ابن خلدون وفيكو

(١) حياة فيكو وآراؤه

١

وُلِد جواني باتيستا فيكو Giovanni Battista Vico في نابولي سنة ١٦٦٧، وتُوفِّي في المدينة نفسها سنة ١٧٤٤.

كان والده كتبيًّا فقيرًا، ومع هذا فقد بذل كل ما في استطاعته ليضمن لابنه «دراسةً كاملة»، بالنسبة إلى ما كان معروفًا في زمانه.

فقد درس فيكو — وفقًا للتقاليد المتحكمة عندئذ — اللغات القديمة، والفلسفة الدرسانية Scholastique، وعلم اللاهوت، وعلم الحقوق، وشُغِف بالحقوق شغفًا شديدًا، ولكنه لم يمتهن القضاء أو المحاماة، بل أخذ يتوسَّع ويتعمَّق في دراسة أُسس الحقوق الطبيعية، وتاريخ الحقوق الرومانية بوجه خاص.

ثم ذهب إلى مدينة «واتوللا» بناءً على دعوة أسقف «إيسكيا» لتعليم الحقوق لأحد أقاربه النبلاء، وقضى فيكو هنالك تسع سنوات، وجد خلالها متسعًا من الوقت لدرس الكتب القديمة المحفوظة في مكتبة الدير دراسةً متقنة.

وعندما عاد إلى نابولي بعد ذلك، وجد أن التدريسات في جامعاتها كانت قد اتجهت اتجاهًا جديدًا تمامًا، كانت فلسفة «ديكارت» الحديثة قد سيطرت على الجامعة، وأبعدتها عن الفلسفات القديمة، ولا سيما عن الفلسفة الأفلاطونية.

لم يَرْتَحْ فيكو إلى هذا التيار الفكري الجديد، لا سيما بعد أن لاحظ أن التيار المذكور لم يكتفِ بإهمال الفلسفة القديمة، بل أخذ يهمل التاريخ والشعر والبلاغة أيضًا.

إنه لم يقل بلزوم البقاء تحت سلطة الفلاسفة القدماء، ولكنه لم يسلِّم بجواز الاسترسال في التفكير الذاتي، والاستسلام إليه استسلامًا كليًّا؛ ولذلك دعا إلى اتباع خطة متوسطة بين التيار القديم وبين التيار الحديث؛ لقد قال بوجوب اتباع المحاكمات الذاتية، مع احترام سلطة أساطين الفكر والعلم القدماء، واتبع بنفسه هذه الخطة في دروسه وتأليفاته المتنوعة.

صار فيكو أستاذًا للبلاغة في جامعة نابولي، وتطرَّق في دروسه إلى مسائل متنوعة، يحوم معظمها حول الحقوق الطبيعية، وتاريخ الحقوق الرومانية، واشتقاق الكلمات اللاتينية. نشر طائفةً من الخطب والرسائل في هذه المسائل، وأظهر في جميعها نزعةً مستمرةً نحو ربط الأبحاث اللغوية بالمسائل الحقوقية والتاريخية، وفي الأخير جمع ونظَّم معظم الآراء التي سردها في هذا المضمار في سِفْرٍ واحد أسماه «العلم الجديد» Scienza Nuava.

إن شهرة فيكو العلمية قامت على هذا الكتاب، فإن الآراء المدوَّنة فيه هي التي حملت الكثيرين من المؤرخين والمفكرين على تلقيبه بلقب «مؤسس فلسفة التاريخ» أولًا، وبلقب «مؤسس علم الاجتماع» ثانيًا.

نُشِرت الطبعة الأولى من العلم الجديد سنة ١٧٢٥، ولكن نسخ هذه الطبعة نفدت خلال ثلاث سنوات، فأُعيد طبع الكتاب مرتين خلال حياة المؤلف، وذلك في سنة ١٧٣٠، وسنة ١٧٤٤.

خلال هذه الطبعات الجديدة أعاد فيكو النظر فيه، وأدخل عليه تنقيحات وتعديلات كثيرة، غير أن هذه التعديلات لم تبدِّل شيئًا من الآراء الأساسية المدوَّنة فيه، مع أنها غيَّرت ترتيب مباحثه تغييرًا جوهريًّا، بل صاغته صياغةً جديدة، من وجهة كيفية عرض الآراء وكيفية تبويبها.

لقد تُرجمت الطبعة الثالثة من العلم الجديد إلى الفرنسية، بقلم المؤرخ الشهير «جول ميشله» بعنوان «أصول فلسفة التاريخ».

بين يدي الآن نسخة من هذه الترجمة المطبوعة في باريس سنة ١٨٢٧، وأنا سأستند إلى هذه النسخة في تلخيص وعرض آراء ونظريات فيكو في فلسفة التاريخ.

٢

يتألَّف العلم الجديد من خمسة كتب؛ الأول في الأسس والمبادئ، والثاني في الحكمة الشعرية، والثالث في اكتشاف حقيقة هوميروس، والرابع في المجرى الذي يسير فيه تاريخ الأمم، والخامس في عودة الانقلابات وتكرُّرها عند انبعاث الأمم بعد انقراضها.

  • (١)

    يبدأ فيكو فصول الكتاب الأول ﺑ «لوحة قرونولوجية»، يستعرض فيها أهم وقائع التاريخ، من خلقة العالم، إلى الحرب البونية الثانية.

    يعتمد المؤلف في هذا الباب على روايات التوراة وتفاسيرها، فيؤرخ الوقائع بتاريخ الخليقة، فيذكر مثلًا أن الطوفان قد حدث سنة ١٦٥٦ بعد الخليقة، وأن حروب طروادة نشبت سنة ٢٧٢٠ من التاريخ المذكور، كما أن مدينة روما أُسِّست سنة ٣٢٥٢ بعد الخليقة، وأمَّا الحرب البونية الثانية — التي تنتهي بها اللوحة القرونولوجية المذكورة — فقد حدثت سنة ٣٧٤٩ من تاريخ خلقة العالم، وسنة ٥٥٢ من تاريخ تأسيس روما.

  • (٢)

    يدَّعي فيكو في هذا الفصل وفي الفصول الأخرى من الكتاب، أن أقدم الأمم هم العبران، ولا يسلم بالقدم الذي «يعزوه المؤرخون» إلى المصريين والآشوريين والصينيين. ويقول: إن مزاعم المؤرخين في هذا الصدد لا تستند إلى أساس قويم، في الواقع إن المصريين يذكرون في تواريخهم من الوقائع ما يعود إلى زمن أقدم من الأزمنة المذكورة آنفًا، غير أن ذلك ليس إلا من نوع الأحاديث الخرافية التي لا يجوز الركون إليها بوجه من الوجوه؛ «إذ لا يوجد في دين المصريين وحضارتهم ما يدل على مثل هذا القدم المزعوم. يعلمنا القديس كليمانت الإسكندري بأن كتبهم المقدسة كانت مملوءةً بأفظع الأغلاط في الفلسفة والفلك، كما أن طِبهم كان نسيجًا من التوافه والتضليلات، وأمَّا أخلاقهم فكانت متفسخةً جدًّا؛ لأنها كانت تسمح بالفحش، حتى إنها كانت تحترمه وتقدسه أيضًا في بعض الأحيان، كما أن لاهوتهم كان من نوع الخرافات والسحريات، حتى إن صناعتَي السكب والنحت أيضًا كانتا عندهم في حالة الطفولة تمامًا. ولا عبرة في هذا الباب بعظمة الأهرام؛ لأن العظمة ليست من الأمور التي لا تأتلف مع البربرية.»

    ولذلك كله يؤكد فيكو بأن العبران أقدم من المصريين والصينيين وسائر الأمم جميعًا.

    هذه قضية ثابتة في نظر فيكو لا يمكن تفنيدها بحجة «أن التواريخ القديمة — غير المقدسة — لم تذكر اسم العبرانيين إلا في وقت متأخر نسبيًّا»؛ لأن عدم ذكرهم في تلك التواريخ قد نشأ من سبب جلي تمامًا؛ إنهم كانوا يعيشون عيشة اعتزال، ولذلك بقوا مجهولين لدى الأمم المجاورة لهم مدةً طويلة، فإن المؤرخ الإسرائيلي يوسف كان يعترف بأن العبرانيين بقوا مجهولين مدة قرون طوال، وكان يعلِّل ذلك بقوله: «نحن لا نسكن السواحل، نحن لا نحب أن نتاجر مع الأجانب؛ ولهذا السبب لم نخالط الأمم الأخرى.»

    كان بطلميوس فيلادلفي قد تساءل مستغربًا: «لماذا لم يُقْدِم أحد من المؤرخين والشعراء القدماء على ذكر قوانين موسى؟» غير أن «ديميتريوس» اليهودي كان قد أزال استغرابه هذا قائلًا: إن الذين حاولوا نقل أخبار العبران إلى الأجانب عوقبوا على محاولتهم هذه معاقبةً شديدة، بمعجزة من الله بصورة خارقة للعادة. مثلًا إن «تيودكت» حُرِم من نعمة البصر من جراء ذلك، كما أن «تيوبومب» أضاع شعوره للسبب نفسه.

    إن فيكو يصدِّق كل هذه الروايات، ويشترك مع «لاكتانس» في تعليل ذلك بقوله: «لا شك في أن العناية الإلهية شاءت بذلك أن تحول دون تدنُّس دين الله الحقيقي، باختلاط شعبه المختار مع الأجانب» (ص١٩).

  • (٣)

    فلا شك في نظر فيكو بأن أقدم الأمم هم العبران، ويليهم في القدم الكلدان، فالإسكيت، والفينيقيون، ويلي الفينيقيين المصريون، فالإغريق، فالرومان.

    فالمصريون إذن هم الشعب الخامس في ترتيب الشعوب من حيث القِدَم، فهم أحدث من العبران والكلدان والفينيقيين.

    ومع هذا يقول فيكو إن المصريين خدموا التاريخ خدمةً عظمى؛ لأنهم خلَّفوا لنا حقيقتين تاريخيتين هامتين، لا تقلان أهميةً وعظمةً عن أهرامهم الجبارة.

    الحقيقة الهامة الأولى؛ هي أنهم كانوا يقسِّمون تاريخهم إلى ثلاثة عهود وأدوار؛ دور الآلهة، دور الأبطال، دور البشر.

    وأمَّا الحقيقة الهامة الثانية؛ فهي أنهم كانوا يقولون بأن الناس تكلَّموا في كل دور من هذه الأدوار الثلاثة بلغة خاصة به؛ اللغة الهيروغليفية في دور الآلهة، واللغة الرمزية في دور الأبطال، واللغة العامية في دور البشر.

    إن المؤرخ الروماني «فارون» كان يقسِّم عصور التاريخ إلى ثلاثة أقسام، ويسميها على التوالي؛ الدور المظلم، الدور الأسطوري، الدور التاريخي.

    إن الدور المظلم الذي يشير إليه فارون يقابل دور الآلهة عند المصريين، كما أن الدور الأسطوري الذي يذكره المؤرخ المومأ إليه يقابل دور الأبطال، وأمَّا الدور التاريخي الذي يشير إليه فارون فيقابل الدور البشري الذي اصطلح عليه المصريون.

  • (٤)
    يتمسَّك فيكو بأهداف هذه الآراء والروايات القديمة تمسُّكًا شديدًا، ويتخذها أساسًا لتفلسفاته في سير التاريخ، إنه يعمم هذه الأدوار الثلاثة على جميع الأمم في جميع العصور، ثم يمزجها بمذهب «الدورات» Cycles الذي كان يقول به الفيثاغوريون، ويوجد بذلك نظريته الأساسية في حياة الأمم.

    يدَّعي فيكو بأن التاريخ العام يجتاز ثلاثة أدوار؛ الدور الأول هو دور الآلهة أو الدور الإلهي، وهو الدور الذي يستند فيه الحكم إلى الدين مباشرة، وتجري فيه الأوامر والنواهي حسب ما يُعتقد بأنه مشيئة الله أو الآلهة.

    الدور الثاني هو دور الأبطال أو الدور البطولي؛ وهو الدور الذي يكون فيه الحكم بيد أبطال أشداء ومحاربين، يعتقد الناس بأنهم من طينة غير طينة الإنسان العادي.

    وأمَّا الدور الثالث فهو الدور البشري الذي تتأسس فيه الحضارة بأشكالها المعلومة.

    إن هذه الأدوار تتوالى على شكل دائرة تامة، حيث يتصل منتهى الدور الثالث بمبدأ الدور الأول، فكل أمة من الأمم تنتقل في تاريخها من دور الآلهة إلى دور الأبطال فدور البشر، وعندما تبلغ غايتها من الدور الأخير تعود مرةً أخرى إلى دور الآلهة، وتبدأ بذلك دورةً جديدةً على هذه الدائرة الأزلية الأبدية.

    قد تتوقَّف الأمم في ناحية من نواحي هذه الدائرة في دور من هذه الأدوار، غير أنها لا تستطيع أن تخرج من نطاقها أبدًا.

    هذه هي الدائرة الأزلية التي رسمتها القدرة الصمدانية للأمم، والتي اكتشفها العلم الجديد بفضل تأمُّلات فيكو، هذه هي الدائرة التي تدور عليها تواريخ جميع الأمم في جميع القرون.

    إن جميع المساعي التي بذلها فيكو في العلم الجديد تحوم حول هذه النظرية الأساسية، وترمي إلى شرح وتفصيل وتعليل هذه الأدوار الثلاثة في حياة الأمم.

٣

  • (١)

    يبدأ فيكو قصة التاريخ العام من الطوفان؛ إن أبناء نوح بعد الطوفان لم يسيروا على وتيرة واحدة، ولم يسلكوا مسلكًا متماثلًا، بل إن سلوك أولاد سام اختلف عن سلوك أولاد حام ويافث اختلافًا كليًّا؛ فإن أولاد سام بقوا حيث كانوا، فحافظوا على لغاتهم، واعتقاداتهم، وسائر خصالهم البشرية، غير أن أولاد حام ويافث تشتتوا في أنحاء الأرض؛ فتباعدوا بذلك عن الخصال البشرية تباعُدًا كليًّا.

    كانت الأرض مستورةً عندئذٍ بغابات كثيفة جدًّا، فانتشر أولًا حام ويافث في هذه الغابات إلى جميع الجهات؛ هربًا من مطاردة الحيوانات المفترسة، وانتجاعًا للماء والغذاء، وسعيًا وراء النساء اللاتي كنَّ لا يستسلمن إلى شهواتهم. وعلى هذا الوجه صاروا يعيشون عيشةً بهيمية، نسوا خلالها لغاتهم وأديانهم، وفقدوا جميع مزاياهم البشرية، فانحطوا إلى دركة البهائم تمامًا، حتى إن قامتهم نفسها تباعدت عن القامة البشرية المألوفة، وعادت إلى ما كانت عليه من الضخامة قبل الطوفان؛ فأصبح كل فرد منهم عملاقًا. وانقسم البشر لذلك إلى قسمين أساسيين، يختلف الواحد عن الآخر من حيث الأصل والنسل أيضًا اختلافًا جوهريًّا؛ القسم الأول كان العبران، والقسم الثاني كان العمالقة.

    عاش العمالقة في الغابات منفردين متوحشين، ومسترسلين في شهواتهم البهيمية، من غير أن يقيِّدوا أنفسهم بقانون أو دين.

  • (٢)

    واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن جفَّت الأرض من مياه الطوفان، فأخذت تصعد الأبخرة التي تكوِّن العواصف، وتُحْدِثُ الرعد والبرق، وتُنْزِل الصواعق. إن حدوث هذه الأنواء الهائلة — لأول مرة — أثَّر في نفوس العمالقة تأثيرًا عميقًا، وأدهشهم دهشةً شديدة: «بين غيوم هذه العواصف الأولى، وعلى ضوء هذه الأنواء البارقة» (ص١١٧)، علم الإنسان وجود قوة عليا، وسماها «جوبيتر».

    وصار هذا مبدأ انقلابات عظيمة جدًّا في حياة هؤلاء العمالقة، لقد تصوَّر العمالقة هذه القوة العليا عن طريق قياس النفس، وظنوا أن هذه القوة الجبارة تعود إلى شخص مثلهم، يعيش ويشتهي، يرضى ويغضب. إنهم كانوا يدمدمون ويغمغمون — عادةً — عندما يغضبون، فلما سمعوا جلجلة الرعد والبرق، شبَّهوها بغمغمة الغضب، وراحوا يتوهَّمون أن جوبيتر يُظْهِر غضبه بهذه الغمغمات الهائلة، ويطلب من الناس بعض الأشياء والأعمال، فأخذوا يسعون وراء تفسير معاني هذه الغمغمات وكشف أسرارها؛ لتفهُّم مقاصد الإله الجبار، والعمل على استرضائه بوسائط شتى.

    وهذه كانت البذرة الأولى في سبيل توليد «الديانة والكهانة» في وقت واحد.

  • (٣)

    إن الفزع الذي استولى على العمالقة من صوت الرعد والبرق حملهم على الالتجاء إلى المغارات، والانقطاع عن حياة التنقُّل والتشرُّد، كما أنه جعلهم يتحاشون مجامعة النساء تحت بصر السماء، فصار كل واحد منهم يأخذ امرأةً إلى مغارة، ويحتفظ بها لنفسه، ويعيش معها بمفرده. وبهذه الصورة تأسَّس نظام الزواج، ونشأت عادة العفاف.

    إن معيشة رجل مع امرأة واحدة داخل مغارة على هذا الوجه، أدى إلى بقاء الأولاد مرتبطين بالآباء والأمهات؛ فتكوَّنت بذلك الأُسَر الأولى من الأب والأم والأولاد.

    وعندما انقطع العمالقة عن حياة التشرُّد بهذه الصورة، أخذ كل واحد منهم يزرع الأرض القريبة من مغارته مشتركًا مع أفراد عائلته، وبدأت بذلك الزراعة من جهة، وملكية الأرض من جهة أخرى.

    إن هذه الحياة الهادئة والتربية المستقرة لم تَخْلُ من التأثير على جثة العمالقة وقامتهم أيضًا، فإنهم أخذوا يفقدون بالتدريج ضخامة الجثة، إلى أن اكتسبوا القامة الاعتيادية اللائقة بالإنسان.

  • (٤)

    وكان من نتائج هذه الانقلابات كلها أن تكونت المجتمعات البشرية الأولى على الجبال، في المغاور المتفرقة في سفوحها، وكان قوام كل مجتمع من هذه المجتمعات عائلةً واحدةً مؤلَّفةً من الأب والأم والأولاد، وكان هذا المجتمع الابتدائي دويلة منعزلة، يرأسها أمير واحد هو الأب، وكان الأب يتمتع بسلطة مطلقة تجاه جميع أفراد العائلة، إنه كان الآمر والناهي الوحيد الذي يتصرف في جميع شئونها، ولكنه كان يستند في أوامره ونواهيه هذه إلى تكهُّناته عن مقاصد الآلهة، فالأب في هذه المجتمعات الابتدائية لم يكن أبًا فحسب، بل كان بمثابة الملك والكاهن أيضًا.

    إن جميع الانقلابات التي شرحناها آنفًا بدأت — على رأي فيكو — ببدء العواصف، ونشأت من تأثير الرعد والبرق في أذهان العمالقة البسطاء.

  • (٥)

    غير أن هذه التطوُّرات لم تشمل جميع أبناء البشر في وقت واحد، عندما كان بعض العمالقة — وهم الذين كانوا على الجبال — يلجئون إلى المغارات، ويتطوَّرون التطوُّرات التي شرحناها آنفًا، بقي القسم الآخر منهم — وهم الذين كانوا يهيمون في السهول — على ما كانوا عليه من التشرُّد مدةً أخرى.

    ولكن هذا القسم من أبناء البشر عندما شاهدوا النتائج التي حصل عليها أفراد القسم الأول، أخذوا يلتجئون إليهم، ويعرضون خدماتهم عليهم؛ فصاروا ينضمون إلى جماعة العائلة بصفة خُدَّام وموالٍ. فتوسع بذلك نطاق العائلات، وأصبحت كل واحدة منها مؤلَّفةً من الأب والأم والأولاد، مع عدد من الخدم والموالي الملتجئين إليها.

    إن هؤلاء الخدام الملتجئين صاروا يشتركون في زراعة الأرض من غير أن يمتلكوها، ويخضعون لسلطة الأب المطلقة، مثل أفراد العائلة الأصلية. وبذلك توسعت سلطة الآباء، وأخذت تشمل جماعةً من الناس، علاوةً على الأم والأولاد، فأصبح الآباء بمثابة رؤساء بكل معنى الكلمة؛ ولذلك سموا باسم الأُبساء.١
  • (٦)

    إن نظرية «توسع العائلة» على هذا الوجه بانضمام الخدم الملتجئين إليها لمن الأمور التي يهتم بها فيكو اهتمامًا خاصًّا، إنه يعتبرها من أهم الحقائق التي اهتدى إليها في علمه الجديد، ويحاول أن يستنتج منها سلسلةً طويلةً من النتائج والوقائع الهامة.

    إن هؤلاء اللاجئين قاموا بالخدمة المطلوبة منهم — في بادئ الأمر — عن طيبة خاطر؛ لما وجدوا في هذه الحياة الجديدة من الراحة والطمأنينة بالنسبة إلى حالتهم السابقة، ولما اعتقدوا بأن الأُبساء لم يكونوا من طينة اعتيادية.

    غير أنهم بعد ذلك بدءوا يتذمرون من وضعهم، وأخذوا يحاولون العصيان على أسيادهم؛ عندئذٍ اضطُر الأبساء إلى الاتفاق فيما بينهم ليتمكنوا من مقاومة مطاليب الخدم، وتكوَّنت بذلك «الجماعات السياسية» التي تتألَّف من عدة عائلات؛ ألَّف الأُبساء فيها طبقة النبلاء، وألَّف الخدم طبقة العوام. فتحددت عندئذٍ سلطة كل أَبيس من الأُبساء بسلطة مجلس النبلاء، وتأسَّس «الحكم الأرستقراطي» على هذا المنوال.

    ولكن هذا التدبير — تدبير اتفاق الأُبساء فيما بينهم — أصبح غير كافٍ لكبح جماح الخدم بمرور الزمن؛ إذ إن هؤلاء الخدم أيضًا اتفقوا فيما بينهم، وأخذوا يتقدَّمون ببعض المطاليب، ويضطرون النبلاء إلى إجابة طلباتهم من حين إلى حين. وفي الأخير حينما قوي ساعدُهُم شاركوا النبلاء في الحكم، فتأسَّس بذلك «الحكم الديمقراطي».

    إن اشتراك الخدم والعوام في الحكم — على هذا المنوال — أدَّى إلى تفشي الفوضى بعد مدة من الزمن، عندئذٍ ظهر رجل قوي شديد البأس، وقبض على زمام الأمور، وأعلن نفسه ملكًا، وصار يسود على العوام والنبلاء على حد سواء، فتأسَّس بذلك «الحكم الفردي»، أو «الحكم الملكي».

  • (٧)

    يسرد فيكو ويشرح هذه الآراء والنظريات المختلفة في عدة محلات من كتابه، بتعبيرات وأساليب متنوعة، ويقدِّم لبعضها أمثلةً وأدلةً مختلفة، كلها مستقاة من أساطير اليونان ومن تاريخ اليونان والرومان.

    إن جميع الأمم اعتقدت ﺑ «جوبيتر» تحت أسماء مختلفة، كما اعتقدت بابن جوبيتر «هرقلس» أيضًا بأسماء متنوعة. والسيكلوب Cyclopes الذين تذكرهم الأساطير اليونانية، هم — في حقيقة الأمر — العمالقة الذين التجئوا إلى المغارات.

    وأمَّا الأسطورة القائلة بأن جوبيتر «صرع السيكلوب» فهي ترمز إلى واقعة حقيقية؛ واقعة انصعاق العمالقة من جراء الرعد والبرق، والتجائهم إلى المغارات، واضطرارهم إلى تغيير أساليب حياتهم تغييرًا كليًّا.

    والأسطورة القائلة بأن «جونون» زوجة جوبيتر وأخته، حتَّمت على هرقلس أعمالًا جبارة، فهي أيضًا ترمز إلى واقعة حقيقية؛ إنها تدل على أن قدسية الزواج ربَّت الإنسان على الفضائل العالية.

    إن قصة «ديانا» أيضًا تعبِّر عن واقعة تاريخية؛ إنها تمثل حياة الطهر التي بدأت بعد تأسيس نظام الزواج، إذ من المعلوم أن ديانا كانت تلتجئ إلى الظلام لتقترن ﺑ «آنديميون» حسب أساطير اليونان، والظلمة المذكورة في هذه الأسطورة ما هي إلا ظلمة المغارات، التي صار الإنسان لا يقترن بالمرأة إلا فيها بعد التجاء العمالقة إليها.

    وهكذا يجد فيكو في أساطير اليونان سلسلةً طويلةً من الدلائل على صحة آرائه ونظرياته في هذا الصدد.

  • (٨)

    يطبِّق فيكو هذه الآراء على تاريخ اليونان والرومان، وتاريخ القرون الوسطى أيضًا.

    إن دور الأبطال لم يستمر مدةً طويلةً عند اليونان؛ ذلك لأن ظهور الفلاسفة عندهم عجَّل أمر انتقالهم من الدور الإلهي إلى الدور البشري، من غير أن يتركهم يهيمون مدةً طويلةً في الدور البطولي.

    ولكن الوقائع سارت بنظام أكثر من ذلك عند الرومان؛ فطال الدور البطولي مثل الدور الإلهي، وعندما وصل القوم إلى الدور البشري، كانوا قد نسوا الدور الإلهي؛ ولذلك سموا الدور المتقدم على الدور البطولي باسم «الدور المظلم».

    وأمَّا تاريخ القرون الوسطى فهو أيضًا يؤيد — على زعم فيكو — نظرياته هذه؛ ففي أوائل القرون الوسطى عاد الإنسان إلى بربرية جديدة شبيهة بالبربرية الأولى، كما أنه اجتاز دورًا إلهيًّا جديدًا، هو الدور الذي تولَّى فيه الملوك الرتب الدينية، ووقفوا ذواتهم الملكية إلى خدمة الله. وقد أعقب هذا الدور الإلهي الثاني دور بطولي جديد، عندما نشأت الفروسية ونشبت الحروب الصليبية، وأمَّا دور الحضارة الثانية الذي كان مستمرًّا في عهد فيكو، فلم يبدأ إلا بعد انقضاء الدور البطولي الآنف الذكر.

٤

  • (١)

    إن الآراء والنظريات التي لخَّصناها آنفًا تدل دلالةً واضحةً على أن فيكو لم يتبع في أبحاثه طريقة استقراء الحادثات، ولم يتقيَّد في تفكيره بقيود الواقعات.

    إن ذلك نتيجة طبيعية للخطة التي وضعها، والطريقة التي قررها، والنظرية التي قال بها في شأن طبيعة الحوادث الاجتماعية.

    من الحقائق الثابتة التي لا مجال للشك فيها — على زعم فيكو — «أن العالم الاجتماعي من صنع الإنسان»، فمن الممكن، بل من الضروري البحث في أصول التطوُّرات التي تحدث في عالم الاجتماع، بالنظر إلى ما يحدث في النفس البشرية، «فيجب أن نَعْجَبَ كل العجب، من الفلاسفة الذين يحاولون بكل جدٍّ أن يعرفوا عالم الطبيعة، ثم هم يهملون التأمُّل في عالم الاجتماع، إنهم يحاولون أن يعرفوا عالم الطبيعة، مع أنه من صنع الله، ومع أن الله خص علم ذلك العالم بنفسه الصمدانية، ويهملون التأمُّل في عالم الاجتماع مع أنه في استطاعة الإنسان أن يعرف هذا العالم؛ لأنه من صنعه» (ص٦٧).

    ولهذا نجد أن فيكو يبحث في أصول العلم الجديد من غير أن يتقيَّد بكتب التاريخ، حتى إنه يقرر — أوليات التاريخ في مصر والشرق — «استنادًا إلى حكم العقل وحده، من غير أن يرجع إلى الأخبار الواردة في هذا الشأن» (ص٢٧٣).

    وذلك لأنه يعتقد أن «من يتأمل في العلم الجديد، يكون قد خلق موضوع بحثه بنفسه، فيستطيع أن يعرف حقيقة ذلك الموضوع بصورة مضبوطة تمامًا.»

    إن «العلم الجديد» ينحو نحو الهندسة من جميع الوجوه؛ من المعلوم أن المفكر الرياضي — في أبحاثه الهندسية — يتصوَّر عالم الأبعاد والأشكال، ويتأمَّل فيه في الوقت نفسه، وبتعبير آخر إنه يخلق ذلك العالم، ويبحث فيه في وقت واحد. إن عمل المفكر في العلم الجديد لا يختلف عن ذلك أبدًا.

    ولهذا السبب يخصِّص فيكو فصلًا كبيرًا من فصول كتابه الأول لسرد «الحقائق الأولية والبديهية» التي يستند إليها «العلم الجديد»، أُسوةً بما يفعله الرياضيون في كتب الهندسة.

  • (٢)

    إن عدد الحقائق الأولية التي يذكرها فيكو — ويطلب التسليم بها مقدَّمًا — تبلغ أربع عشرة ومائة.

    ندرج فيما يلي ثلاثة نماذج من تلك «الحقائق الأولية والبديهية»؛ لكي نعطي فكرةً واضحةً عن مناحي تفكير فيكو في هذا الصدد:

    إن الله منع العبرانيين عن الكهانة، هذا المنع هو أساس دينهم، في حين أن الكهانة تكون أساس المجتمع عند جميع الأمم الوثنية؛ ولذلك انقسم العالم القديم إلى قسمين أساسيين؛ عبراني وأجنبي (رقم ٢٤).

    إن تاريخ اليونان الذي حفظ لنا كل ما نعرفه عن العالم الوثني القديم — باستثناء الرومان — يبدأ من عهد الطوفان ومن دور العمالقة، هذه العنعنة تقسِّم الجسم البشري إلى نوعين أصليين؛ نوع العمالقة ونوع الإنسان ذي القامة الطبيعية، أي نوع الأجانب ونوع العبران. إن هذا الاختلاف لا يمكن أن يتأتَّى إلا من تربية الأولين البهيمية، وتربية الآخرين الإنسانية، فيمكننا أن نستنتج من ذلك أن أصل العبرانيين يختلف عن أصل غيرهم من الأمم (رقم ٢٧).

    إذا سلَّمنا — والعقل لا يمتنع عن التسليم بذلك أبدًا — إذا سلَّمنا أن الإنسان بعد الطوفان سكن الجبال أولًا، فسيكون من الطبيعي عندئذٍ أن نقول إنهم نزلوا السهول بعد مدة من الزمن، وبعد مدة طويلة جدًّا، وثقوا بأنفسهم إلى حد الانتقال إلى سواحل البحار (رقم ٩٧).

٥

  • (١)

    إن فكرة الديانة ونظرية القدرة الصمدانية والعناية الإلهية تلعب دورًا هامًّا في «العلم الجديد»؛ يسخِّف فيكو بالفلاسفة والعلماء الذين لا يعترفون بالقدرة الصمدانية، أو يبحثون في الحياة الاجتماعية من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار العناية الإلهية — أمثال «بوفندورف»، و«غروتسيوس» — لأنه يعتقد أن الحياة الاجتماعية لا تنفك عن الديانة، ويدَّعي أنه لولا الدين لما وُجِدت الحياة الاجتماعية.

    ولذلك نراه يُكْثِر من ذكر الله وعناية الله في كل فصل من فصول كتابه، وفي معظم أبحاثه، فإنه تارة يلتجئ إلى فكرة الألوهية لشرح الوقائع التاريخية، وطورًا يتخذ الوقائع التاريخية برهانًا على العناية الإلهية.

    ويقول مثلًا — عندما يتكلَّم عن ضخامة جثة العمالقة بعد الطوفان: «علينا أن نعجب بالعناية الإلهية التي سمحت للإنسان الأول أن يكتسب تلك الجثة؛ لكي يتمكَّن من التغلُّب على الحيوانات المفترسة، فيستطيع أن يعيش في وسط تلك الطبيعة القاسية.»

    وعندما يشرح نشوء الوثنية يقول: «لقد سمحت العناية الإلهية للإنسان الأول بأن يقع في هذا الضلال، فيخاف غضب آلهة موهومة، ويعتقد بالكهانات الباطلة؛ لكي يجد في ضلاله هذا مبدأ سلوك ونظام، في ذلك الدور الذي كان غير قادر فيه بعدُ على تمييز الحق من الباطل.»

    وعندما يتكلَّم عن تكوين العائلات يقول: «لقد أمرت القدرة الصمدانية بتكوين دولة العائلة بواسطة سلطة الآباء، من غير أن تلتجئ إلى استبداد القوانين.»

    وهكذا يلتجئ فيكو في معظم مراحل تفكيره وتعليله إلى فكرة العناية الإلهية، ويوصل نزعته هذه إلى أقصى حدودها حينما يقول:

    «لقد بحث الفلاسفة عن دلائل القدرة الصمدانية والعناية الإلهية بين مشاهد الطبيعة، وفاتهم أن تلك القدرة والعناية تتجلى بأجلى مظاهرها في الحياة الاجتماعية. فالعلم الجديد يسعى إلى تلافي هذا النقص بإظهار وتبيين دلائل عناية الله من خلال وقائع التاريخ، فهذا العلم بمثابة «لاهوت مدني»، يبرهن على العناية الإلهية بالوقائع التاريخية» (ص٨٤).

  • (٢)

    ولكي نعطي فكرةً أوضح من ذلك عن الدور الذي يعزوه فيكو إلى العناية الإلهية في الوقائع التاريخية، ننقل فيما يلي بعض الفقرات التي كتبها في الكتاب الأخير من العلم الجديد:

    «لما نوَّرت وقوَّت القدرة الإلهية حقيقة المسيحية بوسائط خارقة للعادة — بفضائل الشهداء ضد السلطة الرومانية، وبتعاليم الآباء ومعجزات القديسين ضد حكمة اليونان الفارغة — قامت أمم محاربة — البرابرة الأوروبيون في الشمال، والعرب المحمديون في الجنوب — وصارت تهاجم «أُلوهية يسوع المسيح» في كل الجهات، وقد سمح الله عندئذٍ أن ينشأ نظام جديد بين الأمم؛ لكي تتأسَّس هذه الحقيقة — حقيقة أُلوهية يسوع المسيح — بصورة لا تتزلزل أبدًا؛ ولذلك أعاد الله خصال الدور الأول، وأوجد خصالًا جديدةً مثلها، استحقت نعت «الإلهية» أكثر من الأولى؛ فأخذ الملوك الكاثوليكيون — حماة الدين — في كل الجهات يَرْتَدُون ملابس رجال الدين، ويقفون ذواتهم الملكية على خدمة الله» (ص٣٥٧).

  • (٣)

    وقد كتب فيكو في الفصل الرابع من الكتاب الأخير ما مؤداه:

    «لقد سمحت العناية الإلهية للعوام بأن يتنافسوا مع الخواص في التقوى والديانة مدةً طويلة، قبل أن يشتركوا معهم في الحقوق المدنية. إنَّ تمسُّك الشعب بالدين وتحمُّسه للدين هو الذي أوصله إلى الاشتراك في السلطة المدنية، وهو الذي فسح المجال لتكوين الحكومات الشعبية، ومع هذا لما كان كل شيء في مثل هذه الحكومات يستند إلى نتائج الانتخابات؛ حالت العناية الإلهية دون سيطرة الصدف فيها، فأمرت أن يكون حق التصويت مُقيَّدًا بمقدار من الثروة، وأن يعتبر الأشخاص النشيطون والمقتصدون والكرماء أليق بالحكم من الخاملين والمسرفين والمعوزين، وبتعبير آخر: إنها أمرت أن يعتبر الأغنياء المتصفون ببعض الفضائل أليق بالحكم من الفقراء المملوئين بالمفاسد» (ص٣٨٠).

    ولكن المواطنين لم يكتفوا بالتميُّز بثروتهم، بل حاولوا أن يجعلوا تلك الثروة آلةً لزيادة سلطتهم؛ فحدثت عندئذٍ ثورات وحروب أهلية أدَّت إلى فوضى عامة.

    «على هذا الداء الاجتماعي الوبيل تستعمل العناية الإلهية أحد الأدوية الثلاثة التي نذكرها فيما يلي:

    «أولًا؛ يظهر من بين أفراد الشعب رجل مثل أوغسطس، يؤسس الملكية، ويضع حدًّا للفوضى.»

    «وأمَّا إذا لم تجد القدرة الإلهية مثل هذا الدواء في الداخل، فتأتي به من الخارج؛ يأتي شعب أفضل من الشعب الفاسد، ويستولي عليه بقوة السلاح.»

    «وفي الأخير إذا لم يحدث أحد هذين الأمرين، واستمرت حالة الفوضى — إذا لم يتفق الشعب على اتخاذ أحدهم ملكًا، ولم يأتِ شعب أفضل ويستولي على البلاد — حينئذ تُطبق العناية الإلهية لهذا الداء المزمن، الدواء الأخير، ألا وهو الزوال»» (ص٣٨٢).

  • (٤)

    يظهر من هذه الأمثلة بكل وضوح أن فيكو ينتهز جميع الفرص التي تسنح له لذكر العناية الإلهية، أو للبرهنة عليها.

    وأمَّا أقوى الدلائل التي يذكرها فيكو للبرهنة على أن العناية الإلهية تدير الشئون البشرية، فهي — على زعمه — الحقيقة التالية: «إن الأصلح والأفضل من الأفراد هم الذين حكموا ويحكمون على الدوام، في كل حكومة بلا استثناء» (ص٣٥٥).

    وبهذه الوسيلة يتطرَّق فيكو إلى جمهورية أفلاطون، فيقول:

    «لقد أضاف أفلاطون إلى أشكال الحكومات الثلاثة شكلًا رابعًا، هو شكل الحكومة التي سيحكم فيه الأفضلون، إن هذه الجمهورية التي كان يتخيَّلها أفلاطون ويدعو إليها، كانت موجودةً — في حقيقة الأمر — منذ أوائل الاجتماع الإنساني؛ فإن في كل دور من أدوار التاريخ كان الأفضلون هم الذين حكموا بنعمة الله وعنايته.»

    إن فيكو يحاول أن يبرهن على صحة هذا الرأي في كل مناسبة، وينهي كتابه بالعبارات التالية:

    «نستطيع أن نستنتج من كل ما قلناه في تأليفنا هذا أن العلم الجديد يحمل معه — حتمًا — روح التقوى، وأن الحكمة الحقيقية لا يمكن أن توجد بلا ديانة.»

(٢) مقدمة التاريخ والعلم الجديد

بعد أن استعرضنا أهم الآراء والنظريات المسرودة في «العلم الجديد»، نستطيع أن نُقْدِم على مقارنة الكتاب المذكور بمقدمة ابن خلدون؛ لنتبيَّن أوجه التفاضل بين ما كتبه المفكر العربي في القرن الرابع عشر، وبين ما نشره الباحث الإيطالي في القرن الثامن عشر.

١

إن أول ما يستوقف النظر عند مقارنة مقدمة ابن خلدون بالعلم الجديد، هو الفرق العظيم والاختلاف الكلي الموجود بين الكتابين، من حيث المواد والمواضيع، على الرغم من اشتراكهما الظاهر في الأهداف والأغراض، فإن كليهما يرميان إلى غاية واحدة هي معرفة طبائع الأمم والمجتمعات، وتعيين نظام سير التاريخ العام، غير أن كل واحد منهما يحاول أن يصل إلى هذه المعرفة، باحثًا في ساحة معينة، مستندًا إلى مواد ووقائع خاصة.

إن العلم الجديد يستند — قبل كل شيء — إلى التاريخ القديم، ويستمد عناصر بحثه في الدرجة الأولى من تاريخ اليونان والرومان، من غير أن يعير التفاتةً ما إلى تاريخ العرب والإسلام، في حين أن مقدمة التاريخ — بعكس ذلك تمامًا — تستند إلى تاريخ العرب والإسلام، من غير أن تأخذ بنظر الاعتبار تاريخ اليونان والرومان. فلا نغالي إذا قلنا إن كتاب فيكو بمثابة «تفلسف في تاريخ اليونان والرومان»، في حين أن مقدمة ابن خلدون بمثابة «تفلسف في تاريخ العرب والإسلام».

إن وجود هذا الاختلاف الكبير بين الكتابين — من وجهة نطاق البحث، ومواد الإنشاء والتفكير — يجعل المقارنة والمفاضلة بينهما من الصعوبة بمكان؛ ذلك لأن وجوه التفاضل بينهما لا تظهر مباشرة بسبب اختلاف ميادين البحث، فإظهار هذا التفاضل يتطلَّب إنعام النظر في الأمر، ولا يتم إلا بصعوبة كبيرة.

وللتغلُّب على هذه الصعوبة يترتَّب علينا:
  • أولًا: أن نبحث عن المواضيع المشتركة في الكتابين مهما كانت قليلة، وأن نستعرض المسائل التي عالجناها في وقت واحد مهما كانت محدودة.
  • ثانيًا: أن نقارن بين الكتابين من حيث الطريقة المتبعة في معالجة الأبحاث.
  • ثالثًا: أن نقارن بينهما من حيث شمول النظر، ومبلغ التعمُّق في البحث والتفكير.

وعلى هذه الصورة وحدها نستطيع أن نصل إلى حكم علمي تحليلي، في أمر المفاضلة بين العلم الجديد وبين المقدمة، على الرغم من اختلاف ساحات البحث ومواد التفكير في كل منهما.

٢

  • (١)

    إن أبرز المسائل التي اشترك في بحثها الكتابان هي مسألة العمالقة.

    من المعلوم أن ضخامة جثة الإنسان الأول وطول قامته، كانت من الاعتقادات المنتشرة بين الناس من قديم الزمان.

    ابن خلدون لا يصدِّق الروايات التي تحوم حول العمالقة، ويفنِّدها بصراحة وشدة في عدة فصول من المقدمة. إنه يعتبر هذه الروايات من «الأوهام العريقة في الكذب»، ويشرح أسباب تولُّد هذه الأوهام؛ إن مثار هذه الأوهام هو ملاحظة المباني الكبيرة، والهياكل الضخمة التي تركها لنا الأولو. لقد أُعْجِبَ الناس بعظمة تلك الهياكل وضخامتها، وظنوا أن سبب هذه الضخامة هو ضخامة جثة بناتها، في حين أن السبب الحقيقي ما هو إلا عظمة الدول التي شيَّدت تلك الهياكل، وكثرة الأيدي التي استخدمتها، وقوة الآلات والمخال التي استعملتها في هذا السبيل.

    في حين أن فيكو صدَّق رواية العمالقة على علاتها، ولم يكتفِ بتصديقها فحسب، بل اهتم بها اهتمامًا كبيرًا، وبنى عليها قسمًا كبيرًا من آرائه ونظرياته. إنه اعتبر «وجود العمالقة» من الأمور التي يجب التسليم بها، ومن الحقائق الأولية التي لا بد من أخذها بنظر الاعتبار، عند البحث في سير التاريخ ونشوء المجتمعات البشرية؛ ولذلك كرر اسم العمالقة وقصص العمالقة عشرات المرات في الفصول المختلفة من «العلم الجديد».

  • (٢)

    والمسألة الثانية التي نجدها مشتركةً بين الكتابين هي مسألة علاقة الاجتماع بالدين:

    ابن خلدون يعتبر الإنسان مدنيًّا بالطبع، ويقول إن الاجتماع الإنساني ضروري، ولا يشترك في الرأي مع القائلين بأن الاجتماع لا يقوم إلا بالدين.

    إنه يشير في المقدمة الأولى من الباب الأول إلى آراء بعض الفلاسفة الذين «يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي»، فيقولون لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: «وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وأنه لا بد أن يكون متميِّزًا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له، والقَبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف.» ولكنه يفنِّد هذه الآراء قائلًا: «هذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته» (ص٤٣-٤٤).

    يكرر ابن خلدون رأيه في هذا الصدد في الفصل الذي يقرِّر «أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره»، إذ يقول:

    «إن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه»، «لا بد لهم في الاجتماع من وازع وحاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم تارةً يكون مستندًا إلى شرع منزل من عند الله، يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلِّغه، وتارةً إلى سياسة عقلية، يوجب انقيادهم إليها ما يتوقَّعونه من ثواب ذلك الحاكم» (ص٣٠٣).

    في حين أن فيكو يدَّعي بأن الحياة الاجتماعية تقوم على الديانة بوجه عام، ويقول بصراحة قاطعة: «لولا الدين لما وُجِد اجتماع على الإطلاق.»

٣

وأمَّا من وجهة طريقة البحث والتفكير، فالاختلاف كبير جدًّا بين الكتابين والمؤلفين:
  • (١)

    ابن خلدون يستند في آرائه ونظرياته إلى الوقائع بوجه عام، إنه لا يسهو عن الأغلاط والأوهام التي كثيرًا ما تتسرَّب إلى الأخبار المنقولة، ولا يتأخَّر في البحث عن الطرائق التي تضمن تمييز الخطأ من الصواب في تلك الأخبار، ومع هذا فإنه يتخذ الحادثات المشهودة أو المنقولة أساسًا لأبحاثه على الدوام، ويسير في تفكيره على «طريقة استقرائية» وفقًا لما تتطلَّبه المناحي العلمية الحديثة.

    إنه يذكر في الواقع في عنوان كل فصل من فصول الكتاب «القضية» التي يقول بها، ثم يأخذ في سرد الأدلة التي تبرهن عليها، ولكن مما يجب أن يلاحَظَ في هذا الصدد، أن هذه الخطة تتعلَّق بكيفية عرض نتائج الأبحاث، أكثر مما تتعلَّق بسير الفكر خلال البحث. إن قراءة الفصول بإمعان تدل دلالةً واضحةً على أن ابن خلدون يسير في تفكيره — في أغلب الأحوال — على طريقة استقرائية صريحة.

    أمَّا فيكو فإنه لا يتقيَّد كثيرًا بالوقائع والحادثات، فيبقى بعيدًا عن مناحي الأبحاث الاستقرائية بوجه عام. إنه لم يتخلَّص في تفكيره من تأثير الفلسفة الأفلاطونية، فيشبِّه التاريخ بالهندسة، ويحاول أن يكشف سنن سير التاريخ، ونظام المجتمع مستندًا إلى ما يعرفه عن طبيعة العقل البشري، ومعتمدًا على بعض القضايا التي يعتبرها من «الحقائق الأولية التي يجب التسليم بها مبدئيًّا»، وفق الخطط التي تُتبع عادةً في الأبحاث الرياضية والهندسية.

    ومن المعلوم أن الأبحاث التي تمَّت منذ عهد فيكو دلَّت دلالةً قاطعةً على أن قوانين الحوادث الاجتماعية، وأسباب الوقائع التاريخية، مما لا يمكن اكتشافها إلا بملاحظة تلك الحادثات، واستقراء تلك الوقائع.

    وأمَّا الفلسفة الاجتماعية التي كانت تحاول اكتشاف قوانين الاجتماع عن طريقة استنتاجها من المباحث النفسية، فقد أفلست إفلاسًا تامًّا؛ وذلك لأنه قد تبيَّن لجميع الباحثين أن نفسية الإنسان تتطوَّر بتطوُّر الحياة الاجتماعية، وأن النفسية الاجتماعية تختلف عن النفسية الفردية، كما أن كثيرًا من الحادثات النفسية التي تظهر في الوهلة الأولى كأنها فردية، لم تتكوَّن في حقيقة الأمر إلا تحت تأثير الحياة الاجتماعية. ولهذا السبب ليس من سبيل إلى معرفة قوانين الاجتماع وعوامل التاريخ، إلا من طريق ملاحظة الحوادث الاجتماعية، ودرس الوقائع التاريخية.

  • (٢)

    وهنالك فروق بارزة أخرى تميز «مقدمة ابن خلدون» من «العلم الجديد» من وجهة النزعة العامة؛ وهي الفروق الناجمة من خلط الأبحاث العلمية بالمسائل الدينية، أو فصلها عنها فصلًا واضحًا.

    إن ابن خلدون — مثل فيكو — يعتقد بالله، ويقول بقدرة الله وعناية الله، ويعتبر نظام الكون ونظام المجتمع من سنن الله، ويُظْهِرُ اعتقاده هذا في كل فصل من فصول كتابه، بوسائل شتى.

    ومع هذا فسلوك ابن خلدون في هذا الباب يختلف من سلوك فيكو اختلافًا كليًّا؛ يسير ابن خلدون في تفكيره وتعليله سيرًا مستقلًّا عن الدين، ولا يذكر الله وقدرة الله — في أكثر الأحوال — إلا في نهاية البحث، بحيث لو حُذِفت العبارات المتعلقة بالله لما تغيَّر شيء من تسلسل المعاني وقوة الدلائل بوجه عام.

    في حين أن فيكو — بعكس ذلك تمامًا — يمزج فكرة الله بأبحاثه مزجًا تامًّا، ويلتجئ إليها في كل خطوة من خطوات تفكيره تقريبًا، فلو حُذفت العبارات المتعلقة بالله من أبحاث «العلم الجديد»؛ لانقطع تسلسل الأفكار في أغلب الأحوال، ولضاعت المعاني تمامًا في بعض الأحيان.

    إن ابن خلدون لم يَرْمِ في أبحاثه إلى غاية دينية، فإنه يقوم بتلك الأبحاث لمعرفة الحقيقة ذاتها، وأمَّا فيكو فيرمي في أبحاثه إلى غاية دينية صريحة، إنه يقوم بتلك الأبحاث بقصد البرهنة على العناية الإلهية بالوقائع التاريخية، كما يشرح ذلك بأصرح العبارات.

  • (٣)

    وأمَّا من وجهة سعة النظر، وشمول البحث، وعمق التفكير، فلا شك في أن كفة المقدمة ترجح على كفة العلم الجديد رجحانًا كبيرًا جدًّا.

    ذلك لأن ابن خلدون قد أدرك في مقدمته تعضُّل الحوادث الاجتماعية، وتعقُّد الوقائع التاريخية حق الإدراك، فحاول أن يُلِمَّ بجميع العوامل المؤثرة فيها، وبحث عنها بمقياس واسع جدًّا، شمل بناء المجتمع وطراز المعيشة أيضًا.

    في حين أن أبحاث فيكو لم تخرج كثيرًا عن نطاق الأدوار الثلاثة — المروية منذ القرون الأولى — وأشكال الحكومات الثلاثة — المقررة في كتب السياسة منذ عهد اليونان — ولم يلتفت قط إلى بناء المجتمع، ولا إلى وسائط المعاش.

٤

يتبيَّن من التفاصيل التي ذكرناها آنفًا أن ابن خلدون يتفوَّق على فيكو تفوُّقًا كبيرًا، من حيث شمول النظر، ونزعة التعمُّق، وطريقة البحث والاستقراء، ويقترب من طرائق الأبحاث العلمية الحديثة بوجه عام، وطرائق الأبحاث التاريخية والاجتماعية بوجه خاص، اقترابًا واضحًا.

ومما يجدر بالملاحظة في هذا الصدد أننا قمنا بهذه المقارنات من غير أن نعتبر تواريخ كتابة الكتابين، وأمَّا إذا أخذنا فرق الزمن أيضًا بنظر الاعتبار، فإننا نُضطر إلى التسليم بأن رجحان كفة ابن خلدون في ميزان المفاضلة، يصبح أكثر بروزًا وأشد بداهة.

إذ من المعلوم أن مقدمة ابن خلدون كُتِبت سنة ١٣٧٧، في حين أن العلم الجديد نُشِر سنة ١٧٢٥، وذلك يعني أن المقدمة أقدم من العلم الجديد ﺑ ٣٤٨ سنة.

ومما يجب ألا يغرب عن البال أن هذه القرون الثلاثة والنصف التي مرت بين كتابة الكتابين، كانت من أخصب القرون في تقدُّم الفكر البشري، وأغناها في الانقلابات الفكرية والعلمية الأساسية.

ذلك لأنه في هذه المدة حدثت «حركة الانبعاث» في أوروبا، وتمَّ اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة، كما تمَّ الطواف حول العالم، واختراع التلسكوب، فتوسَّعت بذلك آفاق معارف الإنسان توسُّعًا هائلًا. وفي خلال هذه المدة نشأ «ديكارت، وبيكن، وكيلر، ونيوتن»؛ فانقلبت طرائق التفكير والبحث انقلابًا كليًّا، وتعبَّدت طرق الأبحاث العلمية، متخلصةً من أوحال «التفكير الدرساني» Schoiastique بصورة قطعية.

فمن أعظم الأمور المشرِّفة لابن خلدون أنه سار سيرًا علميًّا في تفكيره قبل حدوث الانقلابات الفكرية التي أشرنا إليها، في حين أن فيكو ظل بعيدًا عن مسالك التفكير العلمي، مع أنه عاش وكتب بعد الانقلابات العظيمة التي ذكرناها آنفًا.

•••

إن روبرت فلينت كان قد قال — كما ذكرنا ذلك سابقًا: «إن حق ابن خلدون في ادعاء شرف التسمية باسم مؤسس علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، أثبت وأقوى من حق كل كاتب سبق فيكو.»

أمَّا أنا فلا أتردد في القول — مستندًا إلى الأبحاث والمقارنات الآنفة الذكر: إن حق ابن خلدون في هذا المضمار أقوى وأثبت من حق فيكو نفسه أيضًا؛ وذلك ليس لأنه كان أَقْدَم منه كثيرًا فحسب، بل لأنه كان أقرب إلى الروح العلمية الحديثة، على الرغم من هذه الأقدمية أيضًا.

١  لقد استعملنا هذه الكلمة مقابلًا لكلمة Patriarches، يترجم الكُتَّاب هذه الكلمة عادةً بتعبير «الرؤساء»، ولكن المفهوم المقصود منها يختلف عن مفهوم كلمة الرئيس بوجه عام؛ لأن Patriarches تتألَّف من كلمتين؛ الأولى تدل على «الأب»، والثانية تقابل «الرئيس»، فهي تجمع المفهومين في وقت واحد؛ ولذلك يجب أن تُترجم بمزج هاتين الكلمتين؛ إما على طريقة «النحت الإلصاقي»، على شكل «أبرئيس» — على أن تُجمع على شكل أبرؤساء — وإما على طريقة «النحت الاختصاري» بحذف القسم الأول من الكلمة الثانية — على شكل «أبيس» على وزن أمير، على أن تُجمع على شكل «أُبساء» على وزن أُمراء — وقد رجَّحنا نحن استعمال الشكل الأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤