طرافة المقدمة وتأثيرها

شعور ابن خلدون بطرافتها وخطورتها
  • (١)

    يفتخر ابن خلدون فخرًا شديدًا بالتاريخ الذي ألَّفه، ويعبِّر عن فخره هذا بأصرح العبارات، يصرِّح بأنه كان مبتكرًا ومخترعًا في هذا التأليف ولم يكن مقلِّدًا لأحد، أو مقتبسًا من أحد، ومع ذلك لا يدَّعي النجاح التام في تحقيق أغراضه، ولا يستبعد النقص والقصور في أبحاثه، فيطلب من أخلافه انتقاده أولًا، وإتمامه ثانيًا.

    إن ذلك يظهر بوضوح من بعض العبارات التي كتبها ابن خلدون في الديباجة التي صدَّر بها التاريخ والمقدمة معًا؛ لأنه يقول هناك:

    «أنشأت في التاريخ كتابًا سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقًا مبتدعةً وأسلوبًا» (ص٦). ثم يدَّعي بأن الكتاب الذي وضعه «استوعب أخبار الخليقة استيعابًا، وذلَّل من الحِكَم النافرة صعابًا، وأعطى لحوادث الدول أسبابًا؛ فأصبح للحكمة صوانًا، وللتاريخ جرابًا» (ص٧).

    ثم يُسْهِب في وصف الأبحاث التي ضمَّنها في تأليفه هذا قائلًا:

    «لم أترك شيئًا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، من القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله؛ فجاء هذا الكتاب فذًّا بما ضمَّنته من العلوم الغريبة والحِكَم المحجوبة القريبة» (ص٧).

    ولكنه بعد هذه الكلمات المملوءة بروح الزهو والإعجاب يشعر بضرورة التواضع، فيقول:

    «أنا من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا الفضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتعمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء» (ص٧).

  • (٢)

    ومع هذا يعود ابن خلدون إلى التفاخر في ديباجة الكتاب الأول، ويسترسل فيه دون محاباة؛ لأنه يشعر شعورًا واضحًا بأنه قام بعمل هام جدًّا بابتكار «علم العمران»، وبتأسيس علم جديد تمامًا، فإنه يقول:

    «اعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدَث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أَعثَر عليه البحث، وأدى إليه الغوص» (ص٣٨).

    ثم يصرِّح بأن البحث الذي أَقدَم عليه ليس من «علم الخطابة»؛ لأن هذا العلم «إنما هو الأقوال المقنعة النافعة لاستمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه»، ولا هو أيضًا من علم السياسة المدنية؛ إذ «السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة.» ويؤكِّد أن موضوع العلم الذي أسَّسه «قد خالف موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه»، ولا يتردَّد في القول بأنه «علم مستنبط النشأة»، ويزيد على ذلك بصيغة التأكيد البات: «لَعَمْرِي لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة.»

    ومع هذا يلاحظ ابن خلدون الاحتمال التالي أيضًا في هذا الصدد: «ربما كان الحكماء قد كتبوا في هذا الموضوع، لكن كتاباتهم فُقِدَت بمرور الزمان.» ولذلك نراه يعقِّب على العبارة التي ذكرناها آنفًا بقوله:

    «لا أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه، ولم يصل إلينا» (ص٣٨).

    وعلى كل حال يؤكد ابن خلدون أنه كتب ما كتبه في هذا الصدد من غير أن يستند إلى قول أحد، ومع هذا يقول:

    «هذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه، تجد منه مسائل تجري بالعَرَض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله» (ص٣٩).

    ثم يذكر ما جاء من الكلمات المتفرقة عن هذه المسائل في كتابات بعض الحكماء، وبعد ذلك يقول:

    «وأنت إذا تأمَّلت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفُّح والتفهُّم؛ عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفًى بيِّنًا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان» (ص٤٠).

    وبعد أن يذكر ما كتبه ابن المقفع والقاضي أبو بكر الطرطوشي حول هذه المسائل، يقول: «إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنه حوَّم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقَّق قصده ولا استوفى مسائله.»

    وفي الأخير يعود إلى عمله هو: «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهامًا، وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره، وجهينة خبره» (ص٤٠).

    ثم يرجع إلى التواضع فيقول: «وإن كنت قد استوفيت مسائله، وميَّزت عن سائر الصنائع أنحاءه وأنظاره، فتوفيق من الله وهداية، وإن فاتني شيء في إحصائه، واشتبهت بغيره، فللناظر المحقق إصلاحه.»

    وبعد ذلك يختم كلامه قائلًا: «ولي الفضل لأني نهجت له السبيل، وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء» (ص٤٠).

    يعود ابن خلدون إلى ذلك في آخر الكتاب الأول أيضًا حيث يقول:

    «وقد كدنا نخرج عن الغرض؛ ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه، وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية.»

    «ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله وما يتكلَّم فيه، والمتأخرون يُلحقون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل» (ص٥٨٨).

  • (٣)

    يظهر من هذه العبارات بكل وضوح أن ابن خلدون كان يدرك إدراكًا واضحًا بأنه وضع أُسس علم جديد، وكان يشعر شعورًا تامًّا بأن هذا العلم سيتوسع فيه من بعده، شأن جميع العلوم التي تبدأ مختصرةً ومجملة، ثم تتوسَّع وتتقدَّم بالتدريج؛ بسبب التحاق وانضمام المسائل الجديدة إليها شيئًا فشيئًا.

•••

فقد صح ما كان تنبَّأ به ابن خلدون في هذا المضمار؛ فإن المسائل التي عالجها في مقدمته — وبتعبير أصح في الكتاب الأول من تأليفه — صارت فيما بعدُ موضع اهتمام المفكرين والعلماء، وكوَّنت علمين هامين:

علم التاريخ، وعلم الاجتماع.

إلا أن — من سوء حظه — لم يتم ذلك على الأسس التي كان وضعها هو، ولا في داخل البناية التي كان شيَّدها عليها؛ لأن تلك الأسس القويمة لم تجد من يقدِّر أهميتها ويعمل لإتمامها في حينها، فأُهْمِلَت لذلك، وتُنُوسِيَت بمرور الزمان. وأمَّا العلمان المذكوران فقد تأسَّسا وتوسَّعا في محلات أخرى على أسس مشابهة للتي وضعها ابن خلدون، ولكن على يد غيره من المفكرين، وبعد مرور عدة قرون.

والعلماء والمفكرون الذين توفَّقوا إلى تكوين وتأسيس هذين العلمين من جديد، لم يطلعوا على الآراء التي كان ابتكرها ابن خلدون في هذا الموضوع، إلا بعد مرور مدة تناهز خمسة قرون على تاريخ كتابتها.

وأمَّا السبب في ذلك فهو أن ابن خلدون نشأ في أوان انحلال الدول العربية وانحطاط الثقافة العربية، فما كتبه في هذه المواضيع صار بمثابة البذور التي تُنْثَر في أرض قاحلة، أو بمثابة الفسائل التي تُغْرَس بعد فوات الموسم، فإنها لم تجد التربة الصالحة لانتعاش تلك البذور، والجو الملائم لتنمية تلك الأغراس؛ ولهذا لم يجد عمل ابن خلدون تلاميذ وشُرَّاحًا ومعقِّبين، بالرغم من الإعجاب الذي أثاره بين المثقفين.

ولا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي لم ينجب مفكِّرًا وكاتبًا عظيمًا بعد العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، ونستطيع أن نقول: إن المفكر المشار إليه كان بمثابة الوهج الذي يحدث قُبيل انطفاء الشعلة، حسب التشبيه الذي أبدعه هو، عندما وصف الأحوال التي تشاهَد في أواخر حياة الدول (ص٢٩٤).

•••

وأمَّا سائر أقسام العالم الإسلامي فلم تكن عندئذٍ أحسن حالًا من العالم العربي من هذه الوجهة؛ فإنها كلها كانت في حالة انحلال وانحطاط، ولم يشذ عن هذا الانحلال العام إلا دولة إسلامية واحدة هي الدولة العثمانية، التي كانت قد تغلَّبت عندئذٍ على مشاكل التأسيس، ودخلت في طور التوسُّع والاستيلاء.

من المعلوم أن الدولة المذكورة كانت قامت على أنقاض الدولة السلجوقية، وأخذت تتوسَّع بسرعة بعد صدمة تيمورلنك التي أدركها ابن خلدون في أواخر حياته، وقامت بفتوحات عظيمة، خاصةً في القسم الجنوبي الغربي من القارة الأوروبية، في البلاد التي كانت قد ظلَّت حتى ذلك العهد خارجةً عن نطاق العالم الإسلامي، وبعيدةً عنه.

إن هذه الفتوحات العظيمة استلزمت — بطبيعة الحال — ظهور سلسلة من المؤرخين بين رسميين وغير رسميين، وهؤلاء المؤرخون كانوا يقرءون المؤلفات العربية بحكم الثقافة الإسلامية السائدة في ذلك العهد، فكان من الطبيعي أن يطَّلعوا على مقدمة ابن خلدون، ويُعْجَبُوا بها إعجابًا شديدًا، ويتأثَّروا منها تأثُّرًا عميقًا.

فلا نغالي إذا قلنا إن مقدمة ابن خلدون وجدت أكبر الصدى، وأثَّرت أشد التأثير، في مؤلفات المؤرخين العثمانيين، فجميع هؤلاء المؤرخين — من نعيما صاحب التاريخ الشهير، إلى عبد الرحمن شرف المؤرخ الرسمي الأخير — كلهم استلهموا أُسس التاريخ من ابن خلدون، حتى إن بعضهم اعتبر «واقعة أنقرة» — التي كانت حدثت بين السلطان بايزيد رابع، سلاطين آل عثمان، وبين تيمورلنك، التي انتهت بأَسْر السلطان المشار إليه، وأحدثت الأزمة المعروفة في التواريخ العثمانية باسم «فاصلة السلطنة» — اعتبروها آخر دليل على صدق نظريات ابن خلدون وإصابة ملاحظاته القيِّمة.

إن اهتمام المؤرخين والمفكرين العثمانيين بمقدمة ابن خلدون — على هذا المنوال — هو الذي حملهم على ترجمتها إلى التركية — منذ أواسط القرن الثامن عشر — قبل ترجمة الأوروبيين لها، بمدة تزيد على القرن الكامل.

غير أننا نستطيع أن نقول إن اهتمام المؤرخين العثمانيين بمقدمة ابن خلدون كان بمثابة الاقتباس والاستلهام بوجه عام، ولم يتعدَّ ذلك إلى التوسيع والتعقيب.

•••

أمَّا العالم الغربي فلم يطَّلع على مقدمة ابن خلدون، ولم يهتم بها إلا في القرن التاسع عشر للميلاد.

والسبب الأصلي في ذلك هو — على ما نرى — تاريخ كتابة المقدمة، وعهد نشأة مؤلفها.

من المعلوم أن ابن خلدون كتب المقدمة في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، وتُوفِّي في العقد الأول من القرن الخامس عشر، في ذلك الزمن كانت القرون الوسطى في أوروبا قد دخلت في طورها الأخير، وصار كل شيء يبشِّر بدور وثوب جديد، سيؤدي إلى عهد الانبعاث بعد مدة لا تزيد كثيرًا على نصف القرن.

كان العهد الذي يذهب فيه مفكرو أوروبا إلى الأندلس العربية؛ لانتهال مناهل العلم من جامعاتها، واستنساخ الكتب من مكتباتها، قد انقضى وانصرم؛ ذلك لأن القوم كانوا قد ترجموا أهم الكتب العلمية والفلسفية من العربية، خلال القرن الثاني عشر للميلاد، كما أنهم كانوا قد أسَّسوا أهم الجامعات في أوائل القرن الثالث عشر، والمدة التي مضت منذ ترجمة الكتب وتأسيس الجامعات — على هذا المنوال — كانت كافيةً لإنهاء «عهد الاقتباس من العرب» ولإكساب الفكر الأوروبي الشيء الكثير من الشخصية والاستقلال، إن مؤلفات وتعاليم آلبرت الكولوني، وتوما الأكويني، وروجر بيكن الإنجليزي، Albert Le grand, Thomas D’Aquin, Roger Bacon، كانت قد انتشرت في الجامعات قبل مدة غير يسيرة، والمناقشات التي كانت قامت بين أنصار ابن رشد وبين معارضيه، كانت قد اجتازت أدوارها الحادة.

فكان من الطبيعي ألا يعود المفكرون الأوروبيون فيفكرون ويتساءلون عمَّا قد يؤلفه العرب من جديد، في دور انحطاطهم وانحلالهم الأخير.

زد على ذلك، فإن الوقائع الحربية والسياسية كانت قد أدَّت إلى انقطاع العلاقات والصلات بين العالمين العربي والغربي، انقطاعًا يكاد يكون تامًّا؛ فإن العلاقات التي تربط العالمين المذكورين كانت قد انحصرت تقريبًا في نطاق بعض المعاملات التجارية، وهذه أيضًا كانت قد انحصرت في عدد قليل من المدن والمرافئ، فما كان من المنتظر — والحالة هذه — أن يطلع الأوروبيون على كتاب يؤلفه سياسي عربي، في محلٍّ ناء من إفريقية، في الدور الذي وصفنا أحواله العامة آنفًا.

وفي الأخير يجب علينا ألا ننسى أن مقدمة ابن خلدون كانت جزءًا من تاريخ ضخم، والتواريخ العربية كانت قد بقيت — بطبيعتها — خارجةً عن نطاق اهتمام الأوروبيين بوجه عام؛ لأن اهتمام الأوروبيين كان قد توجَّه نحو الكتب العربية العلمية والفلسفية بوجه خاص، ولم يلتفت القوم التفاتًا يُذْكَر إلى كتب التاريخ العربية، حتى في الدور الذي كانوا يتهافتون فيه على درس وترجمة المؤلفات العربية على اختلاف أنواعها.

هذه هي الأسباب التي أدت إلى تأخُّر اطلاع الأوروبيين على مقدمة ابن خلدون، وانتباههم إلى قيمتها الفكرية والعلمية، حتى القرن التاسع عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤