه الغدير كأنه
نقابٌ به وجه الغدير منقب
وللدوح تصفيق وللطير ضجة
تحركها كف النسيم فتصخب
رأت مَنظرًا يستنفد الوصفَ حُسنُه
ويشرح صدرًا للحزين فيطرب
فألقت نقابًا خلفه الشمس وانبرت
تجيء مع الأتراب فيه وتذهب

التقاء النظر

وكان على قربٍ من الروض جالسًا
فتًى كنسيم الروض أو هو أطيب
يجيل بإحسان الطبيعة طرفه
يُصعِّده فيما أتت ويُصوب
تظلله من لفحة الشمس دوحة
ويحجبه عنهن غصن فيُحجب
فهبَّ نسيم زحزح الغصن جانبًا
فبان لعينيه البنان المخضب
رأى دُمية الحسن التي صاغها الهوى
فأودع فيها ما يشاء ويرغب
فجُنَّ بها حبًّا ولم يَدرِ قبلها
بأنَّ الهوى يأتي الفتى وهْو يلعب
وقام يداني خطوه مُتطلعًا
ليعرف طلع الأمر وهو محجَّب
ولكنها من بين كل لِدَاتها
أحسَّت بشخصٍ خلفها يتقرَّب
رأت ما رأى منها به فتكتمت
ومرَّت ومنها القلب بالحب يلهب
مضت ومضى للحي كلٌّ مُوَلَّه
بصاحبه يدعو الرشاد فيعزب

العشق والإخوان

رأى خالدًا إخوانُه متغيرًا
على غير ما فيه لهم فتعجبوا
وظنوا به الظن الأثيم ورجَّموا
وقالوا به القول المسيء وأطنبوا
وما هو إلا زفرة والْتفاتة
ودمع كمنهلِّ السحائب يسكب
ينوح كما ناج الحمام صبابة
ويشهق من فرط الغرام وينحب

خالد

ومَنْ خالد هل أنت تعرف خالدًا
فتًى كل ما فيه لكلٍّ مُجبَّب
غذته الكرام الصيد من آل غالب
لبان علاها فهو أصيد أغلب
ودر به للعلم والحلم والحجى
أبٌ عن أبيه في العلاء مدرب
ومات ولم يترك سوى الطفل خالد
وكانت سنوه تسعة حين تحسب
وقامت على تثقيفه خير حرَّة
غذته لبانًا لم يُشَبْ فهو طيب
وتمم عشرًا من سنيه وأربعًا
فتمَّ له فيها الحجى والتأدب

العهد القديم

ومذ كان طفلًا كان إلفًا لطفلة
يُرافقها دون اللِّدات ويصحب
حلت بهما في كل وادٍ محلة
وزين من إثريهما فيه ملعب
يعيشان خشفي روضة طلها الندى
أظلهما في أيمن الجزع ربرب
غريرين لم تعلق يد الظن فيهما
ولم يتريب منهما المتريب
قضى الدَّهرُ بالتفريق من بعد برهة
فشرَّق أهلوها وأهلوه غرَّبوا
ومرَّت سنون أمحل العهد عدها
على أن ربع القلب بالحب مخصب
فما رأى العهد الجديد من الهوى
تراءى له العهد القديم المغيَّب
فظل زمانا باهتا مُترددًا
يُصَدِّق أخبار الهوى ويُكذب
إلى أن بدا صبح الحقيقة وانجلى
عماه فكاد الجهل بالحلم يذهب
تَدَلَّه من فرط الصبابة والجوى
فرَقَّ له حتى العَذول المؤنب

أم خالد

رأت أمه من دائه ما أمضَّها
وأيْأَسها من بُرئه المتطبب
فظنت به عينًا ولم تدرِ أنها
لإنسانها فيها الدواء المجرب
وجاءت إليه بالرقي وبالحصى
تُرقِّيه في هذا وفي ذاك تضرب
رأت أن ما جاءت به غير نافع
فثاب إليها رأيها المتنكب
أحست بأن الحب يرشق قلبه
ولكن خفى عنها المراش المصوب
فظلت ولا بحثٌ لديها سوى الهوى
تُطيل له فيه الحديث وتسهب
يَهَشُّ ويصغي حين يسمع قولها
ويُعجبه ذاك الطراز المُذَهَّب
إلى أنْ أَلانت بعد لأْيٍ حصاته
فأعرب مَسْحُورًا وما كاد يعرب
فأبدت له كل السرور وسهلت
له كل صعبٍ دون ما هو يطلب
ولكنها قد أضمرت في فؤادها
قنوطًا وخافت أن يُحس فيعطب

الزيارة

مضت خلسةً واليأس يجذب ثوبها
إلى خلفها مسترجعًا وهْي تجذب
فأفضت إلى بيت الشريف ابن تُبَّع
فأوقفها في سدة الإذن حجب
وبعد قليل أُدخلت بحفاوة
يُؤهَّل فيها باسمها ويرحب
وقد أقبلت أُمُّ الفتاة وسَلَّمت
عليها ومنها الوجه بالبشر مشرب
تطارحها أحلى الحديث فكاهة
وتمزج منه الجدَّ هزلًا فيَعذُب
لقد بُهتت مما رأت وتعجبت
وكاد عليها منه يقضي التعجب
ولكنها لما زوى اليأس وجهه
وزُحزح عن فجر الأمانيِّ غيهب
دنت باحترامٍ نحوها وتَبَسَّمت
وقالت بصوتٍ خافتٍ أين زينب
فقالت لها والدمع يسبق قولها
لقد كان يا أُختاه ما كنت أرهب
تعالي معي ثم انظري حال زينب
ترَيْ ليس من ماح لِمَا اللهُ يكتب

المرض والعيادة

رأت جسدًا مُلقى أضرَّ به الهوى
ودمعًا كما شاء الجوى يتصبَّبُ
جثت عندها طورًا تشم عقاصها
وتمسحه طورًا وطورًا تقلب
أبنتاه ردي عازب الحلم والحجى
فعمَّا قريبٍ منكما الصدع يرأب
لقد جئت أسعى في اجتماعكما معًا
ولولاكُما ما كنت أسعى وأدأب
ولو كنت شاهدت ابن حبك خالدًا
لكنت رأيت الحب كيف يُعذِّب

البغتة والحياء

لقد سمعت بنت الضنى ما أهاجها
فقامت على أقدامها تتوثب
تظن رقيبًا جاء في ذكر خالد
يُفتش عن أسرارها وينقب
ولكنها قد صدَّق الطرف سمعها
ولم يبقَ عند القلب للشك مذهب
توارت حياءً بالفراش وكفها
على وجهها عنها بها تتحجب

كشف السر

لقد تركتها في الفراش وأسرعت
خروجًا وغير الأم لا تتطلب
رأتها وقد جاءت لغرفة زوجها
تُمهد ما فيها له وترتب
فقالت لها إن الشحوب أضرها
ولكنَّ منها خالدًا هو أشحب
تكاشفتا السر الذي كان مضمرًا
وأظهرتا الأمر الذي كان يُحجَب

الخطبة

وبينا هما في القولِ إذ جاء زوجها
يحف به من هيبةٍ منه موكب
فقال لها مَن هذه ما مرادها
أجاء بها أمر، أطوَّح مطلب
فقالت وقد دبَّ الحياء بوجهها
وأمطرها من عارضٍ منه صَيِّب
هي ابنة عبد الله زوجة هاشم
لخالدها جاءتك زينب تخطب
فنكَّس رأسًا واستمرَّ مفكرًا
يُشرِّق في أفكاره ويُغرِّب
ومن بعد يأسٍ من رضاه أجابها
لما هي جاءت منه تبغي وتطلب
تباشر أهل الدارِ والدارُ أشرقت
وكلٌّ له من معجب البشر مطرب
ورافقت البشرى ضحى أم خالدٍ
إلى خالد وهو القنوط المقطب
فكاد ولم يملك من البِشر نفسه
لزينبه شوقًا يفرُّ ويهرب

العقد

فأرسل في إثر القضاة فأحضروا
وصاح بتقريب الشهود فقربوا
وأمُّوا جميعًا دار سعد بجمعهم
وسعد لهم في ساحة الدار يرقب
ومِن بعد أن قاموا بما هو واجب
وأدَّوْا لسعد شكرهم وهْو أوجب
دعاهم إلى بهو الطعام فأطعموا
وجيئوا بأصناف الشراب فأشربوا
وراحوا وكلٌّ عنده ألف مقول
له بجميل الصنع في الناس يخطب

السجن والتغرُّب

وقامت نساء الحيِّ تصلح زينبًا
تُوشِّحها هذي وتلك تُجلبِب
وفي الدار يقضي خالد بانتظارها
سويعات شوق هُنَّ في الطول أحقب
ففاجأه من جند جنكيز ثلة
وجاءوا به قسرًا إلى الحبس يُسحب
وزجَّ بجب يكمه العين ظلمة
هو القبر ضيقًا أو من القبر يقرب
تُعذبه الظُّلَّام جوعًا نهاره
وفي الليل يقفوه الغرام يعذب
نساه ابن جنكيز فظل بجبه
شهورًا على جمر الغضا يتقلب
وجيء به يومًا على غير موعد
وسيق إلى سيواس فيمن يغرب
قضت نحبها تلك العجوز تحرُّقًا
عليه وفاضت روحها وهي تنحب
وسعد مضى تقتاده أم زينب
ولم يبقَ إلا البوم في الدار تنعب
تجاوب إذ تبكي الشقية زينب
ولا ثالث إلا الشقاء المطنب

الجناية

أتعلم ما كانت جناية خالد
وفيمَ عليه القوم صاحوا وأجلبوا
لقد كان صبًّا بالعراق وأهله
يثور إذا سيموا الهوان ويشغب
يدافع عن أحسابهم وحقوقهم
ويطعن في صدر العدوِّ ويضرب
وهل ريبة إن ذب عن مجد قومه
فتًى عن بُنيَّات العلى لا ينكب
أعدلًا يرى الأقوام حبس ابن حرَّةٍ
يغار على مجد العراق ويغضب
إذا كان في حبِّ الديار جريرة
فكل فتًى فوق البسيطة مُذنب

الرجوع إلى الوطن

أتت وهْو في سيواس أعوام فتنة
بها مزقت جلد ابن جنكيز أكلب
وبثت بأنحاء العراق رجالها
وكلٌّ له ناب حديد ومخلب
نحا الوطنَ المحبوبَ والأهلَ خالدٌ
وليس له إلا التشوُّق مركب
سرى والهوى يقتاده بزمامه
يُغالبه الشوق الشديد فيغلب
وحط بباب الكرخ ليلًا رحالَه
وأَمَّ بشوقٍ دارَه وهْو مُتعَب
وأنحى لا صبرٍ على الباب طارقًا
بكفيه حتى كلَّ عضد ومنكب
يترجم لليل الأصم نداءَه
صدى الدار والريح الجنوب تعَرب

جارة خالد

لقد سمعت صوتَ الفتى جارةٌ له
فأرَّقها صوتٌ أجشُّ مشعب
من السطح نحو الصوتِ في غلس الدجى
دنت فشجاها الطارقُ المتأدِّب
رأت خالدًا والليل يرفع شخصه
فيطفو وطورًا يعتليه فيرسب
مضت كمضي السهم تطلب زوجها
تنبِّهُهُ من نومه وهو مضرب
ومن بعد إلحاحٍ تثاءب قائلًا
دعيني أنم من ذا أتى وهو مغضب
ولكنه لما تبيَّن قولها
تحدَّر منقضًّا كما انقضَّ كوكب
رأى خالدًا فانصاع يلثم خده
وأدمُعُه في خدِّه تتسرَّب
وأدخله مستبشرَ القلبِ دارَه
يسبُّ الذي سنَّ البعاد ويتلب
يضاحكه لكنه غير ضاحكٍ
ويطربه لكنه ليس يطرب

النعي والبكاء

أبا سالمٍ ما لي أرى الباب موصدًا
أَأُمِّيَ ماتت أم إلى أين تذهب
أبا سالم إني وحقِّك هالك
إذا لم تُخبِّرني وأنت المسبب
بكت رقَّة من قوله أمُّ سالم
وقالت له في عبرة «أنت طيب»
فصك بكلتا الراحتين جبينه
وخرَّ على وجه الثرى يتقلب
يصيح بيا أماه قومي ورحِّبي
وكفي الأسى جاء السجين المغرَّب
أَأُمَّاهُ قد خلَّفتِني رهن دمعة
إذا أنضب الدمع الأسى ليس تنضب
تُشاطره مرَّ البكا أمُّ سالمٍ
على تربها والشيخ كالطفل يندب
إلى أن تولَّى من دجى الليل أسحم
وأقبل بازيٌّ من الصبح أشهب

المأتم

تسامع أهل الحيِّ فيه فأقبلوا
وكلٌّ إليه الأرضَ يطوي وينهب
يُقبِّله هذا وهذا يضمُّه
وهذا يُحيِّيهِ وهذا يرحب
مضى باحترامٍ بينهم نحو داره
يُحاط كما حِيط العذيق المرجب
تربَّع في كرسيِّه بسكينةٍ
يُريد غلاب الحزنِ والحزنُ أغلب
قضى بجميل الصبر مأتم أُمِّه
وفي ثوبه من لاسع الفقد عقرب
وخُبِّر عن حال الفتاة وشأنها
وكيف رماها دهرها المتقلب
فأصبح في خطبين خطبٍ أمضَّه
وآخر قفَّاه أمضُّ وأصعب

الصديق الإسرائيلي

أتاه ابن إسرائيل يومًا لداره
على غفلةٍ وهْو الصديق المقرَّب
رآه كئيبًا في الخفاء مُفكرًا
تُدهوره كفُّ الأسى وتُقلب
فظن ولم يعدُ الحقيقةَ ظنُّه
بأنَّ الفتى من أصفر النقد مترب
فقال له خفِّض عليك فإنما
صديقك مَن في النائبات تُجرِّب
إذا منع المالَ الصديق صديقه
فمِن واجبات الحزم عنه التجنُّب
مطيعًا تجد مرني فإنيَ حاضرٌ
لدفع الذي تحتاجه متأهب
فقابله بالشكر والبِشْرِ قائلًا
فِداؤك من قومي حُضور وغُيَّب
بمثلك يغلو قدر كل مواطن
ويعرف قدر الخلة المتعصب

الزفاف

ولما تولَّى عنه للهمِّ شاغب
وفارقه من شاغل الغم أشغب
غدا وهْو مَشْغُولٌ بتدبير أمره
يُجَهِّز ما يحتاجه ويؤهب
فأكمل في يومين كلَّ شئونه
وزُفت له المنكودة الحظ زينب
شكا كلُّ حِب شجوَه لحبيبه
يُفصِّل مكنوناته ويُبوِّب
وباتا وكلٌّ يجتني ثمر المُنى
بكفَّيْه لا يخشى ولا يترقب
ولم يعلما أنَّ النمير الذي جرى
سيرجع في ثغريهما وهو طحلب

عَودٌ عل بَدء

غشى الظُّلم أقطارَ العراق بحزبه
على حين قد أفنى قواها التحزب
وشقَّ على ذاك الأبيِّ هوانُها
فقام يُداوي جرحها ويطبب
وقارب رأي الشعب بعد ابتعاده
وكان يَئُوسًا عن تدانيه أشعب
وما زال يسعى مدنيًا بخطابه
قلوبًا لأُخرى شطَّ منها التقرب
يُميت ويُحيي ليله ونهاره
يُؤَلِّف أشتات الهوى ويحزب
إلى أنْ بدا فجرٌ من النجح صادق
يضيء به نجم من الفوز يثقب

الاعتقال والموت

أَحس به الظُّلَّام وهو لطفله
بأفراح أيام الختان يؤدب
ففارق بغدادَ العراقِ مكبلًا
وأُخرج منها خائفًا يترقب
وأصبح في جُبٍّ بمنفاه ثاويًا
به من جراح الهمِّ ما ليس يعصب
يحيط به جيش من الهند أَسود
ويرأسه طفل من البيض أصهب
فلا مَلَك يرجو الدنو لجبه
ولا بَشَر يدنوا إليه ويقرب
رماه بداء السل همٌّ مبرح
وأورده الهُلْكَ النوى والتغرُّب

هول المصاب

نعاه ببغداد النعيُّ مُصَرِّحًا
يُكَنِّيه تَعظيمًا له ويلقب
فحنت أسى تلك الفتاة وأسرعت
تُمزق عنها ثوبها وتؤرب
تقود صغيرًا خلفها يشتكي الوجى
كما يشتكي قِصْرَ الجناحين أزغب
يولول في آثارها مُتعثرًا
بأذياله قسرًا يُقاد ويجنب
إذا ما بكى تبكي لمُرِّ بكائه
وتضحك أحيانًا عليه فتغرب
تسير بلا رشدٍ على غير غاية
وفي القلب من نار الجوى متلهب
يلوح النهى طورًا لها ثم يختفي
كما لاح برق في دجى الليل خلب

الطفل وزينب في ساعة الموت

مضت برهة لم يعرف الظل شخصها
ولم يُنجِها من غارة الخطب مهرب
فأضجعها الغمُّ الفراشَ مريضة
يدبُّ حواليها اليتيم ويلعب
يضاحكها مُستطعمًا غير أنه
يعود على أدراجه وهو أسغب
أَحست ومنها الموت دانٍ بطفلها
وفي الجسم أظفار المنية تنشب
ومدت إليه الكف تجذب ثوبه
فلله من تدني إليها وتجذب
بُنيَّ إذا ما متُّ من لك راحم
ومن بك يُعْنَى أم لأجلك يتعب
بُنيَّ يتيمًا أنت بعدي مسيبًا
تعيش كما عاش اليتيم المسيب
بُنيَّ لقد هان الردى بعد خالد
ولكنَّه في يتم نفسك يصعب
أتلهو بقربي منك في الصدر أنمل
ويبسم ثغر منك في الوجه أشنب
وساد سكون بعد ذلك مرهب
يُقابله وجهٌ من الليل مرعب
وأعقبه الأمر العظيم الذي به
بدا العدلُ محنيَّ القرى وهو أحدب

الجنازة

أتت بعد أن لاح الصباح تعودها
عصابات جاراتٍ لها تتعصب
فشاهدن ذاك الطفلَ يُعوِل باكيًا
يطوف حوالي جسمها ويحرب
كشفن غطاءً كان يستر وجهها
فأبصرن ما يُدمي القلوب وينصب
صرخن ومزَّقن الجيوب كآبة
وأي فؤاد لا يذوب ويكأب
تسارع نحو الصوت حضر جارها
وللدمع منهم في الخدود تَسرُّب

الطفل في دجلة

لقد شُغلوا عن كل شيءٍ بدفنها
ولم يشعروا إلا وقد غاب «جندب»
مشى تترامي السُّبْلُ فيهٍ بلا هُدًى
إذا مذهب منها انتهى امتدَّ مذهب
أتى الجسر حيثُ الظلم تركض خيله
غرورًا وسياراته تتكوكب
فأصبح نهبًا بينها مُتقسمًا
وفي الماء محذوفًا بها يتقلب

خطاب لدجلة

أدجلة تدري أم تراها جهولة
تسير ولا تدري بمن يترسب
أدجلة ذا قد أنجبتْه كريمة
وأنجبه فحل من العرب منجب
أدجلة بالله احفظيه من البلى
فإن العلى إن لم تصونيه تعتب

شنشنتي

إلى السيف أشكو لا إلى الناس منية
تُواعدني فيها الليالي وتكذب
سأطلبها مهما تعرض دونها
من الهولِ لا أخشى ولا أتهيَّب
فلا حملتني إن تقاعدت بُزَّل
ولا ركضت بي إن تقاعست شزب
عشقت العلى طفلًا فكيف بسلوتي
وها أنا ذا والحمد لله أشيب
وقد عرفت عدنان فضلي ويعرب
وما أنكرت بكر بلائي وتغلب

أنا وصاحبي

أقول ورحب الأرض ضاق بصاحبي
إذا اشتد ضيق المرء قُلْ سوف يرحب
تريد وتخشى الهول أن تدرك المنى
وهل صَحَّ أن لم يهنأ النقب أجرب
تظن طلاب المجد كأسًا وقينة
تهيم بها بين الربى وتشبب
إذا خلت أن المجد سهلٌ طِلابُه
فظنك هذا من طِلابك أعجب
تنحَّ وخلِّ الدَّرب خلوًا لأهلها
فهم منك أدرى بالرسوم وأدرب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤