مقدمة المترجم

لا يجهل أحد من ذوي الاطلاع أن للأوربيين عناية عظيمة بهذه الأحاديث المدونة المسماة قصصًا، باعتبار أنها من وسائل تهذيب الأفكار، ووسائط تدميث الأخلاق، وذرائع إصلاح العادات، وقد كثُر فيهم كُتَّابُها بكثرة طلابها، فما يمر يوم إلا وتظهر في مدنهم قصص جديدة يتداعى الناس إليها تداعيَ الجياع إلى القِصَاع، ويقبلون عليها إقبال الظمآن إلى موارد الماء.

وقد صار إنشاء هذه القصص عنهم فنًّا مستقلًا برأسه، له أحكام معلومة، وقواعد مرسومة، وحد معين، وتاريخ مبين، فلولا ضيق المقام عن موضوعه الواسع لبسطنا الكلام عليه بيانًا لماهيته، وإيضاحًا لما كان عليه، وما صار إليه في الشرق والغرب، فإنه مبحث ما ألمتْ به أقلام كُتَّابِنا إلى الآن، ولكنا نأتي على ما يحتمله المقام من جملته فنقول: القصة في اللغة: «الحديث»، و«الأمر» و«التي تُكتب»، والمعنى الأخير هو المشهور والمأثور عرفًا، فالقصة أمر أو حديث يكتب على أسلوب من الرواية، ولا يشترط فيه صحة الخبر، وهي قديمة العهد من وراء زمن التاريخ المعروف.

نشأت مع الأوائل في مهاد تمدنهم، وكانت ديوان معارفهم وآدابهم، فامتزجت بتواريخهم واختلطت بأديانهم وعلومهم، حتى أوشكت أن توجد آثارها في كل ما كتبوه، وما بَرِحَتْ تتبع الأقوام في مدارج تمدنهم وعرفانهم متنقلة من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، منصرفة عن حال إلى حال، حتى وُضِعَتْ حدود العلوم والفنون، ومُيِّزَ بعضها من بعض تمييزًا يحفظها من الشبهات واللبس؛ فسلم التاريخ من القصص، ومُحِّصَتْ كتب العلم من أحاديث الخرافة، وصار تأليف القصة فنًّا معروفًا معلوم القواعد والأحكام كما تقدم القول.

وقد اختلفت أحوال القصص باختلاف أحوال الأمم وعاداتهم وأخلاقهم، فكانت حماسية في حالة الفروسة والبداوة، أدبية في حالة التمدن وانتشار الأدب والمعارف، غرامية في حالة الترف والرفاهة والانغماس في اللذات، وهي اليوم بينَ بينَ، ولكن الغالب على أصحابها أنهم يقصدون بها إلى وصف الأحوال والذوات وانتقاد الأخلاق والعادات.

وهذه القصة الصغيرة غرامية الحديث، أدبية النتيجة، وهي لخاتون من نبلائهم يقال لها «الكونتة داش» وقد ترجمتُها والشباب في عنفوانه، وجواد الصبا في أول ميدانه، ثم أمررتُها على النظر في هذه الأيام، ومَثَّلتُها بالطبع إجابةً لدعوة بعض الأصدقاء وأنا بين أشغال شاغلة وأحوال دون المراد حائلة، فأتت كما يجيء، لا كما يجب، وكما استطعت، لا كما أحب.

وكنت قد التزمت في ترجمتها حفظ المعاني، كما وجدت في الأصل، غير مبالٍ أن يكون منها ما يخالف مشربي أو مشرب غيري من الناس؛ فإني ناقل، وما على الناقل من سبيل، وسلكت في التعريب مسلك المطابقة بقدر الإمكان، فتبعت أسلوب المؤلفة حريصًا على مفردات ألفاظها وقوالب عباراتها أن تضيع وتفسد بالنقل عامدًا إلى ترجمتها بما يشاكلها من اللفظ والعبارة العربية، إلا فيما لم أجد له مثيلًا في معلومي اليسير من اللغة.

وما أكتم على القارئ الكريم أن هذا السبيل لم يكن سهلًا، فإن عادات الأوربيين وأخلاقهم وخواطرهم، بل وقائعهم وأحوالهم وأشياء عندهم من الملبس والمفرش وغير ذلك مما يذكر في القصص، مباين بالجملة لما كان من مثله عند أصحاب هذا اللسان، بل منه ما لم يوجد عندهم البتة، وإنما وُجِدَ عندنا في هذه الأيام التي قُضِيَ بها على الناطقين بالضاد أن تكون لديهم مسميات ليس لها في لغتهم أسماء، وأن يتغاضى علماؤهم وأدباؤهم عن هذا الخلل، فلا يجدوا غير طمطمانية الأعاجم للدلالة على الكثير مما يستعملونه لباسًا وطعامًا وفراشًا وزينة للبيت.

وقد نمَّقْتُ هذه القصة بشيء من النظم منه ما صدر عن الخاطر الفاتر — وهو الأكثر — ومنه القديم المنقول، وأشرتُ إلى هذا في بعض الأماكن بنحو: قال الشاعر، أو رحم الله من قال، أو لله درُّ القائل.

وأهملتُ الإشارة في بعضها اكتفاء بالشهرة أو سهوًا، ولا أذهل ههنا عن إيضاح نسبة الأبيات الأخيرة التي جعلتها ختامًا للقصة، فهي لصديقي الأديب المتفنن الكاتب اللوذعي: إسكندر أفندي العازار.

وقد كان السبب في نظمه لها أني رويت له القصة في بعض أحاديثنا، فأعجبته نتيجتها الأدبية، فاستنشدته فيها أبياتًا من رقيق شعره، فأجاب وأرسل إليَّ في اليوم الثاني تلك الأبيات، فضمنت بها للقصة حسن الختام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤